تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

في أجواء السورة

في هذه السورة حديث عن طبيعة العلاقات الواقعية بين المؤمنين والكافرين ، في جانبها النفسي والعملي ، حيث يوجه الله النداء للمؤمنين أن لا يتخذوا أعداء الله وأعداء المسلمين أولياء ، في ما تعنيه الولاية من المودة القلبية ومن الدعم العملي ، لأن ذلك يمثل السذاجة في فهم مسألة الصراع ، كما يسيء إلى طبيعة الموقف القوي الذي ينبغي للمؤمنين أن يتخذوه في قضية المواجهة بين الكفر والإيمان.

ومن جهة أخرى ، فإنه يسيء إلى عمق الروحية الإيمانية في شخصية المؤمن في علاقته بالله التي تفرض عليه أن يوالي أولياء الله ويعادي أعداءه ، لأن مسألة العقيدة لا تمثل حالة ذهنية منعزلة عن حركة الموقف ، بل تمثل الأساس في تحديد الموقع على مستوى الموقف والعلاقات ، مما يجعل من مسألة التمايز في الخطوط والمواقف مسألة متصلة بالنتائج العملية الكبيرة على صعيد تأكيد الواقع وتثبيته وتقويته وعلوّ درجته لمصلحة الإيمان. فإذا كان الإيمان بالله يجسد الأساس لدى الإنسان في الفكر والروح ، فلا بد من أن يكون منعكسا بطريقة سلبية على أعداء الله ، وبطريقة إيجابية بالنسبة إلى أوليائه.

وليست المسألة هي مسألة انفصال الإنسان المؤمن كليا عن غير المؤمنين

١٤١

بالله ، لأن ذلك لا ينسجم مع الأسلوب العملي للدعوة في اجتذاب الآخرين للإيمان ، من طريق الأخلاق العالية المنفتحة على الآخرين من الكافرين ، ليروا في المؤمن أخلاقية الإسلام في رحمته وبرّه وعدله مع الآخرين الذين لا يرتبطون بالدين الذي يرتبط به ، فيكون ذلك هو المدخل الذي يستطيعون من خلاله الدخول إلى الإسلام الحيّ المتحرك في كل مواقع الإنسانية ، في ما يؤكده من مراعاة الجانب الإنساني الذي يلتقي كلّ الناس فيه على القضايا الإنسانية المشتركة ، في الوقت الذي يؤكد على مراعاة الجانب الديني ، في ما يتفق فيه المؤمنون في العقيدة والشريعة والمنهج.

بل المسألة هي مسألة انفصال المسلم عن الكافرين الذين يضمرون ويظهرون ويمارسون العداء النفسي والعملي للإسلام والمسلمين ، فيعملون على محاربتهم وإخراجهم من ديارهم ، الأمر الذي يجعل المعركة مفتوحة بكل وسائلها وأوضاعها بين المؤمنين وبينهم ، بما يقتضيه الوضع الحاسم المستقبليّ الذي لا يسمح بأي نوع من أنواع التراخي والتسامح والتعاطف الساذج ، ولذلك فلا يجوز برّهم والإحسان إليهم والموادة معهم. أما الذين لا يتحركون في دائرة العدوان ويقتصر الأمر لديهم على الاختلاف مع المسلمين في العقيدة ، فلا مانع من برهم والعدل فيهم والإحسان إليهم والتعايش معهم في المجتمع الواحدة ، أو في البلدة الواحدة أو البلدان المتعددة.

وهكذا تتحرك السورة لتؤكد هذا الخط من خلال استعادة تجربة إبراهيم عليه‌السلام والمؤمنين معه في انفصالهم عن أهلهم وقومهم ، حتى أن إبراهيم تبرأ من أبيه عند ما اكتشف أنه عدوّ الله.

ثم تتحدث السورة عن المؤمنات المهاجرات اللاتي يأتين إلى المدينة فرارا بدينهن خوفا من الضغوط القاسية من أهلهن لإخراجهن من الدين ، فتطرح السورة القضية على أساس امتحانهن في صدقهن في ذلك ، فإذا عرف

١٤٢

الصدق ، فلا يجوز للمؤمنين إرجاعهن إلى الكفار تحت تأثير أي وضع أو أيّة معاهدة تفرض ذلك.

وتختم السورة بالحديث عن قدوم النساء الكافرات إلى النبيّ ليبايعهن على الإسلام ، فيأمره الله بمبايعتهن على قضايا معينة بارزة تتصل بالأمانة التي تحملها المرأة في حياتها العائلية ، بالإضافة إلى توحيد الله والالتزام بأوامره ونواهيه ، وتنطلق نهاية السورة في التأكيد على المؤمنين أن لا يحبّوا من غضب الله عليهم ممن يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور.

* * *

اسم السورة

جاء اسم السورة «الممتحنة» باعتبار أن المسألة البارزة فيها تتمثل في امتحان المؤمنات المهاجرات ، في صدقهن في إيمانهن ، وهي المسألة الحيوية التي لم يرد لها ذكر في مكان آخر من القرآن ، بينما ورد ذكر الامتناع عن موالاة أعداء الله في أكثر من سورة ، مما اقتضى توجيه الأنظار إلى هذه المسألة من مواضيع السورة ، لا سيما أنها تتصل بالدور الإيماني في قضية المرأة التي تتكامل مع الرجل في هذا الجانب ، وتؤكد على عمق الإيمان الذي ينتصر على العاطفة عندها.

* * *

١٤٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣)

* * *

تنبيه المؤمنين إلى معاداة أعداء الله

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا هو النداء الأول الذي يخاطب المؤمنين من خلال عنوان الإيمان ، ليوجههم إلى التفكير بما يفرضه عليهم ـ في مضمونه

١٤٤

الإيحائي ـ من مواقف ومشاعر على مستوى الممارسة الخاصة في الجانب الذاتي من حياتهم ، وعلى مستوى العلاقات في الجانب الاجتماعي العملي من سلوكهم ، لأن الإيمان يمثل المنهج الكامل في حركته في طبيعة الشخصية المؤمنة في الداخل والخارج ، مما يفرض على المؤمن أن يستثيره في نفسه في كل مجالات حياته.

* * *

(لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ)

(لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) لأن مسألة العداوة تختزن في داخلها الحقد في الشعور والرغبة في التدبير ، والتخطيط للهلاك والعمل على إرباك الوضع كله من حولكم ، فليس من الطبيعي أن توالي عدوك وتمحضه المودة ، فالموالاة تعبّر عن الانفتاح عليه في الموقف ، والابتعاد عن الحذر منه ، والاستسلام العفويّ لمخططاته ، والاسترخاء أمامه ، كما أن المودة له توحي بالعاطفة التي تأكل كلّ معاني الرفض الداخلي ، وتسقط الحواجز النفسية ضده ، وتؤدي بالتالي إلى الاستخفاف بالعناصر المهمة المتصلة بمضمون الفواصل العقيدية والفكرية والعملية ، مما يبتعد المؤمن معه عن الصلابة في حراسة الخط الذي يميزه عن خطوط الآخرين ، عند ما يهدم السدود الفاصلة بينه وبينهم. وفي ضوء ذلك ، لا تكون العداوة حالة نفسية ذاتية رافضة ، بل تكون حالة فكرية تمتزج بالشعور الرافض الذي يتحول إلى رفض للفكرة التي ترفض فكرة أخرى ، في عملية رفض العلاقة بالذات التي تمثل التجسيد الحيّ للفكرة ، مما يجعل من الموقف العدائي عملية رفض لحركية الفكرة من خلال الذات.

١٤٥

(وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) فليس هناك أيّة قاعدة فكرية وروحية وعملية تربطهم بكم ، فمن أين جاء أساس المودة التي لا بد من أن ترتكز على التوافق في الفكر والموقف (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) في ما يمثله ذلك من موقف عدواني عنيف ، يتميّز بالقهر الوحشي الذي لا ينسجم مع أيّة حالة شعورية إيجابية ، بل يجتذب المعنى السلبي من خلال ثأر الإنسان لكرامته ولعلاقته بأرضه ، ولالتزامه بإيمانه. ولم يكن هذا الإخراج القهري المتعسف ناتجا من حالة ذاتية تؤدي إلى أن يختلف الناس مع بعضهم البعض ، فيكون ردّ الفعل قتالا أو تهجيرا أو نحو ذلك ، بل كان ناتجا عن الخط الإيماني التوحيدي الذي يضادّ الخط الكافر الإشراكي (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) فذلك هو سر المشكلة المعقدة فيما بينكم وبينهم ، فكيف تغفلون عن ذلك وتستهينون به ، في الوقت الذي لا يتناسب فيه موقفكم الموالي لهم مع خط الجهاد الذي ينطلق على أساس مواجهة كل القوى المعادية بالرفض القويّ الذي يعمل على كسر شوكة العدو ، وتدمير مواقعه ومواقفه ، فلا تسيروا في هذا الاتجاه المنحرف ، (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي) من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الذين كله لله (وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) بالعمل على ما يرضاه الله في مواقع طاعته ، فإن الذي يتحرك في مسيرة الجهاد ويطلب رضا الله ، لا يوالي أعداءه ، ولا يتحرك في مواقع سخطه .. (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) حتى لا يظهر موقفكم للمؤمنين ، وتقعوا في الحرج من ذلك ، ولهذا فإنكم تتجنبون الموقف العلني ، وتلجأون للموقف السري ، (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) فإذا كنتم تستخفون من الناس ، فكيف تستخفون من الله الذي يعلم السر والعلانية ، (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) لأن السبيل السويّ يفرض على الإنسان أن تكون حركته في خط إيمانه ، وأن يكون موقفه في مصلحة قضيته ، وأن يكون سره وعلانيته في الحق سواء ، وبذلك يكون الموقف الذي اتخذتموه منحرفا عن خط الاستقامة.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي إن يظفروا بكم في أيّ موقع من مواقع

١٤٦

الغلبة ، فإنهم يعاملونكم معاملة الأعداء بالأسر والقتل أو التشرية ، من دون أن تؤثر فيهم كل مظاهر المودة التي تقدمونها لهم ، لأن عداوتهم تنطلق من عمق الشعور المعادي لما تمثلونه من خط الإيمان بالله ، (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) كمظهر من مظاهر العداوة الحاقدة (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) لأن كلّ الضغوط التي يوجهونها للمؤمنين تتحرك في خط الفتنة عن دين الله ، لتكون الساحة كلها ساحة الشرك في عقيدته ومفاهيمه وممارساته ، (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) الذين قد تحسبون حسابهم في علاقاتكم الودية مع الكفار لتحفظوهم ، ولتأمنوا عليهم منهم ، إذا كانوا يعيشون في ديارهم ، فما هي قيمة أن يرضى عنكم هؤلاء في ما تقدمون لهم من مواقف لحساب الكفار ، إذا كان الله يغضب عليكم ... لذلك عند ما تقفون غدا بين يديه ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) ليكون الحكم الفاصل الذي يحسم الموقف في ما يختلف فيه الناس من كل القضايا المتصلة بمسألة الحق والباطل ، فهو وحده الحاكم ، وليس لأحد أي تأثير في مسألة المصير ، فالله يقضي على بعض الناس بدخول النار ، ويقضي لبعضهم بدخول الجنة. وقيل : إن المراد بالفصل بين الناس هو تقطيع الأسباب التي تربط بينهم ، رابطة نسب ، أو رابطة صداقة ، أو زواج أو نحو ذلك. والظاهر أن صاحب هذا القول ـ وهو العلامة الطباطبائي في الميزان ـ قد استوحى هذا التفسير من الفقرة الأولى التي تؤكد عدم انتفاع الإنسان بأرحامه وأولاده (١).

ولكنّ الظاهر أنها واردة في سياق الحديث عن مواجهة حساب المسؤولية من دون أي ناصر حتى من أقرب الناس إلى الإنسان. وهذا ما تعبر عنه عبارة (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) فلا حاجة لتأكيد مسألة انقطاع العلاقات بينهم يوم القيامة ، لأن ذلك هو ما توحي به الكلمة ، أما مسألة الفصل التي تعني قرار الحسم في مقام الجزاء ، فإنها تنسجم مع عدل الله ،

__________________

(١) يراجع الميزان في تفسير القرآن ، الطباطبائي ، م ١٩ ، ص ٢٣٨.

١٤٧

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم التي تخضعون فيها للحساب ، والله العالم.

* * *

مع حديث مناسبة النزول ، عرض ومناقشة

وقد جاء في مناسبة نزول هذه الآيات في الدر المنثور في ما أخرجه أحمد والحميدي وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانة وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم معا في الدلائل عن علي قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (موضع في طريق مكة) فإن بها ظعينة (المسافرة) معها كتاب فخذوه منها فائتوني به.

فخرجنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة فقلنا : أخرجي الكتاب. قالت : ما معي كتاب قلنا : لتخرجن الكتاب ، أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا يا حاطب؟ قال : لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت أمرأ ملصقا من قريش ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صدق.

فقال عمر : دعني يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال : إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

١٤٨

ونزلت فيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (١).

وقد لوحظ على هذه الرواية أولا : إن ما فعله حاطب لا ينطبق على جو الآية ، لأن ما صدر منه لم يكن لونا من ألوان الولاية للمشركين ، بل كان حالة طارئة للتوصل إلى حماية أهله هناك ، من خلال اليد التي يصطنعها عندهم ، ولهذا لم يجد النبي في فعله شيئا كبيرا ، بل صدقه في اعتذاره وسكت عن أي إجراء ضده.

وثانيا : إن ما جاء في الرواية ـ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ـ لا يمكن أن يؤخذ بظاهره ـ إذا كان النص صحيحا ـ بل لا بد من توجيهه بما يتناسب مع القواعد الإسلامية في مسألة الجزاء وفي مسألة الرخصة ، لأن ظاهره هو الرخصة لأهل بدر أن يرتكبوا ما شاؤوا من المحرمات ، وأن يتركوا ما يشاءون من الواجبات ، وأن يبتعدوا عن أي خطّ إسلاميّ في كل مواقف الإنسان المسلم في الحياة ، مما يعني إلغاء الحدود الإسلامية بالنسبة إليهم. وهذا مما لا يتقبله أيّ ذهن إسلاميّ ، لا سيما إذا عرفنا أن عظمة أهل بدر كانت من أجل حماية الإسلام من الضغوط القاسية التي يضغط بها أهل الشرك عليه ، ليستقيم الخط الإسلامي في الحياة كما أراده الله أن يتحرك في حياة الناس ، مع ما يمثله ذلك من قوة الإيمان ، وروعة الالتزام في شخصياتهم. فكيف يكون ذلك أساسا للرخصة في الانحراف عن خط الالتزام؟!

هذا مع ملاحظة أن النبي حدّ مسطح بن أثاثة ، بعد ما نزلت براءة عائشة ، وكان من الآفكين ، في الوقت الذي كان فيه من السابقين الأولين من المهاجرين ، وممن شهد بدرا كما في صحيحي البخاري ومسلم. ولا يبعد أن

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ١٢٥

١٤٩

يكون هذا الكلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير صحة الرواية ، واردا على سبيل المبالغة في اعتبار الجهاد في بدر في قيمته بالمستوى الذي لا يدانيه عمل ، بحيث كان مؤهلا لأن يغفر الله للمجاهد كل ذنوبه ، لأن النتائج العملية في معركة بدر تمثل الانطلاقة القوية للانتصار الذي ركز قاعدة المستقبل للإسلام.

ولكن هذا لا يمنع أن يؤاخذ المجاهد بذنوبه المستقبلية التي تمثل انحرافه عن المضمون العميق لبدر في محتواه الإيماني ، فإن معنى ذلك أنه لم يحتفظ ببدريته في خط الاستقامة مع الإسلام ، والله العالم.

* * *

١٥٠

الآيات

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧)

* * *

الله يحدد القدوة الحسنة للمسلمين

هل هذا الموقف الثابت على قاعدة الإيمان المتمرد على كل العواطف والعلاقات ، الملتزم ، أبدا ، بالإيمان بكل قواعده وأوضاعه ، المنفصل بكل قوة

١٥١

ووضوح عن الفئات التي تلتزم بالكفر والشرك بكل مواقعه ومواقفه ، هل هذا كله نهج جديد لا مثيل له في التاريخ ليكون حدثا مثاليا لا يقترب من الواقع ، أو هو صورة حية لحدث تاريخي عاش الفكرة في حجم القدوة ، وعاشت القدوة فيه من أجل أن تصنع للمستقبل صورة مماثلة للماضي؟

* * *

إبراهيم ومن معه ، هم القدوة الحسنة للمسلمين

هذه هي صورة الماضي كما جسدها النبي إبراهيم عليه‌السلام ، والمؤمنون معه ، فما ذا حدث لهم؟ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) لأن مسألة الانتماء من وجهة نظر الدين تتجاوز الأطر المادية كالأرض ، أو الصلات الترابية كالصلات العائلية ، أو ما عداها من أطر تضيق وتتّسع بحسب مكوناتها وطبيعة عناصرها الجامعة ، كالروابط العشائرية أو الوطنية أو القومية ، تتجاوزها إلى الإطار العقائدي والروابط الدينية. فبالنظر الإسلامي ، فإن الارتباط العقائدي هو الأساس الذي يمنح الهداية الحقيقية للإنسان ، ويوفر له الاستقرار والسعادة في الدارين ، وذلك على النقيض تماما من الكفر والشرك اللذين يجعلان الإنسان يتخبط في الضلالة خبط عشواء ، ولا يستقر على حال من القلق والخوف ، فلا يشعر بالأمن أو السعادة. من هنا ، فإن خط التوحيد وخط الكفر والشرك والوثنية ، لا يلتقيان ، وبالتالي لا يمكن للمؤمنين أن يرتبطوا بالمشركين لأنه لا يجتمع إيمان وكفر في موقع واحد ، أو في قلب واحد. ولما كان الإيمان بالله شعارنا ، وكان الشرك شعاركم ، فلا بد من إعلان البراءة منكم باعتبار انفصالكم عن الله ، (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، لأن هذه الأصنام تمثل الزيف والباطل والانحطاط المعنوي عن مستوى العقل

١٥٢

الذي يحترم نفسه في اختيار مواقع إيمانه ورموز عبادته ، بينما يمثل الله الحق كله ، والعلو كله ، والملك كله ، والعزة كلها.

وإذا كانت البراءة هي الموقف ، فإنّ من الطبيعي أن يكون الكفر بهم هو النتيجة (كَفَرْنا بِكُمْ) لأنكم لا تمثلون أساسا للإيمان ، (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ) لأننا نعادي أعداء الله ، ونبغض المتمردين عليه والمنحرفين عن خط رسالاته ، وسيستمر ذلك (أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ولا تشركوا به شيئا ، فذلك هو خطنا في الحياة في مسألة الموالاة سلبا أو إيجابا ، ولن ننحرف عنه في أي موقع من المواقع العامة والخاصة ، ولم يحدث هناك في ماضينا إلا في حالة واحدة (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) الذي كان مشركا مع المشركين : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) لا من موقع الولاية التي ينتفي فيها الحاجز النفسي بينه وبينه ، بل من موقع الرغبة في هدايته بهذا الوعد الذي يمثل أسلوبا من الأساليب العملية في منحه الفرصة الأخيرة للتراجع والانفتاح على الله ، فقد أعلن له أنه سيطلب من الله له الغفران بأن يوفقه للسير في طريق الهداية ، ولكنه لم يمنحه الأمل الكبير المطلق ، بل ترك الأمر خاضعا لله (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) لأنه وحده الذي يملك الهداية ويمنح المغفرة ، وليس للعباد من ذلك أي شيء ، إلا أن يرفعوا الأمر إليه ، ويخضعوا بين يديه في ابتهال الإخلاص ، وفي خشوع التوسل والعبادة الخالصة (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) فها نحن عبادك السائرون في طريق الجهاد والطاعة والمعاناة ، وسنواجه التحديات ولن نتراجع ، وسنتابع السير ولن نسقط ، مهما واجهتنا الصعوبات ووقفت أمامنا العقبات ، ما دمنا نتوكل عليك ، فأنت وحدك موضع الثقة المطلقة في أن تخلصنا من ذلك كله ، (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا إليك ، وتركنا كل الناس خلفنا إلا الذين كانت وجوههم متجهة إلى عرش ربوبيتك ، فنحن معهم لأنهم معك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فأنت غاية الغايات ، وستجتمع كل الموجودات إليك كما انطلقت منك منذ بداية الوجود. وإذا كنّا نؤمن بأننا نصير إليك ، فإننا نبقى في الطريق التي تصلنا

١٥٣

بك ، وتقودنا إليك ، ليكون مصيرنا في رحاب رضوانك ، وفي آفاق رحمتك ، وفي نعيم جنتك ، (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في ما تمتحنهم به من تسليطهم علينا ليطغوا وليبغوا ويمارسوا الفساد في البلاد والعباد ، في ما يظهره ذلك الامتحان من حقدهم على الإيمان كله وعلى الخير كله ، لأننا لا نريد الحياة فرصة للكفار الأشرار في ما يمكن أن يأخذوا به من الفرص الواسعة في حالات الاختيار ، (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا) كل ما سلف من ذنوبنا (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي نستمد القوة منه ، (الْحَكِيمُ) الذي نستمد الحكمة من حكمته.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فهم القدوة الطيبة الصالحة التي تجسد الإيمان بكل وداعته وروحيته وصلابته وقوته وتعاليه عن كل المغريات ، وثباته أمام كل المخاوف ، فكانوا المثل الأعلى للناس كلهم في محبة الله وطاعته والإخلاص له ، (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) ليقتدوا بهم في إخلاص الرجاء لله ، وفي الانفتاح على المسؤولية في اليوم الآخر. (وَمَنْ يَتَوَلَ) ويعرض عن السير في خط الإيمان الذي سار عليه إبراهيم ومن معه ، فليس بضار الله في شيء ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الذي لا ينفعه أحد في إيمانه أو طاعته ، ولا يضره مخلوق في كفره أو معصيته ، وهو المحمود في كل أفعاله ، كما هو المحمود في ما يتحمد به خلقه من أعمال وأوضاع.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) في ما يمكن أن يوفقهم للإسلام بهدايته ، ويفتح قلوبهم على الله بتسديده (وَاللهُ قَدِيرٌ) على كل شيء. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للتائبين المنيبين إليه من عباده ، فلا تيأسوا من هؤلاء المنحرفين ، والتزموا خط الحق في معاملتكم لهم ، وتابعوا السير في البحث عن أفضل السبل لإعادتهم إلى الفطرة السليمة والخطة المستقيمة ، واسألوا الله لهم الهداية ، فقد يرجعون إلى الحق ، ويهتدون إلى الله ، ويلتقون بكم في رحاب الإيمان به والالتزام بشريعته.

* * *

١٥٤

الآيتان

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩)

* * *

من هم الذين لا ينهى الله عن معاداتهم؟

لقد كانت القضية المطروحة في الحديث عن الموالاة للكافرين مشروطة بالعداوة في الشعور. والممارسة ، لأن الله لا يريد من المؤمن أن يكون ساذجا في نظرته إلى علاقاته بالآخرين ، بحيث تتحول طيبته الذاتية إلى نوع من أنواع السذاجة العقلية والعملية التي تثير في أعدائه غريزة العدوان عليه من مواقع غفلته ، ولأن الله يريد للمؤمن أن ينظر إلى الخلاف العقيدي نظرة جدية عند ما يتحول في مواقف الفئات المضادة إلى وضع عدواني ، فيتعامل مع هذا الوضع بواقعية. أما في هاتين الآيتين ، فينطلق التأكيد من القاعدة الإيمانية الإنسانية

١٥٥

التي تفتح المجال واسعا للعلاقات الإيجابية مع الذين نختلف معهم في الرأي إذا لم يتحركوا ضدنا بطريقة عدوانية ، لتبقى الحالات العدوانية هي الملحوظة في المنع من الموالاة.

* * *

لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) بل كانوا مسالمين في مسألة الخلاف في العقيدة ، فهم لا يتفقون مع المسلمين في الرأي ، ولكنهم لا يدخلون معهم في حرب ، إمّا لدخولهم مع المسلمين في ميثاق أو عهد أو أمان ، وإمّا لوجود وضع سلميّ واقعيّ رافض للدخول معهم في قتال أو صدام ، (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) لأنهم يؤمنون بالتعايش مع الإسلام والمسلمين في محيط واحد ، فلا تغريهم قوتهم بأن يشردوهم ويهددوا أمنهم في ذلك ، (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بأن تقدموا إليهم الخير بكل مجالاته العملية على مستوى القضايا المادية والمعنوية ، (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) بأن تتعاملوا معهم في خط العدل في ما يثور في حركة الواقع من خلافات ونزاعات في ما بينهم وبين المسلمين ، حتى يكون الخير العملي والعدل الإسلامي ، ووسيلتين من وسائل الدعوة إلى الإسلام ، لما يجسدان من صورة مشرقة للإسلام لدى غير المسلمين ، فتتحول الحالة السلمية في حياتهم إلى حالة روحية منفتحة على الإسلام من خلال انفتاح المسلمين عليهم بالأخلاق الكريمة ، ليقودهم ذلك إلى الإيمان بالإسلام ، في نهاية المطاف ، على أساس أنهم لا يعيشون العقدة العدوانية ضده. وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يواجهوه في سلوكهم العملي في ساحة الشعوب الكافرة المسالة التي لا تعيش العقدة المستحكمة في نظرتها إلى

١٥٦

الإسلام والمسلمين ، من أجل أن يكون المسلمون حركة منفتحة على الواقع بشكل إيجابيّ فاعل ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الذين يعيشون العدل كحالة روحية ، مع كل الناس من مؤمنين وكافرين ، لأن العدل هو الأساس الذي يرتكز عليه بناء الحياة على أساس التوازن في حركة الإنسان والحياة.

* * *

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ)

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ووقفوا ضد حريتكم في الدعوة ، وضد حرية الناس في الإيمان ، وقاتلوكم على أساس موقفكم الدني في العقيدة والعمل (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) وعاونوا المشركين على إخراجكم من دياركم إما بطريق التحالف ، أو نحوه ، (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) في المودة القلبية ، والانفتاح العملي ، لأنهم يرفضون ذلك بعدوانيتهم ، وينفذون إلى مجتمعكم من موقع الثغرات العاطفية التي تفتحونها عليهم ، ليدمروا قواعد الأمان في حركتكم الإسلامية ، (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) وينحرف عن هذا الخط المتوازن في حركة الوعي الإسلامي ، ويبتعد عن أوامر الله ونواهيه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام والمسلمين في ذلك كله.

* * *

كيف نستوحي الآيتين

وقد نستطيع استيحاء هاتين الآيتين في الانفتاح على غير المسلمين بطريقة إيجابية على مستوى العلاقات الدولية ، أو على صعيد العلاقات الحركية

١٥٧

السياسية ، أو في دائرة الأوضاع الاقتصادية ، فإن الله لا ينهى عن البر بهم ، والعدل معهم ، وليست المسألة في إيحاءاتها الفكرية ، مجرد حالة إنسانية خيرية ، بل هي إلى جانب ذلك حركة عملية في هذا الاتجاه ، لأن أجواء الآيتين ، مع ملاحظة الآيات السابقة ، تؤكد في مسألة المقاطعة ورفض الموالاة على الحالة العدوانية لا على الخلاف الديني ، مما يفسح المجال لعلاقات إنسانية سياسية واقتصادية إيجابية ، فإن كلمة «البر» قد تتسع للكثير من النشاطات العامة ، كما أن كلمة «العدل» قد تتحدث عن التوازن في المواقف والعلاقات.

وإننا نؤكّد دائما على ضرورة التركيز على الاستيحاءات القرآنية في مسألة المفاهيم ، من خلال طبيعة الآفاق التي تطل عليها الآية ، والأفكار العامة التي تثيرها ، والإشارات الروحية التي تلتقي بها في حركة المفاهيم ، وندعو إلى إثارة البحوث الإسلامية حول ذلك كله.

وقد أثار الفقهاء أحاديث متنوعة في ما يتصل بالآية الأولى ، حيث تحدثوا عن أن الصدقة تجوز من المسلم على الذمي من أهل الكتاب ، بل قال أبو حنيفة إنه تجوز عليه زكاة الفطرة والكفارات ، واتفقوا على جواز الوصية له بالمال ، والوقف عليه ، لأن الله تعالى لم ينهنا عن البر به ، وهذه الأمور هي من بعض مفردات البر. وقد نستطيع أن نضيف إلى ذلك الكافر المسالم ، حتى لو لم يكن من أهل الكتاب ، لا سيما إذا لاحظنا أن من الممكن أن تكون الآية شاملة ، إن لم تكن مختصة بحسب مورد النزول ، لأهل مكة المشركين الذين لم يشاركوا الطغاة في القتال أو في المساعدة على إخراج المسلمين ، ولا بد من التأمل في ذلك.

وإذا كنا قد تحدثنا عن مسألة الانفتاح على غير المسلمين المسالمين في العلاقات الدولية أو الحركية السياسية ، فإننا قد نستطيع الإشارة إلى دراسة

١٥٨

العلاقات مع الدول الكبرى أو الصغرى التي تتحرك ضد المسلمين بطريقة عدوانية ضد مصالحهم السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية ، لأن القضية ليست قضية القتال في الدين والمساعدة على التشريد ، كخصوصيتين ذاتيتين ، بل كنموذجين للعداوة التي تمثل المبدأ الذي يدور مداره الموقف الودي أو الموقف المضاد.

* * *

المسألة الفقهية بين العناوين الأولية والثانوية

وقد يفرض علينا البحث أن نشير إلى أن هذه المسألة في المقاطعة للفئات العدوانية ، تتحرك في نطاق العناوين الأولية في الحالة الطبيعية للعلاقات العامة ، ولكن قد تطرأ بعض الظروف الضاغطة التي قد يضطر فيها المسلمون إلى إيجاد علاقات معينة مع الدول المعادية ، من أجل المصلحة الإسلامية العليا التي قد تنعكس عليها المقاطعة انعكاسا سلبيا أكثر مما تنعكس على تلك الدول ، الأمر الذي قد يفرض على أولي الأمر أن يواجهوا المسألة بالطريقة الإيجابية مع بعض التحفظات التي تقتضيها السلامة العامة للإسلام والمسلمين.

* * *

١٥٩

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١١)

* * *

مناسبة نزول هذه الآيات

جاء في أسباب النزول للواحدي ، قال ابن عباس : إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة ردّه عليهم ، ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم ، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه ، فجاءت

١٦٠