المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٩

١
٢

٣
٤

المقدمة

في معنى الهيولى

نقول (١) : إنا نجد أجساما مختلفة في الصور ، متماثلة في المادة ، كالسكين والسيف والفأس والمنشار. فإنها بأسرها معمولة من الحديد ، إلا أنها مع اشتراكها في هذا المعنى ، يخالف كل واحد منها الآخر في الصورة والشكل. فقلنا : هذه الأشياء هيولاها : الحديد ، وصورها مختلفة. وكذلك الباب والسرير والكرسي والسفينة مشتركة في كونها معمولة من الخشب ، ومختلفة في الأشكال والصور. إذا عرفت هذا فنقول : الهيولى [(٢)] على أربعة مراتب (٣) هيولى الصناعة ، وهيولى الطبيعة ، وهيولى الكل ، وهيولى الأولى.

أما [المرتبة الأولى : وهي (٤)] هيولى الصناعة. فهي كل جسم يعمل منه ، وفيه للصانع صنعة. كالخشب للنجارين ، والحديد للحدادين ، والتراب والماء للبنائين ، والغزل للحاكة ، والدقيق للخبازين. وعلى هذا القياس فكل صانع لا بد له من جسم يعمل منه وفيه : صنعته. [فذلك الجسم هو الهيولى

__________________

(١) عبارة (ط) : «بسم الله الرحمن الرحيم وبه الحول والقوة. الكتاب السادس في الهيولى. والكلام فيه مرتب على مقدمة ومقالات. المقدمة فنقول : إنا نجد أجساما ... إلخ» وعبارة (م) «الكتاب السادس في الهيولى ... إلخ».

(٢) سقط (ط).

(٣) في الأصل : أنواع.

(٤) زيادة.

٥

لذلك الشيء. وأما الأشكال والنقوش (١)] التي يعملها الصانع في ذلك الجسم فهي الصور.

وأما المرتبة الثانية : وهي هيولى الطبيعة. فهي النار والهواء والماء والأرض. وذلك لأن كل ما تحت [فلك (٢)] القمر من الكائنات أعني المعادن والنبات والحيوان فإنما يتكون من هذه الأربعة ، وإليها يستحيل عند الفساد.

وأما المرتبة الثالثة : وهي هيولى الكل. فهو الجسم المطلق الذي منه يحصل جملة العالم الجسماني ـ أعني الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة والمواليد الثلاثة.

وأما المرتبة الرابعة : وهي الهيولى الأولى. فعند بعضهم : هي الأجزاء التي لا تتجزى ، وعند آخرين : ذات قائمة بنفسها تحل فيه الجسمية [فيتولد من ذلك القائم (٣) وذلك القبول : ذات الجسم. إذا عرفت هذا (٤)] فنقول : مقصودنا من هذا الكتاب : شرح أحوال الجسم من حيث إنه جسم ، وشرح الهيولى الأولى التي منها يتولد الجسم [والله أعلم(٥)].

والكلام فيه مرتب في مقالات :

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ط).

(٣) القائم (ط).

(٤) سقط (ط).

(٥) من (ط).

٦

المقالة الأولى

في

ذاتيات الجسم

٧
٨

الفصل الاول

في

حد الجسم

وقالت المعتزلة : الجسم هو الطويل العريض العميق.

وقالت الفلاسفة : [إنه الجوهر (١)] الذي يمكن فرض الأبعاد الثلاثة المتقاطعة ، على الزوايا القوائم فيه.

واعلم : أن البحث في هذين التعريفين (٢) مفرع على أن الجسم هل هو مركب من الأجزاء التي لا تتجزى؟ فأما الذين قالوا : إنه مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ قالوا : إنه الطويل العريض العميق. لأنه لما حصل في ذلك الجسم جوهران مؤلفان ، فقد حصل فيه الطول. وإذا حصل فيه جوهران آخران مؤلفان ، انضما إلى الأولين ، فقد حصل فيه العرض. ولما حصل فيه سطح آخر مؤلف من أربعة أجزاء على الوصف المذكور ، وانضم إلى السطح الأول ، فقد حصل فيه الطول والعرض والعمق. فثبت : أن كل جسم فإنه طويل عريض عميق. وأما الذين قالوا : الجسم غير مركب من الأجزاء التي لا تتجزى. فقالوا : هذا الكلام باطل. لأن الجسم البسيط ، في نفسه شيء واحد ، وليس البتة مركبا من شيء من الأجزاء. وإذا كان كذلك ، لم يكن الطول والعرض والعمق حاصلا فيه بالفعل ، بل يمكن حصول أسباب ، عند

__________________

(١) من (ط).

(٢) التفريعين (م).

٩

حصولها يوجد الطول والعرض والعمق في الجسم. ثم إنهم فرعوا على هذا الأصل ، وقالوا : إن الجسم قد يوجد في الأعيان منفكا عن الخط مثل : الكرة المصمتة الخالية عن الحركة. فإن هذا الجسم لا يوجد فيه شيء من الخطوط البتة : وأما السطح فإن الجسم لا ينفك عنه في الأعيان. لأن كل جسم فهو متناهي. وكل متناهي ، فلا بد وأن يحيط به حد واحد ، أو حدود بالفعل. وذلك يدل على أن الجسم لا ينفك في الأعيان عن وجود السطح ، إلا أنه قد ينفك عنه في الوجود الذهني. لأنه يمكننا أن نتصور جسما غير متناهي ، إلى أن يقوم الدليل على امتناعه. ولو كان السطح جزءا من ماهية الجسم ، لامتنع تصور الجسم جسما ، إلا إذا عقلناه متناهيا. لأن تصور الماهية منفكا عن أجزائها : محال. وأما المقدار والحجمية ، فإن ذات الجسم ، وإن كان لا ينفك عنهما (١) ، لا في الوجود الخارجي ، ولا في الوجود الذهني. إلا أنه ثبت بالدليل : أنه مغاير للجسمية. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا [إذا (٢)] أخذنا قطعة من الشمعة ، وشكلناها بالأشكال المختلفة ، فإن الجسمية الواحدة بعينها باقية ، وأما المقادير المختلفة ، فهي متعاقبة عليها ، والباقي مغاير لما هو غير باق.

والثاني : وهو أن الأجسام متساوية في الجسمية ، ومختلفة في المقادير. وما به المشاركة غير ما به المخالفة. فالجسمية مغايرة للمقادير.

والثالث : إنه ثبت بالدليل : أن الجسم الواحد مع بقاء ذاته ، يقبل التخلخل والتكاثف. فههنا ذات الجسم الواحد باقية بعينها ، مع أن المقادير المختلفة متواردة عليها ، فوجب أن يكون المقدار مغايرا لذات الجسم. قالوا : فثبت بما ذكرنا : أن كون الجسم جسما ، أمر مغاير لكونه طويلا عريضا عميقا ، فامتنع تعريف الجسم بهذا الحد ، واعلم أنا بينا : أن بتقدير أن يكون الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، فإن قولنا : الجسم هو الطويل العريض

__________________

(١) عنها في الوجود (م).

(٢) من (ط).

١٠

العميق ، يكون حدا صحيحا. وهذه السؤالات التي ذكرها الفلاسفة تكون بأسرها باطلة على ذلك التقدير.

وأما قوله : «الجسم قد يوجد خاليا عن الخط ، مثل الكرة» فنقول : هذا باطل. لأن بتقدير أن يكون الجسم مركبا من الأجزاء ، فالكرة لا بد وأن يحصل فيها أجزاء مفروضة (١) متلاقية على سمت واحد ، وذلك هو الخط. وأما قوله ثانيا : «إن السطح غير لازم [لماهية (٢)] الجسم في الذهن ، فوجب أن لا يكون (٣) مقوما لماهيته» فنقول : هذا يشكل على قولكم : بكون الجسم مركبا من الهيولى والصورة ، مع أن الناس يعقلون كون الجسم جسما ، مع الذهول عن كونه مركبا من الهيولى والصورة.

وأما قوله ثالثا : «إن الفرق بين الجسمية وبين المقدار ، حاصل من الوجوه الثلاثة» فنقول : تلك الوجوه بأسرها ضعيفة. أما الأول : فلأنا إذا أخذنا الشمعة الواحدة ، وشكلناها بالأشكال المختلفة. فههنا [كما أن (٤)] الجسمية الواحدة باقية بعينها ، فكذلك الحجمية الواحدة ، والمقدار الواحد باقي بعينه. وأما المتبدل المختلف وهو الشكل. فإنه تارة يصير كرة ، وتارة (٥) مكعبا ، وتارة (٦) على شكل [آخر (٧)] فالمقدار في كل الأوقات واحد ، وأما المتبدل فهو الأشكال ، وانتقال أجزاء ذلك الجسم من سمت إلى سمت آخر.

وأما الوجه الثاني : وهو قوله : «الأجسام متساوية في الجسمية ، ومختلفة في المقادير» فنقول : والمقادير أيضا متساوية في أصل كونها مقادير ، ومختلفة في الكبر والصغر. فيلزم أن يكون للمقدار : مقدار آخر.

__________________

(١) مفردة (م).

(٢) من (م).

(٣) أن يكون (ط).

(٤) من (م).

(٥) وثانيا (م).

(٦) وثالثا (ط ، م).

(٧) من (ط).

١١

وأما الوجه الثالث : فهو بناء على أن الذات الواحدة ، قد يختلف مقدارها بالصغر والكبر ، مع بقاء تلك الذات بعينها. وقد دللنا بالبراهين القاطعة في باب الحركة : على أن ذلك محال. فثبت : بهذه البيانات أن الوجوه التي عولوا عليها في إبطال قول من قال : [الجسم (١)] هو الطويل العريض العميق : أقوال باطلة [والله أعلم (٢)].

ثم احتج القائلون بصحة هذا الحد : فقالوا : إنكم لما حددتم الجسم بأنه الذي لا يصح (٣) فرض هذه الأبعاد الثلاثة فيه. فقد سلمتم : أن هذه الأبعاد الثلاثة قد تحصل فيه عند الفرض. فإذا فرضنا هذه الأبعاد الثلاثة في الجسم ، فهذه الخطوط وهذه الامتدادات التي أشرنا إليها عند الفرض. إما أن يقال : إنها ما كانت موجودة قبل هذا الفرض ، وإنما وجدت حال حصول هذا الفرض ، أو يقال : إنها كانت موجودة قبل هذا الفرض ، وستبقى (٤) موجودة بعد هذا الغرض. أما الأول فهو باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن هذا الخط عبارة عن هذا الامتداد المعين ، ولا شك أن هذا الامتداد كان موجودا قبل فرض الفارضين واعتبار المعتبرين ، وإلا لزم أن يقال : إن هذا الامتداد ما كان موجودا البتة ، وإنما حدث الآن. وإذا لم يكن شيء من الامتدادات موجودا قبل هذا الفرض، وجب أن يقال : إن هذا الجسم المشار إليه ما كان موجودا قبل هذا الفرض ، لأنه لا معنى لهذا الجسم إلا هذا الشيء الممتد في الجوانب الثلاثة. ومعلوم : أن القول بأن هذا الجسم إنما حدث عند حدوث هذه الإشارة : قول باطل.

الثاني : وهو إن الإشارة إلى الشيء ، مشروط بحصول المشار إليه أولا. فالإشارة إلى الامتداد المعين في هذه الكرة يوجب أن تكون مشروطة بحصول

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (م).

(٣) يصح (م).

(٤) وجد تبقى (م).

١٢

ذلك الامتداد في تلك الكرة. فلو قلنا : بأن حصول ذلك الامتداد ، في (١) تلك الكرة ، معلل بهذه الإشارة ، لزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر ، وهو دور ، والدور محال.

والثالث : وهو أنا إذا أشرنا إلى جسم الفلك فلو كانت إشارتنا إليه ، تقتضي حدوث خطوط وقطوع فيه ، لزم كوننا متصرفين في جوهر الفلك بالتقطيع والتشكيل. وذلك في غاية البعد. واعلم : أنه ستجيء وجوه كثيرة تقوى (٢) ما ذكرناه في [مسألة (٣)] الجوهر الفرد ، في إبطال قول من يقول إن هذه الامتدادات وهذه الأبعاد ، إنما تحدث (٤) في الجسم، بسبب إشارات المشيرين ، وفروض الفارضين. وإذا بطل هذا ، ثبت أنها كانت موجودة قبل حصول الفرض والتقدير ، وحينئذ يصح قولنا : إن الجسم هو الطويل العريض العميق. والله أعلم.

__________________

(١) وفي الكثرة معلل (م).

(٢) سوى (م).

(٣) من (ط).

(٤) تحدث بسبب ، والجسم بسبب إشارات المبشرين (م).

١٣
١٤

الفصل الثاني

في

البحث عن الحد المنقول عن الفلاسفة

اعلم : أنهم قالوا : المراد من الإمكان في قولنا : إنه الذي يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه : الإمكان العام. حتى يدخل فيه ما تكون الأبعاد حاصلة فيه على طريق الوجوب ، كما في الأفلاك. وما تكون الأبعاد موجودة فيه بالفعل ، لا على سبيل الوجوب ، كالأجرام العنصرية. وما لا تكون هذه الأبعاد موجودة فيه بالفعل البتة ، كما في الكرة المصمتة.

ولقائل أن يقول : الكلام على هذا التعريف من وجوه :

الأول : أن يقول : [إن (١)] هذا التعريف لا يصلح (٢) أن يكون حدا للجسم ، ولا أن يكون رسما له. وإنما قلنا : [إنه (٣)] لا يجوز جعله حدا له. لأن الحد عبارة عن تعريف الماهية بذكر أجزائها. وقبول الأبعاد الثلاثة. يمتنع كونه جزءا من أجزاء ماهية الجسم. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن مسمى القابلية ليس أمرا موجودا [وإذا كان كذلك ، امتنع أن تكون القابلية المخصوصة أمرا موجودا (٤)].

__________________

(١) من (ط).

(٢) لا يصح لأن (م).

(٣) من (ط).

(٤) مكرر في (ط).

١٥

بيان الأول : إنه لو كان مسمى القابلية أمرا موجودا [القابلية المخصوصة (١)] لكان صفة قائمة بمحل (٢) فكانت قابلية المحل [لها (٣)] زائدة عليها. ويلزم التسلسل. وبيان الثاني: إن تلك الخصوصية صفة لأصل (٤) القابلية ، فلو كانت هذه الخصوصية صفة موجودة ، مع أنها صفة لأصل القابلية (٥) لزم قيام الموجود بالمعدوم. وهو محال. فثبت : أن هذه القابلية المخصوصة صفة عدمية ، والصفة العدمية يمتنع كونها جزءا من أجزاء ماهية الجسم الموجود.

الوجه الثاني في بيان أن كون الجسم قابلا للأبعاد الثلاثة يمتنع أن يكون جزءا من ماهية الجسم : هو أن كون الجسم قابلا لكذا ، وكذا : حكم. إنما يحصل بعد تمام ذات الجسم. فإنه ما لم توجد ذات الجسم ، امتنع أن يكون قابلا لشيء آخر. فثبت : أن هذه القابلية خارجة عن تلك الماهية.

الوجه الثالث : إن كون الجسم قابلا لكذا : صفة نسبية إضافية. وذات الجسم : ذات قائم بالنفس. والأمر الإضافي يمتنع كونه مقوما للأمر الذي لا يكون إضافيا.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن كون الجسم قابلا للأبعاد الثلاثة لا يمكن أن يكون جزءا داخلا في ماهية الجسم. وإذا كان كذلك ، امتنع كون هذا التعريف حدا للجسم.

وأما بيان لا يمكن كونه رسما لماهية الجسم. فلوجوه :

الأول : إن الجسمية عندهم صورة. والصورة هي [الجزء (٦)] الذي به

__________________

(١) من (م).

(٢) بالمحل (م).

(٣) من (م).

(٤) لأجل (م).

(٥) لأجل العالمية (م).

(٦) من (ط).

١٦

يكون الشيء بالفعل [وما كان كذلك امتنع كونه قابلا لشيء آخر ، لأن عندهم الشيء الواحد لا يكون سببا للقوة وللفعل معا (١)] ولما كان ذلك كذلك (٢) ، كان القابل للأبعاد الثلاثة : ليس إلا الهيولى فهذا الذي جعلوه معرفا للجسم ، لم (٣) يصدق البتة على الجسم ، وإنما صدق على هيولى الجسم ، فكان باطلا.

الثاني : إن الرسم عبارة عما إذا كانت الماهية مجهولة في نفسها ، فنعرفها بصفة معلومة. وليس الأمر هاهنا كذلك. لأن الجسم أعني هذا الشيء الذي له حجم ومقدار أمر معلوم بالضرورة ، وكل عاقل فإنه ببديهة عقله يتصوره ويتعرفه ، ويميز بينه وبين سائر الموجودات. مثل : الحركة والسكون ، والألوان والطعوم ، وغيرها. وإذا كان تصور هذه الماهية حاصلا في جميع العقول والأفهام ، امتنع تعريفها بشيء آخر.

الثالث : إن ذات الجسم ـ أعني هذا الشيء المتحيز أقرب إلى الأفهام والعقول من كونه قابلا لفرض الأبعاد الثلاثة المتقاطعة على الزوايا القوائم. فإن جميع العقلاء يتصورون ماهية الحجم والمقدار ، ولا يعرفون البتة معنى كونه قابلا للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على الزوايا القوائم ، إلا بتدقيق النظر ، وغامض الفكر. وتعريف الظاهر الجلي ، بالغامض الخفي : منهي عنه في المنطق.

الرابع : إن تصور قبول الأبعاد الثلاثة المتقاطعة ، على الزوايا القوائم ، مشروط بتصور ماهية الجسم. وذلك لأنا إذا مددنا خطا ، ثم أقمنا عليه خطا آخر ، فإنه يحصل في السطح زاويتان قائمتان فقط ، ويمتنع حصول الزوايا الثلاثة المتقاطعة على القوائم فيه. أما إذا فرضنا قيام خط على [طرف (٤)] خط آخر ، فإنه تحصل فيه زاوية واحدة قائمة. ثم إذا فرضنا نزول خط آخر من نقطة التقاطع في العمق ، فإنه يحدث في العمق زاويتان قائمتان. فالعقل ما لم

__________________

(١) من (م).

(٢) وإذا كان كذلك (م).

(٣) ثم (م).

(٤) من (م).

١٧

يتصور العمق والثخن. فإنه لا يمكنه البتة تصور كيفية حصول هذه الزوايا الثلاثة المتقاطعة على القوائم. فيثبت : أن تصور هذه الخاصية مشروط بسبق تصور ماهية الجسم. فلو عرفنا ماهية الجسم بهذه الخاصية لزم تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به. وذلك باطل ، ومنهي عنه في المنطق.

الخامس : إن بتقدير أن يكون الحق هو أن الجسم مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ ، كان الطول عبارة عن تلك الأجزاء المتألفة (١) في سمت واحد ، والسطح عبارة عن تلك الأجزاء المتألفة في سمت الطول والعرض معا. وعلى هذا التقدير فالطول والعرض والعمق : ذوات قائمة بأنفسها ، لا صفات قائمة بالغير. فيمتنع الحكم بكونها أمورا مقبولة (٢) لقابل ، ونعوتا لذات أخرى. فيثبت بهذه الوجوه : أن هذا التعريف باطل. وإنما الصواب أن يقال : الجسم عبارة عن هذا الحجم ، وعن هذا الثخن. ثم يقال : من خواص هذه الذوات أنه يمكن أن يحصل فيها زوايا (٣) ثلاثة قائمة متقاطعة على نقطة واحدة. فجعل هذه الصفة خاصية من خواص الجسم : جائز. أما جعلها معرفة لماهيته ، فذلك باطل على ما قررناه.

__________________

(١) المبالغة (م).

(٢) مقبول لقائل ويوقا (م)

(٣) زوايا متقاطعة واحدة (م).

١٨

الفصل الثالث

في

شرح مذاهب أهل العالم

في الجزء الذي لا يتجزأ

اعلم : أن الجسم إما أن يكون [بسيطا (١)] وإما أن يكون مركبا. أما المركب فلا شك أنه مركب من أجزاء متناهية موجودة بالفعل. وأما البسيط فلا شك أنه قابل للقسمة الوهمية. فنقول : هذه القسمة الممكنة إما أن تكون موجودة بالفعل ، وإما أن لا تكون. وعلى التقديرين فتلك القسمة إما أن تكون متناهية ، أو غير متناهية.

فخرج بسبب هذين النوعين من التقسيم : أقسام أربعة لا مزيد عليها.

الأول : أن يقال : الأجسام مركبة تركيبا بالفعل من أجزاء متناهية. وهذا مذهب جمهور المتكلمين. وزعموا : أن كل واحد من تلك الأجزاء لا يقبل القسمة لا كسرا ولا قطعا ولا وهما ولا فرضا. والفرق بين هذه الاعتبارات الأربعة : أن نقول : أسهل وجوه القسمة : هو الكسر. مثل : انكسار الخزف والحجر ، ثم يليه في الرتبة : القطع. مثل : القطعة من الذهب والحديد ، فإنها لا تنكسر ، إلا أنه يمكن قطعها بالآلات القطاعة. ثم يليه في المرتبة الثالثة : الوهم ، لأن الشيء قد لا يكون قابلا للقسمة الانفكاكية. مثل : الفلك. فإنه عند الفلاسفة لا يقبل الخرق والتمزق ، إلا أنه قابل للقسمة

__________________

(١) من (م).

١٩

الوهمية. ثم يليه في المرتبة الرابعة : الفرض. وهو الجزء الذي يبلغ في الصغر إلى حيث يعجز الوهم عن تخيله وتصوره. وإذا كان كذلك ، امتنع حصول القسمة الوهمية [فيه (١)] لأن الشيء [الذي (٢)] لا يصل الوهم والخيال إلى تصوره ، فإنه يمتنع حصول القسمة الوهمية فيه إلا أنه يكون قابلا للقسمة الفرضية. فإن الوهم والخيال ، وإن عجزا عن إدراكه وتصوره ، إلا أنه في نفسه موصوف بكونه بحيث يتميز أحد جانبيه عن الجانب الثاني (٣).

فهذا هو بيان الفرق بين هذه الوجوه الأربعة. وهذا هو شرح مذهب القائلين بكون الجسم مركبا من أجزاء متناهية ، كل واحد منها لا يقبل القسمة البتة.

وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال : الجسم مركب من أجزاء غير متناهية بالفعل. فهذا هو مذهب «النظام» من المعتزلة. وهو أيضا : منسوب إلى جمع من قدماء الفلاسفة.

وأما الوجه الثالث : وهو أن يقال : الجسم البسيط (٤) : واحد في نفسه ، كما أنه واحد عند الحس ، إلا أنه مع كونه واحدا ، قابل لانقسامات لا نهاية لها. وهذا [رأي (٥)] جمهور الفلاسفة.

وأما الوجه الرابع : وهو أن يقال : الجسم البسيط : شيء واحد في نفسه ، كما أنه واحد عند الحس ، إلا أنه قابل لانقسامات متناهية. وهذا القول لم يقل به أحد إلا «محمد الشهرستاني» في الكتاب الذي سماه ب «المناهج والبيانات» (٦).

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) الآخر (ط).

(٤) بسيط (م).

(٥) زيادة.

(٦) البينات (ط).

٢٠