المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

وهاهنا آخر الكلام في الجواب عن دليل (١) «جالينوس» على أن منبت العصب هو الدماغ.

واعلم : أن «أرسطاطاليس» احتج على أن منبت العصب هو القلب. بأن قال : الحركة الإرادية لا بد وأن تكون بآلة صلبة قوية ، والدماغ ليس بجرمه شيء من الصلابة والقوة، فامتنع كونه منبتا للعصب. وأما القلب ففيه أنواع من الصلابة. منها أن لحمه قوي [شديد صلب (٢)] من سائر اللحوم. ومنها : أنه فيه من الرباطات العصبية مقدارا كثيرا. ومنها : أنه بسبب كثرة حركته ، لا بد وأن يكون أقوى جرما ، وإذا كان كذلك فقد ظهر أنه جعل القلب منبتا للأعصاب ، التي هي آلات للحركات القوية ، أولى من جعل الدماغ منبتا لها.

وأجاب «جالينوس» عن هذه الحجة بوجهين :

الأول : قال : إن هذا المستدل بنى كلامه على المقدمة القياسية. والحس دل على أن منبت الأعصاب هو الدماغ ، والقياس لا يلتفت إليه في معارضة الحس.

الثاني : إن المباشر لتحريك الأعضاء ، ليس هو العصب فقط ، بل والعضلات. ومعلوم : أن العضلات مركبة من الأعصاب والرباطات والأغشية واللحوم ، وهي مستندة إلى الأعضاء الصلبة ، والأعصاب يفيدها الحس والقوة على الحركة ، وأما ما يختلط بها من الرباطات والأغشية ، فيفيدها القوة والشدة والأمن من الانقطاع.

وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون الدماغ منبتا للأعصاب.

واعلم : أن هذا الجواب عندي ضعيف.

أما الجواب الأول : فجوابه : إن الحس لم يدل إلا على كثرة الأعصاب

__________________

(١) كلام (م).

(٢) من (ل).

١٨١

وقوتها عند الدماغ. وقد بينا أن هذا القدر (١) لا يدل على كون الدماغ منبتا للأعصاب.

وأما الجواب الثاني : فضعيف أيضا. لأن «جالينوس» استدل بغلظ العصب وكثرته عند الدماغ ، على أن المنبت هو الدماغ. وأصحاب «أرسطاطاليس» قالوا : هذا الوجه الثاني الذي ذكره (٢) إن دل على قوله (٣) فكون الدماغ في غاية اللين وكون العصب في غاية القوة ، يمنع من كون الدماغ ، منبتا للعصب ، ولما حصل التعارض فيه سقط كلام جالينوس» فهذا تمام الكلام في أن منبت العصب هو القلب أو الدماغ.

أما المقام الثاني في الجواب عن شبهة «جالينوس» : فهو أن نقول : سلمنا أن الدماغ هو المنبت للعصب ، الذي هو آلة للقوة الحساسة ، والحركة الإرادية. فلم قلتم : إنه يلزم من هذا المعنى كون الدماغ ، معدنا لقوة الحس والحركة؟.

بيانه : أنه لا يبعد أن تكون قوة الحس والحركة ، متولدة في القلب. إلا أن الدماغ يرسل إليه آلة ثابتة منه إلى القلب ، فيستفيد بتلك الآلة قوة الحس والحركة من القلب. وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، فقد سقطت الحجة التي ذكرها «جالينوس» [والله أعلم (٤)].

الحجة الثانية ل «جالينوس» على فساد القول بأن معدن القوة المدركة هو القلب إنه لو كانت قوة الحس والحركة تنفذ من القلب إلى الدماغ ، لكنا إذا شددنا العصب بخيط شدا قويا ، وجب أن تبقى قوة الحس والحركة في الجانب الذي يلي القلب ، وأن تبطل من الجانب الذي يلي الدماغ ، لكن الأمر بالضد منه. فعلمنا : أن قوة الحس والحركة تجري من الدماغ إلى القلب ، ولا تجري

__________________

(١) القول (م).

(٢) ذكرتم (م).

(٣) قولكم بكون (م).

(٤) سقط (م) ، (ط).

١٨٢

من القلب إلى الدماغ. وهذه الحجة أحسن من الحجة الأولى ، ولا نحتاج فيها إلى المقدمات الكثيرة المذكورة في الحجة الأولى.

والجواب : لم لا يجوز أن يقال : الروح القلبي يكون في غاية الحرارة. فإذا كان بينه وبين الدماغ منفذ مفتوح ، وصل تبريد الدماغ إلى القلب ، فاعتدل واستعد لقبول قوة الحس والحركة. فأما إذا انسد ذلك المسلك ، انقطع عن القلب أثر الدماغ ، فلا جرم لم يبق مستعدا لقبول قوة الحس والحركة ، فبطلت هذه القوة من الجانب الذي يلي القلب؟

الحجة الثالثة ل «جالينوس» : إن الحكماء والأطباء اتفقوا على أن الحامل لقوة الحس والحركة : جسم لطيف نافذ في الأعضاء (١) وهو الروح. وإذا كان كذلك ، فالدماغ أن يكون مبدأ لهذه الروح ، أولى من القلب. وذلك لأنا نجد في الدماغ مواضع خالية ، وتلك المواضع الخالية تصلح لأن تتولد فيها تلك الأرواح ، وأما القلب فليس كذلك ، لأن التجويف الأيمن منه مملوء من الدم. وإنما الشبهة في التجويف الأيسر ، فإنه يعتقد أنه مملوء من الروح.

قال «جالينوس» : وليس الأمر كذلك فإن القلب إذا كشف عنه وأبرز من غير أن تثقب وتخرق أغشيته ، لم يمت الحيوان بهذا السبب ، بل قد يلبث مدة طويلة ، تلمسه بيدك، وتنظر إليه بعينك ، وهو مكشوف ، فتعرف كيف أن نبضه في هذه الحالة ، يساوي نبضه قبل أن تكشف عنه ، ولكن بشرط أن يقع هذا التشريح في موضع ، لا يكون هواؤه باردا ، لئلا يتبرد القلب. فإنه لو برد لصار النبض ضعيفا بطيئا متفاوتا.

إذا عرفت هذا فنقول : إنا إذا غرزنا إبرة في غشاء هذا التجويف الأيسر ، سال في الحال منه : دم ، ولو كان هذا التجويف [مملوءا من الروح ، لوجب أن لا يسيل منه الدم البتة ، ولو كان هذا التجويف (٢) في بعضه روح ، وفي بعضه دم ، لوجب أن أن تخرج الروح أولا ، ثم يسيل الدم بعده. وعلى

__________________

(١) الأعصاب (م).

(٢) سقط (م).

١٨٣

هذا التقدير ، فكان يجب أن لا يسيل الدم في الحال ، ولما سال في الحال ، علمنا : أن التجويف الأيسر مملوء من الدم. وأيضا : الحيوان الذي مات تجد في التجويف الأيسر من تجويفي قلبه : علق الدم وأما الدماغ فإن جرمه مزرد ، فلا يمتنع أن يحصل في تلك الغضون(١) أجزاء الروح.

والجواب : إن هذه الحجة في غاية الضعف لأنها إن صحت ، فهي تدل على أنه ليس في القلب روح أصلا ، و «جالينوس» لا ينازع في كون القلب معدنا للأرواح الحيوانية، ويسلم أن الروح الدماغي هو الذي صعد من القلب إلى الدماغ ، وصار هناك روحا حاملا لقوة الحس والحركة.

الحجة الرابعة ل «جالينوس» : إن العقل أشرف القوى ، فوجب أن يكون مكانه أشرف الأمكنة. وأشرف الأمكنة أعلاها ، فوجب أن يكون مكان العقل هو الدماغ ، وهو بمنزلة الملك العظيم الذي يسكن القصر الأعلى. وأيضا : الحواس محيطة بالرأس ، كأنها خدم الدماغ ، وواقفة حوله على مراتبها اللائقة بها. وأيضا محل الرأس من البدن محل (٢) السماء من العالم ، فكما أن السماء منزل الروحانيات. فكذلك الدماغ ، وجب أن يكون منزل العقل ، الذي هو روحاني هذا البدن.

والجواب : إن ما ذكرناه من الدلائل اليقينية ، لا يعارضها هذه الإقناعيات. ثم إنا قد ذكرنا لنصرة ذلك القول وجوها إقناعية أقوى من هذا الوجه [وهذا آخر الكلام في هذا المطلب (٣)].

__________________

(١) العصوب (ط).

(٢) مكان (م).

(٣) سقط (ل).

١٨٤

الفصل السادس

في

تلخيص مذهب أصحاب «أرسطاطاليس»

في كيفية الأرواح القلبية والدماغية

اعلم : أن الشيخ الرئيس تكلم في هذا البحث في مواضع كثيرة من كتبه ، على وجوه مختلفة. ونحن ننقل تلك الكلمات.

قال في أول كتاب «الأدوية [القلبية (١)] : وقوم من أصحاب الحكيم الأجل ، قالوا في القوى النفسانية : إنها كلها تفيض من الأرواح من غير حاجة للروح إلى الأعضاء الأخرى ، كالدماغ والكبد في الاستعداد لقبولها لكن الإنصاف لم يسوغ هذا المذهب وأبطله. وأقول : هذا تصريح بأن الروح قبل انتقاله إلى الدماغ [لم تكن القوى النفسانية موجودة. وإنما تحدث فيه بعد انتقاله إلى الدماغ (٢)] وتكيفه بكيفيته.

وقال في الفصل السابع من المقالة الثانية عشرة من كتاب الحيوان من «الشفاء» : إن الروح الذي يأتي الدماغ ، فإنه يصلح في جوهره الأول أيضا لأعمال أخرى. مثل التغذية والتنمية ، وغير ذلك. فاذا اعتدل بطل استعداده لتلك القوى ، وصار غير مغذي (٣) ، وانفرد بفعل واحد ، ولم تترادف عليه الأفعال ، فيشتغل بعضها عن بعض. وكذلك إذا صار إلى الكبد ، أبطل مزاج

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) سقط (ل).

(٣) وصار عارية (م). وصار غير غاذية (طا ، ل).

١٨٥

الكبد عند الاستعداد لفعل الحس والحركة ، وتركه خاصا لفعل التغذية. فهذه الأعضاء التي تغذي (١) القلب ، إنما تغير المزاج ، فتصير الروح عديمة القوة. وهذا بالذات ، وتصير الروح أقوى قوة من القوة الباقية. وهذا بالعرض. لأن تلك القوة إنما ازدادت قوتها ، لأن القوة التي زالت كانت كالعائق لهذه القوة الباقية عن الفعل [فلما زال العائق ، كملت القوة ، لا لأنه حدث أمر زائد ، بل لأنه زال العائق. ثم قال (٢) :] وعلى هذه الحجة يصح أن يطرد القول بأن النفس واحدة.

أقول : هذا تصريح بأن جميع القوى موجودة في الروح عند ما يكون حاصلا في القلب ، وأنه لا أثر لسائر الأعضاء إلا في إزالة بعض تلك القوى.

وقال في الفصل الثامن من المقالة الخامسة من علم النفس من طبيعيات «الشفاء» : القلب مبدأ أول وتفيض منه إلى الدماغ قوى. فبعضها تتم أفعالها في الدماغ ، وأجزائه كالتخيل والتفكر ، ثم تفيض منه إلى سائر الأعضاء. وأيضا يفيض من القلب إلى الكبد قوة التغذية ، ثم منها إلى سائر الأعضاء.

أقول : هذا تصريح بأن القوى الطبيعية والنفسانية موجودة في الخارج قبل انتقال الروح إلى الدماغ والكبد ، وأن الحاجة إلى حصول الروح فيه (٣) [وفي الكبد] لظهور أفعال القوى عنها ، لا لحدوثها في أنفسها.

وهذا الوجه هو الذي اختاره في فصل الأعضاء من كتاب «القانون» فإنه قال فيه : القلب يعطي سائر الأعضاء كلها : القوى التي تغذي والتي تنمي والتي تدرك والتي تحرك.

واعلم : أنه قد تلخص من هذه الكلمات احتمالات ثلاثة في هذه المسألة لا مزيد عليها. وذلك لأن الكل اتفقوا على أن الروح الحامل للقوى النفسانية ،

__________________

(١) تفيد (م).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) فيهما (طا ، ل).

١٨٦

إنما انتقل من القلب إلى الدماغ. [والكبد (١)] فإما أن يقال : القوة النفسانية كانت موجودة في ذلك الروح قبل انتقاله إلى الدماغ ، أو ما كانت موجودة فيه.

أما القسم الثاني : وهو أنها ما كانت موجودة فيه قبل انتقالها إلى الدماغ ، فهو الذي اختاره في الأدوية القلبية.

وأما القسم الأول وهو أن هذه القوى كانت موجودة في ذلك الوقت. فلا نزاع في أن الأفعال النفسانية لا تصدر عنها إلا بعد حصولها في الدماغ. فالحاجة إلى الدماغ ، إما أن تكون لأجل حصول حالة وصفة ، أو لأجل زوال حالة وصفة.

فالأول : وهو أن يقال (٢) : انتقالها إلى الدماغ شرط لا لحدوث تلك القوى في أنفسها ، بل لصيرورتها بحيث تصدر عنها أفعالها ، على معنى أن حصول تلك الأرواح الحاملة لتلك القوى [في الدماغ (٣)] شرط لصدور (٤) آثارها عنها.

وأما الثاني : فهو أن يقال : القوى الكثيرة كانت موجودة في ذلك الروح ، وتلك القوى متدافعة متمانعة ، فلما انتقل ذلك الروح إلى الدماغ ، بطل سائر القوى ، وبقيت هذه القوة سليمة عن المعارض ، فلا جرم صدر عنها الفعل.

واعلم : أن هذا البحث كما وقع في هذا الموضع ، قد وقع في أن الروح الدماغي ، متى توجد فيه القوة الباصرة مثلا. عند ما تصل إلى الجليدية. أو يقال : إن القوة الباصرة كانت موجودة فيه ، إلا أن ظهور فعلها عنها ، موقوف على انتقالها إلى الجليدية؟.

وبالجملة : فكل شيء لزم على «أرسطاطاليس» في قوله : القلب هو

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) صححنا على (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) لحصول (ل).

١٨٧

الرئيس المطلق. فهو أيضا لازم على «جالينوس» في قوله : الدماغ هو رئيس الحواس الخمسة [الظاهرة (١)] والباطنة.

والأقرب عندي : أن يقال : هذه القوى كانت موجودة في القلب. والدماغ شرط لظهور (٢) الأفعال عن تلك القوى. والدليل على صحة ما قلناه : أنه متى تعلقت النفس الناطقة بالقلب ، فقد حصلت الإنسانية ، ومتى حصلت الإنسانية فقد حصلت الحيوانية لا محالة ، لأن حصول النوع مع عدم الجنس محال ، والفصل المقوم لماهية الحيوان ، هو قوة الحس والحركة [فإذن كما تعلقت النفس بالقلب ، فقد حصلت قوة الحس والحركة (٣)] الإرادية ، فلم يبق إلا أن يكون الدماغ شرطا يحتاج إليه في ظهور الفعل عن تلك القوى. فهذا ما نقوله [في هذا الباب (٤)] والعلم بحقائق الأشياء على التمام والكمال ، ليس إلا لله تعالى.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) حصول (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) سقط (ط).

١٨٨

الفصل السابع

في

أن النفوس الناطقة محدثة أو قديمة؟

وفيه أقوال : وضبطها : أن يقال : إنها [إما قديمة أو حادثة. فإن كانت قديمة فإما أن يقال (١) إنها] واجبة لذواتها غنية عن السبب والمؤثر. وإما أن يقال : إنها [ممكنة لذواتها واجبة بإيجاب ، سببها وعلتها. وأما إن قلنا : إنها محدثة. فإما أن يقال إنها (٢)] وإن كانت محدثة إلا أنها كانت موجودة قبل هذه الأبدان ، كما ورد في بعض الأخبار : «إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» وإما أن يقال : إن هذه الأرواح ما كانت موجودة قبل أبدانها. وهذا هو قول «أرسطاطاليس» وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين.

واحتج القائلون بحدوث النفس بوجهين :

الحجة الأولى : هي أن قالوا : لو كانت النفوس قديمة ، لكانت في الأزل ، إما أن تكون واحدة ، أو متعددة. والقسمان باطلان ، فبطل القول. بكونها قديمة. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يقال : إنها كانت واحدة ، لأنها لو كانت واحدة في الأزل ، فعند تعلقها بالأبدان ، إما أن يقال : إنها تبقى على تلك الوحدة ، وإما أن يقال : إنها عند تعلقها بالأبدان تتعدد. والقسمان باطلان.

أما الأول : فلأن على هذا التقدير ، يلزم أن يكون الحاصل لجميع

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

١٨٩

أشخاص الناس : نفسا واحدة بالعدد. ولو كان الأمر كذلك ، لكان ما علمه إنسان ، فقد علمه كل إنسان ، وما جهله إنسان فقد جهله كل إنسان. ومعلوم أنه باطل.

وأما الثاني : وهو أن يقال : النفوس كانت واحدة قبل تعلقها بالأبدان. ثم إنها عند تعلقها بالأبدان : صارت متعددة. فهذا محال. لأن هاتين النفسين المتشخصتين. إما أن يقال : إنهما كانتا موجودتين في الأزل [أو ما كانت موجودتين في الأزل. فإن كانتا موجودتين في الأزل ، فقد كان التعدد حاصلا في الأزل (١)] وقد فرضنا أنه ما كان حاصلا. هذا خلف. وإن قلنا : إنهما ما كانتا موجودتين في الأزل ، كان وجودهما حاصلا بعد العدم. وهذا يوجب القول بحدوثهما ، ويمنع من القول بقدمهما وهو المطلوب. وإنما قلنا : إنه يمتنع القول بأنها كانت متعددة في الأزل ، لأن التعدد لا يحصل إلا إذا امتازت كل واحدة منها عن الأخرى في أمر من الأمور. وذلك الامتياز إما أن يكون حاصلا بالماهية أو بلوازمها [أو بعوارضها (٢)] والأول باطل. لأنه ثبت أن النفوس الناطقة البشرية متساوية في الماهية. وإن نازع منازع في هذه المقدمة ، إلا أنه لا أقل من أن توجد نفسان متساويتان في الماهية. وهذا القدر يكفينا في تقرير هذا الدليل. والثاني أيضا باطل. لأن لوازم الماهية مشترك فيها بين أفراد الماهية. والوصف المشترك فيه يمتنع أن يفيد (٣) الامتياز. والثالث أيضا باطل. لأن اختلاف الأمثال (٤) بسبب العوارض المفارقة ، لا يحصل إلا بسبب التغاير في المادة. ومواد النفوس هي الأبدان فقبل حصول الأبدان كانت المواد مفقودة ، فوجب أن يمتنع حصول التغاير بينها بسبب الأعراض المفارقة. فثبت : أن حصولها في الأزل على نعت الوحدة محال وعلى نعت التعدد أيضا : محال. فوجب القطع بأنه يمتنع حصولها في الأزل.

__________________

(٢) سقط (م).

(٣) يقبل (م).

(١) الماهيات (م).

(٤) الماهيات (م).

١٩٠

الأول : أن نقول : لم لا يجوز أن يقال : إنها في الأزل كانت واحدة ، ثم صارت عند التعلق بالأبدان متعددة؟ قوله : «هاتان النفسان المعينتان. إما أن يقال : إنهما كانتا موجودتين في الأزل ، أو ما كانتا موجودتين في الأزل» قلنا : هذا الدليل جيد في نفسه ، إلا أنه لا يستقيم على أصولكم. وذلك لأنكم تقولون : إن هذا الماء ، كان واحدا في ذاته ، وعند القسمة يحصل ماءان. فيقال لكم هذان الماءان. هل كانا موجودين قبل حصول هذه القسمة ، أو ما كانا موجودين؟ فإن كان الأول فذلك الماء ، قبل هذه القسمة ما كان ماء واحدا في ذاته ، بل كان مركبا مؤلفا من الأجزاء. وحينئذ يبطل قولكم إن الجسم البسيط واحد من نفسه. وإن قلتم : إن هذين الماءين الحاصلين بعد القسمة ، ما كانا موجودين من قبل القسمة ، فيلزم أن يقال : إن هذين الماءين حدثا الآن ، وذلك الماء الذي كان واحدا قبل القسمة ، فيلزم أن يقال : إن هذين الماءين حدثا الآن ، وذلك الماء الذي كان واحدا قبل القسمة : قد فني وعدم عند حصول هذه القسمة. فيكون التقسيم إعداما للماء الأول ، وإيجادا للماء الثاني. وذلك لا يقوله عاقل. فثبت بهذا : أن الدليل الذي ذكرتم في امتناع أن تتعدد النفوس بعد وحدتها : قائم بعينه في الأجسام. مع أنكم لا تقولون به ، فكان الإلزام واردا.

فإن قالوا : نحن لا نذكر في إبطال هذا القسم : هذا الدليل الذي ذكرتم. بل تذكر كلاما آخر ، وهو أن نقول : كل ما انقسم بعد أن كان واحدا ، فهو جسم. ونحن قد بينا : أن النفس ليست بجسم. فنقول : هذا الكلام ضعيف. لأنه يصدق أن يكون الجسم واحدا ، ثم يتعدد. ولا يلزم من صدقة أن كل ما كان واحدا ثم تعدد ، فإنه يكون جسما [لأن الموجبة الكلية لا تنعكس مثل نفسها ، فلعله يكون الجسم (١)] بهذه الصفة. وغير الجسم قد يكون أيضا بهذه الصفة. فما لم تذكروا الدليل لم يتم هذا الكلام.

الاعتراض الثاني : لم لا يجوز أن يقال : النفوس كانت متعددة في الأزل؟

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

١٩١

قوله : «إنه لا يحصل التعدد إلا لأجل معنى يوجب الامتياز» قلنا : هذا ممنوع. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنه لو كان التعين أمرا زائدا على الذات والتعينات متساوية في ماهية أنها تعين، وجب أن يكون تعين كل تعين زائدا عليه. ويلزم التسلسل. ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال: ماهية السواد ، وماهية التعين ، إذا انضمت كل واحدة منهما إلى الأخرى ، فإن كل واحدة منهما تقتضي تعين الأخرى؟ لأنا نقول : ماهية السواد ماهية كلية ، وماهية التعين أيضا ماهية كلية ، والكل إذا تقيد بالكلي يبقى كليا ، ولا يصير شخصيا. فثبت : أن القدر الذي ذكرتموه لا يوجب التعين.

الثاني : إن اختصاص هذا التعين بهذا المتعين دون ذاك ، واختصاص ذلك التعين [بذلك المتعين (١)] دون هذا : مشروط بامتياز هذا التعين عن ذلك التعين. فلو كان ذلك الامتياز معللا بحصول هذه الصفة في هذا ، وحصول تلك الصفة في ذلك ، لزم الدور ، وهو محال.

ا لثالث : لو كان تعين هذا المتعين زائدا عليه ، لكان هذا المتعين (٢) : موجودين ، لا موجودا واحدا. ثم يكون لكل واحد منهما تعين آخر ، فتصير أربعة لا واحدا. [وبهذا الطريق يلزم (٣)] : أن يكون الموجود الواحد غير واحد ، بل موجودات غير متناهية. وهو محال.

الاعتراض الثالث : سلمنا : أنه لا بد من معنى يفيد الامتياز. فلم لا يجوز أن يكون ذلك الامتياز بنفس الماهية؟ قوله : «النفوس البشرية متساوية في الماهية» قلنا : ليس لكم على صحة هذه المقدمة دليل. ولنا : دلائل كثيرة على إبطالها. قوله : «هب أن النفوس الناطقة أنواع ، إلا أنه لا أقل من أن

__________________

(١) من (م).

(٢) المعنى (م).

(٣) ويظهر من هذا (م).

١٩٢

يوجد من كل نوع فردان ، وحينئذ يتم البرهان».

قلنا : وأي دليل على صحة هذه المقدمة؟ أقصى ما في الباب أن يقال : إنه لا بد من أن توجد نفس أخرى ، تشبه النفس الأولى في العلوم والأخلاق ، وسائر الصفات. إلا أن هذا لا يدل على التماثل ، لما ثبت : أن الماهيات المختلفة لا يمتنع اشتراكها في اللوازم الكثيرة.

الاعتراض الرابع : لم لا يجوز أن يقال : إن كل واحد منها يمتاز عن الآخر بسبب [عارض غير (١)] لازم للماهية؟ قوله : «الاختلاف في العوارض إنما يكون بسبب المادة» قلنا : هذا محال. لأنه لو كان [كذلك ، لكان (٢)] امتياز هذا الجزء ، عن ذلك الجزء [الآخر ، منه (٣)] لأجل الامتياز في المادة ، ولو كان كذلك ، لكانت مادة هذا الجزء ، إما أن تكون مخالفة لمادة الجزء الآخر إما في الماهية أو في العوارض. فإن كان الأول ، كان هذا الامتياز حاصلا قبل القسمة. والحال في كل مادة غير الحال فيما يخالفها. فيلزم أن يكون الجسم مؤلفا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل. وهو محال.

وإن كان الثاني : وهو أن يقال إن مادة هذا الجزء [تمتاز عن مادة الجزء (٤)] الآخر بسبب عارض مفارق ، فحينئذ يلزم افتقار تلك المادة إلى مادة أخرى ، ولزم إما التسلسل وإما الدور [وهما محالان (٥)].

الاعتراض الخامس : سلمنا : أن الامتياز بالعوارض لا يحصل إلا بالمادة. فلم قلتم : إنه لم توجد قبل هذا البدن مادة أخرى؟ [وبيانه : أنه يحتمل أن يقال : هذه النفس كانت قبل تعلقها بهذا البدن متعلقة ببدن آخر (٦)] لا إلى أول (٧) وعلى هذا التقدير ، فإنه لا يمكنكم إبطال هذا الاحتمال ، إلا

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) سقط (م) ، (ط).

(٤) سقط (م) ، (ط).

(٥) سقط (م) ، (ط).

(٦) سقط (ل).

(٧) نهاية وأول (م).

١٩٣

بإبطال القول بالتناسخ ، فيكون هذا الدليل مبنيا على الدليل الدال على إبطال القول بالتناسخ. لكن دليلكم في إبطال القول بالتناسخ متفرع على القول. بحدوث النفس على ما سيأتي شرحه. وحينئذ يقع الدور ، وهو باطل.

الاعتراض السادس : هب أنه قبل هذا البدن ، لا يجوز أن يقال : إن هذه النفس كانت متعلقة ببدن آخر. لكن لم يلزم من هذا القدر ما ذكرتموه. وبيانه أنكم ذكرتم أنه لا يبعد أن يقال : النفوس الناقصة إذا فارقت أبدانها ، فإنها تتعلق بضرب من الأجسام السماوية ، وتتخذها جارية مجرى الآلات الجسمانية. فإذا جوزتم هذا ، فلم لا يجوز أن يقال أيضا : إنها كانت قبل الأبدان متعلقة بجزء من أجزاء السموات ، أو بجزء من أجزاء كرة الأثير، أو كرة أخرى ، وبسبب هذا القدر حصل الامتياز؟

الاعتراض السابع : إن دل ما ذكرتم على أن النفوس لا يمكن كونها أزلية ، فهو بعينه يمنع من كونها أبدية ، مع أن مذهبكم إنها أبدية. وبيانه هو أن النفوس المفارقة لأبدانها ، كل واحدة منها ، تبقى ممتازة عن الغير ، بسبب ما حصل لها من العلوم والأخلاق [فنقول : نفترض الكلام في النفوس التي فارقت أبدانها حال ما كانت تلك الأبدان أجنة في بطون الأمهات ، فههنا لم يحصل لتلك النفوس من العلوم والأخلاق شيء (١)] فوجب أن تحكموا ، إما بأنها تفسد وتفنى ، أو بحصول الامتياز من غير سبب. وكل ذلك عندكم باطل.

فإن قالوا : كل واحدة منها قد حصل لها شعور بهويتها [المعينة (٢)] وذاتها المخصوصة. وهذا القدر يكفي في حصول الامتياز. فنقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : أن نقول : وإن جاز هذا ، فلم لا يكفي هذا القدر في حصول الامتياز في جانب الأزل؟

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) سقط (طا).

١٩٤

الثاني : إن عندكم : علم النفس بذاتها المخصوصة ، عين ذاتها المخصوصة. وتقولون : إن هذه الصورة : العقل والعاقل والمعقول : واحد. وإذا كان كذلك ، فالقول بأن كل واحدة منها تمتاز عن الأخرى ، بسبب شعورها بذاتها المخصوصة ، يقتضي [امتياز كل واحدة منها بنفس (١)] ذاتها المخصوصة ، وهذا يقتضي أن تكون ماهية كل واحدة منها ، مخالفة لماهية الأخرى. وإذا ثبت هذا ، فقد بطل [أصل (٢)] هذا الدليل. فهذا تمام الكلام في الاعتراض على هذا الدليل.

الحجة الثانية : قالوا : هذه النفوس ، لو كانت موجودة في الأزل ، لكانت إما أن تكون متعلقة بأبدان أخرى ، أو كانت خالية عن التعلق [بأبدان أخرى (٣)] والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونها أزلية.

أما القسم الأول : وهو القول بأنها كانت متعلقة (٤) بأبدان أخرى ، فهذا باطل بالدلائل المذكورة في إبطال التناسخ.

وأما القسم الثاني : وهو أنها كانت خالية عن التعلق بأبدان أخرى ، فعلى هذا التقدير تكون معطلة. ولا معطل في الطبيعة.

والاعتراض عليه : أما الكلام على الدلائل المذكورة في إبطال التناسخ فسيأتي.

وأما قولكم (٥) : إنها لو لم تكن متعلقة بالأبدان ، لكانت معطلة ، ولا معطل في الطبيعة.

فنقول : يجب البحث في كل واحدة من هاتين المقدمتين. فما المراد من قولكم : إنها تكون معطلة؟ إن عنيتم أنها تكون خالية عن الإدراك والشعور ،

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (طا) ، (ل).

(٤) خالية متعلقة (م).

(٥) قوله (م).

١٩٥

فلا نسلم ، لأنها لما كانت موصوفة بالحياة ، وجب أن يحصل لها إدراك وشعور ببعض الأشياء ، ولعلها تلتذ بذلك القدر من الإدراك ، وحينئذ لا تكون معطلة. ألا ترى أنا نجد البق والبعوض وحيوانات أخرى أصغر منها بكثير موجودة. ولا نقول : بأنها لما قلت انتفاعاتها ولذاتها ، كانت معطلة. بل نقول : إنها لما فازت بذلك القدر الحقير من الخير والمنفعة ، خرجت عن أن تكون معطلة. فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك؟

الاعتراض الثاني : لم لا يجوز أن يقال : إنها قبل الأبدان ، كانت متعلقة بجزء معين من السموات ، أو بجزء من أجزاء العناصر ، كانت تنال الخيرات واللذات بسبب تلك الآلات؟.

الاعتراض الثالث : أليس من مذهبكم : أن نفوس الأجنة ، إذا فارقت أبدانها ، فإنها تبقى أبد الآباد من غير أن يحصل لها لذة وخير ومنفعة؟ وذلك يبطل قولكم : إنه لا معطل في الطبيعة.

الاعتراض الرابع : سلمنا أن تلك النفوس كانت معطلة. فلم قلتم : إنه لا معطل في الطبيعة؟ فإن هذه المقدمة ذكروها ، وما رأيت أحدا منهم قوّاها بشبهة ، فضلا عن حجة.

واعلم : أنه لم يصل إلينا كلام آخر في إثبات حدوث النفوس البشرية. ويمكن ذكر دليلين آخرين فيه ، إلا أنهما يوجبان القول. بحدوث الأجسام.

الوجه الأول : أن نقول : لا شك أن هذه النفوس قابلة للصفات الحادثة ، فإنها تصير عالمة بأشياء ، بعد ما أنها ما كانت عالمة بها ، وتصير موصوفة [بأخلاق ، بعد أنها ما كانت موصوفة (١)] بها. إذا ثبت هذا فنقول : إن قابلية الصفات الحادثة ، يجب أن يكون من لوازم ذواتها. وقابلية الصفات الحادثة حادثة ، فيلزم أن يقال : إنها لا تخلو عن الحوادث ، وكل ما لا يخلو عن

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

١٩٦

الحوادث فهو حادث. فهذه النفوس حادثة. فيفتقر في تقرير هذه المقدمات [إلى مقدمتين (١)].

المقدمة الأولى : في أن قابلية هذه الحوادث من لوازم ذواتها. والدليل عليه : أن تلك القابلية إن لم تكن من اللوازم ، كانت من العوارض المفارقة ، فتكون تلك الذوات قابلة لتلك القابلية. فقابلية تلك القابلية ، إن كانت من اللوازم فهو المقصود ، وإن كانت من العوارض ، افتقرت كل قابلية إلى تقدم قابلية أخرى. ولزم التسلسل في أسباب ومسببات توجد دفعة واحدة. وهو محال. فثبت : أن قابلية هذه الصفات من لوازم [ذوات (٢)] هذه النفوس.

والمقدمة الثانية : في بيان أن قابلية الصفات الحادثة : حادثة. والدليل عليه : أن كون تلك الحوادث مقبولة للغير ، صفة عارضة لذواتها. وإمكان الصفة موقوف على إمكان الموصوف. ولما كان حصول الحادث في الأزل محالا. كان كون الصفة الحادثة مقبولا للغير ، أولى بأن يمتنع كونه أزليا. وهذا يدل على أن قابلية الصفات الحادثة : حادثة.

وعند تقرير هاتين المقدمتين ، ظهر أن هذه النفوس لا تنفك عن الحوادث ، [فنقول: وكل (٣)] ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث ، بالوجوه المذكورة في مسألة حدوث الأجسام وقد ذكرناها هناك.

فظهر بهذا الدليل : أن كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه يمتنع أن يكون قديما ، لكن الأجسام والنفوس البشرية قابلة للحوادث ، فيمتنع كونها قديمة [ثم نقول (٤) :] والإله تعالى قديم فيمتنع كونه قابلا للحوادث. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.

والوجه الثاني : أن نقول : لا شك أن الله تعالى قديم ، فلو حصل قديم

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

١٩٧

آخر ، لزم القول بوجود قديمين. وذلك محال.

والدليل عليه : أن القدم عبارة عن نفي العدم السابق ، فيكون صفة موجودة. والقديمان لما اشتركا في القدم ، فقد اشتركا في أمر موجود. فإما أن يختلفا باعتبار آخر ، وإما أن لا يكونا كذلك ، فإن اختلفا باعتبار آخر [كان القدم الذي به المشاركة (١)] مغاير لذلك الاعتبار ، الذي به المخالفة. فيكون ذلك القديم مركبا من جزءين ، وكل واحد من جزئي القديم : قديم ، فذانك الجزءان بعد اشتراكهما في القدم ، لا بد وأن يختلفا باعتبار آخر ، وإلا لم يكن أحدهما بكونه جهة [الاشتراك ، والآخر بكونه جهة (٢)] الامتياز أولى من العكس. والكلام فيه كما في الأول فيلزم كون ذلك القديم مركبا من أجزاء غير متناهية. وذلك محال.

ولما ثبت [هذا ثبت (٣)] أن القديم الثاني ، يجب أن لا يخالف الأولى ، في جزء من أجزاء الماهية. فوجب أن يتماثلا مطلقا ، فيلزم كون الأرواح البشرية مماثلة للإله تعالى في جميع الصفات. وظاهر أنه محال. فهذا بيان أنه يمتنع وجود موجودين قديمين.

واحتج القائلون بقدم النفوس بوجهين :

الحجة الأولى : إنه ثبت في الفلسفة : أن الأدوار الفلكية غير متناهية. فالأبدان البشرية غير متناهية. فلو كانت النفوس البشرية حادثة ، لكان حدوثها ، لأجل أن حدوث البدن شرط في فيضانها عن العلل العالية. فلما كانت الأبدان غير متناهية ، وجب أن تكون النفوس البشرية غير متناهية. لكنه ثبت أن النفوس لا تقبل الفساد ، فوجب أن [يوجد الآن عدد لا نهاية له من النفوس (٤)] وذلك محال لأن كل عدد فإنه يحتمل الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك ، فهو متناه.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م)

(٣) سقط (م).

(٤) أن تكون النفوس غير متناهية (م).

١٩٨

واعلم : أن قولنا : إن كل عدد يحتمل الزيادة والنقصان ، فإنه يجب أن يكون متناهيا : تقدم ، بحثنا عنها في مسألة «تناهي الأبعاد» فلا فائدة في الإعادة.

الحجة الثانية : قالوا : النفوس الناطقة أبدية. فتكون أزلية.

أما الأول فهو ثابت بالاتفاق ، وبالدليل أيضا الذي سيجيء ذكره.

وأما الثاني : فالدليل عليه : أنها لو كانت حادثة لكانت ماهيتها قابلة للعدم. وتلك القابلية من لوازم الذات ، فوجب أن تكون قابلة للعدم أبدا. وإذا كان كذلك ، كانت قابلة للعدم بعد الوجود. وقد فرضنا أنها غير قابلة للعدم [بعد الوجود (١)] هذا خلف. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : هذه النفوس [قابلة (٢)] للعدم ، نظرا إلى ذواتها وحقائقها ، إلا أنها تصير واجبة الوجود لوجوب عللها؟.

قلنا : إن كانت عللها قديمة ، وما كان تأثيرها فيها موقوفا على شرط [حادث (٣)] أو كان موقوفا على شرط قديم ، فحينئذ يلزم قدمها. وإن كانت عللها حادثة ، أو إن كانت قديمة إلا أن تأثيرها في وجودها يكون موقوفا على شرط حادث ، فتلك العلة الحادثة ، وذلك الشرط الحادث : يكون جائز الزوال لذاته. فإن كان واجب البقاء نظرا إلى علته ، عاد التقسيم الأول فيه ، ولزم التسلسل. وهو محال. وإن كان جائز الزوال فحينئذ لزم من جواز زواله ، جواز زوال النفوس بعد وجودها. فثبت بهذا البيان : أن النفوس لو لم تكن أزلية ، لم تكن أبدية ، لكنها أبدية ، فوجب كونها أزلية.

وأجيب عنه : بأن علة وجود النفوس البشرية هي العقل الفعال. إلا أن فيضان هذا المعلول عن تلك العلة القديمة مشروط بحدوث البدن ، المستعد

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) غير قابلة (طا).

(٣) سقط (ل).

١٩٩

لقبول تصرفه. فعند حدوث البدن ، يجب حدوثه (١) ثم إنه في ذاته غني عن هذا البدن ، فلم يلزم من موت البدن موته. فوجب بقاؤه أبد الآباد ، لوجوب بقاء علته ، التي هي العقل الفعال.

__________________

(١) حدوثها (م).

٢٠٠