تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

وهكذا رأينا الكثيرين يطرحون الإعجاز العملي كمظهر من مظاهر التحدي القرآني ؛ فيتحدثون عن كروية الأرض التي أشارت إليها الآيات التي تتحدث عن (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧] ، أو (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] ، باعتبار أننا لا نفهم معنى معقولا لتعدد المشارق والمغارب إلا من خلال كروية الأرض التي نجد فيها الشمس تشرق عندنا وهي تغرب عند قوم آخرين ، وبالعكس ، أو من خلال قانون الزوجية في الكون ، (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩] وغير ذلك من الأسرار التي لم يكتشفها الإنسان إلا بعد حين.

وقد يذكرون ـ إلى جانب ذلك ـ الإعجاز الغيبي من خلال إخبار القرآن بالمغيبات كشاهد على إعجاز القرآن ، ويتحدثون ـ في هذا المجال ـ عن قوله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم : ١ ـ ٣].

فقد ذكر المفسرون ـ في أسباب النزول ـ أن الفرس تغلبوا على الروم ، فشمت المشركون بالمؤمنين ، باعتبار أن الروم يلتقون مع المسلمين على أساس الإيمان بالله الواحد ، فنزلت الآية لتخبر بالانتصار المستقبلي للروم على الفرس ، وقد حدث ذلك في سنوات قليلة ، كما جاء في الآية الكريمة ، ثم يتحدثون عن آيات أخرى في هذا المجال.

وقد يذكرون ـ في معرض الحديث عن الإعجاز القرآني ـ نظامه وتشريعه المعجز الذي أثبت قدرته على الصمود والاستمرار أمام التطورات والمتغيرات الحياتية ، فلم يعرض عليه أي خلل في حل مشاكل الإنسان والحياة ، بل استمرت الأصالة الإسلامية في التشريع ثابتة من أجل أن يتطور الإنسان نحو المستقبل الأفضل بدلا من أن يتطور نحو الانحراف.

ثم تتنوع الأحاديث في قضية الإعجاز حتى تصل إلى الإعجاز العددي

١٨١

الذي يعتمد على اكتشاف التناسب العددي في ألفاظ القرآن الكريم ، فنجد تساويا في عدد المرات التي ذكرت فيها الدنيا مقارنا بعدد مرات ذكر الآخرة ، إذ تكررت كل منهما ١١٥ مرة على الرغم من اختلاف مواردهما ، ونلاحظ تساويا في عدد ذكر الملائكة وعدد ذكر الشياطين ، إذ وردت كلّ منهما ٨٨ مرة ، وهكذا تتسع الشواهد حتى تشمل الكثير من كلمات القرآن مع اختلاف مواردها وتنوّعها.

أما ملاحظتنا على ذلك فهي ، أن هناك أسلوبين في قضية إثبات صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدق القرآن.

الأسلوب الأول : هو الأسلوب الذي يعتمد على الحوار الهادىء فيثير الفكرة المضادّة أمام البحث ويناقشها ويحاكمها ويستمع إلى ردود الفعل المختلفة فيرجع إلى الفكرة من جديد .. وهذا هو الأسلوب الغالب في القرآن ، حيث نجد أمامنا الحوار الذي أداره مع الكافرين في التهم التي وجهت إلى شخص الرسول في صفاته الذاتية من جهة ، وإلى القرآن وعلاقته بالله أو بالرسول من جهة أخرى ، فقد حدثنا عن صفة الشاعر والساحر والمجنون وغيرها من الصفات التي أثيرت حول شخص الرسول للتهوين من شأنه ، وللتخفيف من تأثيره ، وكان للأسلوب القرآني الحكيم ، الجو الهادىء الذي يتابع الكلمات بروح هادئة ، أو بكلمات قوية واضحة ، ليعين الآخرين على التأمل العميق من موقع الفكر المسؤول.

وقد أثيرت حول القرآن عدة أفكار سلبية في مجتمع الدعوة الأول ، منها أنه من تعليم البشر ، وكانت الفكرة تشير إلى غلام رومي في مكة كان النبي يجلس إليه في بعض الأوقات وذلك هو قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣].

١٨٢

ومنها : أنه من وحي الثقافة الذاتية المكتسبة بالقراءة والكتابة ، وذلك هو قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨].

ومنها : اعتبار القصص القرآني من أساطير الأولين اكتتبها النبي فهي تملى عليه بكرة وأصيلا. وذلك قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥].

وقد أثار القرآن قضية المصدر الإلهي للقرآن ، من خلال الدعوة إلى التدبر فيه لاكتشاف الوحدة الفكرية التي تربط بين كل آياته على الرغم من اختلاف موضوعاته ، وتباعد أزمان نزوله ، وذلك هو قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ (١) لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

كما عالجها من ناحية أخرى ، فركز على الدعوة إلى دراسة تاريخ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قبل الدعوة ، وخلوّه من أية إشارة إلى ما استقبل به الناس من القرآن والدعوة والعمل ، مقارنا بتاريخه بعد الدعوة ، على أساس أن أية فكرة يهجس بها الإنسان أو يعمل على إثارتها في حياته وحياة الآخرين ، لا بد من أن تظهر على فلتات لسانه أو تصرفاته العملية ، لأن الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن شخصيته الفكرية والروحية مهما جاهد في إخفاء ملامحها ونوازعها وأطماعها ، ولا سيما إذا كانت القضية في حجم الرسالة الإسلامية وتطلعاتها المستقبلية ، مما يصعب على الشخص أن يبتعد عن تأثيراته في حياته العملية وذلك في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢]. (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [يونس : ١٦].

وقد نستطيع الحديث عن صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رسالته ، وفي قرآنه ، من

١٨٣

خلال الدراسة الموضوعية الشاملة التي تدرس حياة النبي في نشأته ، وبيئته ، وعلاقاته العامة والخاصة ، للتعرف على المؤثرات التي يمكن أن تكون قد ساهمت في صنع شخصيته المستقبلية بكل ما تشتمل عليه من دعوات وأحداث ، مع المقارنة بما يشتمل عليه القرآن ، وما تتسع له الشريعة الإسلامية من حقائق كونية ، ومفاهيم حياتية ، في جميع مجالات الحياة ، لننتهي إلى النتائج الحاسمة التي تربط القرآن بالله وتبعده عن الانتساب إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الأسلوب الثاني : هو أسلوب التحدّي الذي يعتمد على الصدمة الفكرية أو الحسية التي تحيط بالإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله ، في عملية تشديد وتهويل وإثارة ، فتتحدى فيه كل طاقاته ، لتعرّيه أمام نفسه وأمام الآخرين ، ليتصاغر أمام جبروت القدرة ، ويستسلم لرسالتها وشريعتها على أساس الشعور بالعجز المطلق أمام القدرة المطلقة.

وعلى ضوء ذلك ، نجد أن التحدي القرآني لم ينطلق إلا في إطار الجو الذي يملك المشركون أمر التحرك فيه ، وهو الجانب البياني ، أما الجانب العملي أو التشريعي أو الغيبي ، فهو من الجوانب التي تنهض دليلا على صدق القرآن في إطار الأسلوب الأول الذي يتميز بالحوار الهادىء الذي يريد للفكر أن يناقش الموقف بموضوعية وهدوء وليس في إطار التحدي ، لأن التحدي لا يعني شيئا في المجال الذي لا يملكون أمر المعرفة له ، فقد يكون لهم أن يعتذروا بعدم الاختصاص أو بغير ذلك من الأمور التي تمنعهم من مواجهته بمثله.

وقد يقال إن التحدي موجّه للناس كافة ، فلا بد من أن يكون في إطار يشمل كل الجوانب التي يمكن أن تثار أمام الناس ، بمختلف فئاتهم ، في أجواء التحدي.

ولنا أن نجيب أولا : إن التحدي لا يمكن أن يتحرك في فراغ في عصر

١٨٤

نزول القرآن ، بل لا بد له من أن يتوجه إلى الناس المعاصرين للدعوة باعتبارهم القوة التي تحتاج إلى صدمة التحدي لتلقي سلاحها أمام الدعوة الجديدة. ويمكن لهذا التحدي أن يثبت وجوده ويستمر في كل المجالات ، وليس من الضروري أن يتّسع التحدي لكل الاختصاصات ، بل يكفي فيه أن يكون معجزا ولو في بعض المجالات التي تثبت ارتباط الرسول بالقوّة الإلهية ، كما نلاحظ ذلك في معاجز سائر الأنبياء.

وثانيا : إننا نلاحظ أن التحدي قد طرح فكرة الإتيان بسورة واحدة ، أو بعشر سور مثله ، ونحن نعلم أن في السور القرآنية ، ولا سيما السور الصغيرة منها ، ما لا يشتمل على أية قضية علمية أو تشريعية أو غيبية ، فكيف يمكن أن يكون التحدي منطلقا في هذه الاتجاهات. أمّا الآية التي تحدّت بالقرآن ، فلا يظهر منها أن المقصود فيها بالقرآن هو مجموع ما بين الدفتين ، بل الظاهر هو غير ذلك ، باعتبار أن هذه الآية هي جزء من القرآن ، كما أن نزولها لم يكن في آخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ربما كان في وقت قريب من بداية الدعوة كما توحي به طبيعة التحدي في مراحله الأخيرة السابقة ، وقد نستطيع تأكيد ذلك بما قرره العلماء ، وهو أن مصطلح القرآن يطلق على الآية ، وعلى السورة ، وعلى المجموع ، فلعل المراد منه الطبيعة القرآنية بنوعها في خصائصها الذاتية من دون نظر إلى كمية الآيات قلة وكثرة.

ثم إن قضايا العلم والغيب لا يمكن أن تكون مجالا للتحدي من خلال شخصية النبي ، وطبيعة البيئة التي عاش فيها ، ونوعية المرحلة الفكرية التي وصل إليها عصره. أمّا من ناحية طبيعة الموضوع ، فلا مجال للتحدي ، لأن الوصول إلى هذه النتائج ـ ولا سيما العلمية ـ لم يعجز الإنسان في الماضي ولا في الحاضر ، وقد وصل الإنسان إلى بعض الأفكار في مجتمع غير مجتمع النبي ، سواء في عصره أو في العصور المتأخرة عنه ، وهذا ما لا تستجيب له آيات التحدي في القرآن ، لأن الظاهر منها انطلاق التحدي من الطبيعة القرآنية

١٨٥

للكلمة بعيدا عن شخصية النبي وظروفه الموضوعية وطبيعة المرحلة الفكرية للمجتمع ، وهناك نقطة جديرة بالتأمل نثيرها أمام الإعجاز بالغيب ، فإن الغالب في الأحاديث التي تفسر آيات الغيب ببيان أسباب النزول ، أنّها منقولة بطريق الأخبار الظنية التي لا تفيد قطعا وقناعة حاسمة بالنسبة للخصوم ، مما لا يدع مجالا لإقناع الآخرين بذلك ، لأن بإمكانهم أن يفسروا الآيات بما لا يتناسب مع هذه الفكرة. هذا مع التحفظ الشديد لكثير مما يثأر في تفسير القرآن بالنظريات العلمية مما لا مجال لبحثه الآن لأننا بصدد بحث في التفسير لا في علوم القرآن.

* * *

وقفة مع السيد الخوئي

وما دمنا في حديث عن الإعجاز القرآني ، تجدر بنا الإشارة إلى موضوع أثاره أستاذنا المحقق الخوئي ـ قدس‌سره ـ في كتابه القيّم « البيان في تفسير القرآن » في حديثه عن الفرق بين معجزة النبي في قرآنه وبين معجزة سائر الأنبياء ، بخلود معجزة الإسلام ، وهو القرآن ، وانقطاع معجزة غير الإسلام من الأديان الأخرى انطلاقا من خلود الإسلام في الزمن وعدم خلود غيره. قال ما نصه : « قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة والإيمان بها ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهدا لدعواه ، ولما كانت نبوءات الأنبياء السابقين مختصة بأزمانهم وأجيالهم ، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد ومحدودة ، لأنها شواهد على نبوءات محدودة فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة ، والبعض الآخر تنقل إليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر فتقوم عليه الحجة أيضا. أمّا الشريعة الخالدة ، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا ، لأن

١٨٦

المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الأمد ، لم يشاهدها البعيد وقد تنقطع أخبارها المتواترة ، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوّة ، فإذا كلّفة الله بالإيمان بها كان من التكليف بالممتنع ، والتكليف بالممتع مستحيل على الله تعالى ، فلا بد للنبوّة الدائمة من معجزة دائمة »(١).

أما تعليقنا على ذلك فمن جهتين :

١ ـ إن القضية التي أثارها سيدنا الأستاذ لا تدور مدار الخلود وعدمه ، بل تتحرك في إطار إمكانية حصول التواتر وعدم حصوله ، وهذا أمر مشترك بين الشريعة الخالدة والشريعة المحدودة بزمن طويل يرقى إلى مئات السنين ، فإن من البعيد أن نحصل على التواتر في جميع الطبقات في المدة المتطاولة التي قد ترقى إلى خمسمائة سنة أو أكثر كما في رسالة المسيح عليه‌السلام ، وفي هذه الحال يعود السؤال في تلك الشريعة : كيف يمكن أن يكلف الله الناس بالإيمان بها مع عدم إمكان ثبوت المعجزة لهم بالمشاهدة والتواتر؟ فإذا قيل بإمكانية حصول التواتر في ذلك المقدار من الزمان فلنا أن نقول به في الزمان الأكثر.

٢ ـ إننا نعتقد أن هناك أساليب عقلية لإثبات النبوّة من طريق المحاكمات الفكرية التي جاءت بها الرسالات ، مما يشهد بصدق النبوّة ، غير المعجزة التي تأخذ جانب التحدي. ولعل التاريخ النبوي يدلنا على أن المعجزة ـ التحدي ، لم تكن هي الأساس في إيمان الناس بالنبي والنبوة ، بل كانت هناك عناصر أخرى غيرها ، من معاجز آنية ، أو معادلات عقلية ، كما نجد ذلك في رسالة نوح التي كانت معجزتها الطوفان في نهاية عهدها الرسالي مع قومه ، وفي رسالة إبراهيم التي كانت معجزتها الوقوع في النار من دون احتراق في وقت متأخر جدا عن ذلك ، وهكذا نجد في كثير من الرسالات الأخرى التي لم يحدثنا القرآن الكريم فيها عن وقوع معاجز محددة في بدايات الرسالة. ونعتقد أن شخصية النبي في

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، ص : ٤٣.

١٨٧

قداستها وامتدادها ، وأن النبوّة في مضمونها الرحب العميق ، عند ما تتحول إلى تيار جارف في الحياة العامة ، تحققان القناعة والانطباع العفوي لدى الآخرين بصدق الرسول والرسالة.

إننا نحب إثارة هذه النقطة للمناقشة ، كمحاولة للخروج من الإطار الكلامي الذي درج عليه العلماء في تفسيرهم لقضية النبوّة وربطها بمعجزة التحدي ، وإهمال الطرق العقلية ، كأساس للإيمان.

وقد أثرنا هذه المباحث في نطاق تفسير الآية باعتبار ما نستفيده منها من طبيعة التحدي القرآني. وقد بقيت أمامنا أبحاث أخرى في العناصر الأساسية للإعجاز وفي الشبهات التي تثار حوله ، قد تأتي في مجال آخر في ما نستقبله من تفسير لآيات القرآن وسوره ، إن شاء الله.

* * *

١٨٨

الآيات

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥) إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٨)

* * *

١٨٩

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول عن ابن عباس في رواية أبي صالح : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ، وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) قالوا : الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية.

وجاء في رواية عطاء عنه ، قال : وذلك أن الله ذكر آلهة المشركين فقال : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) [الحج : ٧٣] .. وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت ، فقالوا : أرأيتم حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت ، في ما أنزل من القرآن على محمد ، أي شيء يصنع بهذا؟ فأنزل الله هذه الآية (١).

قد يكون السبب في نزول هذه الآية هو ما ذكر في هذا الحديث ، وقد لا يكون ذلك هو السبب ، فإننا لا نثق بالكثير مما ينقل عن أسباب النزول ، ولا سيما مع اختلاف الروايات ، كما في هذا المورد.

* * *

بشارة الآخرة

لقد جرى الأسلوب القرآني على الحديث عما ينتظر المؤمنين من رضوان الله وثوابه جزاء لإيمانهم وعملهم الصالح في كل مورد يتحدث فيه عن الكافرين وعما ينتظرهم من عذاب النار جزاء لكفرهم وطغيانهم. وقد جرت

__________________

(١) انظر : الواحدي ، أبو الحسن ، علي بن أحمد ، أسباب النزول ، دار الفكر ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م ، ص: ١٣.

١٩٠

هذه الآية على هذا الأسلوب ، بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، والتي تشبه أثمارها أثمار الدنيا ، حتى يخيل إليهم أن هذه الثمرات امتداد لما كانوا يجدونه منها في الدنيا لتشابهها. ثم يحدثنا الله عن المتع الحسية التي تنتظرهم في الآخرة ، وذلك في ما يعدّه لهم من أزواج مطهّرة ، بكل ما تعنيه كلمة الطهارة من معاني الروح والجسد ، حيث تتم لهم بذلك نعم الله وألطافه في حياة خالدة لا شقاء فيها ولا فناء ، بل هو الخلود السابح في رحمة الله ورضوانه.

* * *

اللذة الحسيّة لا تتنافى والسموّ الروحي

وقد يثير بعض الناس في هذا المجال تساؤلا عن مدى إمكانية انسجام الجانب الحسي للمتع التي يعد الله بها عباده في الآخرة ، من لذائذ الطعام والشراب والجنس وغيرها ، وطبيعة الآيات التي تعرضت لذلك بالجانب الرمزي ، الذي يعبر عن المداليل المعنوية بالكلمات التي توحي بالمعاني الحسية كأسلوب من أساليب تقريب الفكرة إلى الأذهان ، لأن الإنسان الذي يعيش عالم الحس ، لا يستطيع إدراك عالم المجردات والمعاني في إطاره المادي الذي يعيش فيه ، لأن الصورة الفكرية تابعة للمشاهدات الحسية ، في ما يراد تجسيد الصورة له في وجدان الإنسان وفكره ، فتنطلق المحاولة باعتماد وسائل الإيضاح الحسية ، تماما كما هو الأسلوب العملي في تربية الأطفال ، لنقل المعاني إلى وجدانهم من خلال الصورة المجسدة عندهم ، والمعروفة لديهم.

ولا ندري ما هو السبب في هذا كله ؛ هل هو الفكرة التي ترى في

١٩١

الجانب الحسي شيئا لا ينسجم مع طبيعة الجنة باعتبار ما يستلزمه ذلك من إفرازات جسدية لا تتناسب مع قداستها ، أم هي الفكرة التي تجعل من الجنة والنار رمزين لحقيقتين معنويتين يمثلان الإحساس الروحي بالرضى والسعادة ، أو بالقلق والتعب والشقاء؟ ولكننا لا نستطيع الاقتناع بذلك ، لأن الفكرة الأولى قد تكون خاضعة للرأي الذي يعتبر الملذّات الحسية شيئا يتنافى مع السمو الروحي الذي تمثله الدار الآخرة ، لأن المادة تمثل القذارة والانحطاط ، ولكنها فكرة غير إسلامية ، لأن الإسلام لم يرفض المادة من خلال طبيعتها أو إفرازاتها ، بل جلّ ما رفضه منها ، ليس ما يتصل بها مباشرة ، وإنما ما يتصل بموقفنا الإنساني منها لجهة الاستغراق في لذائذها بالمستوى الذي يبعدنا عن الله ويدفعنا إلى تجاوز حدوده وعصيان أوامره.

وهذا ما نستطيع استخلاصه من الآيات الكريمة التي وجهت الإنسان إلى المتع الحسية في الآخرة كبديل عن الحرمان الذي يعانيه من رفض ما يرفضه من محرّماتها ، إلى جانب المتع الروحية التي وعد الله بها المتقين ، وذلك في أمثال قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢]. ولذا لا نجد أي مبرر لتشويه تصور الإنسان للجانب الحسي أو المادي من حياته ، ولا سيما في الإطار التربوي الذي يراد به بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة للإنسان. نعم ، ما يجب الالتفات إليه دوما ، هو أن تكون العلاقة مع هذا الجانب علاقة متزنة ومتوازنة لا يشوبها الاستغراق ، ولا تحول بين الإنسان وبين التطلع نحو الله سبحانه وتعالى ، بحيث تشكل حجابا يغلف بصره وبصيرته ، فلا يعود ينظر إلى الأمور كما هي ، ويفتقد معها التوازن الأخلاقي ولا سيما في شخصيته.

* * *

١٩٢

الدنيا والآخرة ليستا عالمين متضادّين

أما الفكرة الثانية ، فقد يكون الأساس فيها ، هو اعتبار عالم الآخرة عالم الروح في مقابل عالم الدنيا الذي هو عالم المادة ، ولكننا لا نجد لذلك أيّ أساس فكري في المفاهيم الإسلامية ، لأن التجريد الروحي الذي يمثل انفصالا كاملا عن المادة بأشكاله المتنوعة ، والذي يمثل الفكرة التي تعتبر الجسد سجنا للروح ، يرجع إلى الفلسفات اليونانية والهندية ، ولا يرتبط بالفكرة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة. أما ما نشاهده من تقرير هذه الفكرة في كتب بعض الفلاسفة المسلمين ، فليس ناشئا في أغلب الظن من المصادر الإسلامية الأصلية ، بل هو مرتكز على تأملات ذاتية مستمدة من ثقافات فلسفية سابقة.

ونحن لا نمانع في وجود ظلال لهذا التفكير في بعض اللمحات الخاطفة من مصادر الفكر الإسلامي مما يمكن أن يتعلق به الإنسان في تقرير الفكرة ، ولو من بعيد ، لكنا نريد تأكيد قضية حيوية جدا في دراستنا للفكر الإسلامي ، في مفاهيمه ، وشريعته ، وهي أن الظواهر القرآنية هي الحجة التي ندين لله بما تكشفه لنا من حقائق الإسلام ومفاهيمه ، إلا أن يقوم عندنا دليل آخر على خلاف ذلك من عقل أو نقل. وعلى ضوء هذا ، نرفض كلّ الأفكار الباطنية التي حاولت تفسير الآيات القرآنية تفسيرا رمزيا ، لا يستند إلى أسس عقلية أو شرعية ، بل يرتكز على تأملات فلسفية ، أو شطحات صوفية ..

* * *

للذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار

وبشر الله في هذه الآيات (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) تتنوع ، وتمتد أشجارها وأثمارها ، وتتحرك كل جمالاتها ، بما ينعش الروح ،

١٩٣

ويسحر البصر ، ويأخذ باللبّ ؛ (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) المتدفقة بالحياة الصافية ، العذبة ، الرقراقة ، التي تمنح الأرض الخصب والنموّ والحياة ، لتنبت من كل زوج بهيج ، ولتهتز بالخضرة المعشوشبة والثمار اللذيذة.

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) وتناولوه بأيديهم ، وحدّقوا فيه ، وفي خصائصه ، وفي حجمه ، ولونه ، وشكله ، وتلذذوا بطعمه في عناصره الحلوة الشهية ، (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا فلم يتغير علينا شيء مما ألفناه وعرفناه من الثمار ، (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا في الشكل ، ولكنه يختلف في طبيعته ، أو يشبه ثمار الدنيا ، مع تميّزه عنها في الجودة ، أو يشبه بعضه بعضا في الجودة ، ذلك أنّ لثمار الجنة خصائصها التي تتميز عن كل ما في الدنيا من لذة ، كما قال الله في الحديث عن كل ما في الجنة مما ينتظر المؤمنين والمؤمنات : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٧] ، فلا يعرف الإنسان ماذا يتخير منها.

(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من قذارة الروح والجسد ، وربما أريد بهن الأبكار بقرينة ما ورد في القرآن عن الحور العين كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً) [الواقعة : ٣٥ ـ ٣٧] فتكون الطهارة كناية عن البكارة على هدى قوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٥٦]. وربما يقال : إن الأزواج جمع زوج ، والزوج يطلق على الرجل والمرأة فيقال لكل واحد منهما زوج ، فتكون الآية مسوقة للحديث عن أزواج الرجال المؤمنين من النساء المطهرات ، وعن أزواج النساء من الرجال المطهرين ، ويكون تأنيث مطهرة بلحاظ الجمع وفيه خفاء. (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) ، لأن الجنة هي دار البقاء من خلال ما يعلمه الله من ذلك في ما قدره لعباده في الآخرة.

* * *

١٩٤

الأمثال في القرآن

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

إنّ الآية توحي بوجود حالة نفسية تحاول أن تفصح عما في داخلها من حالة ريب أو اعتراض على ما يورده الله من الأمثلة المتعلقة بصغار الأمور وكبارها. وربما أمكن للإنسان أن يستوحي منها وجود موقف مضادّ ، على أساس فكرة خاطئة تربط بين عظمة المتكلم وحجم القضايا التي يتحدث عنها ، فكانت هذه الآية التي ترفض هذه الفكرة ، وتقرر مبدأ ضرب المثل ، في صغير الأمور وكبيرها ، بطريقة حاسمة ، كأسلوب قرآني بارز في أغلب السور ، بعيدا عن كل وهم يعتبر ذلك بعيدا عن مقام الله وعظمته ، لأن دور المثل هو أن يقرّب الصورة للناس مما يعيشونه في حياتهم ، وفي ما يمارسونه من أعمالهم ، لتقترب بذلك الفكرة التي يراد بها هدايتهم للحق من غير فرق في ذلك بين الصغير والكبير ، لأن القضية ليست قضية صاحب المثل ، بل هي قضية الفكرة التي يثيرها في حياة الناس ، وفي أفكارهم ، مما يدعو المتكلم إلى أن يتلمّس كل الأشياء التي تشارك في توضيح الصورة وتقريب الفكرة.

وعلى ضوء ذلك ، لم يكن أسلوب ضرب الأمثال بدعا من الأساليب ، بل هو نموذج من الأساليب العامة التي يتداولها المتكلّمون في الإقناع والهداية والتوجيه للناس ، من أجل أن تجد الكلمة مجالا في وجدانهم إذا واجهوها من موقع المسؤولية ، فترى المؤمنين يتقبّلونها بإيمان وإذعان ، لأنهم يعرفون كيف تتحرك الكلمة ، وكيف تتجه من موقع الفكر المتأمل ، فلا يخالجهم شك في طبيعتها وفي عطائها.

١٩٥

أما الكافرون الذين لم تنفتح قلوبهم للحق ، ولم يعيشوا مسئولية الكلمة في حياتهم ، فلا يحاولون أن يتفهموا وجه الحق في ذلك ؛ بل يعملون على التهرب من مواجهة المسؤولية بإثارة الاعتراضات والتساؤلات التي لا يريدون بها إلا المشاغبة والتشكيك بعيدا عن أية رغبة في المعرفة ، أو نزوع إلى الإيمان ، فيثيرون القضية في سؤال يوحي للآخرين بأنهم لم يفهموا ماذا أراد الله بهذا المثل.

وقد نستوحي من خلال هذا التساؤل أنهم يريدون التهرب من الحقائق الصارخة التي يجسّدها المثل لا سيما في النيل من معتقداتهم وتضليلاتهم وكفرهم ونفاقهم ، فيواجهونه مواجهة عدم الفهم إمعانا في الهروب من تحديات الحق ـ الذي تمثله الرسالة ـ للباطل المتمثل في خطواتهم الكافرة والضالة ، تماما كما نشاهده في بعض الجماعات الكافرة التي تثير الضباب أمام الحقائق الدامغة بطرح الأسئلة التي تجعل القضية تتحرك في أجواء بعيدة عن الحوار الجديّ العميق.

ولكن الله ، سبحانه وتعالى ، يواجه هذا التساؤل بالجواب الحاسم ، فيوحي ـ من خلال الآية ـ بأن دور المثل هو إقامة الحجة للحق على الناس ، باعتباره أسلوبا حيا من أساليب الاحتجاج للفكرة ، فأمّا المؤمنون فيتقبلونها بوعي لأنهم ينفذون إلى أعماقها ، فتنفتح لهم منها آفاق المعرفة والإيمان ، فيهتدون بها ، وأما الكافرون فيهربون منها فيضلّون بها. ثم حدد لنا هؤلاء الذين يتجهون إلى الضلال أمام هذه الأمثال ، فوصفهم بالفاسقين الذين يتجاوزون الحق إلى غيره.

أمّا نسبة الضلال والهدى إلى المثل الذي ضربه الله للناس ، وأراد أن يضل به الكثير ويهدي به الكثير ، على حسب مضمون الآية ، فلعل الوجه فيه هو أن وجود الحجة يحدد للناس الموقف الذي يقفونه من قضايا الكفر

١٩٦

والإيمان والهدى والضلال ، فيهتدي به من ينسجم معه ، ويضلّ به من يبتعد عنه ، تماما كما يقول الناس إن التجربة والامتحان يسقطان الناس أو ينجحانهم ، مع أن القضية هي أن الناس يسقطون أمام التجربة بالابتعاد عن أسس النجاح ، وينجحون معها بالاقتراب من ذلك ، فهي السبب لكلا الموقفين ، باعتبار أنها القاعدة التي أطلقت الموقف هنا وهناك ، وبذلك تبتعد الآية عن ملامح الفكرة الجبرية التي تربط الضلال بالله بشكل مباشر.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أي : لا يدع ضرب المثل استحياء من حقارة الموضوع الذي يتعلق به لعدم تناسبه مع موقع العظمة في ذاته ، لأن طبيعة المثل ، في موضوعه ، تتصل بالفكرة التي يراد تقريبها للذهن الإنساني ، من خلال الصورة الحسية المتمثلة في وجدانه ؛ فقد تفرض حديثا عن الأشياء الحقيرة لأنها أكثر تمثيلا للفكرة ، كما هي البعوضة التي ضربها الله مثلا لعجز المستكبرين الذين يضعون أنفسهم في موقع الآلهة ، فلا يملكون أن يخلقوا الذباب ، أو يسترجعوا ما يسلبهم الذباب من الأشياء المتصلة بحياتهم مما يحافظون عليه (١) ، وكما هي الحال في العنكبوت الذي ضرب الله مثلا ببيته تمثيلا للبيوت التي لا ترتكز على أساس ، وقد تفرض حديثا عن الأشياء الكبيرة كما في مثال (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ).

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وانفتحوا على آياته وتدبّروا معانيها ، وعرفوا مقاصدها وإيحاءاتها ، وانطلقوا في وعيهم الفكري إلى أعماقها ، فلم يتوقفوا

__________________

(١) نلاحظ أن للبعوضة في داخل تكوينها سرا عميقا يتصل بعظمة الخالق فيها ، فقد ورد الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع): إنما ضرب الله المثل بالبعوضة ، لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل ، مع كبره ، وزيادة عضوين آخرين ، فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه. (مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٨٤).

١٩٧

عند البعد السطحي لها ، (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ، من خلال ما يستوحونه منها في ما يريد الله لهم أن يفهموه ويؤمنوا به ، لأن إيمانهم يربطهم بالحقائق الإلهية التي توحي بها آياته التي أنزلها في كتابه ؛ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وابتعدوا عن وعي الحق ، واتخذوا من الرسالة والرسول موقفا سلبيا متمردا ، وواجهوا الموقف بالسخرية والعبث وأساليب اللعب ، وحرّفوا الكلمة عن موضعها ، وأبعدوا الآيات عن معانيها العميقة ، (فَيَقُولُونَ) ، تعليقا على الأمثال المتعلقة بالأشياء الحقيرة كالبعوضة والعنكبوت ، (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي : ما الذي يريده الله بهذا المثل ، وكيف يتناسب مع عظمته؟ مما يؤدي إلى التشكيك بصدوره منه ، لتنتهي المسألة إلى الشك بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) من الذين لا يقفون منه موقف المتدبر الواعي الذي يواجه القضايا من خلال عناصرها الطبيعية في مداليلها وإيحاءاتها ، بل يقف منها موقف المعقّد الجاحد المتمرّد الذي يحاول أن يجد في الإيجاب سلبا ، وفي القوّة ضعفا ، وفي الحق باطلا ، فيتحرك في درب الضلال الذي سلكه بسوء اختياره وعدم تفاعله مع الخط الذي يقوده نحو الهدى ؛ (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله ورسالاته وكتبه ، فاهتدوا بآياته التي فهموها كما يجب أن يفهموها ، واستوحوها في كل ما تختزنه من إيحاءات الهدى في كل دروب الحياة وآفاقها وتطلعاتها ؛ (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الخارجين عن عبوديتهم لله والتاركين طاعته ، والمنحرفين عن خط الاستقامة في دروب هداه.

أما نسبة الضلال والهدى إلى الله من خلال ضربه المثل ، فقد يكون الأساس فيه هو أن المثل الذي ضربه الله كان السبب الحيّ لحركة التجربة الإنسانية في طبيعة الاختيار الخيّر أو الشرّير ، فلو لم يطلق الله سبحانه هذا المثل الذي يوحي بالمعاني التي يريد للإنسان أن يفهمها ويؤمن بها ، لما انطلق الضالّ نحو الضلال بإرادته ، ولما تحرك المهتدي نحو الهدى باختياره. وفي

١٩٨

ضوء ذلك ، فإن علاقة الله بالضلالة والهدى ، لا تعطل الإرادة الإنسانية في الاختيار المسؤول ، كما أن حركة الإنسان في المسألة لا تبعد الله عن حياة عباده في أقوالهم وأفعالهم على أساس القاعدة العقيدية الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين »

* * *

. قيمة الوفاء بالعهود في الإسلام

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). هذه هي بعض ملامح الفاسقين التي أراد الله ـ من خلال الآية ـ أن يجسدها في وعي الناس ، ليعرفوا كيف ينطلق الفسق في حياة بعضهم ، ليهدّم الركائز الأساسية التي يستند إليها كيان المجتمع. أمّا أبرز هذه الركائز فأمور ثلاثة :

١ ـ الوفاء بالعهود والمواثيق ، لأن ذلك هو الذي يؤكّد الثقة بين أفراد المجتمع ويحفظ لهم تماسكهم الاجتماعي.

وعهد الله هو الأساس لكل هذه العهود ، لأنها ، في طبيعتها ، منطلقة من إيحاءاته ، وفي قيمتها ، منفتحة على الالتزام به. ولذلك ، فإن نقض أيّ عهد يريد الله للناس أن يفوا به هو نقض لعهد الله ، وذلك في الالتزامات الشرعية التي ألزم الله بها عباده في نطاق العلاقات الإنسانية ، من خلال ما فرضه من الحقوق المتبادلة بينهم ، أو في الالتزامات الذاتية التي يلتزمها الناس على أنفسهم في معاملاتهم ومواثيقهم ، في قضاياهم العامة والخاصة ، لأن الله أراد لهم الوفاء بالعقود ، فلا بد للناس من أن يقفوا عندها في كل خصوصياتها والتزاماتها ، لأن الله أراد للإنسان في الحياة أن يحرّك وجوده في علاقاته به وبالإنسان الآخر وبالكون من حوله ، من خلال الالتزام الوجودي الذي ينطق

١٩٩

في كل حركته وحيويته بالعبودية لله ، فقد ركب فيه العناصر التي تصرخ في ذاتها بوحدانيته وتشهد بربوبيته ، وهذا ما نطلق عليه الميثاق الوجودي ، ومن خلال الالتزامات التفصيلية في مسئولياته مع الناس ، ومع الحياة العامة والخاصة ، التي تنطلق طاقاته لتمثّل الالتزام الواقعي بانفتاحه على الآخرين ، وعلى مفردات الواقع التي هي بحاجة إليه ، وهذا ما يعني بالدرجة الأولى إعطاء العهد من نفسه على أن يكون الإنسان المسؤول عن كل شيء يتكامل معه أو يحتاج إليه.

وهكذا نجد أن الله يطالب عباده بقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: ٤٠] فهناك عهد بين الله وبين عباده بأن يوحّدوه ولا يشركوا به شيئا وأن يطيعوه ولا يعصوه ، وأن يستقيموا على خطه وشريعته التي تمثل الاستقامة على خط توحيده ، ليرعاهم ويرزقهم ويرحمهم ويمنحهم ثوابه وجنته ، وهذا ما نتمثله في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يس : ٦٠ ـ ٦١]. وقال تعالى : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) [الأحزاب : ١٥] وقال تعالى : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) [الأنعام : ١٥٢] وقال : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) [الرعد : ٢٠] فدعا إلى الوفاء بعهده في شمولية الالتزام بخط العبودية المنطلق مع التوحيد في كل خطوات الإنسان وتطلّعاته في الحياة. وتحدث عن الذين (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) [البقرة : ٢٧] وعن الذين (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [البقرة : ١٠٠].

وتحدث عن نفسه أنه الإله الذي لا يفي أحد بعهوده كما يفي بعهده : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١١١] وقال تعالى : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) [البقرة : ٨٠].

٢٠٠