تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

بالإبقاء عليهم ، للمصلحة التي يعلمها في ذلك ، فقد كان لا يريد أن يبدأ معركة الإسلام معهم بمذبحه كبيرة ، قد تثير اليهود الآخرين الذين كانوا لا يزالون على العهد محافظين على السلام ، بالرغم من أن هؤلاء قد قاموا بمحاولة اغتيال النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا اكتفى بالحكم بالجلاء عن ديارهم في البداية ، ليكون ذلك بمثابة الدرس لكل الذين يحاولون القيام بنقض العهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لا ذلك (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والاستئصال ، كما فعل ذلك مع بني قريظة عند ما نقضوا العهد ، لأن المصلحة كانت تفرض ذلك على أساس الخيانة الكبيرة في التحالف مع المشركين للهجوم على المدينة ، للقضاء على الإسلام والمسلمين في واقعة الأحزاب.

(وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) لتمردهم على الله ورسوله وخيانتهم للعهد. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوا أوامرهما ونواهيهما وعهدهم معهما ، (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لأن هذا الموقف المضاد يعبر عن حالة خبيثة تنم عن الشعور العدواني ضد العظمة الإلهية ، مما يعرّض السائرين في هذا الاتجاه للعقاب الشديد.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) وهي النخلة (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) في ما كان المسلمون يمارسونه من قطع النخيل في مواقع بني النضير لبعض الضرورات الحربية ، على أساس إيجاد حالة نفسية صعبة لديهم ، أو إزالة بعض الحواجز التي كانت تتمثل في النخيل الذي يمنع من حرية الحركة ، وذلك بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما كان مثيرا لاعتراض بني النضير ، لأنه يمثّل نوعا من التخريب أو الإفساد الذي لا يفيد المسلمين في شيء ، باعتبار أن ذلك يمثل نوعا من الخسارة ، على تقدير انتقال الأرض إليهم. ولكن الله يقول إن ذلك لم يكن حالة مزاجية اعتباطية ، بل كل ما أمر به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقام به المسلمون (فَبِإِذْنِ اللهِ) من خلال الحكمة التي أرادها في ساحة الصراع بين المسلمين واليهود ، (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ويدفعهم إلى السقوط تحت تأثير الهزيمة

١٠١

والخزي والعار والانهيار النفسي والعملي.

وهكذا نجد أن حركة المحاربين في ما يتعلق بقطع الأشجار أو إبقائها ، لا تنطلق من مبدأ الانفعال بالأجواء العسكرية ، بل تخضع للضرورات العامة في طبيعة الموقف من الأعداء في ما يحقق المصلحة العليا للإسلام وللمسلمين ، وللحياة من جهة عامة.

* * *

١٠٢

الآيات

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨)

* * *

معاني المفردات

(أَفاءَ) : الإفاءة الإرجاع ، من الفيء بمعنى الرجوع.

١٠٣

(أَوْجَفْتُمْ) : إيجاف الدابة تسييرها بإزعاج.

(رِكابٍ) : الإبل.

* * *

حكم الفيء

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) والفيء هو «ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل» كما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام(١) ، والمقصود بالآية هو ما حصل عليه المسلمون بقيادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) فلم تحصلوا عليه من خلال حشد الخيل والإبل ـ وهي الركاب ـ لأن المسافة ليست بعيدة عنكم ، لأن حصونهم كانت في ضواحي المدينة ، مما لم تحتاجوا فيه إلى وسائل للنقل ، بل مشيتم إليهم راجلين ، ولم تحتاجوا إلى الدخول في قتال معهم ، (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بالوسائل الخفيّة التي يحققها للنصر كإلقاء الرعب وتهيئة الأجواء النفسية الملائمة ، مما يجعل النتائج متصلة بالقيادة النبوية لا بالجنود الذين معه ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء ، ولا يفوته أحد ، فإذا اقتضت حكمته شيئا ، فلا بدّ من أن يكون من خلال قدرته المطلقة الشاملة.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) من الذين يقفون ضد الإسلام والمسلمين ويتحركون في مواقع التحدي ، سواء كانوا من بني النضير أو من غيرهم (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) والظاهر أن المراد بكونها لله هو الصرف في سبيل الله مما يحبه ويرضاه في ما يتقرب إليه من موارد الإنفاق العامة ، وبكونها لرسول الله هو ما يصرفه النبي على نفسه وعلى قضاياه المتصلة بموقعه الرسولي

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢١٧.

١٠٤

القيادي في موارده الخاصة والعامة (وَلِذِي الْقُرْبى) ورد في روايات أهل البيت عليه‌السلام أن المراد بهم قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ورد ذلك في أكثر روايات المفسرين من غيرهم إلا من شذ.

(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قالت الإمامية إن المراد بهم أيتام بني هاشم ومساكينهم وابن السبيل ، وقال جميع الفقهاء من غيرهم هم يتامى الناس عامة وكذلك المساكين وابن السبيل ، وروى في مجمع البيان أن هناك رواية عن أهل البيت عليه‌السلام توحي بالشمول (١) ، وهو الأقرب إلى طبيعة أجواء الآية والسياق. وقد وقع بين المفسرين خلاف حول موضوع هذه الآية وما قبلها ، هل هو واحد ليكون الحكم في الآية الثانية هو حكم الآية الأولى ، فلا يكون هناك أي نوع من الإيحاء بالمصرف ، بل تبقى الآية في أجواء ولاية الرسول عليه ، باعتبار أنه هو الذي سلطه الله عليه ، من دون أن يقاتل المسلمون عليه ، فتكون الآية الثانية تحديدا للمصرف في ما يجب أن يقوم به الرسول في عملية التوزيع ، أو أن المراد به الجزية والخراج ، أو أن المراد به الغنيمة أيا كان مصدرها وقيل : إنه منسوخ بآية الأنفال رقم / ١٤.

ولكن الظاهر هو أنّ الموضوع واحد في الآيتين وهو الفيء ، وليس اختصاص الآية الأولى ببني النضير وشمول الثانية لأهل القرى موجبا لاختلاف الحكم ، لأن المسألة في الموضوع قد تكون من باب الخاص والعام الذي يكون الحديث فيه عن الخاص على أساس أجواء القصة ، وعن العام على أساس القاعدة العامة ، مع ملاحظة أن كل الأقوال الأخرى لا تملك شاهدا من السياق أو من غيره ، بينما يملك الوجه الذي استقربناه وحدة السياق ووحدة الموضوع ، وحاجة المورد إلى تحديد المصرف ، كما هي العادة الجارية في

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار المعرفة ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، م : ٥ ، ص : ٣٩١

١٠٥

أمثاله مما يحصل عليه المسلمون من خلال الوقائع الحربية مع الآخرين.

وهناك رأي فقهي للشهيد المحقق السيد محمد باقر الصدر يؤكد فيه وحدة الموضوع ، ولكنه يجعل الفيء في المصطلح التشريعي شاملا للأنفال بصورة عامة ، فإن المراد بها الأموال التي جعلها الله ملكا للمنصب الذي يمارسه النبي والإمام كالأراضي الموات أو المعادن على قول ، وذلك بدليل ما جاء في حديث محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة من الدماء وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كله من الفيء (١) ، فإن هذا النص واضح في إطلاق اسم الفيء على غير ما يغنمه المسلمون من أنواع الأنفال. وفي ضوء هذا المصطلح التشريعي ، لا يختص الفيء حينئذ بالغنيمة المجردة عن القتال بل يصبح تعبيرا عن جميع القطاع الذي يملكه منصب النبي والإمام ، ولا بد من أن يضاف إلى ذلك ، القول بإلغاء خصوصية المورد بالفهم العرفي.

وعلى هذا الأساس ، نستطيع أن نستنتج أن الآية حددت حكم الأنفال بصورة عامة تحت اسم الفيء ، وبذلك نعرف أن الأنفال تستخدم في الشريعة العامة لفرض حفظ التوازن ، وضمان تداول المال بين الجميع ، كما تستخدم للمصالح العامة.

وقد نلاحظ على هذا الاستنتاج ، أن هناك حديثا آخر رواه الشيخ الطوسي في التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام قال : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) الآية قال : الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل ، والأنفال مثل ذلك وهو بمنزلته (٢).

__________________

(١) البحراني ، هاشم ، البرهان في تفسير القرآن ، دار الهادي ، ط : ٤ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، م : ٤ ، ص: ٣١٤.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢١٧.

١٠٦

فإن الظاهر من هذا الحديث أن هناك اختلافا في المصطلح مع اتحاد الحكم فيهما.

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي يتداولونه بينهم فلا يكون للفقراء منه شيء. وجاء في مجمع البيان : قال الكلبي : نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له : يا رسول الله خذ صفيّك والربع ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوا :

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

فنزلت الآية ، فقالت الصحابة : سمعا وطاعة لأمر الله وأمر رسوله (١).

فإذا صح هذا الخبر كانت الآية رفضا للذهنية الطبقية التي تجعل الغنيمة في أمثال هذه الوقائع من نصيب الرؤساء الذين يملكون عادة المال الكثير ، بلحاظ ما تفرضه الرئاسة من الامتيازات المادية والمعنوية لأصحابها ، وما تمنعه من موقع السلطة عن الفقراء من خلال انحطاط مركزهم الاجتماعي ، لعدم قدرتهم على المطالبة بحقوقهم في ما يبذلونه من جهد في تفاصيل الحروب بما لا يبذله الرؤساء. وفي ضوء ذلك ، يتحرك هذا التعليل التشريعي ليواجه هذه الذهنية التي تتحرك في خطين ، خط حرمان الفقراء من جهد المعركة ، والابتعاد بالأموال العامة عن المصالح العامة التي يحتاجها المسلمون في قضاياهم المتنوعة التي تحتاج إلى رصيد عام في الحياة الإسلامية العامة ، وخط تجميع الثروة في أيدي الأغنياء لتكون محصورة بهم ، فتؤكد امتيازاتهم في حياة المسلمين ، مما يمتد إلى أن تكون قضاياهم المصيرية خاضعة لتأكيد أوضاعهم الطبقية البعيدة عن مصلحة المسلمين.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٥ ، ص : ٣٩٢.

١٠٧

كيف نستوحي التشريع المذكور؟

وقد نستطيع استيحاء الفكرة في هذا التشريع الخاص من أن عملية التوزيع في نطاق الأموال العامة تنطلق في هذه الدائرة الاقتصادية على أساس ما يمثله من هدف اقتصادي إسلامي كعنوان بارز للتخطيط الإسلامي للمجتمع الذي لا تتجمع فيه الأموال في أيدي جماعة معينة من الناس ، لأن ذلك قد يؤدي إلى إفساد حياة الناس في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، على أساس أن هذه الواقعة لا تحمل خصوصية معينة في هذا الهدف بل تخضع للهدف الكبير.

وإذا امتد التفكير إلى الجانب التشريعي الإسلامي في نطاق هذا الموضوع ، فقد نستطيع أن نحدد الكثير من مواقع حركة توزيع الثروة في الواقع الاقتصادي ، ليلاحق هذا الهدف في جانبه العملي الكثير من مفردات الأحكام الشرعية التي لا ترى في الإقطاع مشكلة شرعية ، كما تؤكد على شرعية الملكيات الكبيرة في حجم رأس المال النقدي ونحوه.

إننا ندعو إلى إثارة التفكير حول هذا الموضوع ، فقد نصل من خلاله إلى كثير من الحلول للمشاكل الواقعية في حركة الاقتصاد في واقع الناس.

* * *

(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وهذه هي القاعدة الإسلامية في التزام المسلمين بالإسلام ، فإذا كان الرسول هو مصدر التشريع في ما يبلّغه عن الله من وحي وما يشرعه من حكم ، في ما أنزله الله عليه أو في

١٠٨

ما أوكل أمره إليه ، فلا بد للمسلمين من أن يأخذوا بما آتاهم الرسول ، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ، لأن ذلك هو الذي يمثل الخط الإسلامي المستقيم المرتبط بالله والمنفتح على مواقع رضاه.

وهذا هو الذي يجسد النهج الحركي للمسلمين في ما يواجهونه من التيارات الفكرية والتشريعية المنحرفة عن فكر الإسلام وشريعته ، سواء كانت خاضعة لعناوين سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، فلا بد لهم من أن يرفضوها باعتبار أن أوامرها تختلف عن أوامر الرسول ونواهيها تختلف عن نواهيه ، ومفاهيمها تختلف عن مفاهيمه. وقد لا يكفي في السير معها أن تلتقي بعض عناوينها بعناوين الإسلام ، لأن القاعدة التي تحكم العنوان الإسلامي تختلف عن القاعدة التي تحكمها ، لأن الإسلام يؤدي إلى الله ، بينما لا تؤدي هي إليه ، بل تتبع خطوات الشيطان في ذلك كله.

إن هذه القاعدة التشريعية تؤكد على أصالة الموقف الإسلامي في شخصية المسلم ، بحيث يختزن في داخلها الفكرة التي تضع الحد الفاصل بينه وبين الفكر الآخر ، فيعرف المسلم مواقعه الأصيلة في القاعدة الإسلامية ، فلا يضيع في متاهات طروحات الآخرين على مستوى العناوين العامة ، وفي حركة المفردات التفصيلية ، (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فإن قيمة التقوى عند ما تكون حالة في الفكر ونهجا في الحركة ، أنها تضبط للإنسان خطواته ، فلا تنحرف عن سواء السبيل ، وتثبت للإنسان مواقعه ، فلا تهتز أمام اهتزازات الأهواء والشهوات. وقد تحتاج التقوى في عمق تأثيرها الحركي في نفس الإنسان المؤمن إلى الشعور العميق بالمسؤولية من خلال التصور الروحي للعقوبة الإلهية الشديدة التي تنتظره إذا انحرف عن مواقع طاعة الله ، لأن القناعة وحدها بالفكرة لا تكفي في الالتزام بها إذا لم يكن هناك نوع من العوامل النفسية المتحركة في نطاق الخوف من الله الذي يحرك في وعي الإنسان المؤمن الشعور الواعي بالرقابة الدائمة على نوازعه الخفية وممارساته السرية

١٠٩

والعلنية من خلال الإحساس بالحضور الإلهي الدائم المهيمن على الأمر كله والسرّ كله.

* * *

الآية في خط التربية الروحية

وهذا هو الذي يفرض على العاملين للإسلام في النطاق الفردي والاجتماعي ، على مستوى المجتمع والدولة ، أن يتحركوا في خط التربية الروحية التي تربي الإنسان على التقوى الروحية التي تنطلق في خط التقوى العملية ، لأن ذلك هو الذي يمكن أن يساهم في إنجاح التجربة الإسلامية ، وحمايتها من النوازع الذاتية والفئوية التي يمكن أن تنفذ إلى أعماق الحركة الإسلامية لتدفعها بعيدا عن الإخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين.

ولذلك فإننا نؤكّد على إثارة التقوى في الفكر في خط التدقيق في حدود المفاهيم والأحكام الشرعية ، بحيث لا تختلط بمفاهيم الآخرين وشرائعهم ، وتحريك التقوى في العمل لئلا ترتبك الخطوط العملية في مسألة وعي الواقع في نطاق ظروفه الموضوعية المحيطة به ، في ما يمكن أن تختلف فيه الاجتهادات والأوهام والمصالح ، فإن ذلك هو الذي يضمن المناعة الإيمانية على مستوى الشخص وعلى مستوى الحركة والواقع.

* * *

الطليعة المؤمنة في مواجهة المشركين

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) هؤلاء هم الطليعة التي واجهت التحدي

١١٠

الكبير في التجربة الأولى في خط المواجهة بين المشركين والمسلمين ، عند ما كان المسلمون قلة في العدد وفي العدة وكانت الظروف الاجتماعية الضاغطة تحاصرهم من كل جانب ، في ما كان يملكه المشركون من مواقع القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، وفي ما كانت الطروحات التي يطرحونها في مجال العقيدة مخالفة للواقع العقيدي والعبادي في حياة الناس الذين يعبدون الأصنام من موقع الضلال في العقيدة ، والتقديس للإرث الذي توارثوه عن الآباء والأجداد ، مما كان يفرض عليهم الحصار على أكثر من صعيد.

ولهذا كان ثباتهم يتميز بالعناصر المتنوعة في مجالها الروحي والفكري والعملي التي استطاعت أن تثبتهم في مواقع الاهتزاز ، فقد أخرجهم المشركون من ديارهم وأموالهم ، ليكون ذلك وسيلة من وسائل الضغط عليهم ليسقطوا وينحرفوا ، فلم يسقطوا ولم ينحرفوا. وقد أرادوهم أن يتركوا الرسول ، ليحافظوا بذلك على حياتهم وأوضاعهم الخاصة ، فكان موقفهم أن نصروا الله في دينه ، ونصروا الرسول في موقفه ورسالته ، من دون أن يكون لهم أيّ طمع بمال أو جاه ، بل كان كل همّهم أن يحصلوا على فضل من الله ورضوان. وذلك هو الدليل على صدقهم ، ليكون عنوان الصادقين هو العنوان الذي يتميزون به ، لأنهم صدقوا الله في القول والعمل ، فكان موقفهم صورة لدعوتهم في خط الإيمان.

وهذا هو الذي جعل لهم الميزة على المسلمين الآخرين ، لأنهم آمنوا في المواقع الصعبة للإيمان ، وتحملوا الكثير من التضحيات في سبيل الله ، وكان واقعهم واقع البؤس المادي ، لأنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم شيئا من مواقع بلدانهم. فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوحي إلى المسلمين من الأنصار أن يجعلوا لهم بعض الميزة في العطاء ، بالرغم من أن التشريع لا يميزهم عن غيرهم ، ولكن المسألة تخضع للظروف الطارئة في التمييز الطارئ.

١١١

وهكذا ميّز الرسول المهاجرين على الأنصار في الأموال التي حصل عليها من بني النضير ، فقد جاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بي النضير للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ، فقال الأنصار : بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها (١).

وهكذا نرى من خلال حديث ابن عباس أن الرسول كان يريد أن يحل مشكلة هؤلاء المهاجرين ، ويوحي إلى الأنصار بمسؤوليتهم عنهم ، بمقاسمتهم أموالهم وديارهم ، أو بالتنازل لهم عن حصتهم في الفيء ، مما يوحي بمسؤولية كل جيل مسلم عن رعاية جيل الطليعة الإسلامية التي ساهمت في انطلاق الحركة وفي تثبيت القاعدة وامتداد الخط. فكان الأنصار في مستوى المسؤولية ، بحيث أعلنوا عن استعدادهم للمشاركة لهم في أموالهم وديارهم وعن تنازلهم لهم عن حصتهم في الفيء ، وذلك من خلال وعيهم للدور الكبير الذي قام به هؤلاء المهاجرون لمصلحة الإسلام والمسلمين ، مما جعلهم يشعرون لهم بما يشبه الاعتراف بالجميل. وهذا ما أكده القرآن في حديثه عن الأنصار في مشاعرهم الروحية وفي ممارساتهم العملية تجاه المهاجرين.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢١٧.

١١٢

الآية

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩)

* * *

معاني المفردات

(وَيُؤْثِرُونَ) : إيثار الشيء اختياره وتقديمه على غيره.

(خَصاصَةٌ) : الخصاصة الفقر والحاجة. قال الراغب : خصاص البيت فرجة ، وعُبّر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة كما عبر عنه بالخلّة (١).

(شُحَ) : قال الراغب : الشحّ بخل مع حرص وذلك في ما كان عادة (٢).

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٥٠.

(٢) (م. ن) ، ص : ٢٦٢.

١١٣

صفة الأنهار المؤمنين

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) وهي دار الهجرة ، وهي المدينة التي كان يسكنها الأنصار قبل قدوم المهاجرين إليها (وَالْإِيمانَ) فقد تبوؤا الإيمان وسكنوا في مواقعه الفكرية والروحية والعملية ، واطمأنوا إليه وتفيأوا ظلاله ، وهذا التعبير جار على سبيل الاستعارة في ما ارتاح إليه الأنصار من الإيمان بحيث انطلقوا في رحابه ، كما ينطلق الإنسان في رحاب منزله وأرضه ، (مِنْ قَبْلِهِمْ) فقد سكن الأنصار هذه الأرض قبل المهاجرين ، وقيل إن معناه قبل إيمان المهاجرين ، والمراد به أصحاب ليلة العقبة ، وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حرب الأبيض والأحمر.

(يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) وذلك من خلال اندماجهم بالجو الإسلامي الذي يتحسسونه بعمق في مشاعرهم العاطفية ، فيستغرقون في الانفتاح عليه وعلى كل من يتحرك في داخله بالمحبة العميقة (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) في ما قد يجده الإنسان من الضيق النفسي عند ما يأتي إليه شخص يشاركه مسكنه ، أو ماله ، أو يضيق عليه بعض مواقعه ، حتى قيل : إنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بالقرعة ، لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه كان أكثر من عدد المهاجرين.

وهكذا كانت هذه المحبة تمثل العمق الإيماني الذي يتحول إلى عمق في الإحساس والشعور ، بحيث إن الحب يمثل الصورة الحقيقية للإيمان. وقد جاء عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قاله لبعض أصحابه : يا زياد ويحك وهل الدين إلا الحب ، ألا ترى إلى قول الله : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران : ٣١] أولا ترون إلى قول الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ٧] وقال : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ

١١٤

إِلَيْهِمْ) [الحشر : ٩] وقال : الدين هو الحب ، والحب هو الدين (١).

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فهم يتنازلون عن حاجاتهم الشخصية لحساب حاجات المهاجرين ، بحيث يعيشون الحرمان في سبيل إيجاد حالة من الاكتفاء لإخوانهم ، وهذه هي القيمة العليا في القيمة الروحية في البذل والعطاء.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) فيربيها على العطاء ويمنعها من البخل ، لتنفتح على الخير في حياة الناس في ما يحتاج بعضهم إلى بعض من حاجات الحياة ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأنهم يلتقون بالله في مواقع الخير التي يحبها ، فيحبهم الله لذلك ، ويلتقون بالناس في مشاعر الإيمان ، فيتحركون معهم في خطوطه من موقع التفاعل الذي يثيره العطاء في العلاقات الإنسانية الممتدة في حركة الإيمان في الواقع.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢١٨.

١١٥

الآية

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠)

* * *

الجيل الإسلامي الثاني

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) من الجيل الإسلامي الذي أعقب جيل الهجرة وجيل الأنصار ، وهم الذين انفتحوا على مواقع الإسلام القوية فيما بعد الاستقرار أو فيما بعد الفتح. هذا الجيل الذي لم يعش المشاكل الصعبة التي عاشها الجيل الأول في مكة والمدينة ، ولكنه جاء فوجد إسلاما قويا هاديا إلى الله ، منفتحا على الحياة كلها من مواقع الخير ، وتطلع إلى الجيل الذي سبقه ودرس جهاده ، وعاش الأخوة الإسلامية معه ، بالرغم من اختلاف الزمن ، لأن الإسلام هو الخط الواصل بين الأجيال التي تتفاعل مع بعضها البعض من خلالها ، وتفكر بأن حركتها تمثل امتداد الخط في امتداد الزمن ، بحيث يأخذ

١١٦

كل جيل دوره ومكانه في نطاق المرحلة ، لتتكامل المراحل في تحقيق الهدف الكبير ، وهو أن يكون الدين كله لله ، فتكون الحياة خاضعة بمجموعها لله.

وهكذا يقف هذا الجيل الجديد ليأخذ دوره في الانفتاح على الله ، وفي النظرة إلى ما يمكن أن يقع فيه من الأخطاء ، كما وقع الجيل السابق في أمثالها ، لأن طبيعة العمل قد تفرض بعض الأخطاء ، كما أن طبيعة الظروف الموضوعية قد توقع الحركة في بعضها. ولكن المسألة هي أن الأجيال لا تقع صريعة الأخطاء ، ولا تصرّ عليها ، ولا تتعقد منها ، بل تنفتح على الله لتبتهل إليه ليغفر لها من جهة ، وليوفق الجميع للتراجع عنها في المستقبل حتى لا يقعوا في مثلها ، من جهة أخرى. وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية في الآية : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) وامنحنا من خلال ذلك محبتك ورضوانك لتقف كل الأجيال في ظلال رحمتك ، بعيدا عن كل الذنوب والأخطاء ، (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأننا لا نريد أن نحمل في أعماقنا البغضاء والعداوة للمؤمنين ، مهما كانت الأسباب التي تعقد العلاقات فيما بيننا ، لأن الإيمان يفتح القلوب على محبة الله الذي يلتقي الجميع في رحاب حبه ولطفه ، مما يفرض عليهم أن لا يتوقفوا أمام المشاكل التي تحدث فيما بينهم ليتعقدوا منها ، ولكن لينطلقوا بعيدا عنها ، ليكون العفو الذاتي في دائرة العفو الإلهي هو الذي يبتعد بهم عن التعقيد.

(رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فاجعل رأفتك بنا رأفة في قلوبنا لبعضنا البعض ، ورحمتك بنا رحمة منفتحة في أرواحنا على الناس والحياة من حولنا ، لنلتقي بك دائما في مواقع رأفتك ورحمتك لنحصل من خلال ذلك على محبتك ورضوانك ، ونصل في نهاية المطاف إلى جنانك يا أرحم الراحمين.

* * *

١١٧

الآيات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ(١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١٤)

* * *

معاني المفردات

(رَهْبَةً) : الرهبة ، الخشية.

* * *

١١٨

المنافقون في صورة قرآنية

كانت الصورة الوضيئة هي صورة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم ، في ما تتميز به من الروح المخلصة المتحركة في خط الإيمان الصادق ، والتضحية الصادقة ، والموقف الثابت على الحق.

وهذه هي صورة المنافقين الذين تتجلى صورتهم القلقة المخادعة المظلمة في انتهازيتهم التي تتحرك في دائرة منافعهم الذاتية بعيدا عن علاقتهم بالآخرين في نطاق القرب والبعد ، فهم لا يخلصون للمؤمنين ولا للكافرين ، وإن كانت مصلحتهم تلتقي غالبا بالكافرين دون المؤمنين ، فإذا كانت مصلحتهم في سقوط الكافرين أسقطوهم. وهذا ما نلاحظه في الصورة النفاقية المتحركة في قصة بني النضير الذين تحالفوا مع المنافقين في المدينة ، ولكن المنافقين خذلوهم عند ما خافوا على أنفسهم من سيطرة المسلمين ، ورأوا أن المطلوب منهم من قبل اليهود أن يدخلوا معهم في قتال ضد المسلمين ، وهم لا يطيقون الدخول مع أحد في مسألة القتال ، لأن سياستهم أن يكونوا من الجالسين على التل ، الذين يتربصون بالجميع الدوائر ، لتكون النتائج النهائية لحسابهم مع حسابات هذا الفريق أو ذاك أو ضد حسابات الجميع.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) في المدينة ممن أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ، (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في ما هي الأخوة المعقودة بينهم في الموقف ضد الإسلام والمسلمين ، من هؤلاء (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) عند ما طرح الموقف عليهم من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرجوا من ديارهم : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) فإذا كنا قد أخفينا ملامحنا الحقيقية طيلة المدة السابقة للحفاظ على المصلحة المشتركة بيننا ، فسنقف الآن وقفة واضحة حاسمة تؤكد المصير المشترك ، وتدعم موقفكم ، حتى يعرف المسلمون أنكم

١١٩

لستم وحدكم في ساحة الصراع ، وأننا سنذهب معكم ولن نسمع لأحد من أهلنا أو من غيرهم إذا أرادوا أن ينصحونا بمفارقتكم وبالابتعاد عن هذه الموقفة الحاسمة المؤيدة لكم ، لأن المسألة مسألة مبدأ وليست مسألة وضع طارئ في مفردات المواقف ، ليكون هذا احتجاجا صارخا ضد الموقف الإسلامي الذي سوف يرتبك ويهتز أمام المشاكل الداخلية التي يثيرها خروجنا معكم ، باعتبار علاقاتنا العضوية بالمجتمع المسلم في المدينة ، في ما نملكه من علاقات اجتماعية واقتصادية ومواقع عشائرية ، الأمر الذي قد يدفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى التراجع عن موقفه هذا (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ونقاتل معكم ، حتى يكون الموقف في النهاية لمصلحتكم ، لأننا نملك القوة في مواقعنا الاجتماعية.

وهكذا استطاع المنافقون أن يثبّتوا الموقف اليهودي الذي كان يرى ضرورة المواجهة للنبي ، وعدم الخضوع لقرار الجلاء ، في مقابل الموقف اليهودي الآخر الذي يرى ضرورة الانسجام مع القرار ، لأن شروطه في البداية قد تكون أخف من شروطه في المرحلة الثانية ، ولأنهم لا يستطيعون الانتصار في المواجهة ما داموا وحدهم في القتال ، لأن اليهود الآخرين لم يكونوا معهم.

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لأن منطقهم ليس منطق الحقيقة المعبرة عن الموقف ، بل هو موقف النفاق المعبر عن الحالة النفسية المتعاطفة مع هذا الموقف ، في الوقت الذي تنتظر النتائج في مراقبة دائمة للمتغيرات على مستوى مراكز القوة ، حتى إذا رأت القوة في جانب المسلمين ، تركت كل عهودها مع اليهود لتنضم إلى المسلمين في ما تخافه من سطوتهم عليهم.

وبهذا كانوا كاذبين في العهد الذي قطعوه على أنفسهم لليهود ، لأنهم لم يكونوا جادين فيه في حسابات المطلق ، في ما هو الموقف الحاسم الذي يتحرك في خط التضحية ، (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) لأن ذلك سوف يبعدهم

١٢٠