تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

وقد كانت تسمية السورة باسم الطلاق انطلاقا من أنه الموضوع الرئيس فيها.

* * *

٢٨١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣)

* * *

معاني المفردات

(وَأَحْصُوا) : الإحصاء : العدّ.

٢٨٢

(الْعِدَّةَ) : الأيام التي بانقضائها يحل لها التزوّج.

(بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) : أي بفاحشة ظاهرة ، كالزنى والبذاء ، وإيذاء أهلها ، كما في الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام.

(أَجَلَهُنَ) : اقترابهن من آخر زمان العدة وإشرافهن عليه.

(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : الإمساك بمعروف يراد به حسن الصحبة ، ورعاية ما جعل الله لهن من الحقوق.

(فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : أي الانفصال عنهن مع الاحترام والمحافظة على حقوقهن الشرعية.

* * *

طلاق النساء لعدتهن

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) أي إذا أردتم طلاقهن. والإتيان بالخطاب على سبيل الجمع ، باعتبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمثل العنوان للأمة في رسالته ، مما يجعل الخطاب له خطابا لأمته ، من خلال تجسيده للأمة في ما تجتمع عليه من شأن الرسالة الإسلامية.

(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي فليكن الطلاق في نطاق العدة التي تمثل انفصال المرأة عن الحياة الزوجية ، والابتعاد عن أية علاقة أخرى بشخص آخر ، فتبدأ المرأة من حيث الطلاق أول زمان العدة لتمتد من أول طهر يواقعها فيه ، حيث يأخذ الطلاق شرعيته حتى تنقضي أقراؤها. (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) في حساب دقيق للأقراء التي تعتد بها ، وهي الأطهار الثلاث في أول الحيضة الثالثة منذ الحيضة التي تسبق الطلاق. ولعل الأساس في ذلك هو ملاحظة التشريعات المفروضة في هذه الفترة ، وهي النفقة والسكن للمطلقة ، وحق

٢٨٣

الزوج في الرجوع إليها ، وحرمة زواجها بغيره.

(وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) فلا تستسلموا للعقدة الذاتية التي أدت إلى الطلاق فتطردوهن على أساس الشعور العدواني ، (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) التي كنّ يسكنها قبل الطلاق ، بل يجب إبقاؤهن فيها ، (وَلا يَخْرُجْنَ) بأنفسهن لأن طبيعة العدة الرجعية تجعل المطلقة بحكم الزوجة واقعيا ، فليس لها أن تقترن بشخص آخر في هذه المدة ، وللزوج أن يرجع إليها من دون عقد ومن دون أن يكون لها حق الاختيار في الرفض ، فتعود الزوجة إليه بمجرد اختياره الرجعة وإعلانه ذلك على مستوى الالتزام ، مما لا يترك لها حرية التحرك في هذه الفترة بعيدا عن رضا الزوج المطلق ، (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي ظاهرة كالزنى والبذاء وإيذاء أهلها ، في ما روي التمثيل به عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) التي جعلها الله في دائرة العلاقات الزوجية في حالة الطلاق ، فلا يجوز للمؤمن أن يتعداها ، فيقدم أو يؤخر أو يفعل ما يجب تركه ، أو يترك ما يجب فعله ، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) لأن الله قد جعلها لمصلحة الإنسان ، كما أن التمرد على أحكام الله ، في ما يوحي به من التعرض لعقابه ، من خلال ما يستلزمه من سخطه ، يمثل ظلما للنفس في تعريضها لدخول النار.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي أن هذه الفترة التي جعلها الله محطة للتأمل من قبل الزوج والزوجة ، وفرصة للرجوع ، قد تغير الظروف التي فرضت الطلاق ، وقد تفسح المجال لمشاعر جديدة ولمشاريع وفاقية ، حيث يذوب الانفعال ، وتتبخر المشاعر المضادة ، وتهدأ الأعصاب المتوترة ، ويقف كل منهما وجها لوجه أمام الفراغ العاطفي في ما كان يعيشه قبل ذلك من الامتلاء الروحي بالمعاني العاطفية ، لتنطلق مسألة العودة بشكل جدي ، فلا تجد أمامها حاجزا ، بل تجد الساحة جاهزة للّقاء في روحية جديدة ، تتمرد

٢٨٤

على الأخطاء الماضية ، لتبدأ عملية التصحيح. وهذا هو الذي توحي به مسألة البقاء في البيت الذي عاشت الزوجة فيه ذكرياتها الحميمة ، ومسألة الإنفاق التي توحي ببقاء الزوج على تحمّله مسئولية حياة الزوجة ، ومسألة المنع من الزواج من أحد آخر ، الأمر الذي يوحي بأن الطريق لا يزال مفتوحا أمام الزوجة للتراجع ، وأمام الزوج للرجوع ، تماما كما لو كانت الحياة الزوجية مستمرة مع وقف التنفيذ ، لتكون عملية الطلاق الرجعي عملية تجميد لا إزالة للزوجية.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي إذا بلغن الحد الأخير الذي ينتهي بعده الأجل ، في ما يقارب نهاية العدة ، فلا تواجهوا الموقف بطريقة التعسف لتضطهدوا المرأة لتبقى معلقة في العدة ، ورفض السماح لها بحريتها في اختيار طريقة الحياة التي تريدها ، في البقاء حرة من دون التزام بعلاقة زوجية جديدة ، أو في اختيار علاقة أخرى ، لأن بعض الأزواج المعقدين ربما يعيشون العقدة النفسية التي لا يطيقون فيها أن يتصوروا علاقة أشخاص آخرين بزوجاتهم السابقات ، بفعل الغيرة العمياء ، والأنانية الجاهلة. وهذا هو الذي أراد الله أن يواجهه في سلوك الإنسان ليقول له : إن التشريع قد أفسح له مجال الرجوع إلى زوجته في أثناء العدة من دون مقدمات إذا كانت له رغبة بها. وفي هذه الحال لا بد من أن يرجع إليها ، في ما عبر عنه بالإمساك ، ولكن بالمعروف الذي يحترم فيه علاقته بها كإنسان يحترم كل حاجات الإنسان فيه ، من حسن الصحبة والقيام بالحقوق المفروضة. أما إذا لم يعد له أية رغبة بها ، لأن المشاكل التي فرضت الإطلاق لا تزال كما هي ، بحيث لم تعد العلاقة الزوجية أمرا مريحا له أو للطرفين ، فهناك الحل الآخر ، وهو إفساح المجال لهذه المرأة في أن تعيش حياتها الخاصة ، من خلال قرارها الحر ، فليبتعد عنها ابتعادا كليّا ، وهذا هو الخيار الثاني.

(أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ليذهب كل منكما إلى سبيله ، ليختار نمط حياته الجديد.

٢٨٥

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الطلاق عند إيقاعه ، أو على الرجعة عند حصولها. والمراد بالعدل هو الإنسان المستقيم على خط الشريعة في أفعاله وأقواله ، كما تقدم الحديث عنه في سورة البقرة.

* * *

(أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ)

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) في ما تحملونه من شهادة حول هذا الموضوع أو غيره كمسؤولية شرعية ملزمة ، لأنها ليست مسألة ذاتية لترفضوا إقامتها أو تقبلوها ، وليست متصلة بالمشهود له ، لتحددوا موقفكم منها على أساس العلاقة السلبية أو الإيجابية منه ، في ما تفرضه مصالحكم الخاصة في السلب أو الإيجاب ، بل هي مسئولية الحق الذي يريد الله من الإنسان أن يعمل على إظهاره في ما يتوقف فيه ظهوره على تقديمه المعلومات الخاصة التي يملكها عنه ، بإقامة الشهادة عليه أمام الجهات المسؤولة التي تملك أمر الفصل فيه ، لتكون الشهادة لله من موقع الطاعة له ، للحصول على رضوانه.

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنه هو الذي يعيش الشعور بالمسؤولية في عمق حياته ، من خلال إيمانه بالله الذي يسعى للقرب منه ، ومن خلال إيمانه باليوم الآخر الذي يرغب في الحصول على النتائج الطيبة فيه على مستوى المصير ، فيدفعه ذلك إلى الوقوف عند حدود الله ، والسير على خط التقوى ، والإخلاص في الشهادة لله.

* * *

٢٨٦

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) في ما تمثله التقوى من السير على خط الإيمان بالله واليوم الآخر ، في إيحاءاته الروحية والتزاماته العملية ، مما يجعله محبوبا لله ، مرضيا عنده ، قريبا إليه ، فينظر إليه بعين الرحمة ، عند ما تضيق به الأمور ، وتغلق عنه الدروب ، وتنسدّ عليه نوافذ الخلاص ، فلا يملك سعة في الحركة ، ولا مخرجا في الدرب ، ولا منفذا في الأفق ، فهناك يجعل الله له المخرج حيث لا مخرج ، والسعة حيث لا مجال لأية سعة ، والمنفذ حيث لا منفذ ، لأن الطرق المسدودة والنوافذ المغلقة والساحات الضيقة هي ما يفكر الإنسان فيها بعقلية المأزق الذي لا خلاص منه ، لأنه يفكر بالحدود المادية للأشياء ، في ما تخضع له الأشياء من حوله للحدود ، ولكن الله الذي فتح للإنسان مسارب الحياة وآفاق الانطلاق ، يملك في غامض علمه أكثر من مخرج ونافذة تطل بالإنسان على آفاق الفرج ، مما يفرض عليه ، في وعيه الإيماني ، أن لا يسقط أمام الباب المسدود ، لأنه لا أبواب مسدودة أمام قدرة الله ، وأن لا يستسلم لليأس ، لأن اليأس يتحرك في دائرة القدرة المحدودة ، ولا حدود لقدرة الله الذي يتدخل بقوته ليبعث الأمل من قلب اليأس كما أخرج الوجود من قلب العدم.

* * *

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) فإذا ضاق به رزقه ، وأغلقت عنه مداخلة

٢٨٧

ومخارجه من خلال الوسائل التي يملكها في ساحته العملية ، فإن عليه أن لا يستغرق في حدود هذه الوسائل ، بل يفكر بطريقة إيمانية بأن الله الذي أخرج النبتة من قلب الأرض الميتة ، ومنح الأرض الجرداء الحياة من خلال المطر النازل عليها ، وأجرى الرزق للحشرات الدقيقة في أعماق الأرض ، وخلق الأقوات للهوام المنتشرة في الفضاء ، هو القادر على أن يبعث إليه رزقه من غير الأماكن التي يترقبه فيها ، وبغير الوسائل التي يملكها ، فيرزقه من حيث لا يتصور ولا يحتسب ، ليكون ذلك أشبه بالمفاجأة التي تصدم يأسه ، وتحطم شعوره بالخيبة والضياع.

* * *

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) لأنه الذي يملك الأمر كله ، فهو يملك الناس كلهم ، والحياة كلها ، ويملك ما يملكه الآخرون ، لأنه هو الذي منحهم الملك والقدرة على تحريكه في كل مواقع الحركة ، مما يجعل التوكل عليه انطلاقا من مواقع الثقة الثابتة التي لا مجال فيها لأي اهتزاز روحي ، لأن الله هو الذي تتحرك الأشياء من موقع إرادته ، فإذا أراد شيئا كان ، فلا يمنعه من تنفيذ إرادته مانع في الأرض ولا في السماء ، (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق : ٣] ، (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس ، ٨٢]

* * *

٢٨٨

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) فقد خلق الكون كله ، وجعل له نظامه الدقيق المحكم المتوازن المتكامل في كل معطيات الوجود ، بحيث كان لكل شيء حد في الزمان والمكان والحركة والغاية ، مما يفرض أن الحدود إذا بلغت مداها ، فلا بد من أن تحقق نتائجها بإذن الله. ولكن لا بد لنا من أن نفكر بأن هناك نوعين من الأسباب في ما تتحرك به حياة الإنسان : فهناك الأسباب الظاهرة التي تنفتح عليها المعرفة الإنسانية في طبيعتها وفي حدودها ، في ما يخضع له جانب اليأس والأمل عند ما تتجمع لديه أو تبتعد عنه ، وهناك الأسباب الخفية التي تندرج في عالم الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله. فإذا ضاقت الأسباب الظاهرة لدى الإنسان ، فإن عليه أن يتطلع إلى الله ليرجو منه حل المشكلة من خلال ما يعلمه في غامض علمه من شؤون الأسباب والمسببات ، ليبقى مشدودا إليه في كل أموره الظاهرة والخفية ، فلا ييأس من روحه في كل لحظة من لحظات الوعي الإيماني الخاشع بين يديه.

* * *

وقفة تأملية أمام الآية

وقد نلاحظ في وقفة تأملية أمام هذه الآية أنها تؤكد للإنسان المؤمن عدة نقاط في حركة حياته :

١ ـ الشعور الدائم بأن الله لا يخذله في ما يواجهه من صعوبات الحياة ، فلا يضيق به موقف ، ولا ينغلق عنه باب ، بل يبقى متقدما منطلقا نحو الفرصة

٢٨٩

الغيبية التي يمنحها الله ، أو نحو المجهول الغامض الذي يكشفه ، ولكن لا على أساس أن يجلس جلسة الاسترخاء التي ينتظر فيها الفرج من غامض علم الله ، من دون سعي ولا حركة ، بل يبقى في حركة المندفعة نحو الغاية ، مترقبا ثغرة في هذا الحائط المسدود ، أو مدخلا في هذا الطريق الضيق ، في ما يمكن أن يكون قد أغلق عليه أمره ، أو في ما يمكن أن يفتحه الله عليه ، فلا تكون القضية عنده فرصة للكسل ، بل انطلاقة للعمل.

٢ ـ أن يبقى الإنسان مشدودا إلى مسألة الرزق على أساس أن أمره بيد الله ، فإذا أغلق عنه باب ، فهناك أكثر من باب مفتوح في علم الله ، وإذا ضاق به مصدر ، فهناك أكثر من مصدر ، مما يجعله يعيش الضيق على أساس انتظار السعة ، والشدة على أساس انتظار الرخاء ، الأمر الذي يعينه على التمرد على إغراءات الآخرين الذين يستغلون أوقات الضيق لدى الإنسان المؤمن ، ليلوحوا له بالمال الذي يفقد معه حريته ، في ما يفرضونه عليه من شروط صعبة من أجل أن يستعبدوا بها إنسانيته ، ويضغطوا بها على قراره ، وينحرفوا به على أساسها وعن الطريق المستقيم. وهذا هو ما يعيشه الضعفاء أمام حاجاتهم المعاشية عند ما يواجهون الحصار المالي في كل جوانب حياتهم.

إن الآية توحي للمؤمن بأن عليه الصبر الواعي الذي يحفظ به موقفه لينتظر الرزق من الله من حيث لا يحتسب ، تماما كما هي الإشراقة القوية التي تصدم الظلام بقوة فجائية فتطرده بشكل سريع.

٣ ـ الثقة بالله في وعده ، من خلال الإيمان بأنه بالغ أمره ، وبأنه الكافي لمن توكّل عليه ، ولا كافي غيره ، لينفتح عليه من أوسع الآفاق ، وليثق بحياته السائرة في خطه من أوسع الآفاق ، على أساس الإيمان به.

٤ ـ الإحساس بأن الحياة في انتصاراتها وهزائمها وفي أفراحها وأحزانها ، لا تتحرك في أجواء الفوضى ، بل تخضع لنظام كونيّ متوازن ، يضع كل شيء

٢٩٠

في موضعه ، ويقدر لكل حدث قدره ، على مستوى الظواهر الكونية أو الظواهر الإنسانية ، فيدفعه ذلك إلى التعرف على أسرار الحياة ، ليشعر بالثبات في كل حركة الظواهر في قوانينها العامة ، فلا يعيش في أجواء الضياع والقلق والحيرة والعبثية ، في ما يتحدث به الذين يسقطون أمام مصائب الحياة ومشاكلها.

* * *

مع صاحب الميزان في مضمون الآية

وقد حاول صاحب تفسير الميزان أن يستفيد من الآية في النظر إلى إطلاقها في نفسها مع الغض عن سياقها ، معنى قريبا من المعاني العرفانية الفلسفية فقال في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) مفاده أن من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه ، ولا يتم ذلك إلا بمعرفته تعالى بأسمائه وصفاته ، ثم تورعه واتقاؤه بالاجتناب عن المحرمات وتحرز ترك الواجبات خالصا لوجهه الكريم ، ولازمه أن لا يريد إلا ما يريده الله ، من فعل أو ترك ، ولازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله ، فلا يصدر عنه فعل إلا عن إرادة من الله.

ولازم ذلك أن يرى نفسه وما يترتب عليها من سمة أو فعل ملكا مطلقا لله سبحانه يتصرف فيها بما يشاء ، وهو ولاية الله ، يتولى أمر عبده ، فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شيء إلا ما ملّكه الله سبحانه ، وهو المالك لما ملكه ، والملك لله عز اسمه.

وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم وسجن الشرك بالتعلق بالأسباب الظاهرية ، (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أما الرزق المادي ، فإنه كان يرى ذلك من عطايا سعيه ، والأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها

٢٩١

وما كان يعلم من الأسباب إلا قليلا من كثير ، كقبس من نار يضيء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه ، وهو غافل عما وراءه ، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب ، وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها.

وأما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي تعيش به النفس الإنسانية وتبقى ، فهو مما لم يكن يحتسبه ولا يحتسب طريق وروده عليه.

وبالجملة هو سبحانه يتولى أمره ويخرجه من مهبط الهلاك ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئا ، لأنه توكل على الله وفوّض إلى ربه ما كان لنفسه ، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطئ تارة وتصيب أخرى ، (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) لأن الأمور محدودة محاطة له تعالى و (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) فهو غير خارج عن قدره الذي قدره به» (١).

ونلاحظ على هذا التفسير ، أنه بعيد عن ظاهر الآية ، لو نظرنا إليها بنفسها ، فإنها تشبه الآيات التي تتحدث عن الوعد بالجنة أو بالنصر ، أو بالفلاح على تقدير السير في خط التقوى الذي يتمثل في خط السير العملي للإنسان ، لتكون الأمور المترتبة عليه بمثابة الجزاء على التقوى ، من دون أن تكون بمثابة النتائج الداخلية المعنوية له ، بل هي بمثابة الأمور المنفصلة عنه. ولعل التعمق الفلسفي العرفاني هو الذي أدى إلى الفهم بعيدا عن منطق الآية

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٣٢٩.

٢٩٢

الآيات

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧)

* * *

معاني المفردات

(ارْتَبْتُمْ) : الارتياب : الشك.

(تُضآرُّوهُنَ) : أي لا توجهوا إليهن ضررا يشق عليهن تحمله ، من حيث

٢٩٣

السكن والكسوة والنفقة.

(وَأْتَمِرُوا) : الائتمار بشيء تشاور القوم فيه بحيث يأمر بعضهم فيه بعضا.

(تَعاسَرْتُمْ) : التعاسر : تبادل العسر ، بمعنى أن يريد كل طرف العسر للآخر.

(قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) : قدر الرزق : ضيقه.

(آتاها) : الإيتاء : الإعطاء.

* * *

من تفاصيل أحكام الطلاق

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) وهن اللاتي انقطع الحيض عنهن ، فلم يرين منه شيئا ، وحصل الريب في سبب انقطاعه ، هل هو لعارض صحي ، أو لبلوغهن سن اليأس ، ولم يمكن الرجوع إلى قاعدة حاسمة للتمييز بين الاحتمالين ، (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) بدلا من الرجوع إلى الإقراء في الحالات الطبيعية (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي لم يأتهن الحيض فعلا ، وهن في السن التي تفرض مجيء الحيض بشكل طبيعي ، لولا العارض الطارئ الذي منع من ذلك ، فإنهن يأخذن العدة على أساس الثلاثة أشهر. (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) سواء قل الزمن أو كثر ، وربما كان ذلك على أساس أن العدة في حكمتها كانت لاستبراء الرحم من الحمل ، فإذا كانت المرأة حاملا ووضعت حملها ، فلا موجب للعدة بعد ذلك.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في ما يأخذ به من حدود الله التي وضعها لتنظيم شؤون عباده ، (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) في ما تتضمنه التشريعات من تيسير شؤون

٢٩٤

الناس على أساس القاعدة السهلة السمحة في الشريعة ، وفي نطاق الوعد الإلهي بتسهيل أمور المتقين في ما يستقبلونه في حياتهم من الصعاب والمشقات ، رأفة بهم وتشجيعا لهم على فعل الخير ، والتزام التقوى.

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) في ما حدده لكم من أحكامه في شؤون العدة في الطلاق ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في الالتزام بها (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) لأن الطاعة تطرد السيئة في نتائجها الأخروية ، (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) في ما يجزي به الله المتقين على أعمالهم الخيرة ، ولعل مجرى هذه الآية يلتقي مع مجرى الآية الكريمة في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النساء : ٣١].

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) وهذا هو التشريع المتعلق بالمطلقة من حيث سكناها في مدة العدة. فلا بد للمطلق من أن يسكنها في حدود إمكاناته المادية ، في نوعية المسكن ، على الموسر قدره ، وعلى المعسر قدره. (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) كما يفعل بعض الأزواج الذين يقصدون الإضرار بالمطلقة من خلال العقدة النفسية المستحكمة ضدها ، فيوجهون إليها الضرر الذي يشق تحمله في النفقة والسكنى ، بحيث تقع في الضيق والحرج الشديد.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) مهما طالت مدة الحمل ، فإن الإنفاق عليهن ينطلق من موقع خصوصية العدة في طبيعتها وخصوصية الحمل الذي يكون الإنفاق عليها من شؤون الإنفاق عليه.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) بعد وضع الحمل ، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) لأن مسئوليته على الأب لا على الأم ، باعتبار أن ذلك من مفردات الإنفاق. فللأم أن تأخذ الأجر على الإرضاع ، حتى لو كان الرضيع ولدها ، كأية امرأة عاملة تستحق أجرا على عملها.

٢٩٥

(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي تشاوروا في مسألة تحديد أجر الرضاعة بحيث يأمر بعضكم فيه بعضا ، فلا يتضرر الرجل بزيادة الأجر الذي يدفعه ، ولا المرأة بنقصانه عن القيمة الواقعية ، ولا الولد بنقصان مدة الرضاع أو كميته (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) بحيث فرض كل فريق على الآخر قيمة مرتفعة فلم يصل الأمر إلى توافق بينكم ، أو أصرّت المرأة الأم على أجر مرتفع لا يقبل به الأب لزيادته عن الحد الطبيعي ، (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أجنبية غير والدته ، إذا رضيت بأجر معقول.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) فهذا هو الخط العام في حدود الإنفاق الواجب على الرجل في المال الذي يقدمه للمطلقة المرضعة لولده. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) بحيث كانت أحواله المادية ضيقة ، لا تسمح له بالتوسعة عليها (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أي مما أعطاه الله.

* * *

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) لأن الله إنما أنزل تكاليفه على العباد لتطاع ، وليكون الانبعاث عنها أمرا ممكنا ، أو قريبا من الطاقة الإنسانية العادية ، فإذا كان مستحيلا ، كان عبثا أو ظلما ، لأن العقاب على ترك امتثاله ، يكون عقابا على غير أساس من العدل ، وإذا كان حرجا أو شاقا ، كان بعيدا عن اليسر الذي تنفتح النفس له وتقبل عليه ، مما يجعل من امتثاله أمرا لا يتفق مع لطف الله بعباده ، وعلى هذا الأساس فلا يكلّف المطلّق الإنفاق على المطلّقة بأكثر مما تتحمله طاقته المادية ، وعليها أن تنتظر اليسر في أموره بالاعتماد على الله الذي يغيّر أمور عباده من حال إلى حال ، (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)

٢٩٦

في ما تقتضيه رحمته من إعانة عباده على ما هم فيه من شدّة وضيق عند ما تقتضي الحكمة ذلك.

* * *

٢٩٧

الآيات

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢)

* * *

معاني المفردات

(عَتَتْ) : العتوّ : قال الراغب : العتوّ النبوّ عن الطاعة (١).

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٣٣.

٢٩٨

(نُكْراً) : النكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف. وفي المجمع النكر : المنكر الفظيع الذي لم ير مثله (١).

* * *

جولة وعظية في رحاب التاريخ

وهذه جولة وعظيّة في رحاب التاريخ ، وانطلاقة توجيهية في أجواء الحاضر والمستقبل ، في السير على خط الله ورسوله الذي يفتح العقل والقلب والحياة على إشراقة النور المتفجر من أعماق الوحي ، لتنتهي المسألة إلى الجنة التي وعد الله بها المتقين ، ولتبقى مع الله الذي خلق الكون كله.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) أي استكبرت عن الخضوع لله في إطاعة أمره ، والمراد بالقرية ، أهلها ، في ما تختزنه من معنى المجتمع الذي يعيش فيها ، (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) في ملاحقة كل مفرداتها العملية ، في ما كان الأنبياء يحدثونها عن ذلك ، وعن النتائج الصعبة التي تنتظرهم من خلال كفرهم وعصيانهم ، فلم يخضعوا للحساب ، ولم ينتبهوا له ، ولم ينفتحوا على المشاكل التي تحيط بهم في ساحته. (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) لا يطيقه الذين يشاهدونه في ما يتعرفون إليه من قسوته وصعوبته ، بالمستوى الذي يؤدي إلى هلاكهم واستئصالهم ، (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) في ما قامت به من العتوّ والاستكبار ، حيث لاقت الجزاء القاسي ، (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً* أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) ، وتلك هي الخسارة الكبيرة التي وقع فيها هؤلاء كنتيجة لسوء سلوكهم واختيارهم.

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) الذين تفكرون بعقولكم لتكتشفوا وجه الحق من الباطل ، والخطأ من الصواب (الَّذِينَ آمَنُوا) فانطلقوا مع الإيمان بمنطق الفكر

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٥ ، ص : ٤٦٥.

٢٩٩

المنفتح الى الحق الذي يرتبط بالإيمان بالله ورسله برباط وثيق.

وفي ضوء ذلك ، فإن التقوى العملية السائرة على خط الشريعة الحقة في أحكامها ومفاهيمها ، تلتقي بالعقل الذي يرى فيها خط السلامة في الدنيا والآخرة ، وبالإيمان الذي يرى فيها الانسجام مع إرادة الله ورضاه.

(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) يخطط لكم المنهج الصحيح في حياتكم ، ليؤدي بكم إلى النهاية السعيدة التي تذكركم بالله كلما نسيتموه ، وباليوم الآخرة كلما أغفلتموه ، وبالرسالة التي تحملتم مسئوليتها منذ آمنتم بها كلما ابتعدتم عن خطها المستقيم.

(رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) ولعلّ إطلاق الذكر على الرسول باعتبار أنه يجسّد القرآن الذي يشتمل على الذكر الإلهي ، فيكون باعثا على التذكر في ما يتلوه من آيات الله المبينات. أمّا كيف نتصور إنزال الرسول ، فقد فسّره البعض بالإنزال من عالم الغيب ، أي بعثه منه ، وإظهاره لهم رسولا من عنده بعد ما لم يكونوا يحتسبون ، وقد فسّره صاحب الكشاف بجبريل (١) باعتبار إنزاله من السماء ، ويكون حينئذ معنى تلاوته الآيات عليهم تلاوته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنه متبوع لقومه ووسيلة الإبلاغ لهم ، لكن ظاهر قوله تعالى «يتلو عليكم ... إلخ» خلاف ذلك.

ويحتمل أن يكون «رسولا» منصوبا بفعل محذوف ، والتقدير أرسل رسولا يتلو عليكم آيات الله ، ويكون المراد بالذكر القرآن أو ما بيّن فيه من الأحكام والمعارف. وقد يكون الأقرب أن يكون رسولا بدلا قريبا من أجواء بدل الاشتمال باعتبار أن إنزال الذكر يختزن في داخله وجود رسول يبلغه ويتلوه بعد أن كان الإنزال بشكل غير مباشر ، والله العالم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٤ ، ص : ١٢٣.

٣٠٠