تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

عن ديارهم ، ويفصلهم عن مصالحهم ، ويعقد علاقاتهم بالمسلمين من أهلهم ، من دون أن يحصلوا على شيء من اليهود في دار هجرتهم ، مما يجعل صفقتهم خاسرة على جميع المستويات.

(وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) لأنهم لا يؤمنون بالمسألة اليهودية ، لا في العقيدة ولا في المصلحة ، فلا قضية لديهم ليقاتلوا من أجلها على صعيد الإيمان ، (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) في الحالات التي تفرض عليهم الأوضاع أن ينصروهم ويدخلوا معهم في المعركة ، في ما يشبه المأزق الحرج (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) في عملية الفرار من المعركة ، لينقذوا أنفسهم من الهلاك ، لأنهم ليسوا في وارد الرغبة في الموت لحساب أيّ أحد ، باعتبار أن شعار النفاق هو سلامة الذات والموت للجميع ، (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) لأنهم لا يملكون أسباب النصر في موازين القوة هناك.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) فتلك هي الحقيقة النفسية للمنافقين ولإخوانهم من الذين كفروا من أهل الكتاب ، فهم لا يعيشون في أعماقهم الشعور بعظمة الله المطلقة التي يشعر بها المؤمنون بالله ، ولا يتحسسون الخوف منه لتكون مواقع حركتهم متجهة إلى الابتعاد عن مواقع غضب الله وسخطه ، فيكونوا الأقوياء بالله في مواجهة أعدائه ، بل يعيشون الشعور بمواقع القوة المادية من حولهم ، في ما يملكه الناس سن قوة البطش والقهر ، مما يجعل قلوبهم فارغة من خوف الله ، مملوءة بخوف الناس.

ولما كان المسلمون في الموقع المميز للقوة آنذاك ، كانت مشاعر الخوف من المسلمين لدى المنافقين واليهود أقوى من مشاعر خوفهم من الله الذي لا يستشعرون الإيمان به ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لأنهم لا يعرفون مدى عظمة الله ، وأن القوة بيده ، وأن العزة له جميعا ، وأن الكون لا يملك أية قوة إلا منه ، فلا قيمة لأي قوة كونية أو بشرية ليخافها الإنسان أمام قوته.

١٢١

ولهذا فإن المسألة هي مسألة وعي للحقيقة الإلهية في حركة القوة الكونية ، مما لا يفهمه إلا المؤمنون.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) فهم لا يواجهون المسلمين بشكل مباشر ، لأنهم لا يملكون الشجاعة التي تفسح المجال للثبات في الموقف ، على أساس أنهم لا ينطلقون من عنصر قوة داخلية ، في ما تمنحه العقيدة الإيمانية المنفتحة على الله الذي يستمد منه المؤمن القوة في مواجهته للتحديات ، مما يجعلهم يشعرون بالخوف من المسلمين الذين انطلقوا من مواقع إيمانهم بالله ليكونوا الثابتين في المواقع الصعبة.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) بحيث تتحول الخلافات الداخلية في ما بينهم إلى نزاعات عسكرية يشتد فيها البأس بشكل عنيف ، فيقتل بعضهم بعضا ، مما يجعل من الصعب الوصول إلى نتيجة إيجابية لمصلحة الصلح والتسامح ، (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) فهم لا ينطلقون في علاقاتهم ببعضهم البعض من موقع العقيدة الواحدة ، والشعور الحميم المنفتح الموحد ، والقضية الواحدة التي تتصل بالمصير الواحد ، بل ينطلقون من المصالح الخاصة التي يختلفون عليها بسبب العنصر الذاتي المعقّد الكامن في داخلهم ، ولهذا فإن وحدتهم تتصل بشكل الصورة لا بعمقها.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) لأنهم لو كانوا يملكون عقلا واعيا لاستطاعوا أن يهتدوا إلى مواقع الحق التي يلتقون عليها ، ويتوحدون من خلالها في الشكل والمضمون ، سيما إذا توفر روح الإخلاص ، وهو ما يضمّهم جميعا إلى رحاب الله في مواقع رضوانه.

وإذا كانت المسألة اليهودية في نطاق هذه الصورة القلقة تتمثل في هذا الواقع الداخلي المعقد الذي يوحي بالجبن والفرقة والتنازع ، فإنه لا يمثل حالة خاصة مختصة بهم ، بل قد يتمثل في جماعات أخرى تعيش العقلية نفسها

١٢٢

وتخضع للظروف والمواقع ذاتها ، فتكون النتائج هي النتائج ، والصورة هي نفسها ، مما يفرض على كل جماعة أن تحصّن نفسها من ذلك ، وأن تعمق كل عناصر القوة والألفة والوحدة على صعيد الفكر والعمل. وهذا ما يجب أن ينتبه إليه المسلمون في توجههم العام ، كما ينتبه إليه العاملون للإسلام في النطاق الحركي ، فقد ينفذ إليهم هذا المرض ، وقد تمتد إليهم نتائجه السلبية التي تسيء إلى واقعهم السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي ، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من التأمل والدقة والحذر الشديد.

* * *

١٢٣

الآيات

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ(١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧)

* * *

مثل اليهود كمثل الذين من قبلهم من المشركين

وتستمر الآيات في تصوير موقف اليهود المنخدع بكلام المنافقين ، الذين وعدوهم بالنصرة والتأييد ، ولم يلبثوا أن خذلوهم ، مقدّما بذلك المثل الحي في مواقع أخرى ، لتتسع الفكرة الواعية التي ترصد الواقع في أكثر من صورة ، الأمر الذي يوسع أفق الإنسان المؤمن في نظرته إلى الحياة بمنطق الوعي ، لا بمنطق السذاجة الفكرية.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) أي مثلهم في اغترارهم بعددهم وبقولهم

١٢٤

وبقول المنافقين ، كمثل الذين من قبلهم من المشركين ، الذين جاؤوا إلى بدر لمقاتلة المسلمين.

(ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) فكانت الغلبة عليهم من المسلمين ، وقيل إن المراد بهم هم بنو قينقاع ، في ما رواه ابن عباس ، من أنهم نقضوا العهد بعد رجوع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بدر ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرجوا ، وقال عبد الله ابن أبي : لا تخرجوا فإنيّ آتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكلمه فيكم أو أدخل معكم الحصن ، فكان هؤلاء في إرسال عبد الله بن أبيّ إليهم ثم ترك نصرتهم ، كأولئك (١) (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

* * *

كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) وذلك هو مثل المنافقين الذين يضللون الناس في وعودهم الكاذبة حيث يثيرون الكثير من الأحلام والأوهام ، حتى يخيل لهؤلاء الناس أن المنافقين يمثلون الضمانة القوية في ما يعدون أو يتحدثون ، فيندفعون إلى ما أثاروه في أحلامهم وأوهامهم بكل ثقة وعزيمة ، حتى إذا دخلوا في دائرة اللعبة النفاقية ، واجهتهم الحقيقة بأن كل تلك الوعود سراب ، ورأوا أن المنافقين يبتعدون عنهم وعن تحمل مسئوليتهم ويتبرءون من علاقتهم بكل ما يحدث لهم ، لأنهم يخافون من الأخطار المترتبة عليهم من خلال ذلك.

وهذا هو الأسلوب الشيطاني في علاقته بالإنسان ، فإنه يزين له الكفر بمختلف الوسائل التي يملكها في إثارة الشبهات حول الإيمان ، وفي تأكيد

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٥ ، ص : ٣٩٦.

١٢٥

الفكر الكافر بطريقته الخاصة ، ويضمن له النتائج السعيدة بالخيالات الواسعة والأوهام الرائعة ، حتى إذا سقط الإنسان أمام كل تلك الإغراءات الفكرية والتهاويل العاطفية ، ووقع في قلب التجربة التي يواجه بها عذاب الله ، تبرّأ منه ، (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) فلا مسئولية لي بما كفرت وانحرفت ، لأنك تملك عقلا تميز به الصواب من الخطأ ، وإرادة تؤكد بها موقفك ، فكيف تحمّلني مسئولية ما فكرت به وأردت السير فيه؟

(إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) فلا أملك معه شيئا لنفسي فكيف أملكه لك ، ولا أستطيع تحمّل أي وضع منحرف عن رضاه وعن إرادته ، لأن ما لديّ من المواقف المنحرفة يكفيني ، فليتحمل كل شخص مسئوليته عن موقفه ، وهذا هو ما عبرت عنه الآية الكريمة : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم : ٢٢].

والظاهر أن المثل بخصوص الشيطان ورد في طبيعته الشاملة لكل أفراده ، وبخصوص الإنسان في كل أشخاصه ، وليست المسألة مختصة بشيطان معين أو إنسان معين ، ولكن بعض الروايات تؤكد أن الآية تشير إلى شخص خاص كما روي عن ابن عباس الذي قال : إنه كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا ، عبد الله زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرءون على يده ، وأنه أتي بامرأة في شرف قد جنّت وكان لها إخوة ، فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت ، فلما استبان حملها قتلها ودفنها ، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا ، ثم أتى بقية إخوتها رجلا رجلا ، فذكر ذلك له ، فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول : والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا يكبر عليّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ،

١٢٦

فسار الملك والناس ، فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلما رفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا ، فهل أنت مطيعي في ما أقول لك أخلصك مما أنت فيه؟ قال نعم : قال : اسجد لي سجدة واحدة؟ فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : أكتفي منك ، بالإيماء ، فأومى له بالسجود فكفر بالله وقتل الرجل (١).

ولكن هذه القصة لا تتناسب مع سياق الآية ، لأن الظاهر منها هو وقوع البراءة في موقف الحساب يوم القيامة ، كما أن المسألة ليست مسألة الإنقاذ من القتل ، بل مسألة الإنقاذ من النار ، وقد نقلناها لما فيها من عبرة عما يمكن أن يثيره الشيطان من مشاكل للإنسان بفعل قدراته على الإغراء والتزيين ، وربما كانت مثل هذه الأقاصيص المذكورة في أسباب النزول ، لونا من ألوان التطبيق لبعض المعلومات القصصية على القرآن ، وهذه المعلومات هي مما كان يحفظه الناس عن اليهود ، (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي الشيطان والإنسان (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) لأن الإنسان يتحمل مسئولية نفسه ، بما يملكه من العقل الذي يبين له الحقيقة ، كما يتحمل الشيطان المسؤولية بفعل ما يمارسه من تضليل وإغواء وتهويل ، (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والضلال ، أو يظلمون الناس الآخرين بإضلالهم وخداعهم مستغلين سذاجتهم الفكرية.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٥ ، ص : ٣٩٧.

١٢٧

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠)

* * *

نداء التقوى في خط المحاسبة والعمل

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) إنه النداء الذي يضع الإيمان عنوانا لهم من أجل أن يستثير ما تختزنه نفوسهم من الانفتاح على الله في حضوره الدائم في الكون ، بحيث يتمثله المؤمن في كل مفردات الوجود ، فيتحسس جوانب عظمته في خلقه ، ويستشعر عمق المسؤولية التي تثير مشاعر الخوف من الله في نفسه ، فيحسب حسابه في ما يقوم به من عمل ، أو يتخذه من مواقف ، ويتذكره في كل حالاته ، في نظرته إلى حاضر المسؤولية ومستقبل الجزاء.

١٢٨

ومن خلال ذلك تتحرك الدعوة إلى التقوى المستمدّة من الوعي الروحي لمقام الله في وجود الإنسان وفي دوره العملي في الحياة ، كفكر وشعور وحركة ، في العمق الداخلي في الإحساس ، وفي الامتداد العملي في الحياة. فإن التقوى تبدأ لدى الإنسان كحالة في الضمير الذي يطلّ على المسؤولية من خلال المعرفة بالله والإيمان به والتعظيم لمقامه ، ثم تتحول إلى حالة في العمل ، لينضبط في موارده ومصادره ، في رقابة دائمة تحيط بالواقع كله. وإذا عاش الإنسان حسّ التقوى في حركة المسؤولية أمام الله ، فإنه يبقى متطلعا إلى حجم النتائج العملية في حساب المستقبل الذي يقف فيه الإنسان بين يدي الله ، فهو في قلق دائم من حيث طبيعة أعماله التي تقربه إلى الله ، لأن المسألة لديه أن الحياة فرصة للعمل ، وساحة للوصول إلى الله ، والقرب إليه ، مما يجعل للساعات معنى تتيح له فعل الخيرات ، لتكون الحياة دائما حسابا يستزيد الأرقام في رصيد العمل الصالح ، مما يجعل الإنسان ينتظر التقدم المتنامي على طريق ما يطمح إليه من غايات ... وهذا ما أرادت الآية أن تؤكده في الفقرة التالية ، كحركة داخلية فكرية في آفاق التقوى.

* * *

وجوب محاسبة الإنسان لنفسه يوميا

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي الآخرة التي ينتظرها وهي تحتاج إلى الزاد وهو التقوى ، الذي تختلف النتائج فيه تبعا لاختلاف حجم مراتبه. وهذا ما يفرض على الإنسان الدخول في عملية حساب يومي للحسنات والسيئات ، انطلاقا من الخوف من الله والرغبة في الحصول على ثوابه والتخلص من عقابه. وفي ضوء ذلك ، نستطيع أن نفهم هذه الدعوة إلى التحديق بما قدمه

١٢٩

الإنسان لغده ، كجزء من حركة التقوى الروحية التي يدفعها شعورها بالمسؤولية أمام الله إلى رصد كل حسابات المستقبل الأخروي عنده ، من خلال دراسة الماضي والحاضر في ساحة العمل ، ليتخفف الإنسان من سيئاته إذا رأى حجمها كبيرا ، بالتوبة ، وليستزيد من حسناته إذا رأى عددها قليلا.

(وَاتَّقُوا اللهَ) بعد تصفية الحساب ، سواء كان إيجابيا في نتائجه أو سلبيا ، لتنفتحوا على الأعمال المنفتحة على الحق ، والمتحركة في مواقع الخير ، والسائرة على خط الاستقامة والعدل ، مما يفرض على الإنسان أن يؤكد معنى التقوى في أعماله المستقبلية ، فلا يقع في الأخطاء التي وقع فيها سابقا ، ولا يضيّع الفرص التي ضيّعها مما كان يستطيع معها أن يحصل على خير الدنيا والآخرة من أقرب طريق ، (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) وهذه هي الحقيقة الإيمانية التي تلتقون بها في آفاق الحقيقة الإلهية في إحاطة الله المطلقة بالكون كله ، وبالإنسان كله في سره وعلانيته ، وهي التي تعمق معنى التقوى في عقولكم وقلوبكم ومشاعركم وأعمالكم.

وعلى ضوء ما ذكرناه ، يتبين أن المراد من التقوى في الفقرة الأولى ، التقوى في مسئولية الاستعداد لغد الآخرة من خلال وعي المرحلة التي وصل إليها الإنسان في رحلته إلى الله ، حتى تكون استثارة التقوى في الوعي مقدمة للاستقامة على الخط ، في ما قطعه الإنسان من مراحل ، ليستقبل المراحل الأخرى بروح جديدة ، أما التقوى في الفقرة الثانية ، فالمراد بها التقوى في العمل في خط الامتداد المستقبلي ، وهناك أقوال أخرى منها : أن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب ، والثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل. ومنها : أن الأولى في أداء الواجبات ، والثانية في ترك المحرمات : ومنها : أن الأولى هي التقوى في أصل إتيان الأعمال ، والثانية هي التقوى في الأعمال المأتية من حيث إصلاحها وإخلاصها. ومنها : أن الأمر

١٣٠

الثاني لتأكيد الأمر الأول فحسب.

* * *

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) فلم يذكروه على مستوى مضمون العقيدة والروح لتتحرك كل المفاهيم في هذا الاتجاه ، ولم يستشعروه بإحساس العاطفة لتتحرك كل نبضاتها في هذا العمق ، ولم يعيشوا حضوره الوجداني في حياتهم لتنطلق الطاعة في هذا الخط ، بل كانوا في غفلة مطبقة عن ذكره ، سواء كان الذكر باللسان أو بالقلب أو بالحركة ، وبذلك استسلموا للأجواء الذاتية واستغرقوا في أنانياتهم ، وأقاموا العلاقات الطارئة اللاهية العابثة استجابة لحركة شهواتهم المنحرفة ، بعيدا عن خط الاستقامة في حياتهم ، فكانت نتيجة ذلك كله تتمثل في الإخلاد إلى الأرض ، لا سيما بعد أن ابتعدوا عن وعي الحقيقة الروحية المنفتحة على المسؤولية في ذواتهم ، ونسوا الله (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) لا من موقع الإرادة المباشرة في ذلك ، بل من موقع القوانين الإلهية الكامنة في طبيعة الواقع الإنساني ، فإن الإنسان إذا نسي ربه ، فإنه يبتعد بذلك عن القاعدة الثابتة التي يعرف فيها موقعه في الكون ، ودوره في حركته ، من جهة ما يصلحه ، أو ما يفسده ، مما يجعله يتحسّس الواقع من خلال الأشياء الطارئة عليه من خارج ذاته ، أو من خلال الغرائز المثيرة التي تشغله عن مصيره ، وبذلك ينسى نفسه من حيث هي جزء من الحركة الكونية المسؤولة ، فيتخبط في متاهات الأهواء والشهوات ، وفي ضباب الأوهام والخيالات ، على أساس أن الحقيقة الإلهية في حضورها في الوجدان ، هي التي تعطي الحقيقة الإنسانية حضورها في حركة الحياة ، بسبب طبيعة الترابط بين ذكر الله وبين الانضباط في خط سلامة المصير.

١٣١

(أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) بما يمثله الفسق من تجاوز الحدود المفروضة من الله ومن انحراف عن الخط المستقيم ، ومن خروج عن طاعة الله.

وإذا كانت مسألة الجنة والنار هي مسألة القرب من الله بالاستقامة على خط الطاعة ، والابتعاد عن خط المعصية ، فإن من الطبيعي أن يكون الغافلون عن ذكره الذين يتحركون في خط الشهوات هم أصحاب النار ، لأنهم يبتعدون عن الله بقدر غفلتهم عنه ، كما أن من الطبيعي أن يكون الذاكرون لله بقلوبهم وألسنتهم ومواقع عملهم وسلامة مواقفهم هم أصحاب الجنة ، لأنهم يقتربون من الله ، بقدر انفتاحهم عليه ، وخوفهم من مقامه ، ووعيهم لمسؤوليتهم أمامه.

وإذا كانت المسألة بهذا الحجم وبهذا المستوى ، فإن من المفروض للباحثين عن قضية المصير في مستقبل الآخرة ، أن يحسنوا عملية الاختيار في العمل والمواقف ، ليحسنوا عملية الاختيار في الغاية والمصير ، وهذا ما توحي به هذه الآية الكريمة : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) فهم ليسوا سواء في البداية وليسوا سواء في النهاية ، فهناك الاستقامة أو الانحراف ، وهناك الطهارة أو القذارة ، وهناك الرسالة أو الهوى ، وهناك العذاب أو الثواب. (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) برضوان الله ورحمته ونعيمه ، وأصحاب النار هم الخاسرون ، من خلال غضب الله وعقابه ، فلا بد للإنسان من أن يختار ، وليس هناك إلا خيار واحد لمن يعرف كيف يواجه المسألة بمسؤولية ووعي وإيمان ، ليحصل على الفوز الكبير في رحاب الله.

* * *

١٣٢

الآية

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١)

* * *

القرآن يبعث خشية الله في الروح

وإذا كان الله يريد للإنسان أن يذكره ليذكر نفسه ، وأن يتقيه ليحصل على رضوانه في جنته ، فإن القرآن هو الذي يتولى المهمة في توعية الفكر والروح ، فهو يطوف بالإنسان في رحاب آيات الله ومواقع عظمته ، وفي آفاق المسؤولية في إطاعة أوامره ونواهيه ، فالله أراد للإنسان الاستفادة من كل مفردات الطبيعة الكونية وسننها الإلهية ، في إقامة نظام الحياة على أساس الحق ، وحثّ على إظهار مشاعر الخشوع والرهبة والخضوع أمامه ، مما يناسب في الإحساس ، وينفذ إلى العقل ، ويلامس الكيان كله بمواقع الذكرى التي تبتعد به عن الغفلة ، مما يمكن له أن يصوغ الإنسان صياغة جديدة حتى يكون عبد الله ، وإنسان المسؤولية الباحثة أبدا عن طاعته والهاربة كليا من معصيته.

١٣٣

وهكذا يريد الله أن يوجه اهتمام الإنسان إلى هذا القرآن ليقرأه ويتدبره ويعيش مع مفاهيمه المتحركة في مضمون آياته ، ليرى فيها ربه ، ويتعرف إلى نفسه وإلى الحياة من حوله ، ويعي دوره الكبير في خلافة الله في الأرض ، فلا ينظر إليه ككتاب تتحرك فيه الكلمات حسب المعاني اللغوية في كتب اللغة ، بل يعيش معانيه من خلال الآفاق التي تنطلق إليها الروح في عمق الإيمان ، فكان المثل الذي يوضح الصورة هو السبيل إلى إيجاد التأثير العميق الذي يمكن للقرآن أن يتركه في وجدان الإنسان الروحي.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ) بما فيه من عبر وعظات ووصايا ونصائح ، ومفاهيم وأحكام ، وترغيب وترهيب ، وتعداد لمواقع عظمة الله في الكون ، ولامتداد قدرته في خلقه ، وهيمنته على الأمر كله ، (عَلى جَبَلٍ) بكل ما يمثله الجبل من جمود الإحساس لغياب الحياة في داخله ، ومن صلابة الصخر في صخوره القاسية ، ومن ضخامة الحجم الذي يطل به على الأفق الواسع ليحجب الكثير منه في امتداد النظر ، مما لا تستطيع الرياح أن تهز جبروته ، ولا الزلازل أن تسقط قمته ، ولكن هناك شيئا يختلف عن عصف الرياح وخطورة الزلازل ، يمكن أن يصدعه فيتشقق ، ويثير الإحساس فيه فيخشع ، وهو القرآن النازل من الله عليه لو قدر أن ينزله الله عليه كما أنزله على الإنسان ، (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) لأن طبيعة معانيه تؤثر في العمق منه ، بالرغم من الصلابة والضخامة والجمود الذاتي فيه ، وإذا كانت هذه هي الحال مع الجبل ، فكيف يجب أن يتمثله الإنسان المملوء وعيا وشعورا في انفعاله به في ما يعيشه من خشية الله ، (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) في ما يستهدفه القرآن من أسلوب الأمثال الذي يعني تشبيه الأشياء ببعضها البعض ، لإيضاح الفكرة ، (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ليكتشفوا من خلال الفكر شيئا جديدا في المعرفة ، وأفقا واسعا في وعي العقل والشعور.

* * *

١٣٤

الآيات

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤)

* * *

مع أسماء الله الحسنى

وإذا كان الله هو سر العقيدة في مضمونها الفكري والروحي والعملي ، فلا بد للمؤمن من أن يتمثله بصفاته التي توحي للإنسان بحركة الإيمان في العقل والشعور والحياة ، ليعيش الإنسان مع هذه الصفات في رحلة المسيرة الإنسانية الباحثة عن الله ، المنطلقة إليه من خلال مواقع طاعته ورضاه. وهذا

١٣٥

ما تريد هذه الآيات إشاعته في النفس ، لتختم السورة بالتسبيح المنفتح على وعي عظمته ، كما بدأته بالتسبيح المتحرك في مواقع عزته وحكمته.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهذه هي الحقيقة التوحيدية التي تنزع من شعور الإنسان كلّ لون من ألوان الشرك في ما يتخذه الناس من آلهة مزعومة على مستوى الحجر أو المخلوق الحي من إنسان وملك وجان. ويبقى الإنسان مع الله وحده ، في خط العقيدة الواحدة ، والشريعة الواحدة ، والنهج الموحد في حركة الإنسان في الحياة.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فليس هناك عالم مستور عند الله ، لأن الغيب والشهادة يستويان لديه ، فالكون الخفي مشكوف له ، تماما كما هو الكون البارز ، لأنه الخالق للكون كله ، فلا يفكرنّ أحد بأن يستتر منه في معصية ، من خلال الغفلة عن حضوره في ذلك الموقع.

(هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) الذي يستشعر عباده رحمته في مفردات وجودهم ، كما كانوا صدى رحمته في أصل هذا الوجود ، ويتصورون رحمته في الآخرة التي يرجونها منه ، كما يطلبونها في الدنيا ليعيشوها في ساحة نعمه وألطافه. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وينطلق الحديث عن التوحيد مرة أخرى ، لأن هذه المسألة هي الأساس في الارتباط به ، والانفصال عن غيره في أجواء العقيدة والعمل.

(الْمَلِكُ) الذي يستمد كل مالك منه ملكه ، لأنه المالك للأشياء كلها ، (الْقُدُّوسُ) الذي يعبر عن القمة في النزاهة والطهارة ، مما يوحي للإنسان بالامتداد في هذا الجوّ المشبع بالمعاني الطهارة في علاقة الإنسان بالحياة ، لينفتح على الطهر من خلال الانفتاح على الله في صفة القدس الإلهي ، (السَّلامُ) الذي يوحي بالأمن والطمأنينة والاستقرار في علاقة الإنسان بالله ، وعلاقة الله بالكون والحياة ، فينطلق الإنسان مع وعيه لاتصاف الله بهذه الصفة ،

١٣٦

ليحتضن السلام في نفسه مع الله ومع الناس ومع الحياة باعتبارها قيمة روحية اجتماعية كبيرة.

(الْمُؤْمِنُ) الذي يمنح الأمن من رحمته ولطفه ، (الْمُهَيْمِنُ) المسيطر على الأمر كله في ما توحي به الكلمة من شمولية السلطة والتدبير والقدرة ، (الْعَزِيزُ) الغالب الذي لا يغلبه شيء ، والمالك لما لا يملكه غيره من دون عكس ، (الْجَبَّارُ) الذي يتميّز بالجبروت ، الذي تنفذ إرادته ويجبر غيره على ما يشاء .. (الْمُتَكَبِّرُ) الذي ارتدى رداء الكبرياء الذي لا يملك أحد أن يرتديه. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فهو المنزه عن كل ند ونظير وشبيه ، لأنه الذي يتميز بالعلوّ عن كل شيء.

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ) الذي قدر كل شيء وأبدعه ، (الْبارِئُ) الذي برأ كل شيء وأخرجه من العدم ، فمنه كان الوجود كله ، وله الخلق كله ، (الْمُصَوِّرُ) الذي أبدع صورة الأشياء في ملامحها المتنوعة التي تمثل الجمال كله ، والإبداع كله ، والقدرة العظيمة من خلال التمايز في الملامح والأشكال ، بحيث أعطى كلّ شيء شخصيته الخاصة المميزة ، على أساس اختلاف الصورة التي صنعها من غير مثال.

وإذا كانت تلك الصفات متعددة في مفهومها ، فليس معنى ذلك أنها متعددة في حقيقتها ، فإن الخلق والبرء والتصوير تنطلق في طبيعة واحدة تجتمع فيها هذه المعاني في وجود واحد.

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي تملك الحسن في ذاتها ، بعيدا عن انفعال الآخرين بها ، وتضيء للناس الآفاق الطيّبة الطاهرة الجميلة الرائعة التي توحي لهم بكل معنى طيب طاهر جميل رائع ، في ما يستوحونه من صفات الله في إيحاءاتهم الروحية والعملية.

(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من المخلوقات الكثيرة التي تحدّق بكل

١٣٧

مظاهر جماله وجلاله وكماله ، وتنزهه عن كل شريك ، وتعترف له بأنه وحده الإله.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي تلتقي العزة والحكمة في هيمنته على الكون وفي تدبيره له ، في النظام البديع المتناسق في حركة الكون والإنسان.

* * *

١٣٨

سورة الممتحنة

مدنيّة

وآياتها ثلاث عشرة

١٣٩
١٤٠