تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

معناها الروحي المتمثل بالتوفيق واللطف الإلهي الذي يثير في نفس الإنسان الأفكار والمشاعر والأجواء ، التي تفتح عقله وقلبه على الحق والخير في الالتزام بالخط الإلهي ، في النهج والأمر والنهي في دائرة الإيمان ، مضمونا وحركة وانفتاحا على الله في أوسع الآفاق. وبذلك ، تكون الهداية إلى جنّته نتيجة طبيعية لذلك ، لأن ذلك ما يجعل خط السير في الآخرة نحو النجاة مفتوحا بكل رحابته وامتداده ، لأن خطوط الآخرة في حركة الإنسان في سلامة المصير ، تبدأ من خلال المضمون الإيماني العملي في خطوط السير في الدنيا نحو الله.

إنه نوع من أنواع التطبيق العملي للاستعانة بالله ، لأن الإنسان قد ينحرف في تفكيره عن وعي الإيمان في حقيقته الرسالية ، فيضلّ عن طريق الله في تصوراته والتزاماته الفكرية والروحية ، كما أنه قد يخضع لشهواته وأهوائه في الابتعاد عن الخط المستقيم ، وفي عدم الانضباط في الالتزام بأوامر الله ونواهيه. وبذلك يلتفت الإنسان إلى ربه ليستعين به على تثبيت إرادته ، واستقامة فكره ، حتى لا يخطئ في تصوراته ، ولا ينحرف في خطواته ، ولا يهتزّ في مواقفه ، من خلال ألطاف الله بعباده ، في ما يثيره في داخل شخصياتهم من المعاني الخفيّة التي تدفعهم إلى خط السلام الروحي المنفتح عليه. فهي مرشدة ـ في الخطوط الحركية ـ الإنسان إلى الطريق المستقيم حتى لا يشتبه عليه الحق والباطل ، ولا تختلط عليه صور الأشياء في ما يبتعد عنه وضوح الرؤية.

ولعلّ هذا الوجه أكثر رجحانا من التفسير القائل بأن المراد استمرار الهداية التي بدأها الله في ما هو الخط التكويني في عناصر الهداية ، أو في ما هو الخط الرسالي في مضمون الهداية ، لأن ذلك خلاف الظاهر ، فإن الظاهر منه هو إرادة المبدأ ، الذي يراد من الله إفاضته على عباده لا استمرار ما هو موجود. وهكذا نجد في هذا الطلب الإنساني الابتهالي حركة روحية عباديّة تعبّر عن الرغبة العميقة في الوصول إلى الله من خلال طريقة المستقيم ، انطلاقا

٨١

من الحاجة إلى الرعاية الخاصة في الدلالة إلى مواقع هذا الطريق ، بالوسائل التي يرسل الله فيها ألطافه إلى عباده ، من خلال ما هي إيحاءات الفكر ، وهمسات المشاعر ، وإشارات الروح.

ولعلّنا لا نحتاج إلى المزيد من التأكيد على أن هذه الهداية التي يفيضها الله على عباده ليست حالة تضغط على العقل لتشلّ اختياره ، وعلى الإرادة لتجمّد حركتها ، بل هي لطف إلهيّ يهيّئ الجوّ للاختيار الصحيح من خلال الانفتاح على الله في مواقع رضاه من موقع قويّ منفتح.

* * *

طريق الأنبياء

ولكن كيف نتصور الصراط المستقيم ، الذي هو خط معنويّ يتحرك فيه الإنسان في نشاطه الإنساني على مستوى المواقف وحركة المواقع والعلاقات؟

إن النظرة إلى الآيات القرآنية توحي بأن المراد هو الخط الذي تتحرك فيه أوامر الله ونواهيه ، وتتمثل فيه مناهجه ، وتنطلق منه مواقع رضاه ، وفقا لما جاء به رسله ، ونزلت به رسالاته. وبذلك يمكن تلخيصه بطريق الأنبياء ، وهو الإسلام الذي يتمثل في إسلام القلب والوجه واللسان والكيان كله لله.

ضمن هذا الإطار ، تكون الاستقامة على الصراط منطلقة من معنى الطاعة التي تحكم البداية والنهاية في خط الله ، بعيدا عما يتحدث فيه المتحدثون الغارقون في تحليل مضمون الإسلام ، لجهة ما يتمثل فيه من التوازن التشريعي في نظرته إلى الإنسان والحياة ، فيما هي الدنيا والآخرة ، والمادة والروح ، والفرد والمجتمع ، وما إلى ذلك من الشؤون العامة أو الخاصة ، التي تنطلق في خط مصلحة الإنسان في علاقته بالله ، وبالكون ، وبمن

٨٢

حوله من الناس ، بحيث لا يطغى جانب على جانب.

إن التأكيد على خط الاستقامة ينطلق من الخضوع للخط الإلهيّ الرسالي ، فلا ينحرف الإنسان عنه ، ولا يتمرد فيه على أوامر الله ونواهيه.

أمّا الاستقامة في المضمون ، فإنها تنطلق من حركة المصلحة التي أراد الله لها أن تشمل كل حياة الإنسان في مفردات التشريع ، بحيث يشعر بأن حياته مع الشريعة تنطلق في وضع طبيعيّ ، وحركة موزونة ، لا تبعد به عن سلامته الروحية والجسدية ، في حياته الفردية والاجتماعية.

وهذا ما تختزنه كل الرسالات التي أنزلها الله على رسله ، ليبلّغوها عباده ، ليقوم الناس بالقسط ، لأن الله أراد من الإنسان أن يصل إلى مستوى الكمال في خط التوازن في حاجاته ومصالحه.

ولعل الفكرة تزداد وضوحا إذا قرأنا الآيات التي تحدثت عن الصراط المستقيم. قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام : ١٥٣] والملحوظ أن الإشارة متعلقة بما ورد في الآيتين السابقتين في قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) في الآيتين (١٥٠ و ١٥١) من سورة الأنعام.

وقال تعالى في حديثه عن إبليس في خطابه لله : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ). [الأعراف : ١٦ ـ ١٧].

فإن الشيطان يتحدث عن الحاجز الذي يضعه أمامهم في خط الصراط المستقيم لينحرف بهم عنه ، فلا يشكرون الله في ما يتمثل فيه ترك الشكر من تجسيد الانحراف عن طاعة الله التي هي المضمون الحي للصراط المستقيم.

٨٣

قال تعالى : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٢٦ ـ ١٢٧].

فالظاهر من الإشارة أن المقصود بها النهج الإلهي في العقيدة والشريعة والمنهج الذي يقود الناس السائرين عليه إلى دار السلام التي هي الجنة في الآخرة. قال تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران : ١٠١]. فإن الاعتصام بالله هو السير في خط الإيمان به وبرسله وبر برسالاته ، مما يوحي بأن الخط المستقيم هو حركة الإنسان في هذا الاتجاه.

قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة : ١٥ ـ ١٦].

فالقرآن الذي يمثل النور الذي يشرق في عقل الإنسان وقلبه وحياته ، يمثل الكتاب الواضح الهادي للذين يتبعون رضوانه إلى سبل السلام الروحي والعملي ، والدافع لهم إلى الجانب المشرق من الحياة في ما يأذن الله به من إخراجهم من (الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، ويهديهم إلى (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الذي يؤدي بهم إليه ، فيما هو خط السير المتحرك بين البداية والنهاية. قال تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). [الأنعام : ١٦١ ـ ١٦٣].

وهذه الآيات واضحة الدلالة على أن الصراط المستقيم هو دين الله الذي يجسد التوحيد في إسلام الوجود الإنساني لله وحده ، ليكون الإسلام هو الانتماء التوحيد ، الذي يتمثل فيه الكمال الإنساني في وجوده الفكري والحركي.

٨٤

وهكذا نجد أن الصراط المستقيم ، الذي ندعو الله أن يهدينا لنسير نحوه ، هو دين الله الذي أنزله على رسوله في كتابه ، وفي ما أوحى به إليه من شريعته ومن منهجه الحق ، الذي أراد الله لنبيه الاستقامة عليه في خط الدعوة إليه من دون تغيير ولا تبديل ، كما جعل الجنة للناس الذين يعلنون التوحيد ثم يستقيمون في خطه على أساس توحيد الله في العبادة.

وقد جاء عن علي عليه‌السلام في تفسيره هذه الآية : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) يعني : أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا (١).

وعن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدّي إلى محبتك ، والمبلغ إلى جنتك ، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب ، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك (٢).

* * *

مستحقو النعم

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ* غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) هذا هو التحديد الواقعي لهذا الصراط في المناذج التي تتحرك فيه وتلتزمه ، في ما يتمثل فيه من النعمة الإلهية التي يفيضها الله على عباده ، وأيّ نعمة أعظم من نعمة الهداية إلى الحق الذي يؤدي بهم إلى رضوان الله ، وإلى نعيمه في جنته الخالدة! وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في آية أخرى ،

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ، ١٩٩١ م ، ج : ١ ، ص : ٤١.

(٢) م. ن ، ج : ١ ، ص : ٤١.

٨٥

عند الحديث عن الذين أنعم الله عليهم في المناذج الحيّة المتحركة في خط توحيد الله وطاعته ، وذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩] وهذا يعني أن الصراط المستقيم هو صراط هؤلاء الذين أنعم الله عليهم ممن رفع الله درجتهم في خط الإسلام والإيمان بالله والسير في مواقع رضاه.

* * *

المغضوب عليهم والضّالون

وفي مقابل هؤلاء ، هناك فريق (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذين اختاروا الكفر على الإيمان ، والشرك على التوحيد ، والمعصية على الطاعة ، والانحراف على الاستقامة ، مع وضوح الحجّة على الإيمان في إشراقة العقل ، وعلى التوحيد في حركة الفكر ، وظهور الخير في حركة الطاعة في خط الاستقامة على درب الله ، فلم يبتعدوا عن الصراط المستقيم انطلاقا من شبهة ، بل ابتعدوا من موقع العناد والإصرار على التمرّد والتحدّي لله في مواقع ألوهيّته ، فاستحقوا غضب الله عليهم لأنهم لا يملكون أساسا عقليّا لموقفهم المعاند المتمرّد ، بل هناك الأساس المضادّ للإنسانية العقلانية التي تفرض الخضوع للحقّ الثابت بالحجّة الواضحة ، والالتزام بكل النتائج المترتبة عليه ، مما يجعل من الغضب المنفتح على العقاب الأخرويّ نتيجة طبيعيّة لذلك ، فيما هي العلاقة بين السبب والنتيجة.

وهناك فريق الضالّين الحائرين بين الكفر والإيمان ، لأنهم عاشوا الغفلة عن مسألة الفكر العقيدية في مجالات التوحيد ، والرسالة ، واليوم الآخر ، واستسلموا للأفكار الموروثة التي عاشوا قداستها من خلال قداسة العلاقة

٨٦

بالآباء والأجداد ، أو من خلال استغراقهم في المألوف من أفكار البيئة التي عاشوا فيها ، في عملية انجذاب لكل الأوضاع المتحركة في داخلها أو المحيطة بها ، وتأثر بكل المشاعر المتنوعة في مؤثراتها النفسية وبكل الإيحاءات المختلفة في أبعادها الذاتية ، الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى كل ذلك ، كما لو كان هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ثم تتطور المسألة إلى ما يشبه التعصب الذي يرفض الرأي المضاد كما يرفض التفكير فيه ، لأنه لا يريد أن يبتعد عن المألوف من الفكر الذي تربّى عليه ، أو لا يريد أن يتعب نفسه بالتفكير في ذلك ، بل يواجه المسألة بطريقة اللّامبالاة على أساس الاسترخاء الفكري والعاطفي.

وهؤلاء الضالّون لا يملكون الحجّة على ضلالتهم ، لأن الله خلق لهم عقولا ، وأراد لهم أن يحرّكوها في عملية إنتاج الفكر الذي يهدي إلى الحق ، وخلق لهم أسماعا وأبصارا وألسنة ، يستطيعون من خلالها أن يملكوا الوسائل التي توصلهم إلى معرفة المفردات الكونية والإنسانية ، والتي ينطلقون من خلالها إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر ، كما أرسل إليهم رسلا يبلّغونهم رسالات الله في الدائرة التي يمكن للعقل أن ينحرف فيها عن الصواب ، أو التي لا يملك خلالها الوسائل الطبيعية لمعرفته بشكل مباشر ، وأودع في كيانهم قلق المعرفة الذي يدفعهم للبحث والتأمل عند إثارة الشك أو الاحتمال في داخلهم ، بحيث يشعرون بالتقصير عند ما يتجمّدون أمامه ، ولا يتحركون للتعرّف على طبيعة المضمون الذي يثيره في آفاق النفس إزاء الواقع.

* * *

الثقافة المتحركة

وهكذا تمثّل هذه الفقرة من السورة جولة أفق فكريّة وشعوريّة في مواقع

٨٧

الناس الذين يتحركون بطرق مختلفة أمام مسألة الالتزام بالفكر الحق ، سلبا أو إيجابا ، ليحدّد الإنسان موقعه الفكري والعملي في عملية إيحاء ذاتي يتلمّس فيها قضايا الحق ليختزنها في داخل كيانه ، فيرفعها إلى ربه مبتهلا إليه بأن لا يجعله من السائرين في الطريق التي تؤدي إلى غضبه ، ولا يتركه مع السائرين في متاهات الضلال في الطريق التي لا يملك فيها الملامح التي تؤدي به إلى النتائج الحاسمة في المصير ، بل يجعله من الذين عاشوا نعمة السير في الطريق المستقيم في ألطاف الهداية الإلهية.

وهذا ما يدفعه إلى البحث الدائم عن الواقع الذي يحيط به ، ليميّز بين الطريق المستقيم والطريق المنحرف ، وليتعرف كيف يسير الناس من حوله ، مما يجعل عنده ثقافة متحركة على صعيد أفكار الناس وأوضاعهم ، لأن الذي لا يعرف الخط المنحرف ، أو الخط الضائع ، لا يستطيع أن يعرف الخط المستقيم.

* * *

من هم المغضوب عليهم والضالون؟

ورد في بعض الروايات ، أن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى. ولكن ذلك لا يحصر مداليل السورة في هذين النموذجين من الناس ، لأن ذلك قد يكون على نحو المثال ، كما هي طريقة القرآن في مواقع النزول للآيات ، في ما تتحدث عنه روايات أسباب النزول. وقد ورد أنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ، فلا يتحدد في المنطقة التي ينزل فيها ، ولا في الشخص الذي ترد فيه.

وربما كان ذكر اليهود ، كمثال للمغضوب عليهم ، ناشئا من الصورة

٨٨

المتكررة التي أبرزها القرآن لهؤلاء الناس في نقضهم الميثاق ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وكتمانهم لما أنزله الله من الحق على رسوله في كتابه ، ونحو ذلك من القضايا التي تجعلهم يستحقون غضب الله عليهم ؛ بينما كان النصارى متميّزين بالصفات الطيّبة ، باعتبار أنّهم أقرب الناس مودّة للذين آمنوا (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة : ٨٢] ، وأنهم (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [المائدة : ٨٣] حزنا ، ولكن مشكلتهم أنهم انحرفوا عن الرسول فلم يؤمنوا به ، وأنّهم قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ، ونحو ذلك من التصورات الخاطئة في العقيدة ، ولم يتحدث عنهم بطريقة قاسية كالطريقة التي تحدث بها عن اليهود الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا ، بالإضافة إلى المشركين.

ومن خلال ذلك ، نستطيع أن ننفتح على التيارات الفكرية المضادة للإسلام التي يمكن إدراجها تحت عناوين دوائر المغضوب عليهم والضالين ، تبعا لنوعية الحالة النفسية ، والسلوك العدواني ، بالإضافة إلى الخطأ والانحراف في العقيدة.

وهذا ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يواجهوه في خط التربية في توعية الناس حول المناذج المضادّة للتفكير الإسلامي ، فلا يكون الموقف واحدا ، بل لا بد من أن نفرّق بين الحالات العدوانية التي تتحول ـ في بعض الأحوال ـ إلى حالة عنصرية ، وبين الحالات العادية في الخلاف الفكري التي يمكن أن تتحول إلى حالة من اللقاء القائم على مواطن الاتفاق ، ليكون ذلك مدخلا إلى الحوار في مواطن الخلاف ، الذي يفضي بدوره إلى نوع من الوفاق في غياب الحالة النفسية المتشنّجة المعقدة.

* * *

٨٩

موقع الفاتحة من الصلاة

جاء في عيون أخبار الرضا للصدوق عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : قال الله عزوجل : « قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، إذا قال العبد : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال الله جل جلاله : بدأ عبدي باسمي وحق علي أن أتمّم له أموره ، وأبارك له في أحواله ، فإذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال الله جل جلاله : حمدني عبدي ، وعلم أنّ النعم التي له من عندي ، وأنّ البلايا التي دفعت عنه بتطوّلي ، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة ، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال الله جل جلاله : شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم ، أشهدكم لأوفرنّ من رحمتي حظه ، ولأجزلن من عطائي نصيبه ، فإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قال الله تعالى : أشهدكم ، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين ، لأسهلنّ يوم الحساب حسابه ، ولأتقبلنّ حسناته ، ولأتجاوزنّ عن سيئاته ، فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، قال الله عزوجل : صدق عبدي إياي يعبد ، أشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي ، فإذا قال: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال الله تعالى : بي استعان عبدي وإليّ التجأ ، أشهدكم لأعيننّه على أمره ، ولأغيثنّه في شدائده ، ولآخذن بيده يوم نوائبه ، فإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخر السورة ، قال الله عزوجل : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، قد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل ، وآمنته مما منه وجل » (١).

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٤١ ـ ٤٢.

٩٠

وفي هذا الحديث إشارة إلى الأجواء التي تمثلها السورة في علاقة العبد بربه ، وعطف الرب على عبده ، وحركة الآيات في وعي الإنسان ـ في ذلك كله ـ أنه يعيش مع الله في كل آفاقه المنفتحة على الدنيا والآخرة ، وفي كل مواقع حركة الناس في خط الاستقامة أو في خط الانحراف ، ليكون الرزق من الله ، ولتكون الهداية منه ، فيشعر بالنعمة المادية في حياته الجسدية ، وبالنعمة المعنوية في حياته العقلية والروحية.

وبذلك كانت سورة الفاتحة أمّ الكتاب ، ونقطة الوعي ، ومفتاح العقيدة في كل مواقع الإنسان في الحياة. وهذا هو الذي جعلها أساسا لكل صلاة حتى جاء أنه « لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ».

* * *

دور الصلاة

وهذا ما جعل من الصلاة الإسلامية أسلوبا عقليا من أساليب التثقيف الفكري فيما هي العقيدة ، وأسلوبا روحيا من أساليب التربية الروحية فيما هو الإيمان ، وحركة منفتحة على الله فيما هي مشاعر التوحيد في العبادة ، وحركة الحاجات في الحياة ، حتى يشعر الإنسان بارتباطه بالله من موقع حاجاته ، كما هو مرتبط به من موقع إيمانه ووجوده. وهذا ما جعل من الصلاة عمودا للدين ، باعتبار أن مضمونها الفكري ، في القراءة والذكر والركوع والسجود ، يمثل نهجا للتربية الفكرية والروحية والعملية في الحياة.

* * *

٩١
٩٢

سورة البقرة

مدنيّة

وآياتها مائتان وسبع وثمانون

٩٣
٩٤

سورة البقرة بين الاسم والمسمى

أول ما قد يتبادر إلى أذهاننا في ما يتعلق بهذه السورة هو السؤال التالي : لماذا كانت هذه التسمية؟

والجواب : إن أسماء السور القرآنية تخضع للتركيز على قصّة معيّنة ، أو اسم معين ، أو موضوع خاص بارز في السورة ، ممّا يراد توجيه الأنظار إليه ، فنجد أمامنا سورة آل عمران ، وسورة النساء ، والكهف ، والإسراء وغيرها من السور التي تشتمل على ما ترمز إليه عناوينها. وكانت تسمية سورة البقرة رمزا للقصة المذكورة في حوار موسى عليه‌السلام مع قومه ، عند ما قال لهم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة : ٦٧].

وانطلقت الأسئلة تلو الأسئلة من بني إسرائيل ، لا لتحاول استجلاء الموضوع ، بل لتتهكّم أو تسخر أو تتعنّت ، وجاء رد الفعل تأديبيا ؛ فكلما ازدادت الأسئلة ، كانت القيود والخصائص المطلوبة في البقرة تزداد وتكثر ، حتى أصبحت قيمتها بمستوى كبير جدا في تكاليفه المالية ، في الوقت الذي كان بإمكانهم أن يتفادوا هذا الشيء بالاكتفاء بالأمر الذي صدر إليهم ، والأخذ بإطلاق الكلمة ، ويكتفوا بأية بقرة في مجال امتثال الأمر. وكان ذلك بمثابة العقوبة التشريعيّة على استخفافهم وسخريتهم بالنبي وبالتشريع ، ولم يقتصر الأمر على هذا الموضوع ، بل إننا واجدون في ما يأتي من حديث بني

٩٥

إسرائيل ، كثيرا من التشريعات المحرّمة التي كانت عقوبة على سلوكهم في واقعهم المنحرف الذي كانوا يعيشونه.

وربما كانت علاقة القصّة ـ في خصوصيتها الإسرائيلية ـ بالخط العام التوجيهي في السورة ، في كونها تقدّم للمسلمين الصورة الكاشفة عن السلوك المنحرف لبني إسرائيل في مواجهة الأنبياء ، بالدرجة التي تصل بهم إلى التعسّف والاستهزاء بالأساليب المتنوعة التي تشغلهم عن مهمّتهم الرسالية بالقضايا التفصيلية التي تعقّد الواقع العملي ، وتدفع به إلى متاهات الاحتمالات العقيمة ؛ فتكون القصة بمثابة التحذير التربوي للابتعاد عن ذلك في مسئولياتهم العملية في حركة الدعوة ، وفي خط القيادة الشرعية.

وربما كان السر في التركيز على هذه القصة ، هو إعطاء الأهمية لضرورة توفر روح الطاعة المطلقة ، والتسليم الواعي للأوامر الصادرة من الله للناس بواسطة رسله ، لدفعهم إلى أن ينظروا إليها نظرة احترام ومسئولية في الفهم والممارسة ؛ فلا يغرقوا في ضباب الاحتمالات المتنوّعة التي لا مجال لها من خلال مدلول الكلمة وجوّها الطبيعي. وبذلك يبتعدون عن الانحراف العملي في خطوات التشريع.

ولعل علاقتها بمضمون السورة تكمن في اعتبار اشتمالها على كثير من الأحكام الشرعية ، التي تلزم المؤمنين بامتثالها من دون اعتراض أو فضول لا معنى له. أما ارتباطها بمسيرتنا العملية العامة ، فإنّها توجّه الإنسان المسلم إلى عدم الإكثار من الأسئلة حول المسؤوليات التي تناط به ، إذا كانت التعليمات واضحة محدّدة في الجوانب الصريحة وفي الجوانب المطلقة ؛ إذ يمكن للإنسان أن ينطلق معها بشكل طبيعي مركّز من دون سؤال ، لأنه لو كان هناك حاجة إلى بيان زائد لذكر ، آخذين بالاعتبار حكمة المتكلم في ما يبيّنه ، وفي ما يترك الحديث عنه.

٩٦

إن خلاصة الفكرة في القصّة ، هي أن نترك الفضول في قضايا المسؤولية ، إلّا إذا انطلق من عدم فهمنا لطبيعة التوجيه في الفكرة المعروضة علينا ؛ فإن ذلك هو الذي يمنع الاهتزاز في وعي المعرفة ، ويدفع الإنسان إلى الإحساس بالثقة في مواقع المسؤولية.

* * *

مواضيع السورة

لعلّ هذه السورة من أبرز سور القرآن الكريم التي عالجت قضايا العقيدة في سياق مواجهتها للتحديات الفكرية والعملية ، أو من خلال تاريخها المتحرك في مسيرة دعوة الأنبياء إلى الله ، ومدى الصراع العنيف الذي واجهوه من جانب قوى الكفر والضلال ، أو في نماذجها المتنوعة من الذين يقفون أمام قضية الكفر والإيمان في مواقف ثلاثة :

فهناك النموذج الأول المتمثل بالمؤمنين الذين يعيشون الإيمان في وجدانهم ، ويمارسونه في حياتهم ، ويصرّحون بالتزامهم به بدون خوف أو تذبذب.

وهناك المنوذج الثاني المتمثل بالكافرين الذين يكفرون بالله ، ويمارسون الكفر في مواقفهم العملية ويجاهرون به.

وهناك النموذج الثالث المتمثّل بالمنافقين الذين تهتز مواقفهم في داخل ذواتهم وخارجها بين خط الإيمان وخط الكفر ، وقد أفاضت السورة في الحديث عنهم ، لنعرفهم من خلال مواصفاتهم وسماتهم في كل زمان ومكان.

وقد عالجت السورة بداية خلق آدم عليه‌السلام ، فتحدثت عن الحوار بين

٩٧

الله ، سبحانه وتعالى ، وبين الملائكة ، ثم بينه وبين إبليس ، لإعطاء الفكرة الحيّة في بيان قيمة الإنسان وكرامته من حيث تأكيد جانب الخلافة له في الأرض ، ومن حيث التركيز على مزاياه التي يتفوّق بها على الملائكة ، بسبب ما منحه الله من العلم ، ومن القدرة على التكيّف بواسطته في جميع مجالات الحياة.

ودخلت السورة في أجواء بني إسرائيل لتحدثنا عن بعض محطات تاريخهم ، وما عايشوه من مشاكل ، لا سيما ممارساتهم العملية المنحرفة ضد الأنبياء ورسالاتهم. ثم انطلقت لتعالج مختلف القضايا الشرعية ، فأثارت الحديث عن الطلاق والزواج ، والصوم ، والصلاة ، والحج ، والربا ، والوصايا ، وغير ذلك.

وفي ضوء ذلك ، تعتبر هذه السورة من أغنى السور القرآنية ، لأنها تجسّد أغلب المجالات الحيّة ، التي يمكن لها أن تغني روحية الإنسان الداخلية ، وثقافته الفكرية والتاريخية والتشريعية ، في الإطار القرآني المميّز.

وربما كان الأساس في هذه الغنى الكبير ، هو أن هذه السورة المدنية تصدت لحاجات المجتمع الإسلامي الجديد في العقيدة والفكر والتشريع ، لتبلور له مفاهيمه وقناعاته ، لئلا ينحرف أمام المد الفكري والتشريعي المنحرف ، الذي كان يتمثّل في أساليب اليهود المتعددة لتضليل المسلمين في صراع الإسلام الدائر معهم ، ومع الفئات الأخرى من المشركين والمنافقين ، ولترسي أسس هذا المجتمع على قاعدة إسلامية متينة. وهذا هو الطابع الذي يغلب على السور المدنية ، بينما تّتجه السور المكيّة إلى تغذية جانب العقيدة لأنها كانت سرّ المشكلة لديهم. هذه صورة مجملة عن الموضوعات التي عالجتها السورة.

* * *

٩٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآتان

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٢)

* * *

معاني المفردات

(رَيْبَ) : الريب : الشك ، وقيل : أسوأ الشك ، وقيل : أن تتوهم بالشيء أمرا ما فينكشف عما تتوهمه.

(هُدىً) : الهدى الدلالة بلطف (١).

(لِلْمُتَّقِينَ) : من الوقاية ، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه. والتقوى هي جعل النفس في وقاية مما يخاف ، وفي عرف الشرع : حفظ النفس من معصية الله وترك طاعته ، لأن ذلك هو الذي يؤدي إلى وقايتها من عذاب

__________________

(١) وردت معاني الهداية في سورة الفاتحة ، تراجع في مكانها.

٩٩

الله ؛ وبذلك كان الخوف تقوى باعتباره من أسباب الوقاية حيث يدفع الإنسان في اتجاه البعد عن مواقع سخط الله ، وجاء : التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك (١).

* * *

الحروف المقطّعة في القرآن

(الم) من الحروف المقطعة التي ابتدأت بها أكثر من سورة في القرآن ، وقد قال المفسّرون في معناها آراء عدة نذكر منها :

الرأي الأول : إنّها من الرموز والأسرار التي تعبّر عن تاريخ معيّن تنتهي فيه الدنيا ، أو تتمثّل فيه بعض الحوادث ، وذلك على أساس حساب الحروف الأبجدية الذي يجعل لكل حرف منها رقما معينا يعبّر عن عدد معيّن.

ونحن لا نوافق على هذا الرأي ، لأنّ القرآن لم يتنزّل ليتّجه مثل هذا الاتجاه المتكلّف في التعبير عن الحوادث والأشياء ، وبالتالي ليربط الناس بأسرار وألغاز ومعميات يختلف الناس في فهمها ؛ لأن ذلك لا يحقّق أيّ هدف للمعرفة وللهدى الذي اتبعه القرآن ليشقّ طريقه في الحياة.

الرأي الثاني : إنّها لإثارة انتباه الناس إلى الآيات التي يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأها عليهم ؛ فقد كان المشركون ـ في ذلك الوقت ـ يعملون على إثارة الضوضاء واللّغو عند قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقرآن ، ليمنعوا الآخرين من الاستماع إليه ، فجاءت هذه المفردات غير المألوفة لديهم لتؤدّي دورها في إثارة الانتباه من خلال غرابتها على أسماعهم ، لأنّها ليست من النوع الذي تعارفوا عليه ،

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ١ ، ص : ٤٥.

١٠٠