تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

الفكرية ، لأنّ هناك بعض الأشخاص الذين وضعوا أنفسهم في موقع الناقدين لهذا الكتاب اعتمدوا أساليب التجريح والتشهير وحمل الكلام على خلاف ظاهره ، وتغليب الاحتمال السلبي على الاحتمال الإيجابي ، لأنّ الهدف ، في ما يبدو ، لم يكن النقد العلمي ، بل الإساءة الشخصية ، وإنّني أدعو الله لهذا البعض بالهداية والرشد الفكري والتقوى العلمية مع كلّ محبتي لهم.

وفي الختام أرجو أن ينفع الله بهذا الكتاب في طبعته الجديدة القراء الكرام ، وينفعني بذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ، وأن يوفقني لإدراك الحقيقة التفسيرية في التجربة الجديدة القادمة في بقية أجزاء القرآن.

والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل

١١ كانون الأول ، ١٩٩٨ ـ ٢٢ شعبان ١٤١٩

٢١
٢٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة الطبعة الأولى

هل هذا كتاب تفسير ، وهل نحن بحاجة إلى تفسير جديد أمام هذا الحشد من التفاسير التي لم تترك جانباً من جوانب المعرفة القرآنية إلّا وأفاضت في تحليله وتوسيعه وتعميقه ، من الجوانب اللغوية إلى الجوانب البلاغية والفلسفية والنفسية والاجتماعية ، وغيرها ، حتى انتهى الأمر إلى التفسير العلمي الذي يحاول روّاده أن يجعلوا من القرآن مجمعاً لكلّ ما استحدث من اكتشافات ونظريات في شتى ألوان المعرفة ... وانطلق البعض في اتجاه متطرف يجعل من القرآن كتاباً مليئاً بالأسرار حافلا بالمعميات والألغاز ، مما يوحي للقارىء بأنّه أمام كتاب يعتمد على الرموز في كلّ ما يريد أن يعرّفه للنّاس ؛ وما تزال المحاولات مستمرة في استحداث آفاق جديدة لتفاسير جديدة؟!

والجواب : إنّنا لم نكتب هذه الأبحاث في البداية كمحاولة تفسيرية جديدة ، بل كانت دروساً قرآنية تلقى على مجموعة من الطلاب المؤمنين المثقفين من أجل خلق وعي قرآني يركز الوعي الإسلامي على قواعد ثابتة لا مجال فيها للاهتزاز وللانحراف ، لأنّنا نشعر أنّ الثقافة القرآنية تعتبر العنصر الأساس لأي عمل إسلامي تغييري على صعيد الفكر أو على صعيد الواقع ، باعتبار أنّ القرآن يمثّل في وعينا الإسلامي العقيدي الكتاب الذي (لا يَأْتِيهِ

٢٣

الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، وقد تكفل الله بحفظه من التحريف والزيادة والنقصان ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩]. وفي ضوء هذا ، فإنّه يمثّل المصدر المعصوم للتصور الإسلامي الصافي لكلّ مجالات الحياة التشريعية والفكرية والعملية ، ويحدد لنا المفاهيم الأصلية التي ترتكز عليها الشخصية الإسلامية.

ولا نريد لهذه الكلمة أن توحي بالانتقاص من قيمة السنّة كمصدر ثان أساسي للفكر والشريعة الإسلاميين ، فإنّ الحديث يعتبر الصورة التفصيلية للمفاهيم القرآنية العامة ، فهو الذي يضع النقاط على الحروف ، وهو الذي يحدد للقواعد العامة مسارها الفكري والعملي ، ولكنّ القرآن يختلف عن ، السنّة في أن « سنده » لا يحتاج إلى إثبات علمي يبحث فيه العلماء وثاقة الراوي وأمانته ليحكموا من خلاله بصحته ، لأنّ سنده قطعي ، بينما نجد أنّ سند الحديث الذي يثبت لنا أن النّبي قال هذا أو فعل هذا ليس بهذه المثابة من القوة ، فلا بدّ له من إثبات قد يختلف العلماء في أمره كما يختلفون في كلّ قضية اجتهادية.

ولذلك فإنّ التأكيد على الاهتمام بالقرآن يعمل على صنع الذهنية القرآنية الصافية التي نستطيع من خلالها أن نكتشف زيف الأحاديث الموضوعة من خلال اكتشاف زيف المفاهيم التي عالجتها عند ما نعرضها على القرآن الكريم انطلاقا من الأحاديث الثابتة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام التي تقرر أنّ « كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (١).

وانطلقت هذه الدروس في خطّ عملي متحرك يركز على استحياء أجواء

__________________

(١) البحار ، م : ١ ، ج : ٢ ، ص : ٤٩٥ ، باب : ٢٩ رواية : ٣٧.

٢٤

القرآن من أجل أن نعيش تلك الأجواء في حياتنا الإسلامية الصاعدة ، لأنّ القرآن ليس كلمات لغوية تتجمد في معناها اللغوي ، بل هي كلمات تتحرك في أجواء روحية وعلمية ، ولهذا فإنّنا لا نتعامل مع آياته كتعاملنا مع النصوص الأدبية المجردة التي تتحرك مع الفكرة بعيدا عن أجواء الواقع ، بل إنّنا نشعر أنّه حياة تتحرّك وتعطي وتوحي وتهدي وتقود إلى الصراط المستقيم.

فقد كانت آياته تتنزل في أجواء حركة الدعوة الإسلامية لتراقب نقاط ضعفها وقوتها في خطوات الداعية وفي تحديات الواقع ، لتضع لها القواعد الحية التي تقوّي جوانب الضعف وتحمي القوة من عوامل الانهيار وتوجه الخطوات إلى أهدافها وتواجه تحديات الواقع بإصرار ... وبذلك كانت تتحرك في جو الرسالة لتخلق من خلاله جوّا جديداً لها في داخل حركة المجتمع الإسلامي.

وقد نجد ـ في هذه الرؤية للأسلوب القرآني ـ أنّ علينا أن نفهم القرآن ككتاب رسالة ودعوة ، وذلك من خلال استحضار أجواء الدعوة والرسالة في نفوسنا ، لنعيش حيويته وحركيته وروحانيته الرسالية كما عاشها المسلمون الأولون ، للوصول إلى الهدف الكبير وهو صنع الشخصية القرآنية المنفتحة الواعية التي كان يجسدها الرسول الأعظم في سيرته أصدق تمثيل ، ولذا كانت سيرته رسالة عملية كما كانت أقواله رسالة ، فالتقت في حياته الأسوة والقدوة بجانب الدعوة ، وذلك قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب : ٢١].

* * *

وقد لاحظنا ونحن نتابع القرآن في أسباب نزوله أنّ هناك نقطتين جديرتين بالاهتمام في عملية الاستيحاء القرآنية :

٢٥

الأولى : إنّ الآية لا تتجمد في النقطة التي انطلقت منها ونزلت فيها ، لأنّ أسباب النزول لا تمثل إلّا المنطلق الذي تحركت الفكرة من خلاله بعيدا عن كلّ ما يحددها ويقيدها في دائرته ، ولذلك عاشت الآيات الكريمة لتتسع وتمتد مع الزمان والمكان في كلّ مجال يتسع للفكرة وللمفهوم من خلال المنوذج الأول ، فكان من جراء ذلك أن أصبحت الآيات تعيش معنا صراعنا مع الكفر والشرك والظلم والطغيان تماما كما كانت تعيش مع نماذجها الأولى صدقا والتزاما وإرادة حرة تتحدى الواقع المنحرف بكلّ ما تملكه من خطوات الحرية في الفكر والعمل. وهذا هو ما وردت فيه الكلمات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام : إنّ القرآن « يجري كما تجري الشمس والقمر » (١).

النقطة الثانية : إنّ الآيات قد تتحرك في نطاق مضمون فكري معيّن ولكنّها توحي لنا بشكل آخر ، باعتبار علاقة المعنى الذي تتضمنه الآية بالمعنى الآخر من حيث طبيعة النتائج العملية ومن حيث وحدة المسار ، وهذا هو ما عبّرت عنه بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام : بالتأويل ، الذي لا يقصد فيه إعطاء اللفظ مدلولاً ثانياً غير المدلول الذي يظهر فيه بحسب وضعه اللغوي ، بل يقصد استيحاء المعنى الحقيقي ومن أجل الإيحاء بمعنى آخر ، وذلك كما ورد في قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢].

فقد ورد في كتاب الكافي بإسناده عن فضيل بن يسار قال : « قلت لأبي جعفر محمّد الباقر عليه‌السلام قول الله عزوجل في كتابه : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)؟ قال : من حرق أو غرق ، قلت : فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال : ذاك تأويلها الأعظم » (٢).

__________________

(١) البحار ، م : ٨ ، ج : ٢٣ ، ص : ٧٤٦ ، باب : ١٠ ، رواية : ٢٧.

(٢) محمد بن يعقوب ، الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٢١٠ ، رواية : ٢.

٢٦

والظاهر أنّ المراد من التأويل الأعظم هنا هو المفهوم الأعمق بما يتسع له إيحاء الآية ، لأنّ قيمة الحياة تتمثل في ما تحققه من الارتباط بالله والسير على هداه ، فلا قيمة لها إذا كانت سائرة في خبط عشوائي في الضلال.

وقد حاولنا في هذه الدروس التفسيرية أن نستوحي القرآن في مفاهيمه الأصلية الحية لنجعل حياتنا تتحرك في إطاره في ما نواجهه من قضايا ومشاكل وأوضاع جديدة ، وذلك من خلال استيحاء المعاني القرآنية في الجانب الأعمق والأوسع للفكرة.

وإنّنا لا نريد الادعاء بأنّ هذه المحاولات التفسيرية تمثّل شيئا جديدا في التفسير ، بل الغالب في ما عالجناه كان من إفادات المفسرين والمحققين في هذا المجال .. وليس لنا من ذلك إلّا بعض الاستنتاجات والانطباعات والاستيحاءات ، لأنّه لم يكن كتابا يكتب ، بل كان دروسا تلقى على طلابنا الأعزاء فيسجلونها في أشرطة تسجيل ثم يكتبونها ويقدمونها إليّ فألاحظها ملاحظات سريعة حسب ما يتسع لي الوقت.

وكل ما أرجوه أن تحقق هذه المحاولات بعضا من جدّة العرض والأسلوب ، وبعضاً من حركية التفسير في واقعنا المعاصر الذي تحتاج الدعوة الإسلامية فيه إلى ان تحرك القرآن في حياتها في كلّ مجالاتها العملية في الطريق وفي الهدف ، إنّها « من وحي القرآن » ، وسيبقى القرآن يوحي ما دامت للحياة مسيرة نحو الله ، وما دامت الإنسانية تبحث عن الهدف الأسمى الذي يحقق لها التكامل في السعادة التي تربط الدنيا بالآخرة ، والروح بالمادة ، والفرد بالمجتمع ، وذلك هو الإسلام في معناه الكبير ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

بيروت ٢٠ رجب ١٣٩٩ ه‍.

٢٧
٢٨

سورة الفاتحة

مكيّة

وآياتها سبع

٢٩
٣٠

مدخل عام

لعل قيمة هذه السورة تكمن في أنها تقدم ، في آياتها ، تصورا شاملا لعلاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان به من خلال صفاته ذات الصلة الوثيقة بهذه العلاقة المتبادلة ، ليكون ذلك بمثابة الثقافة السريعة ، والوعي المتحرك في الوجدان الإنساني ، كلما أراد تمثّل تصوّره العقيدي لله ، لتتوازن تصوراته ، ولتستقيم خطواته في هذا الاتجاه ؛ فهناك الإطلالة بالفكر على كل آفاق الحمد في صفات الله وأفعاله ، مما يتحسسه الإنسان في سرّ وجوده وحركته وعناصر شخصيته وامتداد حياته ، مما يتمثل فيه عظمة الخلق ، وروعة النعمة ، فيكون الحمد بكل إيحاءاته الفكرية والشعورية هو التعبير الصارخ لكل ما يحمله الإنسان من انفتاح على مواقع الحمد لله.

وهناك الربوبية الشاملة للعالمين التي يتطلع فيها الإنسان إلى الله في آفاق ألوهيته التي لا حدود لها ، ليجده في مواقع الكون كله ، في عوالمه التي لا حصر لها ، فيتحسس موقعه كإنسان من بين هذه العوالم ، ليجد التربية الإلهية تتعهده بالرعاية الكاملة من موقع القدرة المطلقة المنفتحة على آفاق الألوهية ، وليشعر بالوحدة الوجودية في ضلال الربوبية مع كل العالمين ، فلا يحس بأيّ انفصال عن حركة الكون من حوله.

٣١

وإذا كانت الكلمتان (لِلَّهِ) و (رَبِّ الْعالَمِينَ) تختزنان إيحاء قوة العظمة ، فإن كلمتي (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) توحيان بالرحمة التي تلامس قلب الإنسان وروحه وكذلك كل حياته ، لتناسب فيها محبة وخيرا وطمأنينة وسلاما ، فترتاح مشاعره لإيحاءات الرحمة في الوقت الذي تسمو فيه أفكاره إلى معاني العظمة ، ثم تنقله الأجواء الإيمانية إلى عالم آخر ، هو عالم الآخرة الذي يواجه فيه الجزاء العادل على أعماله الصالحة أو غير الصالحة في يوم الدين الذي يملكه الله ، فله ـ وحده ـ السيطرة المطلقة فيه ، في كل ما يتعلق بالثواب والعقاب ، والجنة والنار .. وبذلك تندفع مشاعر المسؤولية في كيان الإنسان لينطلق تصوّره لله من خلال هذا الأفق الواسع الذي يثير في داخله الرقابة الإلهية الشاملة لتوازن خطواته في المواقع التي تتوازن فيها أعماله.

وهكذا يكون التصور لله في هذه الصفات الثلاث أساسا لحركة العقيدة بالله في تفاصيلها الإيحائية التي تتحرك في حياة الإنسان لتوجهه إلى عبادة الله ، ممّا تفرضه الربوبية الشاملة والرحمة الواسعة والمالكية المطلقة للمصير كله ، وفيما هي الهيمنة كلها على الكون كله ، فيتوجه إليه ليعبّر عن خضوعه لعبادته بالمستوى الذي ينفتح فيه على توحيد العبادة ، فلا يعبد غيره ، ولا تكون المسألة مسألة تقريرية ، بل هي مسألة إقرارية ، لأنه يسجل على نفسه الاعتراف الحاسم بذلك بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

ثم يتطلع إلى الوجود كله ليجد أن الله هو القادر على كل شيء فيه ، لأنه الخالق لكل الوجود ، فكل مخلوق محتاج إليه بفعل ارتباط وجوده به الذي يمثل الفقر كله ، مما يجعله عاجزا عن إدارة شؤون نفسه ، أو إدارة شؤون غيره إلّا بإذنه ، فهو المستعان ، فلا يملك أحد أن يحصل على العون إلا بإرادته ،

٣٢

وهو الكافي الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء.

وهكذا ينطلق الفقر الإنساني في حاجاته الوجوديّة ، ليصرخ ، من موقع العقيدة المنفتحة على قدرة الله على كل شيء ، بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، مما يوحي بالتوحيد في الاستعانة ، فلا استعانة للعبد إلّا بربه الواحد في عمق المعنى ، لأن ما يقدمه الآخرون من معونة ، فهو مستمد من الله.

وإذا كان الله هو المعين ، فهو الهادي إلى سواء السبيل ، لأن الهداية جزء من معونته ، يفتح بها قلب الإنسان وعقله على الحق ، ويوجه حركته الاتّجاه السليم ، في ما يوجهه إليه من رسالاته ، ويلطف به من فيوضات ألطافه ، ليهتدي بذلك كله إلى الطريق المستقيم الذي تتمثل فيه كل نعم الله في وعي الحق المنفتح على كل قضايا العقيدة في الحياة ، ويبتعد ـ من خلاله ـ عن كل الطرق المنحرفة التي تقوده في فكره وعمله إلى غضب الله ، وعن كل المتاهات الفكرية والروحية والحركية التي تؤدي به إلى الضياع في صحراء الضلال على كل المستويات.

وهكذا تحدد السورة للإنسان تصوراته لرّبه ، في موقع الربوبية والرحمة والمسؤولية ، والتزامه بالله في موقع العبادة له والاستعانة به ، وانفتاحه عليه ، في الدعاء له بأن يهديه (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الذي يحصل من خلاله على محبته ورضاه وهداه.

وبذلك نجد في السورة الإطلالة الواسعة على الأجواء القرآنية الرحبة التي تضع هذه المبادئ عنواناً لها في الواجهة ، لتكون آيات القرآن بمثابة التفاصيل كل مفرداتها ، ولذلك سميت ب « أمّ الكتاب ».

وربما أمكننا أن نختصر خطها العام بتأكيدها على العقيدة والعمل اللذين

٣٣

تندرج تحتهما كل المفاهيم القرآنية في حركة الفكر والواقع في تفاصيل الآيات القرآنية المتصلة بالحياة الإنسانية في الواقع كله.

* * *

٣٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)(٧)

* * *

ذكر الله

هل يراد للبسملة أن تكون كلمة قرآنية يرددها المؤمنون في قراءتهم وفي ذكرهم التقليدي لله ، ثم لا شيء غير ذلك؟!

٣٥

أم أن هناك شيئاً أعمق من ذلك؟

ربما نحتاج إلى الدخول في رحاب القرآن لنستعرض الآيات الكثيرة التي تؤكد على مسألة ذكر الله في داخل حركة الزمن : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الإنسان : ٢٥] ليكون اسم الله هو ما يبدأ الإنسان به ويختم ، كإيحاء بالشعور العميق بالزمن الذي ينفتح على الله ، لينفتح الإنسان من خلاله على حركة المسؤولية في حياته. كما يؤكد عليها في الحالة الداخلية كوسيلة من وسائل التفاعل مع المضمون الحيّ لاسم الله ، في سبيل تعبئة الناحية الشعورية بالتضرع إلى الله من خلال الحاجة إليه وإلى رضوانه ، وبالخوف منه من خلال التخلص من عقابه ، وذلك من أجل إيجاد الوعي الروحي الذي يعيش فيه الإنسان الحضور الإلهيّ في شخصيته ، فلا يكون غافلاً عنه.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) [الأعراف : ٢٠٥].

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨].

وهكذا أراد الله أن نذكره في مقام التسبيح باسمه ، وفي مقام الانفتاح على التزكية ، وعلى الصلاة.

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١].

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى : ١٤ ـ ١٥].

كما أرادنا أن نذكره عند ما نبدأ القراءة ، لتكون القراءة باسمه ، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١].

وقد ورد التأكيد على أن الحيوان لا يحلّ ذبحه إلّا إذا ذكر اسم الله عليه (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١].

٣٦

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ١١٨].

وهكذا تتنوع الآيات التي تتحدث عن ذكر الله وعن الذاكرين لله ، في ما يمثله ذلك من قيمة روحية كبيرة تتصل بالمستوى الإيماني للإنسان المسلم ، وبالدرجة الرفعة التي يحصل عليها عند الله سبحانه وتعالى.

إننا نستطيع أن نخرج من هذا العرض السريع بنتيجة محددة ، وهي أن الله يريد لعباده أن يذكروه دائما في كل أمورهم ، وأن يربطوا به كل تحركاتهم وأوضاعهم ، ليظل وعيهم الإيماني في الحضور الإلهي في فكرهم وشعورهم منفتحا على الله ، وليبقى إحساسهم متحركا في نطاق ارتباط كل الأشياء به ، فلا يستسلم الإنسان للحالات التي توحي له باستقلاله الذاتي أو باستقلال الأسباب الواقعية المحيطة به في إدارة قضاياه أو قضايا الكون من حوله ، والتي قد تأتي من خلال الغفلة عن عمق الفقر التكويني الذي يتمثل في كل الموجودات في علاقاتها بالله.

وهذا ما انطلقت به التربية الإسلامية ، لتجعل بداية كل عمل يقوم به الإنسان مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى ، ليتولد لديه الشعور بأن الطاقة التي يبذلها والأفكار التي يطلقها ليست شيئا ذاتيا ، بل هي شيء مستمد من الله ، بسبب ما أودعه في كيانه من أجهزة ، وما أحاطه به من إمكانات ، وهداه إليه من وسائل.

* * *

بين الارتباط بالله والثقة بالنفس

وليس معنى ذلك ـ كما قد يخيّل للبعض ـ أن يبتعد الإنسان عن الإحساس بالثقة بنفسه ، ليكون مجرد خشبة في مجرى التيار ، أو ورقة في

٣٧

مهبّ الريح ، فيوحي لنفسه دائما بأنه لا يملك إرادته ، ولا يسيطر على حركته ، ولا يستطيع أن يتحكّم بتحديد مصيره ، في ما تفرضه عليه العقيدة الإيمانية من ذلك كله ، بل إن المسألة ، في بعدها الفكري العقيدي ، تؤكد الثقة بالنفس ، من خلال ثبات الأجهزة المودعة في داخل كيانه في نطاق العقل والإرادة والحركة الخاضعة للقوانين الإلهية المتحكمة ببنية الكيان الإنساني وفاعليته ، ومن خلال ثبات السنن الكونية التي أقام الله الكون عليها في حركة نظامه وفي مفردات الوجود في داخله ، مما يوحي بأن الإنسان يملك استقلاله الذاتي في دائرة النظام الكوني في كيانه وفي ما يحيط به من قوانين الوجود ، وذلك من خلال إرادة الله التي تتصرف في الكون كله بالحكمة العميقة وبالقدرة المطلقة.

ونستطيع التأكيد بأن هذا الارتباط الكلّي بالله القدرة والرحمة والعلم والحكمة ، يمنح الإنسان الشعور الكبير بالثقة ، بدرجة أكبر ، لأنه يستند إليه ويستعين به في مواجهة كل عوامل الضعف الداخلية والخارجية التي تتحداه ، من دون أن ينتقص ذلك من حريته ومصداقيته.

إن الاستعانة بالله تمثل ـ في المفهوم الإسلامي ـ الاستعانة بمصدر القوة الأساس في وجوده من ناحية المبدأ والتفاصيل ، تماما كما هو الحال في التفكير المادّي في السنن الكونية الطبيعية التي يراها أساسا لحركة الوجود المادية ، مع فارق كبير ، وهو أن المؤمن ينفتح على الإرادة الإلهية الحكيمة العليمة القادرة الواعية ، بينما يعيش المادّي في ضباب شديد .. كما أن إرادة الله قد تتجاوز السنن الطبيعية في بعض الحالات ، بينما لا يمكن تجاوزها في التصور المادّي لحركة الكون والإنسان.

* * *

٣٨

البسملة في إطار المنهج التربوي الإسلامي

وخلاصة الفكرة ، أن البسملة تمثل جزءاً من حركة التربية الإسلامية في ارتباط الإنسان بالله في أفعال وأقواله ، الأمر الذي يجعلها بمثابة الإيحاء المتحرك المستمر بأنّ الله يقف خلف كل وجوده وحركته ، فلا بد من أن يبدأ الأمور كلها باسمه ، ليكون ذلك موحيا بأن الله هو الذي يعطي الشرعية العملية لما يحتاج إلى مصدر الشرعية ، وأنه هو الذي يعطي القوة الحركية لما يحتاج إلى مصدر القوة ، حتى لا ينفصل العمل الإنساني ، في كل مواقعه ، عن التصور الإيماني لله ، على أساس أنّه هو القوة الوحيدة المهيمنة على الأمر كله في حركة الكون والإنسان ، باعتبار أنه مصدر التكوين والتشريع ، وبذلك يتأكد إيمان الإنسان في كل مواقع الحركة في أبعاد حياته.

وفي ضوء ذلك ، يمكن لنا أن نقرر ضرورة التقيد بذكر البسملة في كل المواقع والمواثيق والمعاهدات والخطابات ، باعتبار أنها تمثل العنوان الإسلامي الذي يوحي بالخط الإسلامي الملتزم بالله في ذلك كله.

وقد يكون من الضروري الانتباه إلى طبيعة الخطة التي يعمد إليها غير المسلمين ، أو غير الإسلاميين ، في الإيحاء بأن ذلك لا يمثل عنصراً مهما ، بالنسبة للقضايا الحيويّة التي تدور بين المسلمين وبين غيرهم على صعيد الاتفاقات ، الأمر الذي يفرض علينا ـ في ما يقولونه ـ أن لا نتوقف أمام هذا الموضوع ، وأن لا نصر على التقيّد به ، مما قد ينعكس سلباً على إتمام الاتفاقات أو المواثيق المصيرية عند ما يرفض الآخرون ذلك.

إن علينا التنبّه إلى طبيعة هذه اللعبة الخبيثة التي تريد إبعادنا عن الوقوف أمام العنصر الحي من عناصر شخصيتنا الإسلامية في ما ترسمه من الملامح

٣٩

العامة للوجه الإسلامي الأصيل ، وأن نواجه ذلك كله بالموقف الذي يؤكد على أن المسألة ليست مجرد كلمة تذكر أو تحذف ، بل هي عنوان للخط ، وحركة في المسيرة ، مما يجعل الاستهانة بها استهانة بالمعنى الأصيل الذي تمثله في معنى العقيدة الإسلامية.

* * *

بِسْمِ اللهِ

أي : أبتدئ باسم الله. وهذا هو المعنى المتبادر من جوّ الكلمة في متعلّق الجار والمجرور ، لأنّ المقصود هو الابتداء باسم الله في إيحاءاته بارتباط الفعل وهو القراءة ، أو الانفتاح على المضمون الذي تشتمل عليه السورة في المعاني العامّة التي أراد الله بيانها في تفاصيل آياتها ، لأن البداية عند ما تكون (بِسْمِ اللهِ) ، فإنها تفتح وعي الإنسان على كلام الله النازل من خلال وحيه ، مما يجعل من الابتداء باسمه مدخلاً للانفتاح عليه على أساس ما يرمز إليه اسم الله من الذات المقدسة المطلقة التي يرجع إليها الأمر كله ، فتكون بداية كل شيء منه ونهايته إليه.

وكلمة الجلالة « الله » لا تدل إلا على ذاته سبحانه ، بالوضع ، أو لغلبة الاستعمال ، وذلك من خلال التبادر الذي يوحي بذلك.

وعلى ضوء هذا ، فإن الكلمة تحمل الوضوح الصافي المشرق الذي يجعل التصور في مستوى الحقيقة التي لا مجال فيها للغموض أو الاشتباه ، بحيث لا يبقى هناك مجال للحاجة إلى أيّ تأويل أو تفسير ، ولذلك كانت كلمة التوحيد : « لا إله إلّا الله » تعني الالتزام بالوحدانية من دون حاجة إلى أيّ لفظ آخر يكمل المعنى ، لتعيّن المعنى التوحيدي من خلال الكلمة.

* * *

٤٠