تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

(فَخُورٍ) : الفخور : الكثير الفخر والمباهاة.

* * *

ما أصاب من مصيبة إلا في كتاب

للحياة نظامها المتوازن الخاص في حركة النظام الكوني وفي واقع الإنسان ، على مستوى الفرد والجماعة ، فلكلّ ظاهرة سببها ، ولكل موجود قانونه الخاص ، مما يجعل من حركة الأحداث في حياة الأفراد والجماعات حالة محسوبة في كل أوضاعها من حيث ظروفها المحيطة بها ، ومن حيث الإرادة التي تديرها. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يحمل الإنسان في وعيه الفكرة التي توحي بخضوع كل أوضاعه وأفعاله للتقدير الإلهي الذي يقدر لكل شيء حركة وجوده في علاقة المسببات بأسبابها ، فليست هناك حالة طارئة ، وليست هناك صدفة في أوضاع الحياة وهذا ما تؤكده هذه الآية.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من أحداث الحياة التي تثير الآلام وتحرّك الأحزان وتربك المشاعر ، مما يصيب الإنسان في نفسه وأهله وماله (إِلَّا فِي كِتابٍ) في ما يكتبه الله في اللوح المحفوظ أو نحوه مما يسجل فيه أحداث الوجود ، أو في ما يقدره الله في علمه الغيبي المنفتح على الأشياء قبل وجودها لأنه هو الذي يمنحها الوجود ، فيحيط بها في كل أسرارها وأوضاعها ، فتكون كلمة الكتاب كناية عن العلم الإلهي ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي نخلقها في تقديره لكل حدود وجودها.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) في ما ينظم به الحياة في تقديره الذي لا تتخلف فيه إرادته عن المراد ، من خلال قدرته المطلقة التي لا يعجزها أي شيء (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) فلا تعيشوا السقوط تحت وطأة الحزن المدمر ، أو البطر تحت تأثير الفرح الطاغي ، عند ما

٤١

تحدث الخسارة أو عند ما يأتي الربح انطلاقا من صدمة المفاجأة التي تثير ذلك هنا وهناك ، بل لا بد من مواجهة الأمر على أساس أن الحديث السلبي أو الإيجابي حالة طبيعية في نظام الوجود لأن الخسارة تخضع لأسبابها الاختيارية أو الاضطرارية ، كما أن الربح يخضع لذلك ، فلا مجال لأي شيء طارئ في ذلك ، ولا مفاجات في عمق الأمور ، فإذا تمت للحدث أسبابه ، فلا بد من أن يحدث ، من خلال الحتمية الكونية للأشياء ، في ما قدر الله لها ، تماما كما هي الأشياء الكونية في نظام الطبيعة الخاضع للتقدير الإلهي في التكوين.

وقد جاء في نهج البلاغة : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الزهد كله بين كلمتين من القرآن ، قال الله سبحانه : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه» (١).

وعلى ضوء ذلك ، فلا بد للإنسان من أن يتواضع في حركته ، ويتوازن في شعوره ، ويثق بالتقدير الإلهي في موارد رزقه ، فلا ينتفخ في حالات الفرح ليتحول ذلك عنده إلى حالة استعراضية من الخيلاء أو حالة استكبارية من الاستعلاء والفخر ، أو حالة أنانية خائفة تقوده إلى البخل ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) يتيه على الناس بزهوه ، ويفخر عليهم بأعماله ، فليس في الأمر فضل ذاتيّ خاص ، بل المسألة مسألة إرادة الله في التقدير ، ليعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، في خضوعه لحركة الوجود السائرة بتقدير الله.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأموالهم التي رزقهم الله إياها ، لينتفعوا بها وليعطوا

__________________

(١) ابن أبي طالب ، علي ، نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، ط : ١ ، ١٤١٠ ه‍ ـ ١٩٩٠ م ، قصار الحكم / ٤٣٩ ، ص : ٤١٦.

٤٢

أهل الحاجة منها ، لأن الله جعل رزق بعض الناس في حوزة البعض الآخر ، الأمر الذي يجعل من البخل حالة تشبه السرقة والخيانة ، ويجعل من العطاء حالة انسجام مع طبيعة الوظيفة التي جعلها الله للإنسان في تصرفه في ماله ليعطي ويشجع الناس على العطاء في روحيته الإيمانية الواثقة بالله. ولكن هؤلاء الذين يبخلون (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) لا يحبهم الله ، ولا يمنحهم رضاه لأنهم يبتعدون عن الخط المستقيم الذي رسمه لهم في أفعالهم ، ولأنهم يتحركون في ذلك من موقع عدم الثقة بالله ، في ما يخافونه من الفقر الذي قد يحدث لهم من خلال العطاء.

(وَمَنْ يَتَوَلَ) ويعرض عن البرنامج الذي وضعه الله للناس في القيام بالمسؤولية في دائرة العطاء ، فلن يضروا الله شيئا ، ولن يضروا الحياة في نظامها شيئا ، لأن الله سوف يستبدل بهم قوما غيرهم ، فهو الذي يسخر من يشاء لمن يشاء ، وليس بحاجة إلى أحد من خلقه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الذي لا حد لغناه ، ولا حد لحمده في كل شيء.

* * *

٤٣

الآيات

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧)

* * *

معاني المفردات

(بِالْبَيِّناتِ) : البيّنات : الآيات البيّنات.

(وَالْمِيزانَ) : فسروا الميزان بذي الكفتين الذي يوزن به الأثقال.

٤٤

(بَأْسٌ) : البأس هو الشدة في التأثير.

* * *

هدف الرسالات قيام الناس بالقسط

ما هي مهمة النبوات في حركة الرسل؟ هل هي مهمة روحية يستغرق فيها الإنسان في داخل الأجواء الروحية الغارقة في عالم الغيب الذي ينفتح على الله في حركة عبادية خالصة تحتوي القلب والوجدان والشعور ، لتكون النبوات حركة في دائرة العبادة في ما تتمثل فيه من الصلاة والصوم ونحوهما.

أو هي مهمة حياتية شاملة تمتد إلى كل جوانب حياة الإنسان ليرتبط الجانب الروحي بالجانب المادي ، في إيجاد حالة من التوازن في الكلمات والأفعال والمواقف والعلاقات ، بحيث لا يطغى أحد على أحد في الحقوق والواجبات ، في ما توحي به كلمة «العدل» من المعنى التشريعي الذي يحدد لكل ذي حق حقه ، ويربي الناس على السير في هذا الاتجاه ، ليكون «الإنسان العادل» هو الذي يطبق الشريعة العادلة ، ويبني الحياة على أساس العدل؟

إن الآية التالية تؤكد المعنى الثاني الذي يجعل من الرسالة حركة في الواقع ، بدلا من أن تكون مجرد حركة في الروح.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) التي يقتنع فيها العقل بحقائق العقيدة وجدية الشريعة ، بالأدلة الواضحة التي تسقط أمامها كل الشبهات لأن الله لا يريد للناس أن يؤمنوا الإيمان الأعمى الذي يسلم بالفكرة من دون قناعة فكرية مرتكزة على الحجة والبرهان ، لأن مثل هذا الإيمان لا يوحي للإنسان باحترام نفسه وعقله ، ولا يوحي له باحترام العقيدة التي يؤمن بها ، مما يجعل مسألة الإيمان ، في الوعي القرآني ، مسألة تتصل بالعقل والشعور ، ليتحرك العقل في

٤٥

المعادلات الفكرية ، ولينطلق الشعور في الإيحاءات الشعورية ، في ما يمثل حركة العقل والشعور في الإيمان بالحقيقة الفكرية الشعورية. وقد لا يكون من المفروض أن تكون مفردات الإيمان عقلية في ذاتها ، بل يكفي أن تكون عقلية في مرتكزاتها ومواقعها الفكرية.

(وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) الذي يتضمن مفردات الوحي الإلهي في المفاهيم العامة للدين ، وفي الشرائع التفصيلية لحركة الحياة في نظامها العملي ، (وَالْمِيزانَ) الذي يمثل الخط الفكري والعملي الذي يزن القضايا والأوضاع والمواقف والكلمات ، ليمنعها من الاختلال والانحراف عن الخط المستقيم ، فيعرف كلّ إنسان من خلال ذلك دوره العملي في ما له وما عليه من الحقوق والواجبات تجاه ربه ونفسه وحياة الناس من حوله ، ويتصور على هذا الأساس أن الحياة ليست هي الساحة التي يتحرك فيها الفرد في أنانيته الذاتية في ما قد يتخيله من أنه هو وحده صاحب الحق في كل مواقعها ، بل هي الساحة التي يملك فيها كل إنسان موقعا خاصا في ما يريد أن يأخذ من أوضاعها العامة والخاصة ، فيدرك أنها تتسع له وللآخرين من موقع الحق الثابت للجميع في علاقاتهم ببعضهم البعض وبالحياة من حولهم ، ليتحول ذلك إلى واقع عملي يحقق للحياة نظامها المتوازن الذي يحفظ لها سلامة وجودها في دائرة التكامل العملي.

(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وهو العدل الذي ترتكز عليه سلامة الحياة الفردية والاجتماعية ، في ما يؤكده من خضوع الناس للخط الواحد المتوازن الذي تلتقي فيه حقوقهم جميعا ، على أساس التشريعات التفصيلية التي تنظم لهم ذلك كله على مستوى العلاقات والمعاملات والأعمال والأقوال.

وقد نستطيع أن نفهم من هذا الهدف الرسالي ، وهو إقامة العدل في إنزال الرسالات ، أن مسألة الحكم والتشريع هي المسألة الأساس في كل دين ،

٤٦

باعتبارها القاعدة التي يتحرك فيها المنهج الذي يقوم عليه العدل في حياة الناس ، فإنه لا معنى لحركة العدل في الواقع ، من دون شريعة تنظم له خطوطه ، أو حكم يشرف على إدارته وتنفيذه ، وسياسة تدير أوضاعه في ساحة الصراع ، وفي حركة الحكم أمام التحديات ، وفي سلامة الخط في أجواء الانحراف. وبذلك تكون هذه الآية دليلا على اندماج السياسة في حركة الدين وانطلاق الدين في آفاق الحكم ، ردا على الذين يعتبرون الدين حالة روحية ذاتية في علاقة الإنسان بربه ، بعيدا عن كل أوضاع الحياة المادية في تعقيداتها التفصيلية ، وفي مشاكلها المتنوعة المعقدة.

* * *

بأس الحديد ومنافعه

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) في ما يمثله من القوة التي تدير قضايا الحرب والسلم ، في ما يصنعه الإنسان منه من السلاح الذي يحمي به نفسه من كل الأخطار التي تواجهه ، ليربح الحرب من خلال قوته فيه ، ويثبت السلم في مواقعه المرتكزة على توازن القوة أو شموليتها ، ويجعل للعدل في حركة الناس قوة تمنع الظالمين من فرض سيطرتهم على الواقع ، وتؤكد الجانب التنفيذي في مواجهة الذين يريدون التمرد عليه والانحراف عنه.

(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) في ما يشتمل عليه من الخصائص المتنوعة التي تتدخل في كل حاجات الحياة العامة والخاصة ، مما يجعل منه العنصر الأساس في صنع الحضارة في خطها العملي بكل مفرداتها ومعطياتها المختلفة (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) عند ما يستخدمون الحديد في مواقع القوة التي يتحرك فيها المؤمنون لنصرة الله في دينه ، ونصرة الرسل في حركتهم الرسالية ، ليتميزوا عن غيرهم من الكافرين الّذين يستخدمون القوة للتمرد على الله

٤٧

ورسله. وذلك هو امتحان السلاح في مواقع القوة للذين يملكونه ، فيطغى به بعض على الله ، ويلتزم بعض آخر بمنهج الله في إدارة مسألة القوة في الحياة ، في الخطوط التي يرضاها الله ، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) فلم تكن الدعوة لنصرته ناشئة من موقف ضعف يوحي بالذل ، فهو القوي الذي لا قوة لأحد أمامه ، وهو العزيز الذي لا عزة لأحد معه ، بل كانت منطلقة من دائرة الامتحان الذي يتميز به المؤمن من غيره ، عند ما يحرك القوة التي هي نعمة من الله ، في طاعته سبحانه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) في حلقات متصلة من السلسلة المباركة في حركة النبوات والرسالات من أجل أن تعيش البشرية في كل تاريخها مع القيادة التي تملك شرعيتها من اصطفاء الله ، وتملك وعيها الفكري والروحي والعملي من خلال رسالاته. وكان نوح الرسول الذي يمثل الأبوة الثانية للبشرية إلى جانب حركته الرسالية الفريدة في طبيعتها وصبرها الممتد مع القرون.

وكان إبراهيم الرسول المميز في تنوّع آفاقه وتجربته ، وفي صفاء روحيته ، وبساطة أسلوبه ، مما جعله عنوانا للمضمون الروحي العملي لكل الرسالات من بعده.

وهكذا كانت النبوات في شخصيات رموزها من الأنبياء تنتهي بالنسب إلى هذين الرسولين العظيمين اللذين يوحي الحديث عنهما بهذه الطريقة بالجانب العميق المميز من شخصيتهما ، لا بالجانب النسبي الذاتي منهما.

ولكن ذريتهما التي احتوت النبوات وحملت الكتاب لم تستقم على هذا الخط بجميع أفرادها ، بل اختلفت في ذلك (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) وهم الذين تحركوا في خط النبوة ، كأنبياء وكمؤمنين (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) وهم الذين انحرفوا عن الخط واتبعوا شهواتهم ومطامعهم وابتعدوا عن الله (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ

٤٨

بِرُسُلِنا) الذين توزعوا بين أمم مختلفة وبلاد شتى ، فبلّغوا رسالات الله من خلال ما أنزله الله إليهم من كتب ، ومن خلال ما أكدوه من الكتب المنزلة على غيرهم من الأنبياء أولي العزم ، وربما كان التعبير بقوله (عَلى آثارِهِمْ) موحيا بوحدة الخط الرسالي الذي يتحرك فيه الأنبياء في رسالات الله. (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الذي كان آية في خلقه ، كما كان نموذجا مميزا في حياته ورسالته (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) الذي أراده الله قاعدة للوعي الروحي المنفتح عليه ، (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) من خلال القيم الروحية المنطلقة من قاعدة المحبة الإنسانية الداعية إلى العفو والتسامح والخير الشامل الذي يلتقي بالرأفة والرحمة في امتداداتهما الشعورية في حياة الإنسان والحيوان.

* * *

رهبانية ابتدعوها

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) فقد عاشوا معاني التأمل والتفكير في الله ، واندمجوا بالعبادة الخاشعة الخاضعة المستسلمة لعبوديتهم له ، واستغرقوا في ذلك كله حتى تحولت لديهم إلى حالة من العزلة والانقطاع عن الناس ، ليتفرغوا إلى الغاية العظيمة وهي الحصول على رضا الله والوصول إلى أعلى مراتب القرب لديه ، فكانت الرهبانية نتيجة لذلك ، في ما تصوروه من نتائجها. وهكذا ابتدعوها كقاعدة للسلوك العملي العبادي ، وكمنطلق للسمو الروحي ، فلم تكن فرضا من الله عليهم ، ولم تنزل كشريعة عبادية في التشريع العبادي الذي يحدد للعبادة فروضها وطقوسها ، ولكنها كانت استيحاء فكريا وروحيا من القيم الكبيرة التي أكدتها مفاهيم الإنجيل ، في

٤٩

ما لم يرد فيه منع خاص ، فانطلقوا فيه من خلال رغبتهم في رضا الله.

ولكن المشكلة في مثل هذه الأمور أن تبقى لها روحيتها ، وأن تتحرك معاني الصفاء في داخلها ، وأن تستقر النهاية كغاية لانطلاقة البداية ، لتبقى في امتداداتها الروحية مددا للإنسان في اتصاله بالله ، فما الذي حدث بعد ذلك؟

لقد تحولت إلى طقوس وعادات وشعائر خالية من الروح ، وابتعدت عن التوازن في الجانب الواقعي العملي في حاجات الإنسان الخاصة ، (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) لأن الإنسان الذي يريد رضا الله لا بد له من أن يعرف الطريق إليه ، فلا يبتدعه من نفسه إلا من خلال ما يقتنع به من حدود الله في ذلك ، لأنه سوف يبتعد عن الطريق الحق نحو رضوان الله. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) على معاناتهم الفكرية والعملية في خط الإيمان ، لأنهم كانوا الجادّين في مواجهة الحقيقة العقيدية في رحاب الله ، كما كانوا المخلصين في الالتزام بالنتائج العملية التي يفرضها الإيمان على المؤمنين (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) لأنهم كانوا بعيدين عن الله في روحية المضمون الفكري والعملي ، لأن الله لا ينظر إلى جانب السطح في الشكل ، بل إلى جانب العمق في المضمون ، في ما هي العقيدة وفي ما هو الشعور.

* * *

٥٠

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وعاشوا الإيمان في عقولهم ومواقفهم من موقع المسؤولية المنفتحة على الله في ما يأمر به أو ينهى عنه ، (اتَّقُوا اللهَ) وراقبوه في وعيكم الروحي وفي خطواتكم العملية (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) في ثقة عميقة واعية ممتدة في كل المواقع القيادية في خط الدعوة إلى الله ، والعمل في سبيله ، في ما يمثله ذلك من خط الإيمان العملي الذي يمثل التجسيد للإيمان في العقيدة وفي الكلمة (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي نصيبين من رحمته ، انطلاقا من الإيمان في الفكرة والكلمة ، ومن الإيمان في الموقف والنصرة ،

٥١

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) في الدنيا في ما يتمثل به الوعي الإيماني في طريق الهدى الذي يضيء للناس طريقهم ، فلا تشتبه عليهم المواقف ، ولا تنحرف بهم المواقع ، كما يضيء لهم آفاق الفكر في ما يواجهونه من شبهات وإشكالات في الآخرة ، حيث يتحرك النور بين أيديهم وعن أيمانهم ، ليسيروا به في طريقهم إلى الجنة ، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا هو الفضل الإلهي الذي يناله المؤمنون من خلال أعمالهم الصالحة في آفاق الإيمان بالله ورسوله.

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) قيل : إن لا زائدة ، والتقدير ليعلم أهل الكتاب في ما يواجهونه من مواقف المؤمنين السائرين في خط هذا الإيمان الذي يؤتيهم الله أجرهم مرتين ، ويعطيهم النور الذي يمشون به والمغفرة التي يعيشون معها في رضوان الله ونعيم الجنة ، (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) لأنهم لا يؤمنون برسول الله ، فلا ينتفعون بإيمانهم ولا يحصلون على شيء من الفضل الإلهي ، على هذا الأساس.

وذكر صاحب تفسير الميزان : والمعنى إنما أمرناهم بالإيمان بعد الإيمان ، ووعدناهم كفلين من الرحمة ، وجعل النور والمغفرة لئلا يعتقد أهل الكتاب ، أن المؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، بخلاف المؤمنين من أهل الكتاب حيث يؤتون أجرهم مرتين أن آمنوا (١).

وهو خلاف الظاهر ، لأن الظاهر أن المراد هو عدم قدرة أهل الكتاب على شيء من فضل الله ، لا عدم قدرة المؤمنين على ذلك في اعتقاد أهل الكتاب ، ولو كان المراد به ذلك لكان من المفروض التعبير ب «لا تقدرون» كما هو مقتضى سياق الخطاب ، وأما ما ذكره من أن في الآية التفاتا لخطاب

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ١٩ ، ص : ١٨١.

٥٢

المؤمنين إلى خطاب النبي ، فغير واضح.

وربما كانت «لا» أصلية لا زائدة ويكون المعنى : إن طريق الإيمان بالله ورسوله مفتوح أمام الناس كافة ، فلا يعتقد أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضله ، فباستطاعتهم أن يتحركوا في هذا الاتجاه ليحصلوا على فضل الله ، (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) في ما يريد الناس أن يحصلوا عليه من ذلك كله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي يمنح فضله لعباده من مواقع لطفه ورحمته.

* * *

٥٣
٥٤

سورة المجادلة

مدنيّة

وآياتها اثنتان وعشرون

٥٥
٥٦

في أجواء السورة

في هذه السورة المدنية جولة تشريعية وحركية وتربوية في مجتمع المسلمين الذي نزل القرآن من أجل أن يجعل منه المنوذج المميز ، القدوة للمجتمعات الإسلامية اللاحقة. وفي السورة تبيان لجملة مسائل منها ما يتعلق بالقضايا الخاصة التي تتصل بالعلاقات الإنسانية في نطاق العلاقات الزوجية ، كتلك المرأة التي ظاهرها زوجها ليعطل بذلك حركية العلاقة بينه وبينها ويحرم بذلك ما أحل الله له ، بطريقة لا ترتكز على قاعدة موضوعية معتبرة. وهكذا كانت المسألة إطلالة على المسائل التي تلتقي معها في الشكل والمضمون ، دون الحالات الجزئية في نطاقها الخاص.

وفي أجواء الأحاديث التي كانت تتخذ الشكل السري ، في ما كان يخوضه أعداء الجماعة الإسلامية من الكلمات التي تتضمن الكيد للإسلام وللمسلمين ، في إيحاء داخليّ بالأمن من اطلاع الآخرين عليهم وكشف أسرارهم ، ولتضع السورة المسألة في دائرة رقابة الله على كل الأجواء السرية ، ولتوجه الجميع إلى التناجي بالبر والتقوى ، ثم تلتقي بالمسلمين ، في مجلس الرسول ، لتؤدبهم بالأدب الإسلامي في مخاطبته وطاعته.

ويتحرك الجو في الحديث عن المنافقين الّذين ينفتحون على اليهود في

٥٧

ما يتأمرون به على المسلمين ، ويحاولون إخفاء ذلك بالكذب والحلف للمؤمنين ، بحيث يكون الحلف الكاذب هو الطابع الذي يطبع طريقتهم في التعاطي مع الآخرين ، كما يكون هو الطابع في موقفهم من الآخرة ، ظنا منهم أن ذلك يمثل الوسيلة في الخلاص ، ولكن الله يتحدث معهم بصفة أنهم الأخسرون الّذين لا يستفيدون من ذلك شيئا ، فذلك هو خط حزب الشيطان الذي يتلوّن بألوان مختلفة بين شعار يحمل كلمة الله ، وبين موقف يقف ضد المضمون الحي للكلمة.

ويقف حزب الله في نهاية السورة ، ليؤكد الموقف الحاسم الذي يواجه العالم كله حتى في دائرة الأقرباء ، ليرفض أية مودة روحية وعملية ، إذا كان هؤلاء من المتمردين على الله ورسوله ، لأن ذلك هو وحده الموقف الحق الذي يتميز به المؤمنون عن غيرهم.

وفي ضوء ذلك ، كانت السورة من السور الحركية التي تنتقل من جانب الواقع إلى خط العقيدة في التصور والحركة والموقف.

* * *

٥٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤)

* * *

معاني المفردات

(قَدْ سَمِعَ اللهُ) : المراد بالسمع هنا استجابة الدعوة وقضاء الحاجة ، من باب الكناية ، وهو شائع.

(وَتَشْتَكِي) : الاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه ، والشكاية إظهار

٥٩

ما يصنعه به غيره من المكروه.

(تَحاوُرَكُما) : التحاور ، التراجع وهي المحاورة ، يقال : حاوره محاورة أي راجعه الكلام وتحاورا.

* * *

قضاء الله حاجة المجادلة في زوجها

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) وهذه هي القضية التي انطلق منها التشريع الإسلامي في مسألة الظهار ، كما هي الطريقة القرآنية في حركة الوحي في القضايا العامة المتصلة بالخط التشريعي الإسلامي ، في انطلاقه من المشكلة في ساحة الواقع ، ليكون الحكم الشرعي الكلي متجسدا في وعي الناس بالواقع ، فيتحسس الناس المشكلة في القضية الجزئية الصغيرة ، ليواجهوا الحل في الخط الواسع الكبير ، وهذا ما أثارته قصة تلك المرأة التي غضب عليها زوجها الصحابي فقال لها : أنت عليّ كظهر أمي ، وكان الجاهليون يرون في ذلك لونا من ألوان الطلاق ، وأسقط في يد المرأة لهذا الأسلوب في إنهاء العلاقة الزوجية ، وحاول الرجل أن يتراجع فأبت عليه العودة إلى العلاقة ، وأرادت ، أو أراد منها ، أن تذهب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتحدثه عن ذلك شاكية له ما حدث. واستمع النبي إليها ، ولم يكن لديه شيء من التشريع الذي يحل المشكلة بطريقة العودة إلى الزوجية فيما بينهما وبدأت تلح على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن المسألة تمثل مركز الخطورة في حياتها ، ولم يكن لديه شيء ، ورفعت شكواها إلى الله ودعته إلى الاستجابة لشكواها. وأنزل الله هذه الآيات ليعالج المسألة الكلية في التشريع الحاسم الذي يجمع بين الحل في إعادة العلاقة الجنسية إلى طبيعتها الشرعية ، لأن الكلمة لم تلغ الزواج ، وبين العقوبة العملية التي لا بد من أن يتحملها الرجل قبل أن يعود إلى سابق عهده.

٦٠