تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

وهكذا سمع الله قول هذه المرأة المستضعفة التي كانت تتحدث مع النبي (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) فتطلب منه حلا شرعيّا ، فلم تكن مقتنعة بأن هذه الكلمة الطائشة الصادرة من زوجها تستطيع إنهاء الزواج ، فهي كلمة غير واقعية ، فكيف يشبهها بأمه لتحرم عليه كما تحرم عليه أمه ، فللأمّ عمق النسب الخاضع لحرمة العلاقة العضوية في اللحم والدم ، فكيف يكون للزوجة ذلك. فإذا لم تكن الكلمة واقعية ، فلن يكون مضمونها الشرعي ـ في ما يستهدفه الزوج منها ـ واقعيا. ربما كانت تفكر بهذه الطريقة.

(وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) وهو اللطيف بعباده ، الرحيم بهم (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) حيث يسمع كل شكاواهم في داخل ذواتهم ، ونجاواهم في دائرة حوارهم مع الآخرين ، ويبصر كل مواقع الحزن والألم في حياتهم.

وتلك هي الرحمة الإلهية التي يحس الإنسان بروحيتها في عمق شعوره عند ما يستمع الرب العظيم الرحيم إليه وهو يطلب منه حكما شرعيا لحل مشكلته الزوجية ، كما يطلب منه في موقف آخر رزقا غذائيا لحل مشكلته الغذائية. وهذا هو الحل بكل تفاصيله الشرعية.

* * *

مفهوم الظهار وحكمه

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) كما كان يفعل الجاهليون ، فينفصلون عن زوجاتهم بهذه الكلمة التي يقول فيها أحدهم لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي ، كناية عن حرمتها عليه جنسيا كحرمة أمه عليه ، (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) فليست الكلمة قريبة من الحقيقة ، فإن الحقيقة غير هذا (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) في ما تمثله الولادة من علاقة المولود بالوالدة بطريقة عضوية ،

٦١

(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) فقد حرم الله على الناس قول هذه الكلمة ، ورفض اعتبارها صيغة طلاق ، واعتبرها كلاما باطلا لا قيمة له ولا معنى (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ (١) غَفُورٌ) للتائبين من الذنب ، الراجعين إلى خط الطاعة. وهل تعني هذه الفقرة أن الظهار حرام معفوّ عنه ، على أساس أنها مختصة به ، أو أنها كلمة تتحدث عن العفو والمغفرة الإلهية كخط عام في صفات الله؟ ذهب بعض الفقهاء إلى الأول ، وذهب الشهيد الثاني إلى الثاني.

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فلا بد لهم من التكفير عن ذلك بطريقة عملية ، فلا يكفي الندم وحده ، فليعتق الزوج رقبة ، وليحررها ، ليكون ذلك رمزا للحرية ، الروحية التي يريد أن يؤكدها في ذاته ، لتتحرر إرادته بذلك من سيطرة الخطيئة ، كما يحرر إنسانا آخر من سيطرة العبودية في عبودية الإنسان للإنسان ، (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) في ما يريده الله لكم من دفع ضريبة الخطيئة بطريقة وبأخرى ، حتى يكون ذلك تأكيدا للندم في خطه العملي ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فهو الذي يعرف عمق الفعل في خلفياتكم الروحية ، ويعرف كيف يحرك التوبة في ضمائركم لترجعوا عن الخطأ من ناحية عملية.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فذلك هو السبيل لإحساس الجسد بالحرمان في الصيام ككفارة للتعدي على حدود الله ، فلا يعود إلى ذلك في المستقبل (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) ليكون الإطعام في ما يمثله من عبادة العطاء وجها من وجوه التعبير عن التضحية بالمال الذي يحل به المشكلة الغذائية للجائعين من المساكين ، ليحل به مشكلته الروحية ، (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) في الجانب العملي من الإيمان ، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) في حرماته التي أراد لعباده أن لا يتجاوزوها ، كدليل على الإخلاص للإيمان الحق (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) في ما تجاوزوه من حدود الإيمان في العقيدة والعمل ، مما قد يوحي بأن المراد به الكفر العملي لا العقيدي.

* * *

٦٢

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(يُحَادُّونَ) : المحادة : الممانعة والمخالفة.

(كُبِتَ) : الكبت الإذلال والإخزاء.

(أَحْصاهُ) : الإحصاء الإحاطة بعدد الشيء من غير أن يفوت منه شيء ، قال الراغب : الإحصاء التحصيل بالعدد يقال : أحصيت كذا ، وذلك من لفظ الحصا ، واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه بالعدّ كاعتمادنا فيه على الأصابع (١).

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٢٠.

٦٣

كبت الّذين يحادون الله ورسوله

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في ما يخالفون ويعادون الخط الفكري والتشريعي في حركة الإيمان الرسالي ، ويعملون على مواجهته بالمواقف المضادّة ، لن يفلتوا من العقاب الدنيوي والأخروي كحق من حقوق الإيمان في مواجهة أعدائه ، وكجزاء إلهي للمتمردين على إرادة الله ، (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فعاشوا الكبت في معناه العميق الضاغط على حياتهم المنحرفة ، بالقهر والذل ، لأنهم أساؤوا إلى الحياة في مسيرتها المستقيمة في خط التوحيد.

(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) تقيم عليهم الحجة القوية في حقائق العقيدة والشريعة ، (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) لأن الكفر لم يكن نتيجة شبهة معقدة أو فكر مضاد ، بل هو نتيجة عقدة نفسية استكبارية في رفض الإيمان في الدائرة الذاتية ، (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) ليحاسبهم على أعمالهم ، (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من الذنوب ، (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) لأنهم كانوا في غفلة مطبقة على عقولهم ومشاعرهم لاستغراقهم في لذاتهم وشهواتهم وذاتياتهم المعقدة ، مما جعلهم يتجاوزون أخطاءهم وجرائمهم بسرعة من دون أن يتوقفوا أمامها بدقة ومسئولية. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لأنه المطلع على خفايا أمور عباده ودقائقها.

* * *

٦٤

الآيات

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(نَجْوى) : النجوى هي الحديث السري الدائر بين اثنين أو أكثر.

* * *

٦٥

النجوى في مواقعها وإيحاءاتها

يتحدث الله عن النجوى التي تحدث في الموارد التي لا يريد المتحدثون فيها أن يطّلع عليها الآخرون ممن لا علاقة لهم بها ، أو ممن كانت موجهة ضدهم. وقد تحدث في بعض الحالات كنتيجة لإيجاد حالة نفسية صعبة عند بعض الناس ، انطلاقا من الإيحاء بالخوف الذي قد يثيره الشعور بحركة الأجهزة الخفية السرية في إدارة الأحاديث الخاصة للتخطيط للإضرار بهم.

وهذا هو الموضوع الذي أرادت هذه الآيات أن تعالجه في دائرة الإيمان بالله الذي يوحي بالرقابة الشاملة التي لا تغفل عن أيّ شيء ، مهما كان دقيقا أو خفيا ، وفي دائرة الواقع الذي يدور فيما بين الناس حول النجوى ، وفي ضرورة التأكيد على الجانب الإيجابي في مضمونه ، والابتعاد عن الجانب السلبي ، وفي تأثيراته النفسية.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فذلك هو الخط العقيدي الذي يصل إلى مستوى الوضوح ، كما لو كان أمرا محسوسا مرئيا بالعين المجردة ، لأن خالق الكون كله ، والمهيمن على الأمر كله في تدبيره وتنظيمه ، لا بد من أن يكون محيطا بكل شيء ، فلا تخفى عليه خافية من خفايا خلقه ، (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) لأنه الحاضر الذي لا يغيب عن أحد ، ولا يغيب عنه أحد ، لأن الكون لديه بمنزلة سواء ، في حضوره عنده ، وفي حضوره فيه.

(ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) في ما يوحي به ذلك من معنى المسؤولية الجزائية في عقاب الله ، ليتحول الإحساس بالرقابة الإلهية الخفية الشاملة إلى إحساس بالمسؤولية الدقيقة التي تلاحق الإنسان في سره ، كما تلاحقه في علانيته ، فليس لدى الله في ما يعلمه من شؤون خلقه سرّ وعلانية ، بل الأمر في

٦٦

الوضوح لديه على حدّ سواء ، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) فقد يبدو من الآية أن هناك قوما كانوا يجتمعون في اجتماعات سرية ويتحدثون فيما بينهم بطريقة توحي بالإثارة التي تترك مجالا واسعا للخوف والقلق في طبيعة المواضيع العدوانية ضد المسلمين ، وأن النبي كان قد نهاهم عن ذلك ، فيعدونه بالامتناع (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) تمردا وعنادا واستهتارا.

(وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) فقد كان هؤلاء من المنافقين ، أو من اليهود الّذين كانوا يعملون على تركيز قاعدة النفاق في محاولاتهم المتنوعة في إرباك الواقع الإسلامي في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين. ولهذا فقد كانت نجاواهم تتضمن التخطيط للإثم في ارتكاب ما حرمه الله ، والعدوان على الأمن الإسلامي العام ، ومعصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في ما يأمر به أو ينهى عنه ، في ما يتعلق بالتشريع أو بإدارة الحكم الإسلامي في مفرداته التنظيمية.

* * *

التحية بين الجاهلية والإسلام

(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) كدلالة على الخبث والعداوة والاستهانة بك، وقد جاء في أسباب النزول بما معناه أن أناسا من اليهود دخلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : السلام عليك يا أبا القاسم. والسام هو الموت. فقال الرسول : وعليكم ، فنزلت هذه الآية (١) وقد دلّت هذه الرواية على اللباقة الرائعة التي كان يتمتع به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان يرد على

__________________

(١) يراجع : الواحدي ، أبو الحسن علي بن أحمد (النيسابوري) ، أسباب النزول ، دار الفكر ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م ، ص : ٢٢٩.

٦٧

المعتدي طبيعة الرد ، فيتصاغر لدى نفسه ، ويعرف بأن الرسول لم يكن ساذجا في موقفه ليترك للسخرية أن تأخذ مجالها في طريقتهم ، ليذهبوا ويقولوا لجماعتهم بأن الرسول لم ينتبه للفرق بين كلمة السام وكلمة السلام ، إذا أجابهم بقوله : وعليكم السلام.

وربما نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب في ما قد نواجهه من أمثال هذا الأسلوب من أعداء الإسلام ، لنتعلم اللباقة الهادئة في الرد ، في مواجهة هذا المنطق.

وقد جاء في تفسير القمي : أنهم كانوا يحيونه بقولهم : أنعم صباحا وأنعم مساء ، وهو تحية أهل الجاهلية (١) ، بينما كان الله يحييه بتحية الإسلام وهي السلام عليكم ، لأنهم لا يريدون للتشريع الإسلامي في التحية أن يأخذ دوره الطبيعي في الحياة العامة للناس.

وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يثيروه في حياتهم الاجتماعية ، فيؤكدوا تحية الإسلام في تقاليدهم ، لأن ذلك هو مظهر أصالة الشخصية الإسلامية التي تلتزم الإسلام في الكلمة المميزة والفكرة الغنية والأسلوب الفريد الذي يتميز به الإسلام عن غيره ، مما قد يجعلنا نفكر بأن وحدة المعنى لا تكفي في طريقة التعبير ، بل لا بد من التأكيد على الكلمة الواحدة في تقاليد الشريعة.

(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي لو كان محمد نبيا لنزل علينا العذاب بما نقوله من الكلمات التي تتحداه وتسخر به وتسيء إليه ، تماما كما لو كانوا يستعجلون العذاب كدليل على عدم صدقه. ولكن الله يجيبهم على ذلك بأن النتيجة التي سيصلون إليها إن عاجلا أو آجلا ستعرفهم حقيقة الموضوع.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ١٩٨.

٦٨

(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فقد أعدها الله للكافرين وللمعاندين.

* * *

التناجي بالبر

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ)

وهذا نداء للمؤمنين من أجل استثارة إيمانهم ليتحرك في عمق شخصيتهم ، من أجل أن تبقى الشخصية تجسيدا للإيمان الحي ، فتلتزم بثوابته ، وتستقيم على خطه ، ولا تهتز في مواقع الهزاهز ، ولا تنحرف في خطوط الانحراف ، من خلال طبيعة المجتمع الذي قد يضغط على أفراده ، فيسقطون تحت تأثير ضغطة ، كما يحدث للكثيرين الّذين يتأثرون في حياتهم العامة بالأوضاع المنحرفة في مواقفهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية مع إخلاصهم العملي في المسألة العبادية ، لغفلتهم عن امتداد الإيمان في حياتهم العملية.

ولهذا أراد الله في هذا النداء أن يدفعهم إلى الصدمة التي تهز أعماقهم في الصميم ، ليبتعدوا عن الخضوع للتيارات الضاغطة في المجتمع ، في ما توحي به من الإثم والعدوان ومعصية الرسول ، ليتمردوا على ذلك لمصلحة التيار الإيماني الرسالي ، ليكون جوّ النجوى موحيا بالتفكير العقلاني الهادىء الذي ينفتح على الخير والتقوى من أوسع أبوابهما.

(وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) لأن هذين الخطين هما اللذان يبنيان الحياة في مواقع السمو الروحي والعملي ، في ما توحي به كلمة البر من المعنى الشامل الذي يشمل كل القيم الروحية والاجتماعية في الحياة ، وفي ما توحي به كلمة

٦٩

التقوى من المراقبة الدائمة لله في كل النبضات الروحية والانطلاقات الفكرية والخطوات العملية والمواقف السلبية والإيجابية ، ليكون الإنسان إنسان الله الذي يوحي لنفسه بالحب له والخوف منه والرغبة العميقة في الحصول على رضاه.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) مما يجعل التقوى الخط العريض للحياة ، الذي لا يقتصر على حالة النجوى ، كما يوحي بالمسؤولية في الموقف العظيم الذي يقف فيه الجميع ، في يوم المحشر ، ليواجهوا لحظات الحساب الكبير.

* * *

نجوى الشيطان والقوى المستكبرة

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) في إيحاءاته التهويلية ، وأساليبه التخويفية في إثارة الهزيمة النفسية بوسائله المتعددة المثيرة ، (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) في ما قد يتحسسونه في مشاعرهم من الشعور بالإحباط في العزيمة ، عند ما يخيّل إليهم بأنهم محاصرون من كل الجهات ، ومراقبون من كل الناس ، وملاحقون من جميع القوى التي تجتمع فيما بينها في الدوائر السرية ، لتخطط لإضرارهم والإيقاع بهم والكيد لهم في جميع أمورهم ، مما يحشد حياتهم بالحزن العميق الممتد في كيانهم كله. وهذا ما تحاوله القوى الكافرة المستكبرة المتمثلة في تحريك الأجهزة السرية التجسسية المخابراتية ، لتطويق القوى المؤمنة المستضعفة ، والتي تتحرك في مواقع الإيمان والحرية والعدالة ضد المستكبرين والظالمين والكافرين ، وتحويل الاعلام إلى وسيلة من وسائل الإثارة النفسية في تهويل الأوضاع بالمستوى الذي تسقط معه الإرادة الإيمانية الواعية المتحدية أمام الحديث عن ضخامة هذه الأجهزة وسيطرتها المطلقة ، وخططها

٧٠

الخفية الدقيقة التي تلاحق أهدافها ، فلا تخطئ في أيّ موقع من مواقعها ، لتستسلم الشعوب لها في سقوطها الكبير تحت تأثير الهزيمة النفسية.

وتلك هي الإيحاءات الشيطانية التي تريد من خلالها أن يحزن الذين آمنوا ، ليقودهم الحزن إلى اليأس والسقوط من دون فرق بين شياطين الإنس والجن ، في الوسائل البدائية أو المتحضرة.

ولكن الله يريد للمؤمنين أن يستمدوا قوتهم من قوته ، وإرادتهم من إرادته ، ليستثيروا عمق هذا الإيمان في إيحاءاته الروحية التي تفتح للعقل النافذة الواسعة على الكفرة الإيمانية في خضوع الكون لله في كل شيء ، فلا يملك أي مخلوق النفع أو الضرر إلا بإذن الله ، في إرادته المتعلقة بالأشياء بشكل مباشر أو غير مباشر ، فللإنسان أن يواجه الموقف بكل قوة ، متوكلا على الله ، بعد استجماع كل الأسباب التي أدار الله الكون من خلالها ، بكل تفاصيله ، ليعلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن الله على كل شيء قدير ، الأمر الذي يجعل التحدي هو علامة القوة في شخصية المؤمن ، أمام الآخرين الذين يريدون إسقاط شخصيته من خلال إسقاط إرادته ، وهذا ما أراد الله أن يؤكده في هذه الفقرة التالية ، في حديثه عن المؤمنين.

(وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) في قوانينه الجزئية أو الكلية في حركة الكون والحياة والإنسان ، فلا يخافوا من شيء ولا يحزنوا على شيء ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) في ما يوحي به التوكل من الثقة بالله ، والإسلام لأوامره ونواهيه ، ورفض الخوف من القوى الخفية الكامنة في الحياة والإنسان.

* * *

٧١

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١)

* * *

معاني المفردات

(تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) : التفسح الاتساع ، والتفسح والتوسع واحد.

(انْشُزُوا) : النشور ـ كما قيل ـ الارتفاع عن الشيء بالذهاب عنه ، والنشوز عن المجلس أن يقوم الإنسان عن مجلسه ليجلس فيه غيره إعظاما له وتواضعا لفضله.

* * *

٧٢

الإفساح في المجالس

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) وهذا لون من ألوان الأدب الإسلامي الاجتماعي الذي يتناول موضوع الأدب في الجلوس ، فقد يجلس الناس حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو حول أي شخص مرموق ممن يحتاج الناس إليه لعلمه أو لغير ذلك مما يتصل بحياتهم ، بحيث لا يجد القادم مكانا للجلوس إليه ، لأنهم ليسوا مستعدين للتنازل عن مكانهم الذي يجلسون فيه في غير حاجة ، أو للتوسع في المكان ليجلس فيه هذا القادم ، بفعل التعقيدات الذاتية التي تعيش في نفوسهم. فكانت هذه الآية من أجل توجيههم إلى ضرورة التوسع في المجالس ، في ما يملكون من السعة فيه (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) والنشوز هو الارتفاع عن المكان والمراد به هو القيام منه ، والتنازل عنه لمن هو أكبر سنا وأفضل علما وأكثر تقوى ، في ما يمثله ذلك من الاحترام له ، فإن ذلك هو النهج الذي ينبغي للمسلمين أن ينتهجوه في علاقاتهم الاجتماعية في توقير الكبار في السن ، وتعظيم العلماء والأتقياء ، بالطريقة التي توحي بذلك في السلوك الاجتماعي العام.

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي ما يمثله الإيمان من قيمة كبيرة عند الله ، (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) فإن للعلم قيمته الكبيرة عند الله ، القيمة التي يريد للناس أن يؤكدوها في حياتهم في المظهر الخارجي ، كما هو الحال في الشعور الداخلي. وربما كان في المقارنة بين المؤمنين والعلماء في رفع الدرجة عند الله إيحاء بأن اقتران هاتين الصفتين هو القيمة العظيمة في ميزان التعظيم لديه ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) في ما يراقبه من أعمالكم في مواقع طاعته.

وقد نستوحي من هذه الآية أن على الناس أن ينظروا إلى مسألة المكان نظرة واقعية بسيطة ، فلا يعتبروه قيمة كبيرة في ذاته ، بحيث يكون التوسّع فيه

٧٣

أو التنازل عنه للآخرين مشكلة ذاتية يتعقّدون من خلالها ، لما قد يشعرون فيه أو يشعر الناس من حولهم بأن ذلك يمثل نزولا في مكانتهم أو إساءة إلى مقامهم ، بل يريدهم أن يواجهوا الموقف بحاجة الآخرين إليه ، من موقع حاجاتهم ، بالمستوى الذي قد يتقدم على حاجة الجالسين إليه ، أو من موقع مكانتهم ، بالتعبير العملي عن تقديرهم لإيمانهم أو لعلمهم أو عن تفاعلهم معهم في ما يتصفون به من عجزهم أو شيخوختهم التي توحي بالرحمة والمؤاساة ، لتعيش القضية في وجدانهم على أساس روحية العطاء الأخلاقي لا على أساس العقدة الذاتية في إحساسهم بقضايا الآخرين.

* * *

٧٤

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٣)

* * *

معاني المفردات

(أَأَشْفَقْتُمْ) : الإشفاق ، الخشية.

* * *

التصدق عند لقاء الرسول

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) وهذا نداء للمؤمنين في مجتمع الرسول ، أن يتصدقوا في كل لقاء لهم بالرسول ، ليكون

٧٥

ذلك دافعا لهم إلى أن تكون مناجاتهم له منطلقة من الروح الإيمانية التي تلتقي بالله في مواقع القرب إليه ، وهي الصدقات التي تمثل العطاء الذي يتقرب به الإنسان إلى ربه ، فلا يكون لقاؤهم به في المناجاة ، التي تأخذ كثيرا من وقته وتشغله عما هو فيه ، مجرد لقاء للحديث العادي الذي لا غنى له ولا فائدة ، بل يكون لقاء خاضعا للروح الإيمانية التي تستهدف رضا الله في كل أفعالها وأقوالها. وليقلل ذلك من اللقاءات التي كانت تشغل وقت الرسول بمناسبة أو غير مناسبة ، ليتحسسوا مسئوليتهم عنه وعن وقته الذي هو وقت الرسالة في حركتها في حياة الأمة ، في الدعوة وفي الجهاد.

(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) لأنكم تخرجون بذلك من الأجواء العادية التي تلتقون فيها ببعضكم البعض ، لتجدوا في لقاء الرسول معنى روحيا يرتبط بالعطاء الذي يقدمه إليكم في ما تحتاجون إليه من شؤون دينكم ، من خلال العطاء الذي تقدمونه للفقراء في ما يحتاجونه من أموالكم.

وقد علل صاحب الميزان ذلك بقوله : «ولعل الوجه في ذلك ، أن الأغنياء منهم كانوا يكثرون من مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يظهرون بذلك نوعا من التقرب إليه والاختصاص به ، وكان الفقراء منهم يحزنون بذلك وتنكسر قلوبهم ، فأمروا أن يتصدقوا بين يدي نجواهم على فقرائهم بما فيها من ارتباط النفوس وإثارة الرحمة والشفقة والمودة وصلة القلوب بزوال الغيظ والحنق» (١).

ونلاحظ على ذلك أن المسألة لا ترتبط بالجانب الاجتماعي في علاج عقدة الفقراء من الأغنياء في لقاءاتهم المتكررة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن من الممكن علاج ذلك بإتاحة الفرصة للفقراء في اللقاء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمستوى نفسه ، كما أن العطاء الذي يقدمه الفقراء لا يغني عن الحاجة إلى ذلك اللقاء ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ١٩٦.

٧٦

لأن الجانب الروحي والفكري الذي يتطلعون إليه ، في ما يحتاجون إليه من الحصول على زاد فكريّ أو روحيّ منه ، لا يعوضه المال الذي يتصدق به الأغنياء. وبذلك كانت المسألة ، في دائرة الاحتمال ، ترتبط بالجانب الداخلي في مضمون الصدقة الروحي ، تماما كما هي العبادة في مقدماتها العملية ، والله العالم.

* * *

الصلاة عند عدم التمكن من الصدقة

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) مالا تقدمونه بين يدي نجواكم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في ما يعرفه من ظروفكم وأوضاعكم التي تمنعكم من ذلك ، فيغفر لكم ما قد تكونون قصرتم فيه ، ويرحمكم بالعفو عما عجزتم عنه.

وربما كان هذا التكليف موجبا لبعض الحرج الذي قد يعانونه في هذا الالتزام المتكرر في اليوم الواحد ، في ما قد يطرأ من الحاجات اليومية في مناجاتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الأمر الذي أوجب انشقاقهم منه ، في ما يفرضه عليهم من صدقات متتابعة ، فقصّر بعضهم ، أو تحدث البعض الآخر في ضرورة رفعها ، أو عن السبب الموجب لها ، في ما لا يفهمونه من أسبابها. وهكذا جاءت الآية التي تناقش رد فعلهم عليه لترفع ذلك عنهم ، على أساس أن التشريع الموقت قد أدى مهمته في إثارة الاهتمام بمسألة مناجاة المسلمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقديرهم لمسؤولية وقته ، وضرورة التأكيد على المسائل المهمة في ما يطلبونه من موعد للمناجاة ، فلا تكون القضية لديهم قضية وقت ضائع يريدون أن يقطعوه معه ، أو مسألة تافهة يريدون أن يثيروها أمامه ، بل تكون القضية قضية المهمات المعقدة التي تفرض الحاجة الملحة للقاء به ، بحيث لا

٧٧

يستغنى عنها بالحديث مع غيره. فجاءت الآية الثانية لترفع ذلك عنهم ، ولتؤكد الالتزام بالخط العام في التقرب إلى الله ، وهو الصلاة التي هي معراج روح المؤمن إلى الله ، والزكاة التي تمثل العبادة التي يمتزج فيها العطاء الروحي بالعطاء المادي في ما تمثله الزكاة من حالة عبادية رائعة.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) فكان رد الفعل امتناعكم عن مناجاته خوفا من دفع الصدقة ، أو امتناعكم من دفعها في إلحاحكم على طلب مناجاته ، مما يوحي بضعف الالتزام الديني في حياتكم ، (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) تهاونا أو استخفافا أو تمردا (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) فغفر لكم ذلك بعد أن تحقق للتشريع بعض غاياته ، في ما أثاره من جدال ومناقشة ووعي للمسألة المتصلة بالنبي في وقته الثمين لحساب الرسالة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في التشريعات العامة التي تمثل خط الحياة الذي تتحرك الرسالة من أجل أن تقود الناس إلى الالتزام به ، لتبقى حياتهم مشدودة إلى ما يصلح أمرهم عند الله في حسابات الدنيا والآخرة ، (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) مما يرضيه أو مما يسخطه في السر والعلانية.

وجاء في الدر المنثور عن علي عليه‌السلام قال : «إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها بعدي ، آية النجوى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدمت بين يديّ درهما ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) (١).

* * *

__________________

(١) السيوطي ، عبد الرحمن جلال الدين ، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، م : ٨ ، ص : ٨٤.

٧٨

الآيات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ(١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢١)

* * *

معاني المفردات

(أَيْمانَهُمْ) : الإيمان جمع يمين وهو الحلف.

٧٩

(جُنَّةً) : الجنة السترة التي يتّقى بها الشرّ كالترس.

(مُهِينٌ) : المهين اسم فاعل من الإهانة بمعنى الإذلال والإخزاء.

(اسْتَحْوَذَ) : الاستحواذ الاستيلاء والغلبة.

(كَتَبَ) : الكتابة هي القضاء منه تعالى.

* * *

حديث المنافقين في المدينة

وهذه لفتة قرآنية إلى المنافقين في المدينة الذين كانوا يتحركون بين المؤمنين وبين اليهود في حركة ازدواجية تنفتح على المؤمنين تحت عنوان الإيمان من دون عمق في الفكر وفي الشعور ، وتلتقي مع اليهود تحت عنوان آخر من دون شمولية في الموقف ، وبذلك كانوا يعيشون الاهتزاز الروحي والعملي على أكثر من صعيد. وما زال القرآن يقود المسلمين إلى وعي الفكرة والموقف ، في موقفهم من هؤلاء ، من خلال تعريفهم بملامحهم التي تعرفهم بحقيقتهم في صعيد الواقع.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود الذين تولاهم هؤلاء المسلمون ، فاندمجوا في مخططاتهم ، والتزموا بمواقفهم ، واعتبروا أنفسهم فريقا لهم في كل قضايا السلم والحرب ، (ما هُمْ مِنْكُمْ) لأنهم لم يعلنوا الإيمان ويمارسوه في الموقف ليندمجوا بالمجتمع المؤمن اندماجا روحيا وعمليا ليكونوا جزءا منه ، (وَلا مِنْهُمْ) لأنهم إذا كانوا يلتقون معهم بالموقف والمصلحة ، فإنهم لا يستطيعون أن يدخلوا في المجتمع اليهودي كجزء منه ، لأنه مجتمع مغلق لا يسمح للآخرين من غير اليهود أن يدخلوا فيه وينفذوا إليه بطريقة عضوية ، انطلاقا من العنصرية التي يختزنها أفراده في تفوق العنصر

٨٠