تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هاتان الكلمتان الدالّتان على وصف واحد هو الرحمة ، التي تمثل ، في مدلولها الإنساني ، حالة انفعال إيجابيّ ، تصيب القلب بفعل احتضانه لآلام الآخرين وآمالهم ومشاكلهم ، في رعاية محبّبة ، وعناية ودودة ، وحنان دافق ، وتنفذ إلى عمق حاجتهم ، إلى العاطفة المنفتحة على كل كيانهم الجائع إلى الحنان الظامئ وإلى الحب المتحرك نحو احتواء الموقف كله.

أمّا في الجانب الإلهي ، فهي لا تقترب من مشاعر الانفعال الممتنع على الله ، لأنه من حالات الجسد المادّي ، ولكنها تنطلق في النتائج العملية المنفتحة على وجود الإنسان الذي يمثل وجها من وجوه حركة الرحمة الإلهية لديه ، وعلى كل تفاصيل حياته في النعم التي يغدقها الله عليه ، وعلى كل مواقع خطاياه التي يغفرها الله له ، وعلى كل مجالات حركته العامة أو الخاصة في آلامه ومشاكله ليخفّفها عنه أو ليبعدها عن حياته ، وعلى كل تطلعاته في أحلامه ، ليحقّقها له ، وعلى كل مصيره في الدنيا والآخرة ليجعل السعادة له في دائرة رضوانه في ذلك كله.

* * *

الوجود مظهر الرحمة الإلهية

إن الوجود كله هو مظهر الرحمة الإلهية التي هي صفة من صفات الكمال لله في ما تعبّر عنه من الموقع الرحيم الذي يطل به الله على الوجود وعلى

٤١

الإنسان في كل مواقعه في داخل طبيعة الوجود وفي عمق حركته ، وهذا ما يريد الله في الإنسان أن يتصوره به ، ليشعر ـ دائماً ـ بقربه إليه من خلال حركة الرحمة التي وسعت كل شيء ، باعتبار أنها تلاحق الإنسان لتضمّد له جراحة ، ولتفتح قلبه على الأمل كله والخير كله ، ولتعده بمستقبل مشرق كبير. وهذا هو ما يوحي به الدعاء المأثور : « اللهم إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كل شيء ».

ولعل هذا هو الأسلوب التربوي الذي يعمل على تأكيد التصور الإنساني لله من موقع الرحمة ، بيبقى قريبا منه في مواقع حاجته إليه ، من حيث الأفق الواسع المليء بالعطف والطف والحنان والرضوان. ولعل هذا الأسلوب أيضا ، هو الذي أوجب التعبير عن الرحمة بكلمتين ، ليزداد تأكيد هذا المضمون في الوعي الشعوري للإنسان تجاه ربه.

وإذا كان التأكيد يمثل لونا من التكرار للفكرة ، فإنّ الحاجة إليه لا تقتصر على دفع احتمال الاشتباه ، كما يقرر النحويون ، بل قد تكون المسألة فيه هي الحاجة إلى تعميق المعنى الذي تتضمنه الكلمة بشكل عميق واسع ، مما لا يحصل الإنسان عليه بالكلمة الواحدة فلا ينافي ذلك بلاغة القرآن ، لأن التأكيد في مدلوله التصويري التعميقي لا يكرّر المعنى بشكل جامد ، بل يعمقه بشكل حيّ متحرك.

* * *

المفسرون والفرق بين الرحمن والرحيم

وقد أفاض المفسرون في توضيح الفرق بين الكلمتين ، فذهب بعض

٤٢

منهم إلى أن (الرَّحْمنِ) هو المنعم بجلائل النعم ، وأن (الرَّحِيمِ) هو المنعم بدقائقها ، وذهب آخرون إلى أن (الرَّحْمنِ) هو المنعم على جميع الخلق ، وأن (الرَّحِيمِ) هو المنعم على المؤمنين خاصة ، وذهب رأي ثالث إلى أن الوصفين بمعنى واحد ، وأن الثاني تأكيد للأول.

وذكر بعض المفسرين أن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة ، ويعلّق السيد الخوئي (قده) عليه فيقول :

« وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة ، سواء أكانت هيئة فعلان مستعملة في المبالغة أم لم تكن ، فإن كلمة (الرَّحْمنِ) في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلق ، فيستفاد منها العموم وأن رحمته وسعت كل شيء ، ومما يدلنا على ذلك ، أنه لا يقال : إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحمن ، كما يقال : إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحيم ».

أمّا صفة (الرَّحِيمِ) فهي « صفة مشبّهة أو صيغة مبالغة. ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالباً في الغرائز واللوازم غير المنفكّة عن الذات كالعليم والقدير والشريف والوضيع والسخي والبخيل والعلي والدانيّ. فالفارق بين الصفتين : أن الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها ، والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط ، ومما يدلّ على أن الرحمة في كلمة (الرَّحِيمِ) غريزة وسجيّة : أن هذه الكلمة ، لم ترد في القرآن عند ذكر متعلقها إلّا متعدية بالباء ، فقد قال تعالى :

(إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٤٣] ، (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣].

فكأنها عند ذكر متعلقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم » (١).

__________________

(١) الخوئي ، أبو القاسم ، البيان في تفسير القرآن ، دار الزهراء ، ط : ٦ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ص : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

٤٣

وهناك وجوه أخرى ، ولكنا لا نجد وجها واضحا لهذه الاحتمالات ، فهي لم ترتكز إلى دليل واضح.

* * *

نقاش رأي السيد الخوئي (قده)

أمّا ما ذكره أستاذنا المحقق السيد الخوئي ـ قده ـ ، من دلالة كلمة (الرَّحْمنِ) على المبالغة في الرحمة ، إمّا لكونها من صيغ المبالغة ، كما ذكر البعض ، وإمّا لحذف المتعلق مما يفيد العموم ، فهو غير واضح ، لأنّ دلالتها على المبالغة لم تثبت ، وربما كانت ملاحظة ما كان على هذا الوزن من الكلمات الأخرى تدفع ذلك ، كما أن حذف المتعلق لا يفيد العموم دائما ، فربما كان ذلك من أجل التركيز على المبدأ. أمّا بالنسبة إلى صيغة « فعيل » فقد تستعمل في ما يكون من قبيل الغرائز ، ولكنها قد تستعمل في غيره.

وهناك وجه آخر قد يكون أقرب الوجوه إلى الاعتبار ، وهو الذي ذكره بعض المتأخرين ؛ وخلاصته أن الوصفين متغايران تمام التغاير ، فالرحمن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإحسان ، والرحيم صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان وتعدّيهما إلى المنعم عليه. ويدلّ على هذا أن الرحمن لم تذكر في القرآن إلّا مجرى عليها الصفات كما هو شأن أسماء الذات : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) [الإسراء : ١١٠](لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ) [الزخرف : ٣٣](أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩١](إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) [مريم : ٤٥](الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ١ ـ ٢](الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] وهكذا ...

أمّا (الرَّحِيمِ) فقد كثر استعمالها وصفا فعليا ، وجاءت بأسلوب

٤٤

التعدية والتعلق بالمنعم عليه : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٤٣](وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣](وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس : ١٠٧] ، كما جاءت الرحمة كثيرا على هذا الأسلوب : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦](يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الكهف : ١٦] ، ولم ير في القرآن تعبير ما برحمانية الله (١).

وقد نستطيع التعبير عن هذا الوجه بأن كلمة (الرَّحْمنِ) هي صفته في ذاته ، بينما (الرَّحِيمِ) تمثل صفته في حركة الرحمة في خلقه. ولعلّ هذا هو المتبادر للذهن من موارد استعمالها ؛ والله العالم.

* * *

موقع البسملة في القرآن

ويبقى لنا سؤال آخر وهو : هل البسملة آية من القرآن أو أنها آية من الفاتحة فقط ، أو أنها آية مستقلة نزلت للفصل بين السور مرّة واحدة؟

يذكر بعض المفسرين ، في ما نقله عن كثير من العلماء ، أنها لم تعرف بتمامها عند المسلمين ، إلّا بعد أن نزلت سورة « النمل » ، وأنهم كانوا يقولون أولا : « باسمك اللهم » ، ثم قالوا : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تبعاً لما جاء في السورة من قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٢) [النمل : ٣٠].

ونحن لم نجد لهذا القول مصدراً ثابتا من الناحية التاريخية التي ذكرها هؤلاء.

__________________

(١) شلتوت ، محمود ، تفسير القرآن الكريم ، ص : ٢٦.

(٢) م. ن ، ص : ١٨.

٤٥

وقد « اتفقت الشيعة الإمامية على أن البسملة آية من كل سورة بدئت بها.

وذهب إليه ابن عباس ، وابن المبارك ، وأهل مكة كابن كثير ، وأهل الكوفة كعاصم ، والكسائي ، وغير هما ما سوى حمزة ، وذهب إليه أيضا غالب أصحاب الشافعي ، وجزم به قرّاء مكة والكوفة ، وحكي هذا القول عن ابن عمر ، وابن الزبير ، وأبي هريرة ، وعطاء وطاوس ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والزهري ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وعن البيهقي نقل هذا القول عن الثوري ، ومحمد بن كعب ، واختاره الرازي في تفسيره ونسبه إلى قرّاء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز ، وإلى ابن المبارك والثوري ، واختاره أيضا جلال الدين السيوطي مدّعيا تواتر الروايات الدّالة عليه معنى.

وقال بعض الشافعية وحمزة : إنها آية من فاتحة الكتاب خاصة دون غيرها. ونسبت ذلك إلى أحمد بن حنبل ، كما نسبت إليه القول الأول.

وذهب جماعة منهم : مالك ، وأبو عمرو ، ويعقوب إلى أنها آية فذّة ، وليست جزءاً من فاتحة الكتاب ولا من غيرها ، وقد أنزلت لبيان رؤوس السور تيمناً وللفصل بين السورتين ، وهو مشهور بين الحنفية.

غير أن أكثر الحنفية ذهبوا إلى وجوب قراءتها في الصلاة قبل الفاتحة ، وذكر الزاهدي عن المجتبى أن وجوب القراءة في كل ركعة هي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة.

وأمّا مالك فقد ذهب إلى كراهة قراءتها في نفسها ، واستحبابا لأجل الخروج من الخلاف»(١).

وقد نلاحظ في هذه المسألة ، أن المشكلة المطروحة التي تخضع لها

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، ص : ٤٣٨ ـ ٤٣٩.

٤٦

النتيجة الحاسمة ، هي مشكلة القراءة في الصلاة ، فإذا كانت جزءاً من الفاتحة ، أو من أيّة سورة ، وجبت قراءتها ، وإذا لم تكن كذلك فلا يجب قراءتها إلّا بدليل خاصّ ، لأن السورة لا تنقص بتركها.

أمّا طبيعة المسألة ، فلا تمثل مشكلة عملية ، لأن سيرة المسلمين جارية على قراءة البسملة مع كل سورة ، كما أنّ المصاحف بأكملها مشتملة عليها ، حتى أن المثبتين للجزئية جعلوا ذلك دليلاً عليها ، مما يجعل للمسألة موقعا فقهيا كبقية المسائل الفقهية العملية ، ولذلك اكتفينا بالإشارة إلى الخلاف في المسألة وتركنا الاستدلال عليها للأبحاث الفقهية.

* * *

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذه هي الآية الأولى من سورة الفاتحة التي يبدأ فيها الإنسان المؤمن بالتعبير عن عمق إحساسه بالله ، من خلال ما يختزنه في داخل عقله الإيماني ، وشعوره الروحي ، وتصوّره الفكري ، وحسّه الوجداني ، من معنى الحمد لله الذي يتحدث اللغويون والمفسرون عنه ليضعوا أمام كلمته كلمة « المدح » أو « ضد اللوم ». فهي تعبّر عن مدح الإنسان لربه في ما يعتقده من عظمة صفاته ، ويعرفه من امتداد نعمه ، ورجوع كل خير إليه ، وانطلاق كل وجود من وجوده .. ولكن الكلمة ، في ملامحها الإيحائية ، توحي ببعض الإيحاءات النفسية ، والإحساسات الشعورية ، التي تجعل للكلمة معنى يتصل بالشكر ، فكأن الإنسان عند ما ينفتح على المدح ، يتحسس موقع العظمة المنفتح على النعمة من حيث امتزاج المعنيين أو تداخلهما ، باعتبار ارتباط مواقع الوجود ببعضها البعض. ولهذا نجد أن كلمة الحمد تلتقي ، في

٤٧

استعمالاتها ، بمواقع كلمة الشكر. وهذا ما نراه في أغلب الكلمات المترادفة التي قد تتفق في المعنى من حيث المبدأ ، ولكنها تختلف من حيث الإيحاءات ، مما يجعل لكل كلمة موقعا يختلف عن موقع الكلمة الأخرى ، فنجد كلمة « بشر » مثلا توضع في مقابل كلمة الملك ، بينما توضع كلمة « الإنسان » في مقابل كلمة « الحيوان » ، مع أن معناهما ، أي : البشر والإنسان ، واحد.

* * *

لماذا الحمد لله وحده؟

وهذه الجملة واردة في مورد الحصر ، باعتبار أن لله وحده الحمد كله ، باعتباره مالكاً للوجود كله ، والأمر كله. فإذا كان بعض خلقه مستحقّاً للحمد من خلال صفاته العظيمة ، أو أفعاله الحسنة ، فإن الله هو الذي وهبه ذلك ، ومكّنه منه. فهو الذي هيّأ له الظروف والوسائل والإمكانات التي جعلت منه إنسانا محموداً ، مما يجعل من محامد خلقه امتداداً لمحامده ، باعتبار أن ذلك من فعله ومن إرادته.

إن الخلق كله يمثّل بالنسبة إلى الله الظلّ والصدى وامتداد الشعاع ، فلا وجود لهم إلّا من خلال وجوده ، ولا حمد لهم إلّا من خلال حمده.

وإذا كانت الكلمة تنطلق من عمق الإحساس بالعظمة والنعمة ، فلا بد من أن تطوف بالإنسان في رحاب الله ، في صفات الجلال والكمال ، ليعيش مع الله في ذلك الجو كله ، مما يجعل الكلمة تجتذب آلاف الكلمات ، كما ينطلق التصور في معنى الحمد الممتد في كل مواقع الحمد ليلتقي بآلاف التصورات في ما يحمله اسم الجلالة من كل المعاني العظيمة والصفات الحسنى.

٤٨

وهذا هو التصور الأوّل في السورة في ما يتصوره المؤمن من تصوراته العقيديّة لله ، لتلتقي صفة الله المحمود ، مع مشاعر المؤمن الحامد.

(رَبِّ الْعالَمِينَ) « الربّ : مأخوذ من ربب : وهو المالك المصلح والمربي ، ومنه : الربيبة ، وهو لا يطلق على غيره تعالى إلّا مضافاً إلى شيء ، فيقال : رب السفينة ، رب الدار ». وكلمة العالم : « جمع لا مفرد له كرهط وقوم ، وهو قد يطلق على مجموعة من الخلق متماثلة ، كما يقال ، عالم الجماد ، عالم النبات ، عالم الحيوان. وقد يطلق على مجموعة يؤلّف بين أجزائها اجتماعها في زمان أو مكان ، فيقال : عالم الصبا ، عالم الذّر ، عالم الدنيا ، عالم الآخرة. وقد يطلق ويراد به الخلق كله على اختلاف حقائق وحداته ، ويجمع بالواو والنون ، فيقال : عالمون ، ويجمع على فواعل ، فيقال : عوالم ، ولم يوجد في لغة العرب ما هو على زنة فاعل ، ويجمع بالواو والنون ، غير هذه الكلمة » (١).

* * *

الله هو المربي

لذلك يمتزج معنى الألوهية ، في ما تعنيه الكلمة ، بمعنى التربية. فهو الإله الذي يخلق الخلق ، ولكن لا ليتركهم في الفراغ ، بل ليرعاهم فيربّي لهم إحساسهم من خلال الأجهزة التي أودعها في داخل كيانهم ، ومن خلال الأشياء التي خلقها لهم من الطعام والشراب وغير ذلك ، مما يتوقف عليه نموّ أجسادهم ، ومما يربّي لهم عقولهم من خلال العناصر الدقيقة الخفية التي أقام

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، ص : ٤٥٣.

٤٩

عليها كيانهم الفكري ، ومن خلال الوسائل الحسية التي حرّكها لتموّن جهاز العقل في وجودهم ، ليبدع ما شاء الله له من النتاج الفكري الذي يرفع مستوى الحياة في أكثر من مجال ، ويربّي لهم حياتهم الروحية والعملية بالرسالات التي تمثل أعلى درجات السموّ والخير والإبداع. ثم كانت تربيته للوجود كله في مخلوقاته الحية والنامية والجامدة ، في ما أبدعه من النظام الكوني الذي يضع لكل موجود نظاماً بديعاً من الداخل والخارج ، ويربط فيه بين المخلوقات في عملية التكامل الذي يتمثل في الترابط الوجودي المتحرك أو الساكن في وجود الأشياء.

وهكذا كانت الألوهية ، التي تنفتح على الكون كله من قاعدة الوجود ، والتربية ، كما تتطلع إليها الموجودات من الموقع نفسه من خلال حاجتها الذاتية إليها في ذلك كله.

من هنا يظهر لنا أن الألوهية ، في المفهوم الإسلامي ، تمثل حقيقة حيّة متحركة في علاقة الخالق بالمخلوق ، كما هي علاقة المخلوق بالخالق ، ليبقى الإنسان والحيوان والملك وكل مفردات الوجود في تطلّع دائم ، وفي انتظار يومي ، لكل العطاء الإلهي في استمرار الوجود ، مما يجعل من عملية النموّ عملية مستمرة مع الزمن كله ، في حركة الوجود كله.

* * *

التازر والتاخي بين مفردات الوجود

وأمّا كلمة : (الْعالَمِينَ) ، فتفتح آفاقها لتشمل مفردات الوجود كلها في اختلافها في عناصرها الذاتية وملامحها النوعية ، وحركتها الوجودية ، وأوضاعها الشكلية ، ومجالاتها الحركية ، ومداراتها الكونية ... ، ثم توحّدها

٥٠

في وحدة الخالق المربّي الذي يرعى حركة وجودها ، ويمنح كل واحدة منها الخصائص التي تؤدي بها إلى غاية الوجود فيها ، لتتآزر كلها في أخوّة وجودية تجعل من ساحة الكون مجالاً للتكامل ، فكل وجود منها مسخّر لوجود آخر ، حتى مظاهر الصراع بينها لا تبتعد عن نقطة التوازن في دائرة التكامل ، فالحيوان الصغير الذي ينمو ليكون طعاما للحيوان الكبير ، لا يعيش الصراع بين وجودين ، ولكنه يمثّل الوجود الذي يمنح ذاته لوجود آخر ، ليتابع نموّه واستمراره في حركة الوجود الصاعد إلى الغاية الكبرى للوجود كله ، من خلال التخطيط الإلهيّ للنظام الوجودي الكونيّ الكبير.

ومن خلال ذلك ، نستلهم الفكرة الإيمانية التي ترتكز على تآخي الموجودات في حركة الوجود. وهذا ما نتمثله في التطلّع الإيماني الذي ينطلق به الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام عند ما يتطلع إلى الصباح ، وهو يستقبل الكون كله في شروق الشمس ، فيشعر بوحدة الإنسان مع الكون كله بين يدي الله ، وفي قبضته وتدبيره ، في دعاء الصباح والمساء :

« أصبحنا (أو أمسينا) وأصبحت الأشياء كلها بجملتها لك ، سماؤها وأرضها وما بثثت في كل واحد منهما ، ساكنه ومتحرّكه ومقيمه وشاخصه ، وما علا في الهواء وما كنّ تحت الثرى.

أصبحنا في قبضتك ، يحوينا ملكك وسلطانك ، وتضمّنا مشيّتك ، ونتصرّف عن أمرك ، ونتقلّب في تدبيرك ، ليس لنا من الأمر إلّا ما قضيت ، ولا من الخير إلّا ما أعطيت » (١).

وهذا هو المفهوم الثاني من التصور الإسلامي للعقيدة بالله ، فهو ربّ العالمين ، أي : «رب الوجود ». وهو الرب الذي يرعى خلقه ويقودهم إلى ما فيه هداهم ، ويحقق لهم التوازن والتكامل في دائرة الوجود الخاص أو العام.

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، دعاء الصباح والمساء.

٥١

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). وقد تقدم الحديث عن ملامح هاتين الكلمتين في معناهما ، أما موقعهما في هذه السورة ، فلعله كان بلحاظ الإيحاء بأن الربوبية الشاملة تنفتح على الخلق ، ولا سيما الإنسان ، من خلال الرحمة الواسعة التي تتسع لتشمل الخلائق كلهم ، ليقفوا أمامه في أمل كبير ورجاء عظيم ، على هذا الصعيد ، ليتوازن الشعور لديهم بين الخوف ، من خلال وحي الربوبية الشاملة ، وبين الرجاء ، من خلال وحي الرحمة الواسعة.

* * *

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، يوم الدين : أي : يوم الجزاء أو الحساب. هذه الفقرة تدل على إحاطة الله تعالى وسيطرته على هذا اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين ، لينطلق التصور في جولة واسعة في ساحة المسؤولية التي يتحملها الإنسان في حياته بين يدي الله ، في ما كلّفه الله به من إطاعة أوامره ونواهيه ، لأن ذلك هو طبيعة وجود يوم الجزاء ، لأن الجزاء لا يكون إلا على الطاعة أو المعصية ، كما أن يوم الحساب يفرض وجود يوم للعمل. وهكذا ينفتح الإنسان على ربه المالك ليوم الجزاء ليخاف عقابه من موقع عدله ، أو ليرجو ثوابه به موقع رحمته ، ليقترب ، منه في ساحات الخضوع والخشوع من خلال معرفته بالمصير الأخروي الذي يحمل إليه السعادة الدائمة أو الشقاء الخالد.

وهكذا تتحرك هذه الآيات الثلاث لتدفع بالإنسان إلى حمد الله تعالى في ما هو التصوّر للربوبية المهيمنة على العالمين ، وللرحمة الشاملة الواسعة على كل آفاق حياتهم ، وللمالكية المطلقة ليوم الجزاء الذي يقوم الناس فيه لرب

٥٢

العالمين ، ليبعث فيهم الشعور بالرغبة أو الرهبة.

وهذه نقلة بيانيّة في أسلوب السورة الذي ينقل الجو من الغيبة في حديث الإنسان عن الله في حمده له وتعداده لصفاته ، إلى الخطاب الذي ينطلق فيه الإنسان المؤمن بالله ، الحامد له ، المنفتح على عظمته ، من خلال انفتاحه على صفاته في ربوبيته للعالمين ، ورحمته لهم ، وسيطرته ، على مواقع الجزاء في مصيرهم ، ليخاطب الله في موقف التزام ودعاء ، وذلك أن هذا النوع من التطلّع الإيماني الفكري لله ، في صفات عظمته ورحمته ، يجسّد في وعي الإنسان الحضور الإلهي ، كما لو كانت المسألة في دائرة الإحساس الطبيعي في عمق ذاته ، تماماً كما هي الصدمة الفكرية التي تتحول إلى انطلاقة شعورية بين يدي الله ، ليعبّر له عن إخلاصه في العبودية ، وعن توحيده في العبادة وفي الاستعانة ، فلا يعبده غيره من موقع أنّه لا يعترف بالألوهية لغيره ، ولا يقر بالعبودية لسواه ، فهو وحده الإله الذي يستحق العبادة ، وهو ـ وحده ـ القادر على الإعانة ، على أساس أنه الذي يملك الأمر كله ، فلا يملك غيره معه شيئا ، مما يجعل الخلق كله عاجزا عن تقديم ما لا يريد الله أن يقدّمه من عون لنفسه وللآخرين من حوله.

وهذا الأسلوب القرآني الرائع ، يجعل مسألة التصور تطل على الانفتاح الفكري المنطلق في أجواء التأمل الروحي ، وتمثل حركة في مسألة الخطاب الإيماني ، فيما هو الإقرار الشعوري في الالتزام العقيدي. وهذا هو ما نريد أن نتمثله في الخط التربويّ الذي يتحرك في اتجاه تحويل الحالة الفكرية إلى حالة شعورية ، من أجل الوصول إلى مضمون الإيمان الذي هو الوجه الشعوري للمضمون الفكري.

* * *

٥٣

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

وقد نحتاج إلى الإطلالة على خصوصية التعبير عن الالتزام بعبادة الله ، والاستعانة به ، بطريقة تقديم المفعول به على الفعل والفاعل الذي ينفصل فيه الضمير فيتحول من ضمير متصل في ما يتمثل في كلمة « نعبدك » « ونستعينك » ، إلى ضمير منفصل يتقدم على الفعل وذلك في جملة : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وهذه الخصوصية هي الحصر الذي يدلّ عليه تقديم المفعول على الفعل ليكون المعنى هو حصر العبادة بالله ، والاستعانة به ، وذلك من أجل التعبير عن التوحيد العملي الذي هو التجسيد الواقعي للتوحيد الفكري العقيدي ، فقد لا يكفي في الإسلام ، كما في كل الرسالات التوحيدية ، أن يعيش الإنسان العقيدة في دائرتها التصورية ، بل لا بد له من أن يعيشها في دائرتها العملية ، فيما هي حركة العبادة في الذات ، وفيما هي مسألة الارتباط بالله ، المشدود إليه في أوضاع الحياة. بل ربما نجد أن هناك نوعاً من الوحدة بين الجانب النظري والجانب العملي في دعوة الرسالات ، بحيث يكون التوحيد في العبادة هو الواجهة للدعوة في ما تختزنه من التوحيد في العقيدة.

وهذا ما حدّثنا عنه في دعوة نوح وهود وصالح عليهم‌السلام التي اختصرتها الفقرة التالية في قوله تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف : ٥٩].

ولعل هذا هو التعبير الحركي الذي انطلقت فيه سورة الفاتحة من أجل تأكيد الدعوة إلى التوحيد في أسلوب الإقرار الذاتي الذي يندفع فيه الإنسان المؤمن ، كحالة شعورية ذاتية ، بعيداً عن الجانب التقريري في هذه المسألة العقيدية المهمّة ، مما يترك تأثيرا إيجابيا على حركة العقيدة أكثر مما يتركه من التأثير في الأسلوب الخطابي أو التقريري ، في ما يمثّله من التعبير عن الصورة

٥٤

في وجودها الواقعي الذي يفرض التوحيد كحقيقة متحركة متجسدة ، لا كفكرة ذهنية في مرحلة الدعوة.

وهناك نقطتان لا بد من الحديث عنهما بشكل تفصيلي :

الأولى : مفهوم العبادة.

والثانية : مقياس التوحيد والشرك فيها في الدائرة التطبيقية العملية.

* * *

مفهوم العبادة

قد تفسر العبادة بمعان ثلاثة ـ في اللغة ـ :

الأول : الطاعة. ومنه قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يس : ٦٠] فإن عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة هي إطاعته.

الثاني : الخضوع والتذلّل. ومنه قوله تعالى : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧] أي خاضعون متذلّلون.

الثالث : التألّه. ومنه قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) [الرعد : ٣٦].

وإلى المعنى الأخير يصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة.

وقد نلاحظ أمام هذا الحديث عن التنوّع في المعاني ، أنها تنطلق من معنى واحد ، وهو الخضوع المطلق الذي يختزن في داخله معنى الاستسلام للمعبود والذوبان فيه والانسحاق أمامه ، حتى ليحتوي في حالته الشعورية

٥٥

الإحساس بشيء من الألوهية أو بالألوهية كلها في ذات المعبود. فليست العبادة هي الخضوع ولا الطاعة ولا التألّه ، ولكنها المعنى الذي يشمل ذلك كله في خصوصية مميّزة.

في ضوء ذلك ، يمكن فهم قول الإمام الحسين عليه‌السلام : « الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون » (١).

فإن عبادة الناس للدنيا تنطلق من استغراقهم فيها ، حتى كأنهم يمنحونها صفة الإله في استسلامهم المطلق لكل شهواتها ومتطلباتها ، كما لو كانت إلها معبودا. وهذا من التألّه الخفيّ الذي قد لا يستشعره الإنسان في وعيه ، لكنه يختزنه في المنطقة الخفية في ذاته. كما نستوحي ذلك من قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣].

فإن اعتبار الهوى إلها ، ينطلق من عمق الاستغراق فيه ، كما لو كان هو الذي يحتوي الوجود بحيث لا يبصر الإنسان غيره ، ولا يندفع إلّا نحوه ، ولا يلتزم إلّا به ، حتى يستولي على كل ذاته.

وقد نستفيد ذلك من الكلمة المأثورة : « فمن أطاع ناطقاً فقد عبده ، فإن كان الناطق ينطق عن الله تعالى فقد عبد الله ، وإن كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله » (٢) ، بما يوحيه ذلك من الاستغراق المتمثل بالإصغاء الذي يستولي على الفكر والشعور ، بحيث يفقد الإنسان إرادته معه.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ١٤ ، ج : ٤٤ ، ص : ٦٧٠ ، باب : ٣٧.

(٢) م. ن ، م : ٣٢ ، ج : ٩٠ ، ص : ٢٧٣ ، باب : ١٢٨.

٥٦

مقياس التوحيد

والسؤال المطروح في مسألة التوحيد في العبادة هو : كيف يتمثل في الممارسات؟

فهل يتمثل ذلك في الابتعاد ، في صورة العبادة الشكلية ، عن كل الأشكال التي جرت عليها التشريعات العبادية في طريقة عبادة الله ، فيكون الركوع أو السجود أو الانحناء لغير الله لونا من ألوان الشرك ، حتى إذا كان ذلك بعنوان الاحترام أو التحية أو ما إلى ذلك ، مما لا يبتعد فيه الإنسان عن الإحساس بإنسانية الذات التي يقدم إليها الاحترام أو تلقى إليها التحية؟

أو هو يتمثل في الابتعاد عن الاستغراق في الشخص ، بحيث يوجه الخضوع إليه ، في أشكاله المتنوعة ، من خلال الأسرار الإلهية المخزونة في ذاته ، بحيث تجعله واسطة بين الناس وبين الله ، لتكون عبادتهم له من أجل الحصول على وساطته في القرب من الله ، كما ورد في حديث الله عن المشركين الذين يعبدون الأصنام ليبرّروا ذلك بقولهم الذي ذكره الله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣]؟

أو يتمثل ذلك في الامتناع عن اعتقاد الألوهية في كل ما عدا الله ومن عداه ، لتكون القضية قضية الابتعاد عن أيّة ممارسة عبادية توحي بالمعنى الإلهي في المعبود ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، وبذلك يلتقي التوحيد في العقيدة بالتوحيد في العبادة ، حيث يتلازمان في المضمون وفي الواقع؟ ولعل هذا هو الأساس في أسلوب الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد في العقيدة بطريقة الدعوة إلى التوحيد في العبادة ، كما في قوله تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [المؤمنون : ٣٢].

٥٧

ربما نلاحظ أن الصورة الشكلية ، في ما تعارف عليه الناس من طقوس في مظاهر العبادة ، لا تمثّل ـ بمجردها ـ معنى العبادة ، بل لا بد من أن ينضم إليها الاستغراق في الذات التي يوجّه إليها الفعل المعين ، في ما يشبه حالة الذوبان الذي يفقد الإنسان معه الإحساس بإرادته أمامها ، أو في الالتفات إلى وجوده معها. ولذلك لا بد من وجود حالة نفسية في مستوى الانسحاق في انطباق مفهوم العبادة عليه. وهذا ما نستوحيه في مسألة أمر الله للملائكة ولإبليس بالسجود لآدم عليه‌السلام ، باعتبار ما يمثله ذلك من معنى الاحترام الناشئ من الإيحاء بعظمة خلقه ـ كما هو أحد الاحتمالات في ذلك ـ فإن من الطبيعي أن الله لم يأمر بذلك بمعنى العبادة لآدم عليه‌السلام حتى على مستوى المظهر ؛ لأن الله لا يرضى بعبادة غيره وإن كان من أقرب خلقه إليه. ولذلك ، لم يكن ردّ فعل إبليس على المسألة اعتراضا على منافاة ذلك للإخلاص لله وللإيمان بوحدانيته ، بل اعتراضا على أن يكون عنصر التراب أفضل من عنصر النار ، بحيث لا يتناسب ذلك مع سجود المخلوق من النار ، التي هي أقوى من التراب ، للمخلوق من التراب ، لأن السجود يمثل التعبير عن التعظيم ، باعتبار أنه صاحب القيمة الفضلى والمستوى الأرفع.

وهكذا ، فإننا لم نجد من الملائكة استغرابا للأمر ، في ما يمكن أن يحمله ، حسب هذا الفرض ، من المنافاة للتوحيد في العبادة.

وهذا ما نستوحيه من سجود يعقوب عليه‌السلام وزوجته وأولاده ليوسف عليه‌السلام ، وذلك قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] فإن الظاهر أن المراد منها هو سجود أبويه وإخوته له ، لأنه قال ـ بعد ذلك ـ : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠] ؛ وكان ، في ما قصّه على أبيه من رؤياه في بداية القصة ، ما ذكره الله سبحانه : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي

٥٨

ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ، فهل يمكن أن يكون في سجود يعقوب عليه‌السلام وزوجته وأولاده لون من ألوان العبادة ليوسف عليه‌السلام الذي يعيش العبودية لله في أعلى مواقعها ، كما عاشها أبوه عليه‌السلام في هذا المستوى؟

إن المسألة هي ـ في ما يبدو ـ مسألة التقليد المتّبع في احترام صاحب العرش ، الذي يملك السلطة ، في السجود له ، تعبيرا عن الشعور بعظمته وعن التقدير لمقامه الرفيع.

وفي ضوء ذلك ، لا بدّ من التدقيق في طبيعة الأشكال المتعارفة لدى الناس ، التي تلتقي ـ بشكل أو بآخر ـ بالشكليات الطقوسية للعبادة ، ودراسة خلفياتها الفكرية والروحية في شخصية من يمارسها ، ومعرفة التقاليد الاجتماعية في مسألة الاحترام والتقدير ، في ما تعتاده المجتمعات من طرق تعبير مختلفة ، لنميّز بين ما يسيء إلى التوحيد في العبادة ، عند ما تكون الخلفيات مرتبطة بالاستغراق بالشخص أو الجهة ، بحيث يفقد الإنسان الإحساس بوجوده معه ، أو بحضور الله في علوّ موقعه في المعنى الإلهيّ التوحيدي فيه ، وبين ما لا يسيء إلى التوحيد ، لأنه ينطلق من حالة عرفية تقليدية في ما هو الاحترام والحبّ والتعظيم ، لكنها لا تغفل عن الإحساس بعظمة الله في مقام وحدانيته ، في ما تمارسه من أعمال وأقوال.

* * *

التوحيد والشرك في الجانب التطبيقي

ومن خلال ذلك ، يمكن لنا الإطلالة على الخلاف الدائر بين التيار الوهابي السلفي وبين المذاهب الإسلامية الكلامية الأخرى في مسألة التوسل بالأنبياء وبالأئمة والأولياء والاستشفاع بهم إلى الله والتبرك بقبورهم وما إلى

٥٩

ذلك من المفردات الطقوسية المتمثلة في السلوك الإسلامي العام. فقد اعتبر السلفيون ـ وفي مقدمتهم الوهابيون ـ أن هذه الأمور تمثل ألواناً من العبادة لغير الله ، وذلك من خلال ما تمثّله من الخضوع لهؤلاء ، الذي هو مظهر من مظاهر العبادة ، ولذلك كفّروا المسلمين الذين يمارسون هذه الأعمال ونسبوا إليهم الشرك بالله.

لكن جمهرة المسلمين من السنة والشيعة خالفتهم في ذلك من حيث المبدأ ، لأن مثل هذه الأمور لا تمثل معنى العبادة في طبيعتها إذا لم ينضم إليها الاستغراق الذي يحمل معنى التألّه ، في ما توحي به كلمة الشرك في العبادة الذي يرتبط بالفكرة التي ترى في الذات أو الصنم ، سرّ الألوهية بدرجة معينة ، قد تزيد وقد تنقص ، تبعا لما يمثّله الأشخاص الصنميّون في ذلك.

وإذا كان بعض السلفيين يوردون بعض الأحاديث الناهية عن زيارة القبور ، أو يفلسفون مسألة التوسل والشفاعة من خلال بعض العناوين والمفردات العقيدية أو الشرعية ، فإن المسألة تتحوّل إلى التوفر على دراسة هذه الأحاديث أو تلك التحليلات على أساس الحوار العلمي الكلامي أو الفقهي ، الخاضع للدراسة المعمّقة التي تضع الأمور في نصابها الصحيح. ولا بد لمثل هذا الحوار من أن يخضع للمنهج الإسلامي في مفرداته وأساليبه وروحيته القائمة على الرغبة في الوصول إلى الحقيقة ، لا في تسجيل النقاط في هذه الدائرة أو تلك على الطريقة الجدلية ، لأننا لاحظنا في كثر المطارحات الدائرة في هذه القضايا ، أنها كانت تتحرك من روحية متشنّجة لا من ذهنية منفتحة.

وفي ضوء ذلك ، نستطيع أن نتجاوز ذلك كله إلى النتائج العلمية الإسلامية القائمة على الأصول الثابتة من الكتاب والسنة الصحيحة.

* * *

٦٠