تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

في أجواء السورة

هذه السورة المدنية جاءت لتعبر عن الأثر الذي جاء الرسول من أجل أن يصنعه في المجتمع الأمي الجاهل الذي كان يعيش في مكة ، أو في الجزيرة العربية بشكل عام ، ليؤكد عملية التغيير ، من خلال آيات الله التي يتلوها عليهم ويزكيهم ويثقفهم ثقافة فكرية وعملية بالكتاب والحكمة بعد أن كانوا ضائعين في متاهات الجهل.

وهكذا كان فضل الله عليهم في رفع مستواهم ، ليستمروا في حمل الرسالة كجماعة تلتزم مضامينها في الجانب العملي من حياتها ، حتى لا تكون كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا ، فإن التكريم الإلهي يشمل العالمين العاملين بما يعلمون ، فتلك هي القيمة الحقيقية للإنسان.

وفي ضوء ذلك ، كان اليهود في موقع القيمة الهابطة ، لأنهم لم يتحملوا مسئولية الرسالة التي جاء بها موسى ، وتحركوا من موقع العنصرية ، فاعتبروا أنفسهم أولياء الله ، وتحداهم الله أن يتمنوا الموت الذي يطلّ بهم على ساحة المسؤولية امامه ، ولكنهم لم يتمنّوه ، لأنهم يعرفون النتيجة الوخيمة سلفا. وهكذا يؤكد على المؤمنين أن لا يشغلهم اللهو والتجارة عن ذكر الله وعن

٢٠١

الصلاة في يوم الجمعة التي تمثل اليوم الأسبوعي الذي يجتمع فيه المسلمون لعبادة الله في صلاة جماعية عامة خاشعة. وكان اسم السورة الجمعة ، للحديث فيها عن صلاة الجمعة.

* * *

٢٠٢

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤)

* * *

معاني المفردات

(يُسَبِّحُ) : التسبيح تنزيه الشيء ونسبته إلى الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص.

(الْمَلِكِ) : هو الاختصاص بالحكم في نظام المجتمع.

(الْقُدُّوسِ) : القدوس ، مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة.

٢٠٣

(الْعَزِيزِ) : هو من لا يغلبه غالب.

(الْحَكِيمِ) : هو المتقن فعله ، فلا يفعل عن جهل أو جزاف.

(الْأُمِّيِّينَ) : الأميون جمع أمي وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، واحتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى.

(وَيُزَكِّيهِمْ) : التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النمو الصالح الذي يلازم الخير والبركة.

* * *

تسبيح ما في السموات والأرض الله

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كل بحسب لغته وطريقته في التسبيح (الْمَلِكِ) الذي يملك الملك كله (الْقُدُّوسِ) الذي ارتفع بالقداسة فلا يدانيه أحد (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) في مواقع العزة المطلقة والحكمة الشاملة. وهكذا يعيش الإنسان المؤمن ، مع بداية السورة ، مواقع عظمة الله ، لينصت بخشوع إلى آياته في مواقع حكمته.

وربما استوحى بعض المفسرين مناسبة هذه الصفات لمضمون السورة ، فكلمة «الملك» كانت بمناسبة التجارة التي يسارعون إليها ابتغاء الكسب ، وكلمة «القدوس» بمناسبة اللهو الذي ينصرفون إليه عن ذكره ، وكلمة «العزيز» بمناسبة المباهلة التي يدعو إليها اليهود والموت الذي لا بد من أن يلاقي الناس جميعا والرجعة إليه والحساب ، وكلمة «الحكيم» بمناسبة اختياره الأميين ليبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وهو أمر طريف في جانب الاستيحاء لكنه ليس واضحا في دلالته.

* * *

٢٠٤

الله يبعث في الأميين رسولا منهم

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) ربما كان المراد من الأميين مطلق العرب ، لأنهم كانوا لا يقرءون ولا يكتبون ، في الغالب ، وربما كان المراد بهم حسب التعبير اليهودي عن غيرهم من الأمم أنهم «جوييم» باللغة العبرية ، نسبة إلى الأمم ، باعتبار أنهم شعب الله المختار ، وغيرهم هم الأمم. وربما كان المراد بهم أهل مكة نسبة إلى أم القرى. وقد يكون الوجه الأول أقرب إلى الاعتبار لوجوه عدة. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) ليستمعوا إليها ويتفهموها ، وينفتحوا من خلالها على الأبعاد الواسعة للمفاهيم العامة التي تفلسف لهم نظرية الإسلام عن الألوهية والتوحيد وعن حركة الكون والحياة ، وتقودهم إلى التعرف على المدخل إلى مواقع التغيير في صنع الإنسان الجديد ، (وَيُزَكِّيهِمْ) بالنفاذ إلى أعماق مشاعرهم ليطهرها من كل الرواسب العفنة التي عششت فيها من خلال عصور التخلف ، ومن كل الوحول الفكرية التي تجمعت في داخلها ، من مواقع الجاهلية ، ليكون الإنسان هو الإنسان النقي الصافي الذي ينمو في مشاعره ، كما ينمو في أفكاره وروحيته بين يدي الله في أرض خالصة من كل الشوائب التي تعطل عملية النمو ، أو تحوّل الزرع إلى عناصر مشوهة لا تنتج إلا النتاج الرديء.

وعلى ضوء ذلك ، فإن دور الرسول هو تحريك المفاهيم الإسلامية في عملية تغيير الواقع الداخلي للنفسية العامة للأمة في ما توحي به كلمة «التزكية» ، من أجل أن يكون الإنسان المسلم هو الإنسان الفاعل الذي ينمو ويتطور في اتجاه الخير والبركة للحياة ، كوسيلة عملية لتغيير الواقع الخارجي للحركة العامة للأمة ، وذلك بالوسائل الواقعية المتحركة بالقدوة الحسنة ، والتعويد على الأخلاق الحسنة والسلوك المستقيم.

٢٠٥

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) في ما يمثله الكتاب من المضمون الفكري والشرعي والمنجي على صعيد النظرية الإسلامية العامة ، وفي ما توحي به كلمة الحكمة من تحريك المضمون في خط التطبيق العملي بحيث يتحول الإنسان إلى شخص يفكر بواقعية وحكمة ، فيزن الأمور بموازينها ، ويضع الأشياء في مواضعها ، في ما هو التوازن بين النظرية والواقع ، مما يجعل العلم منفتحا على حركة الواقع في حياة الإنسان ، ويجعل الواقع منفتحا على الكتاب في مسألة الوعي الحركي على أساس المفاهيم القرآنية الجديدة التي تدخل الروح في المضمون المادي فيتروح ، وتدخل الحس في المضمون الروحي فيعيش مع أجواء الحس ، في ما يحدثه من تغيير في مفاهيم الإنسان.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون الجهل والتخلف والعصبيات الضيقة ، كما عبر عن ذلك جعفر بن أبي طالب ـ في ما روته كتب السيرة ـ في خطابه للنجاشي : «أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ، ونسيء الجواز ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفته ، فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ...».

وليس معنى ذلك أن العرب لا يملكون شيئا من الأخلاق الحسنة والعادات الجيدة ، فقد كانت لهم قيمهم العالية ، وعاداتهم الحسنة ، ولكنهم لم ينطلقوا في ذلك من قاعدة فكرية أو روحية واسعة من خلال نظرة شاملة للإنسان في دوره في الحياة وموقعه من الله ، ودوره في عبادته ، وتوحيده له ،

٢٠٦

ورفضه للتخلف في نوعية العقيدة وحركتها في وجدانه ، مما سهل للتفاهات الفكرية أن تنفذ إليه وللضلالات الروحية أن تحكم وعيه ، وللأهواء الضالة الفاسدة أن تسيطر على مشاعره ، بحيث تحولت شخصيته إلى قطع متناثرة ، تأخذ من كل موقع قطعة ، من دون أن يكون هناك أي نوع من الترابط فيما بينها ، بحيث تمثل كلا متكاملا مترابطا في وحدة فكرية أو روحية شاملة. وهذا هو الذي يؤدي بالإنسان إلى الضلال لأنه يفقد الميزان الذي يزن به صحيح الأمور وفاسدها ، والقاعدة التي يرتكز عليها خط حياته في ما يحكم البداية والنهاية.

إن قيمة النهج الإسلامي في تربية الإنسان ، أنه يؤكد على الوحدة الفكرية التي تتفرع عنها كل القضايا ، بحيث تلتقي عندها وحدة الشخصية في نطاقها العملي. وهذا ما استطاع أن يجعل من المسلمين أمة ذات أبعاد ثقافية وروحية وسياسية واقتصادية في مستوى حركة الإنسان في العالم.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) وهم الذين دخلوا الإسلام بعدهم من الأجيال السابقة ، وقد تحدثت بعض الروايات أنهم الفرس ـ في ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها ، فلما بلغ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على رأس سلمان الفارسي وقال : والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء (١). ولكن الظاهر ـ على تقدير صحة الرواية ـ أن المراد بيان النموذج من الأمم الأخرى أو الأجيال الأخرى ، لأن الآية تتحدث عن امتداد الرسالة في المستقبل الذي يحتضن الناس الآخرين من بعدهم. ويؤكده ما روي عن سهل ابن سعد الساعدي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن في أصلاب أصلاب أصلاب

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ١٥٢ ـ ١٥٣.

٢٠٧

رجال رجالا من أصحابي ونساء يدخلون الجنة بغير حساب ، ثم قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) (١).

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) القادر على فرض إرادته من موقع العزة ، الخبير بمواقعها من موقع الحكمة ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) الإشارة بذلك ـ على الظاهر ـ إلى بعث الرسول ، من خلال نتائجه العملية في حياة الناس ، ومن خلال قيمته الروحية في حياة الرسول ، في ما يتميز به من ميزة كبيرة في التقييم الإلهي في ما يمنحه عباده من الفضل الذي يوزعه على من يشاء ، فيمن يستحق الاصطفاء للرسالة والاهتداء للهداية ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على كل خلقه ، في ما خلقهم ورزقهم ودبرهم ورعاهم ودلهم إلى مواقع صلاحهم ، ودعاهم إلى العمل بها وحذرهم من مواقع الفساد في حياتهم ، ونهاهم عن الاقتراب منها.

* * *

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ١٥٣.

٢٠٨

الآية

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥)

* * *

معاني المفردات

(أَسْفاراً) قال الراغب : السفر ـ بالفتح فالسكون ـ كشف الغطاء ويختص ذلك بالأعيان نحو سفر العمامة عن الرأس والخمار عن الوجه ـ إلى أن قال ـ والسفر ـ بالكسر فالسكون الكتاب الذي يسفر عن الحقائق وجمعه أسفار ، قال تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (١) انتهى.

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٢٣٩.

٢٠٩

التوراة ... ومثل الحمار

وإذا كانت القضية في بعث الرسل هي أن يتعلم الناس الكتاب والحكمة ، ويطهروا أنفسهم ويزكّوها ، ليحصلوا على الطاقة الروحية التي تمنحهم امتدادا في جانب العمل ، فقد جاءت هذه الآية لتثير أمام المسلمين مسألة اليهود الذين أرسل الله إليهم التوراة التي بلّغهم إيّاها موسى وعلمهم مضامينها ومفاهيمها ، ولكنهم وضعوها في حياتهم كواجهة قومية في ما أرادوا أن يتحركوا فيه من ذهنية عنصرية لا ترتبط بالجانب الفكري والروحي للتوراة في مضمونها العملي ، بل ترتبط بها من الجانب التاريخي الذي يقدمها كتراث قومي لا مكان للإنسانية الأخرى فيه.

وهكذا أطلق الله هذا المثل ليقدمه للمسلمين الذين قد يتحولون إلى ما يشبه الوضع اليهودي في الأخذ بالقرآن شكلا لا مضمونا ، كما قد يأخذون به في صفته القومية باعتبار أنه جاء باللسان العربي على يد رسول عربي ليقول لهم إن مثلهم سيكون كمثل اليهود ، لأن العمق في القضيتين واحد ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، فإن الآية قد تلاحظ كمقدمة للخطاب التالي لليهود ، في ما يدعونه لأنفسهم من ميزة التفوق على بقية الناس في قربهم من الله ، (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) وتعلموها وفهموا مضامينها ، (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) فلم يحولوها إلى مشروع عملي للتغيير الداخلي ، وخطة متحركة لتحويل الواقع من واقع خاضع للفساد والانحراف إلى واقع منطلق مع الصلاح والاستقامة ، ليكونوا قريبين إلى الله من خلال العمل بأوامره ونواهيه ، في ما تأمرهم به التوراة أو تنهاهم عنه.

وهكذا كان مثلهم في عدم الانتفاع بها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)

٢١٠

وهي الكتب التي تتضمن العلوم والمعارف ، فتثقل ظهره كما تثقل التوراة أذهانهم ، ولكنه لا يعقل منها شيئا ، فلا تتغير حماريته بذلك مهما بلغت من الكثرة ، وهكذا لا تنتفع إنسانيتهم ولا حياتهم في مجراها العملي بما يملكون من ثقافة التوراة ، لأنها لا تزيد عن أن تكون مجرد كتاب وضع في مكتبة الإدراك الذهني من دون أن يتحول إلى حالة وجدانية شعورية تتصل بالإحساس العملي الحي.

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) وهم اليهود الذين كذبوا النبي في رسالته ، فأنكروا الوحي القرآني بعد أن أقام النبي عليهم الحجة البالغة في ذلك ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، وظلموا الحياة من حولهم بالوقوف ضد امتداد الحقيقة من خلال امتداد الرسالة في حياة الناس ، لأن مسألة الهداية مرتبطة بالإرادة الإنسانية للأخذ بأسبابها ، فإذا رفضها الناس فلا بد من أن تكون النتائج سلبية في هذا الاتجاه ، ولم يتكفل الله للظالمين من عباده أن يهديهم إلى الحق بطريق المعجزة ، بل وكلهم إلى أنفسهم ليلاقوا مصيرهم من خلال سوء اختيارهم ، في الوقت الذي وعد فيه المهتدين الذين يأخذون بأسباب الهدى أن يزيدهم هدى ويهديهم إلى المواقع العالية من رضاه.

* * *

٢١١

الآيات

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨)

* * *

القرآن يتحدى وهم اليهود بأنهم الشعب المختار

لقد عاش بنو إسرائيل حياة ذاتية معقدة ، بعد الاضطهاد الذي عاشوه في كثير من المواقع ، فلما جاءتهم النبوات التي بدأت منذ موسى في صيغتها العامة البارزة ، تحولت العقدة إلى حالة عنصرية ، تفاعلت فيها الكثير من العوامل والظروف المحيطة بهم ، حتى خيل إليهم أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أولياء الله وأحباؤه ، وأن الله جعل الدار الآخرة خالصة لهم ، وقالوا لن

٢١٢

يدخل الجنة إلا من كان هودا. وتطور الوضع إلى أن بدأت هذه الفكرة تتحول إلى اتجاهات عدوانية ضد الأمم ، فكانوا المتأمرين والدساسين والمخربين. وقد عرض القرآن لهذه الفكرة في أكثر من آية ، وناقشها ، وتحدث إليهم بكل وضوح بأنهم بشر ممن خلق ، وليست لهم أية ميزة ذاتية أو إلهية في أي جانب من الجوانب. وهذه من بعض الآيات التي جاءت على سبيل التحدي الوارد من قبيل المباهلة ، التي تريد أن تتحدى كل المشاعر الداخلية التي تلتقي فيها مسألة الحياة والموت ، لتكشف زيف الإيمان الذي يدعونه ، وبطلان الموقع الذي يضعون أنفسهم فيه.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) وانتموا إلى اليهودية التي تمثل الرسالة الإلهية التي أنزلت على موسى : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) في ما تزعمونه لأنفسكم من المنزلة الكبيرة عند الله ، لأن الله اختاركم من بين عباده لتكونوا شعبه الذي يحبه ويختاره ويقربه إليه ، فتكون لكم الدرجة العليا التي تميزكم عن الآخرين ، (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأن الإنسان المؤمن لا يكره لقاء الموت إلا من جهة خوفه من حساب الله ، في ما أخطأ فيه من ذنوبه وفي ما مارسه من المواقف التي تبعده عنه ، أما إذا كان واثقا من قربه إلى الله وسلامته من العقاب ، وحصوله على الثواب ، فإنه يتمنى الموت ليحصل على نعيم الله ورضوانه في رحاب جنته ، وبذلك تكون الآخرة خيرا له من الأولى.

وعلى ضوء هذا ، فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه المنزلة الرفيعة عند الله ، فتمنوا الموت ، واقتحموه في ساحات الجهاد ، وانطلقوا إلى كل مواقع الخطر في سبيل الله ، (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فقد عرفوا من خلال الواقع الذي يعيشونه أنهم غير صادقين في ما يدّعونه ، بل كل ما هناك أنهم أرادوا أن يفرضوا الاستعلاء العنصري اليهودي على الناس من موقع القداسة ، من دون أن يكون هناك أية حقيقة في ذلك ، مستغلّين جهل الناس بالتوراة ، وبعدهم عن المعرفة الدينية ، كما نراه لدى الكثيرين الذين يعملون على تغذية

٢١٣

أوهام الناس بكثير من المفاهيم الساذجة التي تثير التهاويل في ذهنية العوام ، لتأكيد موقع شخصيّ مميّز أو قوميّ بارز أو عنصريّ معقد ، ليقدس الناس الخرافة باسم الحقيقة والوهم باسم اليقين والانحطاط باسم التقدم.

وهكذا كان اليهود بين تيارين ، أحدهما لا يؤمن بالآخرة ، ولهذا فإنه ليس مستعدا لأن يقترب من الموت الذي لا يمثل عنده أي موقع للانفتاح عما بعده ، وثانيهما يؤمن بالآخرة ، ولكنه يعرف النتائج الوخيمة التي يواجهها في مصيره ، على أساس الأعمال السيئة التي قام بها في حياته. وهذا ما تريد الآية أن تؤكده لتختم ذلك بقوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس من حولهم ، وانحرفوا بالحياة عن سبيل الله ، فهو يعلم سرهم وعلانيتهم. وتتابع الآيات كشف المصير الذي ينتظر هؤلاء وأمثالهم في الآخرة عند ما يقفون غدا في ساحة الحساب المحتوم ، أمام الله.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) في عملية الاستغراق بالهروب بالابتعاد عن مواقع الخطر ، أو بالمواقف الاستعراضية (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) في ساعة الحقيقة الحاسمة ، لأنه لا خلود لأحد في هذه الدنيا ، (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لتواجهوا العذاب في المصير الأسود الذي ينتظر المجرمين.

* * *

٢١٤

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

* * *

معاني المفردات

(فَاسْعَوْا) : السعي هو المشي بالإسراع.

(فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) : الانتشار في الأرض : التفرق فيها.

(تُفْلِحُونَ) : الفلاح ، النجاة من كل شقاء.

(انْفَضُّوا) : الفضّ : كسر الشيء والتفريق بين بعضه وبعضه كفضّ ختم

٢١٥

الكتاب وعنه أستعير انفض القوم (١).

* * *

صلاة الجمعة والسعي إلى ذكر الله

وهذا نداء قرآني يحمل المسلمين حضور صلاة الجمعة التي أرادها الله أن تكون صلاة جامعة ، يلتقي فيها الناس في منطقة واسعة تمتد إلى فرسخين ، على عبادة الله المنفتحة على المفاهيم الإسلامية العامة التي يقف الخطيب ليؤكدها للناس في ما تحتاجه دنياهم وآخرتهم مما يهتمون به ، أو مما ينبغي الاهتمام به ، وذلك في خطبتين تقومان مقام ركعتين ، مما كان يؤديهما المؤمن في صلاة الظهر بدلا عن الجمعة ، لأن صلاة الجمعة ركعتان تسبقهما خطبتان ، مما يوحي بأن الحديث الوعظي والتوجيهي ، حتى في المجالات السياسية المتصلة بحياة المسلمين يمثل لونا من ألوان الصلاة حتى أنه يكون بديلا عنها. وقد أكد الله على هذه الصلاة ، كما لم يؤكد على صلاة غيرها ، بحيث ألغى الأعمال الأخرى التي تعيق المؤمن عن حضورها ، إلا ما كان يدخل في نطاق الضرر أو الحرج أو الاضطرار ، مما رفع الله مسئوليته عن المكلف ، فحرم البيع في وقت النداء إليها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في استثارة وجدانية لعمق الإيمان في وجدانهم ، ليتحملوا مسئولية فرائضه في التزام ثابت لا تختل مواقعه أمام أية حالة من حالات الاهتزاز الداخلي والخارجي ، وذلك من جهة الإلحاح على استعادة هذه الصفة في شخصيتهم ، وتحريكها في حياتهم ، لئلا تشغلهم الأوضاع المحيطة بهم ، والصفات الأخرى الطارئة على حياتهم عن ذلك.

(إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) لإقامة هذه الصلاة في جموع

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٩٥.

٢١٦

المسلمين ، ليلتقوا جميعا ـ باسم الله ـ في عبادة الله المنفتحة على قضايا الحياة العامة ، (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) والمراد به الصلاة التي تمثل التجسيد الحي المتحرك لذكر الله في حركاتها وسكناتها وقراءتها وأذكارها ، وقيل : إن المراد به الخطبتان قبل الصلاة ، باعتبار أنهما تشتملان على ذكر الله ، وعلى تذكير الناس به وبموقعهم منه ، (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فقد حرمه الله ، لأن القضية في هذا الوقت هي أن يلتقي المسلمون جميعا في عبادة جماعية لا في عبادة فردية ، ليأخذوا الرخصة في الانفراد بها بعيدا عن جماعة المسلمين.

وإذا كان الله قد نهى عن البيع وقت النداء لأنه يمنع المؤمن من الصلاة ، فإن معنى ذلك أن النهي يشمل كل عمل مماثل للبيع في هذه الجهة. وربما كان ذكر البيع بخصوصه ، باعتبار أنه الغالب على الناس آنذاك في ما يشغلهم أمره عن الصلاة. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لأن النتائج الروحية والعملية التي تحصلون عليها من خلال هذه الصلاة العبادية الثقافية المنفتحة على الجانب الاجتماعي والسياسي ، لا تقدر بثمن ، بحيث لا قيمة لما يربحه الإنسان من الأعمال الأخرى التي ينشغل بها عن الصلاة ، أمام الربح المعنوي والمادي الذي يحصل عليه في الحاضر والمستقبل ، من خلال النتائج الواقعية للصلاة على أكثر من صعيد.

* * *

الانتشار لطلب الرزق

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لتطلبوا الرزق في سهولها وجبالها من كل مواقعه ، (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) الذي تفضل على عباده فتكفل برزقهم ، في غامض علمه ، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون. وفي هذا نوع من الإيحاء الروحي بأن مصادر الرزق كلها بيد الله ، وأن الإنسان الذي

٢١٧

يتطلبها ويسعى إليها إنما يرجو فضل الله الذي يملك الرزق كله في مصادره وموارده.

وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في ما رواه عمر ابن يزيد عنه قال : إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله ، ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال ، أما تسمع قول الله عز اسمه : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا وطيّن عليه بابه ثم قال : رزقي ينزل علي أكان يكون هذا؟ أما إنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم. قال : قلت : من هؤلاء؟ قال : رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها ، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنه ترك ما أمر به ، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته ولا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو فلا يستجاب له (١).

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) فلا يكون الذكر مجرد حالة طارئة في حياة الإنسان ، في ما يمارسه من صلاة معينة في وقتها ، أو من ذكر واجب أو مستحبّ ، في زمان معين ، بل يكون حالة مستمرة يستشعرها الإنسان في قلبه ولسانه وحياته ، حتى يكون حضور الله في حياته ، هو الحضور الحي الذي يشمل الكيان كله ، بحيث لا يرى شيئا إلا ويرى الله معه ، فتتماسك أقواله وأفعاله ، وتتوازن خطواته ، ويستقيم سبيله في آفاق الله ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإن الارتباط بالله المنفتح على جانب العقيدة والعمل هو سبيل الفلاح الوحيد للإنسان في الدنيا والآخرة ، لأنه هو الذي يؤكد التقوى الفكرية والروحية والعملية في كل مواقع حياته ، وقد جاء في الآية الكريمة : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : ٢٠٠].

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢٨٨.

٢١٨

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) جاء في أسباب النزول في ما رواه في عوالي اللآلي عن مقاتل بن سليمان قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، إذا قدم دحية الكلبي من الشام بتجارة ، وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق إلا أتته ، وكان يقدم ، إذا قدم ، بكل ما يحتاج إليه الناس من دقيق وبرّ وغيره ، ثم ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج الناس فيبتاعون منه.

فقدم ذات جمعة ، وكان قبل أن يسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب على المنبر ، فخرج الناس فلم يبق في المسجد الا اثنا عشر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء ، وأنزل الله الآية في سورة الجمعة (١).

* * *

كيف نستوحي هذه الآية؟

وقد يكون وحي هذه الآية ، في ما يريد أن نستوحيه ، أن الله سبحانه يريد أن يتحدث إلينا دائما عن نقاط الضعف في الواقع الإسلامي الديني للجيل المسلم الأول من الصحابة ، ليؤكد لنا أن وجود نقاط الضعف في كل جيل مسلم لا يلغي إسلاميته ، ولا يخفف من مسئولية القيادة على التعامل معه ، والالتفات إلى نقاط القوة الأخرى الموجودة في داخله لدى الأفراد الآخرين ، أو لدى الأفراد أنفسهم الذين يعيش الضعف في داخلهم. ثم تنطلق القيادة لتوجه وترشد وتقود من خلال كلام الله ، ومن خلال القدوة ، أو من خلال الترغيب والترهيب.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٢١٩

وقد يكون من الملفت للنظر أن يكون المسلمون في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يخطب فيهم في صلاة الجمعة ، ليوجههم نحو مواقع الفلاح والسمو في الدنيا والآخرة ، ويدق الطبل التجاري أو الطبل اللهوي ، فينفضون عنه ، ليبقى النبي وحده أو مع جماعة قليلة. ولكن المسألة هي أن الناس هم الناس في كل زمان ومكان ، وأن على العاملين في خط الدعوة والجهاد في سبيل الله أن يدرسوا الإنسان في طبيعته ، في نقاط ضعفه وقوته ، فلا يصيبهم الإحباط إذا واجهوا بعض الانحرافات الطارئة أو القوية لدى المؤمنين أو المجاهدين ، ولا يسيطر عليهم اليأس ، بل يواجهون الموضوع في مؤثراته الواقعية الإنسانية ، وذلك من خلال أن الأديان والمبادئ لا تتحرك على أساس التنفيذ الشامل ، بل على أساس التنفيذ المتحرك الذي قد يتجمد في بعض الحالات ، وقد ينطلق في حالات أخرى ، بشكل سريع تارة وبطيء أخرى ، لأن الإنسان لا يمكن أن يكون خاضعا لحالة ثابتة دائمة مع اختلاف الظروف والأوضاع والمؤثرات الداخلية من حوله ، مع طبيعة الغفلة أو التذكر اللذين يتواردان عليه في مسألة الإيمان ، فيتركان تأثيرهما عليه تبعا للنتائج المترتبة على هذا أو ذاك ، مما يفرض التعامل مع حركة الإسلام في الإنسان بمنطق الواقع الذي يدفع بالكلمة الهادئة تارة ، والقوية أخرى ، والمضمون الفكري في حالة والمضمون العاطفي الشعوري في حالة أخرى. وهذا ما واجه به القرآن هؤلاء الذين تركوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته وصلاته ، واندفعوا إلى اللهو والتجارة ، فاكتفى بتسجيل الانحراف العملي عليهم ، ثم بادرهم بالكلمة الوعظية الموجهة التي تدعو إلى التفكير الهاديء والتأمل العميق في ما هي النتائج النهائية على مستوى المصير.

* * *

٢٢٠