تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) إنه الحب الإلهي الذي يفيض على عباده بالرحمة عند ما يتحركون للقتال في سبيله ، لا في سبيل عصبية ذاتية أو فئوية ، ولا في سبيل طمع شخصي ، بل من أجل الأهداف الكبيرة التي جعلها الله للجهاد في الحياة ، من أجل إقامة الحق وإزهاق الباطل وإعلاء كلمة الله وإسقاط كلمة الشيطان ، ليكون الدين كله لله ، من أجل مصلحة الحياة والإنسان.

وإذا كان القتال في سبيل الله ، فلا مجال لآية عقدة نفسية ذاتية تفسح المجال للاهتزاز في الموقف ، أو لآية ثغرة من ضعف تفتح الطريق ، فلا بد من أن يتضافر الجميع على نجاح المعركة وسدّ كل الثغرات فيها ، وتنظيم الوضع القتالي بالطريقة التي يأخذ فيها كل شخص موقعه بحيث يتكامل الجميع في أدوارهم ومواقعهم ومواقفهم ، فلا يتخلى أحد عن مكانه في داخل الخطة ، ولا يبتعد عن التعليمات التي تحدد له حركته في طبيعتها وشروطها ، تماما كما هو البنيان المرصوص الذي تتعاون لبناته على إقامته وتماسكه وقوته ، بحيث تؤدي كل لبنة دورها من خلال موقعها في هندسة البناء ، بحيث إذا تخلت عن موقعها أنهار البناء كله.

إنّها الصورة الحية للبناء الاجتماعي الذي يريد الإسلام إقامته في مجتمع الحرب ، كما يريد إقامته في مجتمع السلم ، انطلاقا من أن تحديات السلم في تركيز الوضع الإسلامي في الداخل في التخطيط الدقيق الشامل للبناء الاجتماعي والاقتصادي والروحي والثقافي ، قد تفوق تحديات الحرب ، مما يفرض بناء القوة الذاتية بشكل قوي.

* * *

١٨١

الآية

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥)

* * *

معاني المفردات

(أَزاغَ) : الزيغ الميل عن الاستقامة ، ولازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل. وإزاغته تعالى إمساك رحمته وقطع هدايته عنهم. وهي إزاغة على سبيل المجازاة وتثبيت للزيغ الذي تلبسوا به أولا بسبب فسقهم المستدعي للمجازاة ، كما في قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦].

وبالتالي ليست الإزاغة من الله بدئية ، لأن الإضلال الابتدائي لا يليق بساحة قدسه تعالى.

* * *

١٨٢

موسى يواجه الأذى من قومه

وليس هذا الوضع المنحرف الذي يختلف فيه الفعل عن القول ، ببدع في المجتمع الديني ، في ما كان يمارسه بعض المسلمين في زمان الدعوة ، مما كان يؤذي النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كانت المشكلة سابقة مع موسى عليه‌السلام الذي عمل على إنقاذ قومه من ظلم فرعون ، حتى أخرجهم من العبودية إلى الحرية على أساس الدعوة التوحيدية التي تجعل الناس خاضعين لله وحده في السير وفق أوامره ونواهيه ، ولكنهم كانوا خاضعين لرواسب العبودية التي تمنعهم من التطلع إلى آفاق الحرية في آفاق الله.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) بعد أن قطع معهم شوطا طويلا عانى فيه الكثير الكثير من المشاكل والتحديات ، من أجل أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وتألم أشد الألم من أجلهم ، حتى كان إرسال بني إسرائيل معه المطلب البارز الذي قدمه إلى فرعون ، لأنه كان يريد أن يجعل من مجتمع الاستضعاف ، الذي عاشوا فيه القهر والذل ، مجتمعا إيمانيا قويا يحرك كل ذكريات الماضي من أجل أن تتحول إلى ثورة عاصفة في وجه الاستكبار ، على أساس شريعة الله القائمة على العدل والحرية. وبدأ بالدعوة في أوساطهم ، ووضعهم في قلب التجربة ، وأعطاهم الحرية في التعبير عن أفكارهم ، انطلاقا من إنسانية الدين في احترام إنسانية الإنسان. ولكنهم كانوا معتادين على الخضوع المطلق للجبار الذي يفرض عليهم إرادته بالقهر ، فلم يحترموا الشخص الذي يكلمهم بمنطق الإنسان ، حتى قالوا له : «أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا» وهكذا استمروا في إيذائه وفي مطالبهم التي لا تنتهي ، وفي مشاكلهم التي لا تعد ، وفي تمردهم على أوامره ونواهيه حتى ضاق بهم ذرعا فقال لهم ـ من موقع المستنكر المتألم لا من موقع اليائس المنهزم ـ :

١٨٣

(يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) ، فليست صفتي بينكم صفة الشخص العادي الذي ينتمي إليكم لتعاملوني كما يعامل يعضكم بعضا ، بل إن صفتي هي صفة الرسول الذي أرسله الله إليكم ليهديكم وينقذكم من ظلم المستكبرين ، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص : ٥] ، وليحقق لكم النتائج الكبيرة في ما هو الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. ولو كنتم تجهلون هذه الصفة الرسالية في موقعي ، فقد يكون لكم عذر في ذلك ، ولكنكم تعلمون أني رسول الله إليكم ، فلا عذر لكم في ما تفعلونه ، لأنكم لا تتمردون علي بما تفعلونه ، بل تتمردون على الله ، مما يجعل الألم الذي أحس به ألما رساليا لا ألما ذاتيا. ولكنهم استمروا في ضلالهم وابتعادهم عن المنطق ، (فَلَمَّا زاغُوا) عن الخط المستقيم بعد كل تلك الدعوة والمعاناة ، وامتدوا في ذلك (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) فانحرفت عن السبيل السويّ ، في ما تفكر ، وفي ما تشعر ، لأن الممارسة في الطريق الخطأ تحول الخطأ إلى حالة عقلية وشعورية ، بفعل الاستمرار ، مما يجعل الضلال حالة طبيعية من خلال ارتباط المسببات بأسبابها. وهذا هو معنى نسبة الزيغ إلى الله باعتبار أنه هو الذي ربط النتائج بمقدماتها. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لأنهم إذا اختاروا الضلال بعد أن انفتح لهم طريق الهدى ، فإن الله يتركهم لضلالهم ، بعد إقامة الحجة عليهم من جميع الجهات.

* * *

١٨٤

الآية

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(وَمُبَشِّراً) : البشرى هي الخبر الذي يسر المبشّر ويفرحه ، ولا يكون إلا بشيء من الخير يوافيه ويعود إليه.

* * *

النبي عيسى أمام تكذيب قومه له

والنبي عيسى وجه أصيل مشرق في تاريخ الرسل ، ورسالته هي النافذة

١٨٥

الرسالية التي تطل على الماضي والمستقبل ، فهي من جهة ، تصدق التوراة ككتاب منزل من الله ، لم يستنفد مفاهيمه وتشريعاته بمرور الزمن ، لولا بعض الأحكام التي حرمها الله ، وجاء عيسى ليحللها في ما نقله الله عنه (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران ، ٥٠] ، وهي من جهة ، تبشر بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يأتي من بعده ، مما يعني الانفتاح الكامل الذي لا يوحي بأية عقدة تعصب للمؤمنين بموسى عليه‌السلام لأنه يؤكد لهم إيمانهم ، ولا يثير أي تعصب مستقبلي لدى المؤمنين به من ناحية الرسالة القادمة. ولكن المجتمع الإسرائيلي وقف ضده ، كما وقفت المجتمعات الأخرى ضد الأنبياء الآخرين.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) فقد كان منهم من ناحية أمه ، كما كان جزءا من مجتمعهم ، مما يجعل من مسألة أنه رسول الله إليهم ، مسألة تتصل بالواقع الذي تعيشه الرسالة من حيث الزمان والمكان ، لا باختصاص مهمته الرسالية بهم. وهكذا أراد أن يوجههم إلى هذه الصفة المتعلقة بمسؤوليتهم في الاستماع إليه ، والعمل بما يأمرهم به وينهاهم عنه ، لأنها أوامر الله ونواهيه ، كحلقة من سلسلة النبوات في حساب الزمن ، (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) التي جاء بها موسى ، في ما يوحي به التصديق من تأكيد المصدر الإلهي لها واستمرار العمل بها ، (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) لتستقبلوه بالإيمان فور مجيء زمنه ، وانطلاق رسالته ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) من الدلائل الواضحة على صدقه في دعواه بما لا يرقى إليه الشك (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، لأنهم لم يستطيعوا أن يردوا عليه باتهامه بالكذب ، ولم يجدوا تفسيرا مضادا لذلك من حيث طبيعة المضمون ، فكان السحر هو العنوان الذي يحركونه في عقول الجماهير البسيطة التي تعتبر كل شيء خارق للمألوف لونا من ألوان السحر ، في الوقت الذي كانت معجزات عيسى تمثل الحقيقة التغييرية التي يتغير فيها الواقع من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، بينما لا يوحي

١٨٦

السحر إلا بالتغيير الشكلي الذي يخدع البصر من دون أن يغيّر من الواقع شيئا ، ولكنه العناد المعقّد الذي يعمل على التعلق بأي شيء في تبرير إنكاره ورفضه للرسالة.

وهذا الرفض هو لون من ألوان محاولات الرفض التاريخي للرسالات التي جاءت لتغير واقع الناس نحو الأفضل ، مما كان يمارسه المترفون والمستكبرون الذين يريدون المحافظة على امتيازاتهم الاستكبارية ، ويعيشه المستضعفون على أساس تضليل المستكبرين لهم من جهة ، وعلى أساس واقع التخلف الذي يمنعهم من مواجهة الرسالة بمنطق الفكر من جهة أخرى.

وإذا كان الرفض يتمثّل بالتكذيب في هذه الرسالة ، فإنّ النبي قد واجه مثله كما واجه الاهتزاز العملي لدي المؤمنين ، الذي يتمثل في عملية رفض واقعيّ لحركة الرسالة.

* * *

١٨٧

الآيات

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩)

* * *

معاني المفردات

(لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) : إطفاء النور : إبطاله وإذهاب شروقه ، وإطفاء النور بالأفواه إنما هو بالنفخ بها.

وقال الراغب في مفرداته بوجود فرق بين قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [التوبة : ٣٢] ، وقوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [الصف : ٨] ، والفرق بين الموضعين في أن قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) يقصدون إطفاء نور الله ، وفي قوله : (لِيُطْفِؤُا) يقصدون أمرا يتوصلون به إلى إطفاء

١٨٨

نور الله (١).

ففي الأولى المراد الإطفاء نفسه ، بينما المراد في التعبير الثاني السبب الموصل إلى الإطفاء ، وهو النفخ بالأفواه ، والإطفاء غرض وغاية.

(لِيُظْهِرَهُ) : الإظهار التغليب والنصرة. فإظهار شيء على غيره نصرته وتغليبه عليه.

* * *

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فينسب إلى الله ما لم يقله ، أو ينكر ما أوحى به إلى رسوله ، من خلال تكذيبه للرسول ، أو يشرك به ما لم ينزل به سلطانا ، أو يبتعد عن مواقع رسالته (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) في ما يتضمنه هذا الدين الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إسلام الفكر والروح والواقع الله في جميع الأمور ، مما يحقق للحياة سلاما في جميع المجالات العامة والخاصة ، من خلال عبودية الإنسان لله وحريته أمام الكون كله والناس كلهم ، وفي خط العدالة التي لا يختلف فيها إنسان عن إنسان.

إنّ موقف مثل هذا الإنسان في افترائه على الله الكذب يمثّل أبشع أنواع الظلم ، لأنه يمثل التحدي لله في تجاوزه لحقه على عباده في الخضوع له والانسجام مع إرادته في دينه ، كما يمثل ظلم الإنسان لنفسه في ابتعاده عن مصلحتها في ما يتصل بسلامتها في الدنيا والآخرة ، وهكذا في ظلم الحياة والناس كافة ، في ما يضعه من حواجز وعقبات أمام الدعوة إلى الله.

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣١٤.

١٨٩

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأن الطريق الذي اختاروه لأنفسهم للسير فيه لا يؤدي بهم إلى الخير ، بل يجعلهم في تخبط وحيرة وضياع في متاهات الضلال الفكريّ والعمليّ.

* * *

(اللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) في ما يثيرونه حول دينه من كلمات غير مسئولة أو في ما يلصقون بالرسول من صفات لا تتناسب مع قدسية صفته الرسالية ، أو في ما يحملونه من أفكار مضادة يضعونها في مواجهة الإسلام بوسائلهم الإعلامية المتحركة في أكثر من موقع ، أو في ما يحرّكونه في المجال الفكري من شبهات تتحدى الإسلام في عقيدته ومنهجه وشريعته وحركته من أجل قيادة الحياة باسمه ، ليخفّفوا من وهج الإسلام في حياة الناس ، وليشوهوا صورته في أفكارهم ، وليسقطوا تأثيره في مشاعرهم ، فلا يسمحوا له أن يرفع صوته ، في محاولة دائمة لإثارة الضجيج من حوله ، حتى لا يسمعه الآخرون.

(وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) لأن الإسلام ليس كلمة الإسلام التي يمكن أن يحتويها الظلام ويلفها الضباب ، بل هي كلمة الله المستمدة من إشراقة وحيه الذي يتوهج في وجدان الحياة ووعي الإنسان ، كما يتوهج الفجر في إشراقة النور الأولى ، ثم يتسع حتى يشمل الأفق كله عند ما تظهر الشمس بكل شعل النور المتدفقة منها ، فلا يطفئها الضباب ولا تحجبها الغيوم. وهكذا يتكامل النور الإلهي المتمثل بدين الله في حركة الواقع ليصل إلى المواقع التي أراد الله له أن يصل إليها من دون أن تستطيع أية جماعة أن تقف ضد انتشاره ، أو تتمكن أية

١٩٠

ظروف من أن تمنع امتداده (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ، لأن المسألة ليست في ما يحبّون أو يكرهون ، بل المسألة في ما يستطيعونه من محاولات لا تصل إلى حد النجاح.

* * *

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) فهو دين الهدى الذي يقود الناس إلى الغايات الكبيرة التي تؤكد إنسانية الإنسان في الآفاق المشرقة من الحياة ، وهو دين الحق «الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، فتكون له القوة والسيطرة والامتداد ، بجهاد المجاهدين ودعوة الدعاة ، في ما يريد الله له أن يتحرك فيه من الوسائل العملية الطبيعية المؤيدة بألطاف الله وفيوضاته ، بما يكفل له الحضور الكبير المميز المنفتح على كل مواقع الدين والفكر في الحياة ، بالرغم من الظروف الصعبة القاسية التي يمكن أن تحيط به وتحاصره ، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الذين وقفوا ضد دعوة التوحيد بأضاليلهم وأباطيلهم ، ثم انكفأوا وسقطوا ، وامتد الإسلام إلى كل الجزيرة العربية ، وانطلق فاتحا داعيا إلى كثير من بقاع العالم ، وما زال يفرض نفسه على الواقع الفكري والسياسي والاجتماعي والأمني في أكثر من موقع وموقع.

وإذا كان الله يريد أن يتم نوره بإظهار دينه على الدين كله ، وإذا كنا نعرف أن الله لا يريد لهذا الهدف أن يتحقق بطريقة المعجزة ، بل بالوسائل القرآنية التي أكدها في كتابه ، كالدعوة والجهاد والعمل السياسي المتحرك في خط تثبيت قواعد الإسلام في الحياة ، في ساحات الصراع ، فلا بد للمسلمين من أن يتحملوا مسئولية السعي من أجل تحقيق هذا الهدف ، بعيدا عن كل القوي المحيطة بهم في ما يمكن أن ترضى أو لا ترضى به ، لتكون المداراة

١٩١

والمجاملة أو الخوف أساسا للامتناع عن طرح الإسلام في مجالات الدعوة أو الحركة أو الثورة أو الدولة كعنوان للفكر وللعمل ، كما يفعله الكثيرون من محاولات الاختباء وراء بعض الأقنعة التي تحمل مدلولا فكريا يختلف عن المضمون الإسلامي ، كالديمقراطية والاشتراكية ونحوهما مما حفلت به الأوضاع السياسية في المرحلة المعاصرة ، حتى عادت واجهة للسياسة الحركية ، بحيث يمكن للناس أن يتقبلوها أكثر مما يتقبلون به الإسلام الذي تحول بفعل الدعاية المضادة إلى عنوان قديم من عناوين التاريخ التي لا تصلح لمعالجة شؤون الحاضر.

إنّ المسألة عند هؤلاء هي أنهم يرفضون السير في الاتجاه الإسلامي الصريح ، لأن الكافرين يكرهون ذلك ، فلا يمنحونهم رضاهم ، ولا يؤكدون لهم مواقعهم في ذلك كله.

* * *

١٩٢

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣)

* * *

معاني المفردات

(تِجارَةٍ) : التجارة ـ بحسب الراغب ـ التصرف في رأس المال طلبا للربح ... وليس في كلامهم ـ أي العرب ـ تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ (١).

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٦٩.

١٩٣

التجارة التي تنجي من عذاب أليم

لقد تحدثت السورة في بدايتها عن المقت الإلهي الذي ينال المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ، باعتبار ذلك مظهرا من مظاهر البعد عن الإيمان في مضمونه الحي الفاعل.

ولمّا كان الإنسان بطبيعته خاضعا في حياته العملية في ما يفعله وما لا يفعله لحسابات الربح والخسارة ، ولما كان الغالب عليه التفكير بالجانب المادي الدنيوي في هذا المجال ، وربما كان امتناع المؤمنين عن الجهاد في خط الإيمان الذي يدعوهم إلى ذلك ، جاءت هذه الآيات لتؤكد لهم الربح الكبير في اتباع خط الإيمان والجهاد ، ولتثير أمامهم الربح الأخروي الذي هو الربح الحقيقي ، لأنه الربح الدائم الذي يمثل مسألة المصير النهائي في مسألة السعادة الخالدة ، مع عدم إغفال النتائج الدنيوية المحببة إليهم. وبذلك نفهم أن الإسلام لم يبتعد عن مراعاة الجانب النفسي من حب الذات الذي قد يكون غريزة إنسانية في ما يستتبعه من حب المال ونحوه ، بل عمل على أن يوسّع المدى الذي تتحرك فيه هذه الغريزة على مستوى الآخرة بالإضافة إلى مستوى الدنيا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الذين يفرض عليكم الإيمان أن تنفتحوا على مواقع رحمة الله في ما تؤملونه من ألطافه وفيوضات نعمائه في رحاب جنته ، (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) في ما تتحركون به من مشاريع وأوضاع وما تبذلونه من جهد كبير في سفركم وحضركم ، مما يمكن أن تحصلوا فيه على رضا الله الذي ينجيكم من مواقع سخطه وعذابه ، (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وهذا هو العنصر الأساس الذي ترتكز عليه الشخصية الإسلامية ، في ما تحمله من مفهوم واسع عن الكون الذي يتحرك في تدبيره بإرادة الله ، وعن الحياة التي لا تستقيم

١٩٤

إلا بدينه ، في ما يريد الله من الإنسان أن يحمله من تصور شامل لما حوله ولمن حوله ، بحيث يكون الله محور كل شيء ، في ما يختزنه وعيه ووجدانه في نظرته لكل الأشياء ، وعلى ضوء ذلك ، فإن الإيمان بالله ورسوله يمثل عنوان النظرة الكونية الشاملة للإنسان المسلم بالحياة ، في ما تمثله من الارتباط بالله والالتزام برسوله ورسالته.

(وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وذلك بأن تقدموا أموالكم في كل مواقع العطاء في موارده الخاصة والعامة ، وبأن تقدموا أنفسكم بكل إمكاناتها في مجالها العملي في حركة الحياة من حولها ، وبكل مواقع بذلها حتى تكون هي الضحية الطوعية لله في مواقع رضاه ، فإن ذلك وحده هو الشاهد الحي على الإخلاص لله في جميع الأمور ، ولذلك كان جزاؤه عظيما ، (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، لأن الموازنة بين ما تبذلونه من جهد أو تضحية ، وبين ما تحصلون عليه من النتائج الكبيرة عند الله ، تؤدي بكم إلى القناعة بالفضل العظيم لما عنده. (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فتقفون بين يديه كما لو لم يكن لكم ذنب عنده (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في ذلك الجو الرائع الجميل الحافل بالخضرة الحلوة والينابيع المتدفقة والجمال المبدع ، (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) حيث تعيشون هناك الاستقرار الدائم والطمأنينة الخالدة والراحة الطويلة (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي يمثل الموقع النهائي في حركة الإنسان نحو الفلاح والنجاح والحصول على الفوز بالسعادة في نهاية المطاف.

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها) في ما يحبه الإنسان من النتائج المباشرة لحركته الجهادية في تأكيد ذاته بالتغلب على القوى المضادة في ساحة المعركة ، لأنه يشعر بحصوله على ثمرة معاناته الشديدة : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) ، فقد جعل الله النصر والفتح القريب خاضعا لجهاد المجاهدين الذين يمدهم الله بقوته ويرعاهم بلطفه ، ويفيض عليهم من رحمته. وربما كان المراد بالفتح القريب فتح مكة الذي كان المؤمنون ينتظرونه بلهفة وشوق ، كما يقال ، (وَبَشِّرِ

١٩٥

الْمُؤْمِنِينَ) لتكون البشارة هي البادرة التي يقدمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتكليف من الله ، فتكون قوة لهم في ما يتحركون به من مشاريع جهادية مستقبلية ، على أساس ما يحصلون عليه من الثقة بالنصر والفتح القريب.

* * *

١٩٦

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤)

* * *

دعوة المؤمنين ليكونوا أنصار الله

وتبقى السورة في أجواء الالتزام بالخط الرسالي الإلهي كخط للفكر وللعمل ، بحيث يتحول المؤمنون إلى طاقات حية متحركة منطلقة نحو الانتصار لله في كل ما أراد لهم أن ينصروه من الدين والأرض والإنسان. وهكذا استعادت أجواء عيسى عليه‌السلام عند ما انطلقت رسالته في خط الدعوة ، وبدأت التحديات تقف في وجهه ، وتحرك الأعداء ليفتحوا معركة إسقاط الرسالة الجديدة والرسول الجديد ، فبدأ دعوته للمؤمنين به أن يكونوا أنصار الله معه ، فاستجابوا له. وجاء الوحي القرآني ليدعو المؤمنين بالإسلام أن يكونوا أنصار الله مع الرسول في كل ساحات الصراع ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا

١٩٧

أَنْصارَ اللهِ) فإن الإيمان بالله يفرض عليكم ذلك ، في ما يفرضه عليكم من الذوبان في روحية العبودية له والالتزام بكل مواقع رضاه ، (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) الذين عاشوا الرسالة فكرا وروحا وحياة حتى اندمجوا معه في كل مشاريعه الرسالية : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) في نداء يريد أن يؤكد الالتزام ويعلنه في عملية فرز ظاهر للمؤمنين وغير المؤمنين ، في الامتحان الذي يدلل على عمق الانتماء وطبيعة الموقف ، ويعمل على أن يثير مشاعر الآخرين ليتعاطفوا مع دعوته ، ويوحي للأعداء بأنّه قادم بأنصاره إلى ساحة الصراع. (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ولذلك كنّا معك في موقع النصرة الملتزمة بخطك ونهجك وموقعك ، لأنك رسول الله الذي أراد منّا أن نكون معك لنكون مع رسالته.

وهكذا تمّت عملية التمايز للناس تبعا لموقفهم من عيسى عليه‌السلام (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى ورسالته (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) به (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي غالبين ، بحيث استطاعوا أن يثبتوا الحق في موقفهم بالحجة والبرهان ، كما تمكنوا من الوصول إلى هدفهم الكبير من إبقاء وجودهم حيا فاعلا أمام التحديات التي كانت تريد إلغاء مواقعهم الرسالية ، ليبقى الكفر وحده هو القوة الفاعلة ، وهذا لون من ألوان الغلبة التي تشمل الانتصار على خطة العدو في إلغاء الوجود كله.

* * *

١٩٨

سورة الجمعة

مدنية

وآياتها إحدى عشرة

١٩٩
٢٠٠