تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

(لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من خلال انفتاحهم على إشراقة الوحي في فكره وروحه وشريعته التي تمثل النور الذي يضيء للمؤمنين طريقهم إلى الله ، وإلى الحياة المتطلعة إليه وإلى رضوانه.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ، لأن ذلك هو مظهر القرب إليه ، في ما يريد أن يقرب عباده إلى مواقع سعادتهم في الآخرة في دار النعيم ، (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) في ما وعدهم به من الرزق الحسن الذي لا حدود له ، فقد جعل لهم ما تشتهي أنفسهم ، كما جعل لهم ما يدّعون (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت ، ٣٢] ، في ما يغفره من خطاياهم وفي ما يرحمهم في مواقع حاجتهم إليه ، ولا شيء في وجودهم إلا وهو محتاج إليه.

* * *

خلق سبع سماوات وسبع أرضين

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) فهناك أرضون سبع ، لم يتحدث عن عددها إلا في هذا الآية ، بينما تحدّث في أكثر من آية عن السماوات السبع ، ولكن لم يعرف ما هو المراد بالأرضين السبع ، فهل هناك سبع كرات من نوع الأرض التي نحن عليها ، والتي نحن عليها إحداها ، أو الأرض التي نحن عليها سبع طبقات محيطة ببعضها البعض ، والطبقة العليا بسيطها الذي نحن عليه ، أو المراد الأقاليم السبعة التي قسّموا إليها المعمور من سطح الكرة؟ وجوه ، ذهب إلى كل منها جمع ، ولكن لا طريق لنا إلى معرفة ذلك ، لأن الله أجمل لنا ذلك ، ولم تفصله لنا السنة في ما صح منها ...

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي بين السماوات والأرض ، في ما يدبر به الله أمر

٣٠١

الكون والإنسان والحياة ، أو في ما ينزله من تشريعات تنظم للإنسان حياته ، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من خلال امتداد خلقه ، في أسرار الإبداع وفي مظاهر العظمة ، في ما تتمثل به سعة قدرته التي لا يحدّها شيء ، (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) من خلال إحاطته بشؤون خلقه التي لا يعلم أسرارها غيره ، مما يفرض على الناس أن يثقوا به ، ويستعينوا به ، وأن يراقبوا أنفسهم في أعمالهم ، من خلال إحاطته الشاملة بهم في كل شؤونهم الداخلية أو الخارجية.

* * *

٣٠٢

سورة التحريم

مدنية

وآياتها اثنتا عشرة

٣٠٣
٣٠٤

في أجواء السورة

وهذه سورة مدنية تتنوع أغراضها وموضوعاتها ، ففي الجزء الأول منها ، حديث مع النبي عن بعض خصوصياته اليومية ، في ما كان يجهد به نفسه من الرفق بمن حوله ، لا سيما أزواجه ، بالامتناع عن بعض ما أباح الله له مما كان يحب أن يفعله ، فقد أراد الله منه أن يأخذ حريته في ذلك ، حتى لو كان قد حرمه على نفسه بيمين أو بغير يمين.

ثم تلامس السورة في الجزء الثاني بعض المشاكل التي كانت تحدث في داخل البيت الزوجي ، من قبل بعض زوجاته اللاتي أفشين سره الذي أراد منهن حفظه. ثم تثير الموضوع بلهجة قاسية توحي بأن صبره على الإساءة إليه لا يعني ضعفا فيه ، لأن الله وملائكته وصالح المؤمنين يساندونه في كل شيء ، وتهدّدهن بالطلاق ، وباستبدالهن بخير منهن ، إذا أصررن على التعسف في علاقتهن به.

ثم يأتي الجزء الثالث ليوجه المؤمنين إلى حماية أنفسهم وأهليهم من النار ، وإلى التوبة النصوح إلى الله من ذنوبهم ، ليحصلوا على الجنة يوم القيامة.

٣٠٥

ثم تدعو النبي إلى جهاد الكفار والمنافقين ، وتضرب المثل للكافرين والمؤمنين ببعض النساء الكافرات والمؤمنات ، من أجل أخذ العبرة من ذلك.

وقد أطلق على السورة اسم «التحريم» انطلاقا من الآية الأولى التي تتحدث عن تحريم النبي على نفسه ما أحلّ الله له.

* * *

٣٠٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيتان

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٢)

* * *

معاني المفردات

(تَحِلَّةَ) : التحلة أصلها تحللة على وزن تذكرة وتكرمة ، مصدر كالتحليل ، قال الراغب : وقوله عزوجل : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي بين ما تنحلّ به عقدة أيمانكم من الكفارة (١).

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٢٨.

٣٠٧

تحليل الله للنبي ما حرمه على نفسه

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من بعض مشتهياتك الذاتية ، مما ترتاح له نفسك ، فتزداد قوة على ممارسة مسئوليتك ، لأن الإنسان المسؤول قد يرتاح إلى بعض صفاء الفكر وراحة الجسد في حياته الخاصة ، مما يجعل من الضغط النفسي مشكلة له على المستوى الشخصي والعام. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفيقا بمن حوله ، بحيث كان يضغط على نفسه لحساب راحة الناس المحيطين به ، لأنه كان الرؤوف الرحيم في أخلاقه الكريمة. ولهذا أراد الله أن يخفف عنه ذلك ، فخاطبه خطابا يشبه عتاب الحبيب للحبيب ، متسائلا : لماذا تحرّم على نفسك ما أباحه الله لك ، (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) في ما كنت تريده من إدخال السرور عليهن ، ولو على حساب أعصابك؟ وربما كان التحريم الذي صار سببا للحرمة ، كان ناشئا من الحلف على ترك ما لا تريده بعض أزواجه مما يوجب الإلزام بالترك على أساس وجوب التقيد باليمين. ومن هنا ، جاءت هذه الآية لتحلّه منه بمقتضى تحليل الله له ، فلا إثم في الحنث به. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو الذي يفتح مغفرته ورحمته لعباده ليمنحهم رضوانه ، سواء كان ما فعلوه مما حرّمه عليهم ، أو مما حرموه على أنفسهم باليمين ونحوه ، أو بالالتزام الذاتي بالترك لما أباحه لهم.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) في ما جعله لكم من أسباب التحليل العامة والخاصة ، فجعل لكم أن تتحللوا منها لتأخذوا حريتكم في ترك ما التزمتم فعله ، أو في فعل ما التزمتم تركه ، بالوسائل التي جعلها في متناول أيديكم. (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) الذي يتولى أموركم ، ويسير بكم إلى مواقع النجاح من خلال التشريع الحكيم والهداية القويمة. (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الذي يعرف كل ظروفكم وأسراركم ومواضع صلاحكم وفسادكم ، ويتصرف في أموركم بحكمته ، في ما

٣٠٨

يريد لكم أن تفعلوه ، وفي ما يفرض عليكم أن تتركوه.

وقد أفاض الرواة المفسرون في طبيعة العمل الذي حرمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نفسه بيمينه ، فبين قائل إنه حرم عليه فتاته مارية التي كانت سرية له إرضاء لبعض أزواجه ، فحلف أن لا يقاربها بعد ذلك ، وبين قائل إنه شرب من زوجته سودة عسلا ، فحلف أن لا يشرب منها شيئا بعد ذلك لأن عائشة وحفصة وجدا فيه ريحا كريهة من خلاله.

ونحن لا نريد الإفاضة في ذلك ، لأن القضية عندنا تتصل بالمبدأ الذي نريد أن نستوحي منه سموّ خلق النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرفق بمن حوله ، ورعاية الله له في حلّ يمينه إرفاقا به ، لئلا تثقله التزاماته الشخصية في داخل البيت الزوجي عن القيام بمسؤولياته في الدعوة والجهاد ورعاية الشؤون العامة للمسلمين.

* * *

٣٠٩

الآيات

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٥)

* * *

معاني المفردات

(أَسَرَّ) : السر هو الحديث الذي تكتمه في نفسك وتخفيه. والإسرار : إفضاؤك الحديث إلى غيرك مع إيصائك بإخفائه.

(صَغَتْ) : الصغو : الميل ، والمراد به الميل إلى الباطل والخروج عن الاستقامة.

(تَظاهَرا) : التظاهر ، التعاون.

* * *

٣١٠

النبي يسر إلى إحدى زوجاته حديثا فتذيعه

وهذه مشكلة أخرى عاشها النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته الزوجي ، من خلال بعض زوجاته في ما حدث به من سرّ كان من المفروض أن لا تفشيه ، لأن السر في طبيعته يمثل لونا من ألوان الائتمان الذي ينبغي لمن اؤتمن عليه أن يحافظ على سريته كما يحافظ على الأمانة ، بقطع النظر عن الشخص الذي يملك السر ، فكيف إذا كان صاحب السرّ نبيا ، وكانت الأمينة عليه زوجته ، في ما يفرض على الزوجة ، لا سيما إذا كانت زوجة النبي ، لأن أسرار الزوج وخصوصياته في الحياة الزوجية ، فإنّ الإنسان يتحرك في بيته بعفوية واسترسال ، لا يعيشهما في داخل المجتمع العام ، مما يجعله يبرز عاريا في بعض أسراره في حديثه مع زوجته ، كما يبدو عاريا في خلواته الشخصية في جسده.

وهكذا نبأت هذه الزوجة بالسر الذي ائتمنها عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزل القرآن عليه ليعالج هذه المسألة الخاصة ، باعتبار أن خصوصيات الرسول ليست أمورا ذاتية له ، في ما قد يتحدث فيه الناس من الفصل بين الشؤون الخاصة والشؤون العامة للنبي أو للإمام أو للولي أو القائد ، لأن له صفة رسمية لا بد له من أن يتقيد فيها بالحدود العامة ، وله صفة شخصية يمكن أن يمارسها بحريته من دون أن يكون لأحد دخل فيها.

ولكن للإسلام رأيا آخر في ذلك ، فإنّ قيمة المسؤول الأول في مسئوليته ، تتناول خصوصياته الذاتية في التقييم ، كما تتناول شؤونه العامة من خلال وحدة عناصر الشخصية في ما تفرض من القيمة في عناصر المسؤولية ، وفي ضوء ذلك ، كان الحديث عن بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جزءا من الحديث عن حياته

٣١١

وعن مسئوليته ، وعن ساحته الخاصة المتصلة بالساحة العامة ، لا سيما إذا كانت القضية متصلة بحالته النفسية التي تتأثر بها حركة الرسالة في حياته.

وقد نجد في الحديث عن نقاط الضعف لبعض أمهات المؤمنين ، أن صفة الزوجية للنبي لا تمنع من التأكيد على الجانب الشخصي من حياتهن بالطريقة التي تخضع فيها للنقد ، في الصفة الإنسانية الطبيعية ، وفي قيمة الالتزام الرسالي ، من خلال السلوك الشخصي ، بالمستوى الذي يوحي بأن الصفة لا تمنحهن امتيازا يعفيهن من المسؤولية ، بل يفرض عليهن مسئولية كبري ، أكثر خطورة من بقية النساء.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) في ما يسر به الزوج إلى زوجاته من أحاديث خاصة ، تتعلق ببعض أوضاعه الشخصية في علاقاته الذاتية أو تتعلق ببعض الأوضاع العامة. وقد جاء الحديث في السيرة أن هذه الزوجة هي حفصة. وربما أراد لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا تحدّث به أحدا ، لأن المسألة المعينة فيه ، لا ينبغي أن تتجاوز الدائرة الخاصة. ولكن هذه المرأة لم تطق حمل هذا السرّ لتحتفظ به لنفسها ، فأنبأت به عائشة ، في ما تتحدث به كتب السيرة للعلاقة الحميمة فيما بينهما ، بالمستوى التي كانت إحداهما لا تخفي شيئا عن الأخرى. وربما كانتا تتعاونان على بعض التصرفات المشتركة التي تتصل بإدارة أوضاعهما الخاصة في مقابل الزوجات الأخريات ـ كما تتحدث عن ذلك بعض أحاديث السيرة النبوية الشريفة ـ وهكذا انتقل الحديث من حفصة إلى عائشة ، (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) وعرّفه بذلك (عَرَّفَ بَعْضَهُ) في حسابه لها (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) فأهمل الحديث عنه ، (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) استغربت ذلك ، وربما دار في ذهنها أن صاحبتها هي التي كشفت إذاعتها للسرّ ، لأن الحديث لم يتجاوزهما ، ولم تكن تفكر أن الوحي يتدخل لتعريف النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسائل الخاصة التي تدور في بيته الزوجي ، لأنها من الأمور التي لا تتصل بالرسالة ، ولهذا كانت تحسّ بالأمن من انكشاف سرّها ،

٣١٢

بعد أن كانت واثقة من رفيقتها في كتمانه. (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الذي يحفظ نبيّه في بيته مما يسيء إلى موقعه ، كما يحفظه في الساحات العامة من ذلك. وهنا ، كانت المسألة التوجيهية التي يريد الله لهما أن يلتزماها ، ويختارا الموقف الذي يرغبن في التزامه في مستقبل حياتهما مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في خطاب قويّ حاسم يضع الموقف بين خيارين في الخط العملي لهما.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) مما قمتما به من تصرّف لا ينسجم مع الدائرة الأخلاقية في التعامل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نطاق المسؤولية الزوجية الخاصة ، وتتراجعا عن ذلك ، (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي تحقق منكما ما يستوجب التوبة ، وهو الصغو أي الميل القلبي إلى الباطل ، والخروج عن خط الاستقامة.

(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي تتعاونا عليه للإساءة إليه ، والتمرد عليه بالموقف المشترك ضدّه ، فلن تستطيعا أن تحققا ضده أيّ شيء ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) الذي يتولى رعايته ونصرته من خلال عنايته الخاصة به ، (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) وقد وردت الرواية من طرق أهل السنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، أنّ المراد بصالح المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقيل : إن المراد به الصلحاء من المؤمنين ، على سبيل إرادة الجمع من الواحد ، أو إرادة الجنس منه (١).

(وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) يقفون صفا واحدا كما لو كانوا وجودا واحدا ، لينصروه وليثبتوا موقفه ، مما يوحي بالأهمية الكبرى لوجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عناية الله به ، بقطع النظر عن هذه الحادثة الخاصة التي قد لا تحتاج إلى ذلك كله ، في مواجهة الموقف الناتج عنها ، فقد يكون المقصود هو إيجاد الشعور الداخلي بعظمته ورفعة مقامه ، بحيث لا تحول الزوجية بينهما ، في ما تفرضه من حالة انكشاف مطلق بين الزوج والزوجة ، وبين الانفتاح على

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٣٤٦ ، ٣٤٧.

٣١٣

جانب الهيبة له والتعظيم لمقامه.

ويتصاعد الأسلوب الإيحائيّ ليواجههما وغيرهما من نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقيقة التي تؤكد لهن بأنهن لا يمثلن النموذج الوحيد للمرأة الصالحة التي تكون في مستوى أن تكون زوجة للنبيّ ، فهناك نساء أخريات من سائر الناس ممن يمكن أن تتمثل فيهن الصفات الخيّرة المتناسبة مع الجوّ الروحي الإيماني ، المتناسب مع شخصية النبي وروحيته وموقعه الرسالي ، ليكن البديل عنهنّ ، إذا اقتضت رغبته أو المصلحة الرسالية أن يطلقهنّ وينفصل عن العلاقة الزوجية بهنّ ، فلا يعتبرن أنفسهنّ في الموقع المميز الذي لا بديل له.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) يتميزن بالتقوى المنفتحة على كل جوانب الإيمان والعمل الصالح (مُسْلِماتٍ) في ما يمثله الإسلام من الانتماء لهذا الدين ، من إسلام القلب والعقل والوجه واليد واللسان لله ، (مُؤْمِناتٍ) في ما هو الإيمان القلبي الذي يتعمق في الفكر والإحساس (قانِتاتٍ) من خلال التزامهن طاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابتعادهن عن معصية الله ومعصيته ، (تائِباتٍ) من كل الذنوب التي ألممن بها في تاريخهن الخاص ، (عابِداتٍ) لله في كل ما تمثله العبادة من الخضوع المطلق له والخشوع الروحي بين يديه ، (سائِحاتٍ) أي صائمات ، كما ذكر ، أو سائحات في طاعة الله وطلب رضاه ، (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) في ما ترغبه نفسه من ذلك من ألوان النساء.

وهكذا رأينا كيف عالج الإسلام هذه المسألة الشخصية في حياة النبي وأزواجه ، بالتأكيد على الجانب العملي المنسجم في خط الرسالة في واقع زوجاته ، للتأكيد على ما أسلفنا الحديث عنه ، بأن التقوى هي القيمة في المنزلة ، وليست الموقع الذي يتخذه لنفسه ، في حياة الأنبياء والأولياء.

* * *

٣١٤

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(قُوا) : أمر من الوقاية بمعنى حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره.

(وَقُودُهَا) : الوقود بفتح الواو ـ اسم لما توقد به النار من حطب ونحوه.

(غِلاظٌ) : جمع غليظ وهو ضد الرقيق.

(شِدادٌ) : جمع شديد بمعنى القوي في عزمه.

* * *

٣١٥

(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)

وهذا نداء للمؤمنين الذين يريد الله منهم تفادي الآثار السيّئة للانحراف ، تماما كما أراد ذلك لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحمّلهم مسئولية أنفسهم وأهليهم أن يبتعدوا عن النار بكل الوسائل التي يملكونها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) انطلقوا من موقع الإيمان الذي يثير أمامكم الاستعداد لليوم الآخر الذي تواجهون فيه المسؤولية أمام الله ، في ما كنتم تستطيعون القيام به من خلاص أنفسكم وأهليكم من نار جهنم ، (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) بحيث يتحول الناس فيها إلى حطب للوقود ، كما تتحول الحجارة إلى جمرات تتوهج وتشتعل وتلتهب ، (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) في ما يفرضه موقعهم في الإشراف على نار جهنم في مهمّات التعذيب القاسية من الغلظة والشدّة التي تضيف إلى عذاب النار عذابا آخر ، (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) في إنزال العذاب بالكافرين والمتمردين على الله ، بفعل المؤثرات العاطفية أو غيرها ، (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) بكل دقّة وإخلاص.

هذا هو النداء الإلهي الحاسم الصارم الذي يريد إثارة الشفقة ، كما يريد إثارة الخوف الذي يتحرك ليتحول إلى موقف. ولكن كيف تكون عملية الوقاية للآخرين من أهله ، إذا عرفنا كيف تكون الوقاية للنفس بالالتزام بالعمل ، لأن تصرفات الآخرين ليست خاضعة له؟

وقد جاءت الأحاديث المأثورة التي أثارت المسألة أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد جاء في الكافي بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله «جعفر الصادق عليه‌السلام» قال : لما نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) جلس رجل من المؤمنين يبكي ، وقال : أنا عجزت عن نفسي وكلفت أهلي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبك أن تأمرهم بما تأمر به

٣١٦

نفسك وتنهاهم عما تنهى به نفسك (١).

وفي حديث آخر ـ في الكافي ـ بإسناده عن سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال : قلت : كيف أقيهم؟ قال : تأمرهم بما أمر الله وتنهاهم عما نهى الله ، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم ، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك (٢).

وفي ضوء ذلك ، نفهم أن المسألة تندرج في مسئولية الإنسان في مجال الدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بالوسائل المتنوعة التي تقود إلى الاقتناع الفكري والإيمان القلبي ، وبالأساليب الضاغطة التي تثير أمام الإنسان الكثير مما يفرض عليه النظر بجدّية ومسئولية إلى المسائل التي تطرح عليه ، ليفكر فيها ، وليتوجه إلى الالتزام بها.

وقد تكون خصوصية الأهل من خلال توفّر الأجواء الضاغطة التي يملكها الإنسان تجاههم ، باعتبار القرب العاطفي والمصالح المادية ، والمجتمع الواحد الذي يتحركون فيه ، مما تلتقي فيه العاطفة بالعقل والعادة والأجواء المشتركة.

وهذا هو ما ينبغي للآباء والأمهات أن يتحملوا مسئوليته في رعاية شؤون أولادهم الدينية ، بالتأكيد على تنمية المشاعر الإيمانية في مشاعرهم ، وتركيز العقيدة الإسلامية في أفكارهم ، وتحريك الالتزام الديني في واقعهم العملي قبل أن يسبقهم إليهم الضالون المضلّون من الكافرين والمنحرفين والمستكبرين بما يثيرونه من أفكار الكفر وعاداته وتقاليده ، ليصوغوا أجيالنا صياغة كافرة ، قد تؤدي إلى تعقيدهم ضد الإسلام فكرا وعملا.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٣٥٦.

(٢) (م. ن) ج : ١٩. ص : ٣٥٦.

٣١٧

ولعل التقصير في ذلك يساوي التقصير في مواجهة الحملات العسكرية على البلاد الإسلامية ، في ما يعبر عنه ذلك من معنى الخيانة ، بل ربما يزيد عليه ، لأن السيطرة على الأفكار العامة للأمة أكثر خطورة من السيطرة على مواقعها الجغرافية ، باعتبار ما يستتبعه ذلك من نفوذ طوعيّ للكافرين والمستكبرين على الواقع الإسلامي من الداخل والخارج.

* * *

٣١٨

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧)

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) من موقع العقدة الذاتية الاستكبارية أو المتخلفة التي منعتكم عن الانفتاح على الإيمان بالله ورسله ، لتفكروا ولتحاوروا ولتصلوا إلى النتائج الحاسمة في مسألة الإيمان والكفر ، على قاعدة من الوعي الفكري ، فابتعدتم عن الجدّية ، واستغرقتم في السلبية العبثية المتحركة في أجواء اللامبالاة ، فكفرتم تحت تأثير العادة والتقليد للماضي والخوف من التغيير ، حتى واجهتم الموقف الحق في هذا اليوم ، وهو يوم القيامة الذي تقفون فيه اليوم ، كما يقف كل الناس ، ليقوّم كل إنسان دفاعه عن موقفه ، وحجته على كل تاريخه الفكري والعملي ، ليجادل عن نفسه ، وليواجه

٣١٩

الحساب في ذلك كله على أساس الدقة المتناهية في كل المفردات الصغيرة والكبيرة.

وها أنتم تقفون في ساحة النار لتعتذروا عن كفركم ومعاصيكم في الدنيا. ولكن ما فائدة ذلك كله ، وما جدواه ، لأن الساعة هي ساعة الصدق الذي لا يمثل شيئا من منطقكم المتهرب الكاذب ، فما عليكم إلا الاستسلام لمنطق الحقيقة التي تفرض نفسها عليكم من خلال اللاحجة على كل ما عملتموه. (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فلن تجديكم كل هذه الاعتذارات أو التبريرات ، (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، لأن أعمالكم السابقة لم ترتكز على قاعدة من الفكر الذي يملك حجّة ، أو ينتهي إلى أساس من العذر العقلي.

وهذه هي المسألة التي يطرحها الإسلام على كل الناس ، فهو يريد منهم أن يقدّموا الحجة على انتماءاتهم وقناعاتهم من موقع الفكر ، ليدخلوا الحوار مع الآخرين ، ولا يلجأوا إلى الأعذار الواهية الناشئة عن التعنت والاستكبار ، لأنها لن نفعهم شيئا في ساعة الحقيقة المرّة

* * *

٣٢٠