تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

الآية

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١)

* * *

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

وهذه هي الحقيقة الإيمانية التكوينية التي تجسد النظام العام للتدبير الإلهي لحركة الكون والحياة والإنسان ، والتي تقرر بأن الحوادث المتنوعة في حياة الإنسان خاضعة للقوانين الإلهية التي تحرك الوقائع ، في ما يمثل السنن الكونية والاجتماعية ، فلا مجال لأية حادثة إلا من خلال التقدير الإلهي لها ، سواء كان ذلك بسبب مباشر أو غير مباشر.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) مما يحدث للإنسان في جسده ، أو في عقله ، أو في ما يتعلق به من شؤون حياته في علاقته بالآخرين ، وبالأمور التي تختص

٢٦١

به من شؤون البلاء العامة أو الخاصة ، (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) في ما تمثله الأسباب الواقعية في نطاق سنن الله ، وذلك في طبيعة الوجود التكويني ، مما يوحي بأن الكون كله خاضع للسيطرة الإلهية في الإدارة والتدبير. وليس معنى ذلك أن هذه المصائب التي تحدث للإنسان موضع رضا الله ، من الناحية التشريعية ، لأن المسألة ليست مسألة الفعل المباشر من الله ، بل هي مسألة السبب الذي جعل الله إدارته بيد العباد ، وجعل العلاقة بينه وبين النتائج علاقة قانونية متصلة بالسنن العامة ، ولذلك نهى الله الإنسان عن إيجاد بعض الأسباب ، ودعا البعض ، الذين تمثل الأسباب بالنسبة إليهم لونا من الظلم والعدوان على النفس والمال والعرض ، إلى مواجهتها والثورة عليها بأسبابهم الخاصة ، بالمستوى الذي يعمل على منعها والتمرد عليها.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) لأن الإيمان بالله يفتح القلب على آفاق الله في عظمته ورحمته وألطافه المتعلقة بعباده ، مما يؤدي إلى أن يتحرك القلب في طريق الهداية بشكل طبيعي ، لأن الأسس التي ترتكز عليها الهداية كامنة في داخل العناصر الإيمانية. وبذلك ، تكون الهداية من الله ناشئة من أسبابها الطبيعية ، بالإضافة إلى بعض الألطاف الإلهية التي تزيد الهداية نموا أو إشراقا وعمقا في العقل والوجدان ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) في ما يحيط به من علاقات الأشياء ببعضها البعض ، وارتباط المسببات بأسبابها ، وحركة الإنسان في داخل عقله وروحه.

* * *

٢٦٢

الآيتان

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣)

* * *

إطاعة الله والرسول

وهذا هو الخطاب الذي يوجهه الله إلى المؤمنين أو إلى الناس كافة من موقع الشرط الأساس للإيمان ، فلا إيمان بدونه في ما يتمثل فيه التوحيد بالخط العملي والانفتاح القلبي على التسليم المطلق من خلال الثقة المطلقة بالله.

(وَأَطِيعُوا اللهَ) في ما شرّعه من شرائع الدين في كتابه ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في ما يأمركم به أو ينهاكم عنه من الأوامر والنواهي التي أوكل الله أمرها إليه في شؤون التشريع وفي أمور الولاية. فذلك هو المظهر الحقيقي للإيمان الذي لا يتمثل حالة في العقل فقط ، بل يتحول إلى حالة في الممارسة

٢٦٣

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وأعرضتم عن ذلك ، وانحرفتم عن الخط المستقيم ، وانطلقتم لتخططوا لأنفسكم خطا ذاتيا في خطّ السير ، أو لتتبعوا شرائع الآخرين وأفكارهم في حركة الانتماء والتشريع والممارسة ، فلن يكرهكم الرسول على القبول بالانسجام معه في خطّ الطاعة ، في ما هو أسلوب الدعوة القائم على مخاطبة الإنسان على أساس الإرادة الحرة في اختيار الموقف ، ليتحمل مسئوليته في الجانب السلبي أو الإيجابى ، تبعا للموقف الذي يتبناه ، حيث تكون مهمة الرسول ، أو الداعية الذي ينطق باسم الرسول القيام بتقديم كل الوسائل التي تدفع إلى تكوين القناعة لمصلحة الدعوة ، وتوفير كل الأجواء الملائمة لذلك ، بالكلمة والأسلوب ، (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) من دون ضغط أو إكراه.

وهكذا تؤكد هذه الفقرة من الآية من أن هناك طاعة للرسول ، بالإضافة إلى طاعة الله. ولكن ذلك لا يعني أن هناك استقلالا مولويا في ما يمثله الرسول في أوامره ونواهيه ، بل يعني أن الله أوكل للرسول أمورا معينة في تفاصيل التشريع وفي شؤون الولاية ، مما يجعل هناك نسبة خاصة في الموضوع إلى الرسول الذي لا ينطلق في ذلك إلا من خلال الخطوط الواضحة التي وضعها الله ، وأراده أن يسير عليها ، ويتحرك من خلالها ، بحيث تكون طاعته امتدادا لطاعة الله ، وهذا ما جاء في الآية الكريمة (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [النساء : ٦٤] وقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠].

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهذه هي الحقيقة التوحيدية التي لا بد من أن تلتزموها في خط التصور العقيدي ، وفي حركة الطاعة العملية ، لتكون الطاعة لله في الخط المباشر لمعنى التوحيد ، وتكون الطاعة للرسول من خلال صفته الرسالية المتصلة بالله تأكيدا لذلك. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

٢٦٤

ليتوجهوا إليه في كل المواقع القلقة التي تثير القلق في نفوسهم عند ما يواجهون المجهول في ما حولهم ، مما يخافون من تهاويله التي لا يستطيعون الوصول إلى طبيعتها ، أو يتطلعون إلى المستقبل الذي لا يعرفون ماذا يحمل لهم من متاعب ومشاكل ، لأنهم لا يعرفون أعماق الغيب ، بعد أن قاموا بكل الشروط الموضوعة في تصرفهم ، في ما يتعلق بتهيئة الأسباب الطبيعية للوصول إلى النتائج. وهنا يأتي التوكل على الله ، بتسليم الأمر إليه من خلال الثقة بقدرته على كل مواقع الخوف ، واطلاعه على مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ، ليشعر الإنسان بالثقة والاطمئنان إلى كل المناطق الخفية في حياته ، الغارقة في عالم الغيب الخاضع لله.

* * *

٢٦٥

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤)

معاني المفردات

(تَعْفُوا) : عفا : قال الراغب : عفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه (١).

(وَتَصْفَحُوا) : الصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو ، ولذلك قال الله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٢) [البقرة : ١٠٩](وَتَغْفِرُوا) : الغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب.

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٥١

(٢) (م. ن) ، ص : ٢٩٠.

٢٦٦

الحذر من الخلفيات العدوانية لبعض الأزواج والأولاد

إن للعاطفة دورها الكبير في حياة الإنسان الشعورية ، بحيث تقوده إلى الاستغراق العاطفي في الناس الذين يتصلون به بصلة القربى النسبية ، أو العلاقة الزوجية المنطلقة في الجانب الغريزي ، والعنصر العاطفي الحميم في ذاته ، فيغفل عن الخلفيات العدوانية التي قد تكون كامنة في داخل هؤلاء لا سيما الأزواج والأولاد. وهذا هو ما تريد الآية أن تثيره في وعي الإنسان المؤمن كوسيلة من وسائل الحذر الواقعي في مواجهته لهذه المسائل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الذين يريد الله لهم أن يكونوا الواعين الحذرين المنفتحين على حقائق الواقع في العمق لا في السطح ، في ما يتصل بالعلاقات الخاصة التي تحيط بالجانب العاطفي في حياتهم.

(إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) كما يحذر الإنسان من عدوه في تعامله معه ، ولا تستسلموا لهم استسلاما عاطفيا لتوافقوا على ما يطلبونه منكم في شؤون الدين والدنيا ، فقد يختفي في داخل كل واحد منهم ما عدو خفيّ يريد أن يورطكم في غير مصلحتكم ويدفعكم إلى البعد عن الله ، في ما هي المسؤولية الشرعية في الدعوة إلى دينه ، وفي الالتزام به ، وفي الجهاد في سبيله ، فيزين لكم القعود والانحراف ، والدعوة إلى سبيل الشيطان للحصول على متاع الدنيا من أهلها الذين يملكون الجاه والمال والسلطان ، فتدخلون جهنم بسبب ذلك من خلال ما تحصلون عليه من غضب الله وسخطه. وربما كانت دعوتهم إلى بعض الأوضاع والخطط المتصلة بمصالحهم الذاتية في شؤون الأوضاع الاقتصادية أو السياسية أو نحوها مما لا مصلحة لكم فيه ، أو مما تقعون فيه في مضرّة كبيرة ، كما يحدث في الاقتراحات التي تدعو إلى إنفاق المال في غير محله ، أو في الموارد المحرمة

٢٦٧

منه ، أو البخل به عمن يستحقونه ، أو في موارده الواجبة ، أو في غير ذلك ، وكمعاداة من تحسن موالاته ، أو موالاة من يريد الله معاداته ، وكالدخول في بعض المحاور السياسية الضالة أو الكافرة مما لا يجوز للمؤمن الدخول فيه ، وكتأييد بعض المواقف التي يجب رفضها أو رفض المواقف التي يجب تأييدها ، ونحو ذلك من الأمور التي قد يطلب الأزواج والأولاد القيام بها لقصر نظر ذاتي ، أو لشهوة حسية ، أو لطمع ماديّ ، أو نحو ذلك.

وهكذا في الأمور العاطفية وغيرها ، فكونوا على حذر من ذلك كله ، حيث تناقشون كل القضايا المطروحة عليكم أو الطلبات المقدمة منهم لتدرسوا فيها جانب المصلحة أو جانب المفسدة ، ليكون قبولكم عن تأمل ودراسة عميقة ، وليكون رفضكم عن وعي وتدبر.

وإذا كانت الآية تتحدث عن الأولاد والأزواج ، فإنها لا تتحدث عن خصوصيتهم ، بل تتحدث عن المنوذج الذي يرتبط بالإنسان المؤمن ارتباطا عاطفيا ، في ما يمكن أن يقوده إليه من الضلال من هذا الموقع العاطفي.

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد جاءت هذه الكلمات لتثير في نفس الإنسان هذه المعاني التي تلتقي بالابتعاد عن كل النوازع النفسية السلبية أو كل الأعمال القاسية ضدهم في حال اكتشاف عدواتهم ، لأن طبيعة الصلة القريبة قد تجعل من هذه المواقف الداخلية أو الخارجية مشكلة صعبة ، تربك حياة الإنسان وتعقّد علاقاته ، وترهق عاطفته ، الأمر الذي أراد الله من خلاله أن يخفف عن الإنسان تأثيرات الموقف عليه في التزامه بموقف العداوة العملي الذي توحي به الآية ، في ما يمكن أن يستوحيه الإنسان من مسئولية الموقف ، فكان هذا التوجيه التسامحي لونا من ألوان التأكيد بأن اعتبار هؤلاء أعداء لا يعني ضرورة مواجهته بالشدة وبالأخذ بالذنب ، كما يواجه الإنسان عدوه ، بل كل ما يعنيه هو الوقوف موقف الحذر

٢٦٨

الذي يتخذه الإنسان من عدوه ، في عدم الاستسلام له ، وعدم الاسترخاء أمامه.

وإذا غفر الإنسان لقريبه ، فإن الله قد يغفر له إذا أصلح أمره ، ولم يمتدّ به الانحراف بعيدا.

وربما كان الإيحاء بالمغفرة والرحمة الإلهية لمن عفا وغفر للمذنبين معه ، بمعنى أن الله يجزي الذين يمارسون العفو عمن أساء إليهم بعفوه عنهم.

وربما كان ذلك على أساس تخفيف وقع استحباب المغفرة والصفح والعفو عن هؤلاء الذين ظهرت عداوتهم في أكثر من موقع ، وذلك بالإيحاء بأن هذه هي صفات الله ، والتي تمثل القيمة العليا في أخلاق الإنسان العملية.

وقد جاء في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ـ محمد ابن علي الباقر ـ عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) وذلك أن الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به ابنه وامرأته وقالوا : ننشدك الله أن لا تذهب عنا فنضيع بعدك ، فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا.

فلما جمع الله بينه وبينهم ، أمر الله أن يتوقّى بحسن وصله لهم فقال : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٣٢٣.

٢٦٩

الآيات

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

* * *

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) يمتحن الله بها عباده ، ليختبر كيف يتصرفون في أموالهم وأولادهم في مواقع طاعته ، وكيف يواجهون الحالة النفسية المنجذبة إلى المال ، في ما يمثله من الامتيازات التي يحقق بها الإنسان مطامحه ومطامعه ، والذي يروي به شهواته وملذاته ، ويكسب به الجاه العظيم والمنزلة الرفيعة لدى الناس الذين يعيشون المال كقيمة مادية كبيرة في الحياة ، مما يجعل الإنسان يحافظ عليه ، فلا ينفقه في ما أمر الله به من موارد الإنفاق ،

٢٧٠

أو يأخذه من غير حله ، فلا يهمه أن يكون مصدره حراما أو حلالا ، الأمر الذي يمثل لديه الموقف الصعب في الالتزام بالخط الشرعي في موارده ومصادره. وهكذا يختبر الله الإنسان في أولاده الذين هم زينة الحياة الدنيا ، في الفرح العاطفي الذي يمتلئ به قلبه وتهتز به مشاعره عند ما ينطلق إليهم في استغراقه الروحي العاطفي ، وفي الشعور العميق بأنهم يمثلون امتدادا لحياته عند ما تنقطع به الحياة ، فيخيل إليه أنه موجود بوجودهم ، فيدفعه ذلك إليه أن يعصي الله في رضاهم ، وأن يقوم ببعض الأعمال التي تحقق لهم بعض المنافع والمطامع على حساب تكليفه الشرعي. وربما يسيء تربيتهم خوفا من مشاعرهم الرافضة للخط المستقيم ، فيخون أمانة الله في ذلك ، في ما أراده الله منه ، في توجيههم نحو الخلق السليم والدين القويم والطريقة المستقيمة في الحياة. وليس ذلك إلا من خلال انجذابه الروحي إليهم ، واندفاعه العاطفي نحوهم ، حتى ليبذل حياته في سبيل حياتهم ، فيغفل عن واجباته ، وينسى موقفه من ربه ومقام ربه منه.

ومن هنا ، كان التأكيد على عنصر الفتنة في الأموال والأولاد ، ليتعامل الإنسان في ذلك كما يتعامل مع كل فتنة تفتنه عن الله وعن مسئولياته في الحياة ، ليؤكد وعيه المنفتح على الله ، وعقله المنطلق مع العمق العميق من مصلحته الحقيقة في حسابات الدنيا والآخرة ، وليوازن بين المصلحة الفانية التي قد تخفي في داخلها الكثير من الآلام والمفاسد في ما يأخذ به من شهوات الدنيا التي يحبها ويرغبها ، وبين المصلحة الباقية في ما يقبل عليه من رضوان الله ورحمته في الآخرة ، إذا أخذ بأسباب الرضوان والرحمة في عمله ، فتعامل مع ماله وولده بما يرضي الله ، وابتعد عما يسخطه ، متحملا في ذلك بعض التضحيات الذاتية ، وبعض الآلام العاطفية ، لتتحول أمواله في الدنيا إلى حسنات في الآخرة ، فيبقى له منها ما يكون ذخرا له عند الله ، وليكون أولاده من أولياء الله الذين يبقى له أجرهم في الآخرة ليعيشوا معه في جنة الله ، لأن الله

٢٧١

يجمع الصالحين مع ذرياتهم يوم القيامة في دار النعيم. وهكذا يتحرك الإنسان المؤمن في كل ما يملكه من حطام الدنيا ، وفي ما يأخذ به من زينتها ، لينظر إليه في مواقع المسؤولية التي تقربه من الطاعة ، وتبعده عن المعصية ، وليطلب به الأجر العظيم عند الله ، (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) في ما وعد به عباده من الثواب على طاعته.

* * *

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لأن تقوى الله هي الغاية التي ينبغي للإنسان أن يبلغها في حركة المسؤولية في حياته ، بحيث يشعر بالحضور الإلهي من جميع جوانبه ، في مواقع المراقبة والمحاسبة والمجاهدة ، فتستقيم بذلك خطواته في الطريق المستقيم.

وإذا كان الله قد أمر بالتقوى بقدر الاستطاعة ، فليس المقصود تحديد التقوى بهذا الحد ، بحيث لا تحسن التقوى في ما وراء الاستطاعة ، بل الظاهر أن المقصود بها هو بذل كل الجهد في ما تقوم به الطاقة الإنسانية في هذا السبيل ، في إيحاء خفي بأن عليه تنمية طاقته فيها كلما استطاع الاستزادة منها ، لأن التقوى تمثل القيمة العليا في ميزان القيمة عند الله. وبهذا لا يكون هناك أي تناف بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] التي قد يستوحي منها البعض لزوم أن تكون التقوى بالقدر الذي يستحقه الله في موقع ألوهيته وربوبيته ، مما يتجاوز حد الطاقة الإنسانية الطبيعية ، لأن الظاهر منها هو التأكيد على نوعية التقوى التي تمثل جانب العمق في الالتزام ، بحيث لا يكتفي الإنسان بالجانب السطحي الذي يرتبط بالصورة والشكل ، بل ينفذ إلى المضمون الروحي المنفتح على الله في مواقع عظمته في داخله ،

٢٧٢

بحيث يخشع قلبه أمام ذكره كما تخشع جوارحه. بينما تمثل هذه الآية استيعاب كل موارد الطاقة ، مما يجعل النظر فيها إلى الكم ، بينما تؤكد تلك الآية على النوع ، والله العالم.

(وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا) فالسمع يفيد هنا الاستجابة الروحية والقلبية لأوامر الله ونواهيه ، أي على الصعيد الداخلي ، والطاعة تشكل التعبير الحي للانقياد العملي ، في حين أن الإنفاق هنا يمثل بذل المال في سبيل الله.

وهذا هو المظهر الحي للتقوى. (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) قال في الكشاف : «نصب بمحذوف تقديره : ائتوا خيرا لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها وأنفع» (١) ، ويحتمل أن يكون «أنفقوا» متضمنا معنى قدموا أو ما يقرب منه بقرينة المقام.

وقد جاء هذا التأكيد للإيحاء بأن الجهد الذي تبذلونه في الالتزام القلبي والعملي ، والتضحية التي تقدمونها في بذل المال في سبيل الله ، لا يمثل شيئا من الخسارة في ما يمكن أن توحي به إليكم وساوسكم الشيطانية ، لأن الثواب الذي تحصلون عليه من الله ، والسمو الروحي الذي ترتفعون إليه في ذلك ، يمثل الربح كل الربح ، والفوز العظيم.

* * *

البخل مانع من الخير

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الشح : البخل ، وهو الصفة الذميمة التي إذا عاشت في وجدان الإنسان منعته عن كل خير ، في ما يريد الله

__________________

(١) الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر (الخوارزمي) ، الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ٤ ، ص : ١١٦.

٢٧٣

منه القيام به من بذل جهده في الطاعة ، وبذل ماله في الخير ، الأمر الذي يجعل التحرر منها بالسيطرة على نوازع الأنانية الذاتية التي تدفع إليها ، من أفضل أسباب السعي نحو الفلاح ، وذلك من خلال انفتاح الشخصية الإنسانية على مواطن الخير ، ومواقع التضحية بالمال والنفس في مواقع طاعة الله تعالى.

* * *

(اللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ)

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) في ما تقدمونه من المال للمحتاجين إليه من الفقراء والمساكين واليتامى والغارمين ونحوهم ، (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) في ما يرزقكم في الدنيا من خزائن رزقه التي لا تنفد ، حتى لا تشعروا بالخوف من الفقر إذا أنفقتم ، فإن الله الذي رزقكم هذا المال يعدكم بأنه سيضاعفه لكم عند ما تنفقونه في موارد رضاه ، والله لا يخلف وعده (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) سيئاتكم فتحصلوا على الخير في الآخرة من خلاله ، (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) يشكر لعباده أعمالهم التي يرفعونها تقربا إليه ، ويحلم عنهم إذا أساؤوا ورجعوا إليه يستغفرونه ويطلبون منه الرحمة.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي يطل بعلمه على آفاق الغيب وآفاق الحس ، فيوحي لعباده بالرقابة الشاملة الدائمة ، ويهيمن بعزته على كل مواقع العزة في الكون ، (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩] ، كما يدير بحكمته الحياة كلها في خط التوازن الذي لا يختل عن ميزان الحق والثبات مقدار شعرة.

وهذه من الأسماء الحسنى التي يريد الله تعالى من عباده أن يذكروه بها ،

٢٧٤

ليستقيم لهم التصور الصحيح لمقامه ، ولتستقيم خطواتهم في طريق طاعته ورضوانه.

* * *

٢٧٥
٢٧٦

سورة الطلاق

مدنية

وآياتها اثنا عشرة

٢٧٧
٢٧٨

في أجواء السورة

وهذه سورة مدنية يتلخص موضوعها الأساس في الحديث عن بعض تفصيلات مسائل الطلاق ، مع إطلاق ، روحية على الخطوط الإسلامية العامة ، في الالتزام بحدود الله التي يمثل الابتعاد عنها ظلما للنفس ، وفي إقامة الشهادة لله كأمانة إلهية يتحملها الشاهد ، من خلال ما يمثله ذلك من محافظة على الحقيقة التي لا بد للناس جميعا من أن يتعاونوا على جلائها ، وفي حركة التقوى التي يفتح الله بها للإنسان كل مغالق الحياة في زواياها الضيقة المسدودة ، بطريقة غير عادية ، وفي الثقة المطلقة بالله في كل ما يريده ، وفي الانفتاح على الحقيقة الكونية الخاضعة لتدبير الله ، وفي هندسة الواقع الحياتي للإنسان ، في تقدير منظم يضع لكل شيء مقدارا معينا لا يتجاوزه في حدوده المرسومة ، وفي الجولة التاريخية في مواقع الأمم السالفة التي عتت عن أمر ربها ، وفي النتائج السلبية التي واجهتها في الدنيا ، وتواجهها غدا في الآخرة ، مما يفرض على العاملين الذين لا يبتعدون عن منطق العقل في ما هو الحسن والقبح والخير والشر والضرر ، والنفع ، أن ينطلقوا للإيمان بالله ورسوله والكتاب الذي أنزله على رسوله ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ليعيشوا في النور الروحي المعنوي الذي يشرق في عقولهم وفي قلوبهم ، وفي

٢٧٩

حركة الواقع من حولهم ، من خلال الوعي لعظمة الله الذي خلق سبع سماوات وسبع أرضين ، وللحقيقة الروحية التي تخاطب كل أسرار الغيب في الحياة وفي الإنسان ، بأن الله قد أحاط بكل شيء علما.

وقد نستوحي من هذا الجو الذي يتحرك فيه التشريع المتعلق ببعض الأحوال الشخصية للإنسان ، أن الأسلوب القرآني لا يريد للتربية الشرعية أن تنطلق على أساس الحديث عن المفردات الشرعية بطريقة جافة مجردة ، على طريقة العرض القانوني للمواد القانونية ، بعيدا عن الجانب الوعظي الروحي ، لأن الإسلام لا يريد عرض القانون الشرعي للحصول على المعرفة المجردة ، أو للالتزام العملي الجامد ، بل يريد تحريك الشريعة في أجواء الإيمان بحيث يحس الإنسان في تصوره لها والتزامه بها بالحيوية الروحية التي تفتح قلبه على الله ، وروحه على الاستغراق في مسئوليته أمامه ، وعقله على ضرورة التكامل مع كل الواقع الكوني في بلوغ المدى الذي يريد الله للحياة أن تبلغه في كل مفرداتها الوجودية ، مما يجعل من حركته فيه عنصر تكامل وانفتاح وانضباط واستقامة على الخط المستقيم.

وعلى ضوء ذلك ، فلا بد للعاملين في حقل التربية الإسلامية ، وفي أجواء الوعظ والإرشاد ، من أن يمنحوا الأسلوب التعليمي الحيوية الروحية التي لا تجعل من الالتزام الشرعي حالة تقليدية ، بل تجعل منه حالة إيمانية ينطلق فيها الالتزام من موقع الإيمان ، حيث يزداد الإيمان به قوة وحرارة كما يزداد بالإيمان فاعلية وتأثيرا في عناصر الحركة في داخل الشخصية الإسلامية.

وقد تحدثنا عن أسرار التشريع الإسلامي للطلاق ، وكيف جعله بيد الرجل ، وعن الحكمة في تشريع العدة ، وذلك في ما تحدثنا به في سورة البقرة في تفسير الآية (٢٢٨) فليراجع هناك.

٢٨٠