تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

والخاصة ، فالقضية ليست قضية شرف ذاتي في ما يملكه الإنسان من عناصره الذاتية بذاته ، بل هي قضية امتياز في ما أعطاه الله.

وليس من الضروري أن تكون المسميات موجودات أحياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب ، لأن القصة واردة في الإحاطة بالأمور التي تدخل في نطاق مسئوليات هذا الخليفة في إدارة شؤون الأرض وفق خصوصياتها وأوضاعها وموجوداتها وما يتصل بها لجهة تحريكها وتوجيهها الوجهة التي أرادها الله ، ولعل ما يؤكد ذلك ما جاءت به أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في الجواب عن السؤال عمّا علمه الله لآدم ، قال الإمام الصادق ـ كما في تفسير العياشي ـ : «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ، ثم نظر إلى بساط تحته فقال : وهذا البساط ممّا علّمه»(١).

وهي إشارة إلى المدى الذي تبلغه إمكانات العلم لدى آدم ـ الإنسان ، بحيث تدخل في تفاصيل الأشياء المستقبلة من خلال الطاقات المودعة فيه والوسائل الموضوعة لديه ، والله العالم بحقائق آياته.

وقد أفاض صاحب الميزان في عرض الأخبار المتنوعة في هذا المجال ومنها أخبار الطينة.

ثم علّق على بعض الملاحظات التي يوردها بعض الناس حول هذه الأخبار في علامات الاستفهام التي توحي بالاستبعاد فقال :

وإياك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ، ومنابع الحكمة ، بأنها من اختلاقات المتصوّفة وأوهامهم ، فللخلقة أسرار ، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة ، منذ أخذ البشر في الانتشار ، وكلما لاح لهم معلوم واحد بأن لهم

__________________

(١) م. س ، ج : ١ ، ص : ١٢١.

٢٢١

مجاهيل كثيرة ، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها ، فما ظنك بما وراءها ، وهي عوالم النور والسعة (١).

ونحن نتفق مع العلامة الطباطبائي في القاعدة العلمية التي أسسها ، وهي عدم المبادرة إلى رفض ما لا تقبله الأفكار من خلال ابتعاده عن المألوف ممّا يعرفه الناس ، أو يقع في نطاق تجاربهم الذهنية وانفعالاتهم الشعورية ، لأن عالم الغيب يختلف في موازينه عن عالم الحسّ لعدم خضوعه للتجربة الحسية ، الأمر الذي يجعل المقياس في معقوليته وعدم معقوليته ، هو انطلاق القضية في أبعادها من دائرة الإمكان المنطلقة من دراسة الفكرة وقدرة الله المطلقة ، فلا يجوز لنا أن نرفض الغيب في طبيعته ومفرداته لمجرد ابتعاده عن دائرة المألوف لدينا ، لأن المألوف ليس هو الصيغة النهائية للحقيقة حتى في ساحة الحسّ ، فكم من الأمور التي كانت فوق مستوى المألوف مما يعقله الناس ، في قضايا الحياة وأسرار الكون ، أصبحت عادية ومألوفة لديهم بعد اكتشافها من قبل العلماء ووضوحها لديهم ، وكم من الأمور المألوفة لديهم بفعل السير التاريخي للأفكار والعقائد ، تحوّلت إلى أشياء مستنكرة بعد ثبوت زيفها وخرافيتها ، وكم من الأشياء التي كانت غيبا في وعي الناس عادت حسّا من خلال الاكتشافات العلمية.

لذلك ، فإن طريقة البحث في الأمور الغيبية تختلف عن الطريقة في الأمور الحسية ؛ ففي الغيب متّسع للفكر التأملي والعقل النظري ، وفي الحسّ منطلق للتجربة الواقعية والعقل العملي بالإضافة إلى دائرة التأمل فيه ، ولكنّ المسألة التي تفرض نفسها في شؤون الغيب هي توثيق النص المرويّ عن المصادر المعصومة التي لا تخطئ في نقل الأشياء وفي تصوّرها ، وتركيز الفهم الدقيق للنصوص من خلال القواعد والأصول المتّبعة في ذلك ، وهذا ما

__________________

(١) م. ن ، ج : ١ ، ص : ١٢١.

٢٢٢

ينبغي البحث فيه قبل الالتزام بالنص كوثيقة علمية ، ولا سيّما إذا عرفنا دخول الكثير من الأحاديث الموضوعة في تراثنا من خلال اليهود في إسرائيلياتهم التي أريد لها أن تشوّه المفاهيم الإسلامية في الخطوط العامة والتفصيلية ، أو من خلال الكذابين الذين كانوا يضعون الأحاديث ويدسّونها في كتب الثقات من أصحاب الأئمة عليه‌السلام ، كما ورد ذلك في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام عن أبي الخطاب وجماعته ، مما يتضمن الكفر والزندقة والخرافة.

فلا بد لنا من التدقيق في السند والمتن ـ كما يعبّر القدماء ـ قبل القبول بها وتحويلها إلى ثقافة عامة للناس ، ولا سيّما في الأمور المتصلة بالعقيدة ، بحيث يبادر الناس إلى إنكار الحقائق الثابتة أو تأويل النصوص المعتمدة لمصلحتهم.

ولا بد ، إلى جانب ذلك ، من المقارنة بين النصوص في دلالاتها الفكرية ، وخصوصا مسألة العرض على القرآن الذي هو كتاب الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، للتعرّف على ملاءمة المفهوم الحديثي في مضمونه الفكري مع المفهوم القرآني في دلالاته ، من خلال الأصول الدقيقة للبحث العلمي ، وعدم الاقتصار على الأساليب الأصولية التقليدية في طريقة البحث والمقارنة.

إن المسألة ليست مسألة استبعاد الغيب في مفرداته مهما كانت غريبة عن المألوف ، ولكنها مسألة التأكيد على صدور هذا الغيب ممن يملك أمر الحديث عن الغيب في قضايا العقيدة والحياة.

وقبل أن نختتم الكلام هنا ، فإن ثمة نقاطا أو تساؤلات ، تثيرها الآيات موضوع البحث وتعالجها وفق التسلسل التالي :

* * *

٢٢٣

ما معنى هذا الحوار الذي أجراه

الله سبحانه وتعالى مع الملائكة؟

هل هو قصة حقيقة جرت بين الله وبين الملائكة ، أم هو أسلوب قرآني لتقريب الفكرة بطريقة الحوار لأنه أقرب إلى فهم الفكرة من الأسلوب التقريري ، إذ إن أسلوب الحوار متحرك يوحي بالحركة في الفكرة عند ما تتوزع تفاصيلها على عدة أشخاص بين السؤال والجواب ، بينما نشعر في الأسلوب التقريري ، بأن الفكرة تسير بشكل رتيب هادئ لا يثير في النفس أي شعور غير عادي إلا من خلال طبيعة الفكرة؟

وليس هذا الأسلوب بدعا في الأساليب القرآنية ، فنحن نجد في كثير من آيات القرآن حوارا يدور بين الله وبين ما لا يعقل ولا ينطق من مخلوقاته ، كما في ما حكاه الله سبحانه في خلق السماوات والأرض إذ قال لهما : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، لتقريب فكرة خضوعهما التكويني لله بما أودعه فيهما من قوانين طبيعية تسير بهما وفق إرادته وحكمته.

ولا بد لنا في الجواب عن هذا التساؤل من الحديث عن موقفنا حيال الظواهر القرآنية ، فهل لنا أن نتصرف فيها فنحملها على غير ما يفهم من مدلولها الحرفي أم لا؟

إن الطريقة العقلائية في المفاهيم تقضي بأن الظواهر الكلامية حجة ما لم يكن هناك دليل عقلي يمنعنا من الأخذ بها ، وقد جرى القرآن على هذه الطريقة في أسلوبه ، فلا بد لنا من السير عليها في ما نأخذ منه أو ندع ، فإذا أخبرنا بوجود حوار ضمن قصة ولم يكن هناك مانع عقلي من الإقرار به ، فيلزمنا الإقرار به واعتباره حقيقة واقعة. أما إذا كان هناك مانع عقلي فلا بد من حمله على ما ينسجم معه على أساس قواعد المجاز والكناية والاستعارة ، كما في

٢٢٤

الآيات التي تحدثت عن وجه الله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، أو عن يد الله كما في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] ، وكذلك في قوله عزّ من قائل : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] ، مما قد يوحي بأنه تعالى جسم كالأجسام .. ولما قام الدليل العقلي على امتناع الجسمية عن الله ، حملنا هذه الآيات وأمثالها أنها واردة مورد الاستعارة للتعبير عن الذات في كلمة الوجه ، وعن عطائه وقوّته في كلمة اليد ، لمناسبات لغوية تقتضي ذلك. والآن ، ما موقع قصتنا من هذه القاعدة؟

قد يعالج البعض القضية من خلال هذا السؤال :

كيف نفهم الحوار كحقيقة موضوعية؟ هل كان الله سبحانه ، في مقام استشارة الملائكة في ما يريده من خلق هذا الخليفة أم كان في مقام إخبارهم بذلك؟ لا بد من رفض الشق الأول من السؤال ، لأن الاستشارة تنطلق من محاولة الوصول إلى الرأي الأصوب الذي يستتبع الجهل بالواقع مما يستحيل نسبته إليه تعالى. وأما إذا كانت القضية إخبارا عما يريد الله فعله ، فكيف نفسر اعتراض الملائكة عليه ، مع أننا نعرف ، من خلال القرآن الكريم ، أنهم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧].

وهنا يعود السؤال من جديد : كيف نفسر الحوار؟ ونقول : ربما تكون القضية واردة مورد التساؤل أمام الإخبار ، وليس هناك ما يوجب اعتبار السؤال اعتراضا ، فإن طبيعة الموضوع تدفع للتساؤل عن سر الحكمة فيه ، وتثير الدهشة والاستغراب ، فكيف يخلق الله مخلوقا ليكون خليفته في الأرض ، في الوقت الذي تتمثل حياته في التمرد على الله بالفساد وسفك الدماء؟ إن القضية ، بحسب طبيعتها ، تشبه اللغز. وفي هذا الإطار ، يمكن أن تكون القضية جوابا عن سؤال أثاره الملائكة لكشف الموضوع ، ويمكن أن تكون

٢٢٥

جوابا عن سؤال تفرضه طبيعة القضية ، بعيدا عن أجواء الحوار الحقيقي. وقد نستطيع أن نتبنى الفكرة الثانية ، لأن الآيات ، بمجموعها ، توحي بأن في القضية نوعا من التحدي الذي يوجه نحو الملائكة ، بإثارة محدودية علمهم من جهة ، وبتوجيه السؤال إليهم لإظهار عجزهم وتكليف آدم بالإجابة عنه. وقد يقرّب هذه الفكرة ، أننا لا نفهم الوجه في إدارة هذا الحوار مع الملائكة ، فإن حوار الله مع مخلوقاته ينطلق غالبا من القضايا التي تتعلق بمسؤولياتهم وتكاليفهم ، أمّا أن يكون متمثلا في الأمور التكوينية التي يريد إيجادها ، فهذا ما لا نعرف له وجها. ومن الطبيعي ، أن هذا لا يعتبر مانعا عقليا عن حمل اللفظ على ظاهره ، ولا سيما أننا لا نملك الكثير من المعرفة لعالم ما وراء الطبيعة ، فنحن لا نعرف كيف يقولون ، وكيف هم ، وما هي العلاقة بينهم وبين الله سبحانه ، وما هو الجو الذي يمكن أن يعيش فيه هذا الحوار. كل هذا لا نملك له سبيلا للمعرفة ، فإن هذه القضايا مما نعرف وجودها بشكل ضبابي ، لأننا لا نجد وسائل الإيضاح التي تجعلنا نتمثل الفكرة بوضوح.

إننا نستقرب اعتبار الموضوع أسلوبا قرآنيا لتوضيح الفكرة ، ولكننا لا نجزم بذلك ، لأن المعطيات التي قدمناها لا تدع مجالا للجزم ، بل ربما نلتقي ببعض الأحاديث المأثورة التي تدعم الفرضية الأولى .. في ما سبق أو يمكن أن يلي من حديث.

بقيت هناك نقطة ، لا بد من الإشارة إليها في هذا المجال ، وهي موضوع الصدق والكذب ، إذ كيف يسوّغ الإخبار بحدوث حوار لم يحدث ، وبحكاية قول لم يقل؟ وهنا نقول إننا نعرف من الأبحاث التي تحدثت عن الصدق والكذب ، في أبواب الكناية وفي غيرها ، أنهما يخضعان ـ في مقياسهما ـ لما يقصد حكايته ، فإن قصد المتكلم الإخبار بما يحكيه عن الواقع ، أمكن الحكم عليه بالصدق إن كان مطابقا له ، وبالكذب إن لم يكن مطابقا ، أما إذا لم يقصد الإخبار عن الواقع في مضمون الحكاية ، بل قصد اعتبارها وسيلة للإخبار عن

٢٢٦

شيء آخر ، فإن الاعتبار يكون به لا بها.

* * *

ما هو معنى الخلافة التي جعلها الله للإنسان؟

في ما تدل عليه الآية ، ربما يذكر هنا معنيان :

أولهما : الخلافة عن الموجودات السابقة على خلق الإنسان ، انطلاقا من بعض الأحاديث المروية التي تذكر أن هناك فصائل حية عاشت في الأرض قبل الإنسان ، وعاثت فيها فسادا ، وسفكت الدماء ، ثم انقرضت بعد ذلك ، وجاء الإنسان ليخلفها على هذه الأرض. وهناك أحاديث تعطي لتلك الموجودات الصفة الإنسانية أو الآدمية باعتبار وجود آلاف من الآدميين قبل آدم أبي البشر.

ثانيهما : الخلافة عن الله وقد وردت عدة آيات بهذا المضمون كما في قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) [ص : ٢٦]. وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤]. وعلى هذا يكون معنى الخلافة عن الله هو إدارة الأرض وبناؤها وإعمارها على وفق إرادة الله.

ولعل الرأي الثاني أوفق بظاهر الآيات ، لأن سياقها يوحي بأن الملائكة لم يطرحوا سؤالهم انطلاقا من إفساد الإنسان في الأرض وسفكه الدماء فقط ، بل باعتبار أنفسهم مؤهلين لذلك ، وكان وحي الله إليهم في إطار بيان الخصائص التي يملكها هذا المخلوق ولا يملكونها هم ، مما يؤهله للقيام بالمهمة الموكولة للخليفة ، فكأن القضية هي قضية الدور الذي يراد للخليفة أن يقوم به ، لا مجرد خلق موجود جديد يخلف الكائن القديم. ولهذا كان الحوار منطلقا من موقع الخصائص الموضوعية للخلافة الموجودة في الإنسان

٢٢٧

المفقودة في غيره. ولو كانت القضية كما يتوهم في المعنى الأول ، لما كان هناك أيّة حاجة لكل هذه التفاصيل ، فإن الخلافة عن الموجودات السابقة لا تحتاج إلى ميزة ذاتية أو ميزة عن الملائكة.

ونحن في ترجيحنا للمعنى الثاني ، لا ننكر ما ورد في الأحاديث من وجود خلق آخر ، فإن قضية وجوده وعدمه لا ترتبط بخلافته عنه وعدمها كما هو واضح. وقد تصلح هذه الأحاديث لأن تكون تفسيرا للسؤال المطروح في أكثر من مجال أمام هذا الحوار القرآني ، وهو من أين عرف الملائكة أن هذا المخلوق الجديد يسفك الدماء ويفسد في الأرض مع أنه لم يدخل مجال التجربة بعد؟

وتنوّعت الأجوبة بين جواب يفسر ذلك بدراستهم للخصائص المادية التي يتميز بها الإنسان من حيث إنه مخلوق أرضي تتوفر فيه كل سلبيات العنصر الأرضي في محدوديته وماديته ، مما يفسح في المجال لمثل هذه الممارسات السلبية ، وبين جواب يتحدث عن تجربة إنسانية سابقة من خلال بعض الموجودات السابقة المنقرضة ، وبين جواب يطرح القضية في اتجاه آخر لا يتحدث عن معلومات ذاتية حسية أو استنتاجية ، كما في الجوابين السابقين ، بل يتحدث عن إمكانية أن يكون الحوار ـ لو كان هناك حوار حقيقي ـ غير مذكور بتمامه ، بل يمكن أن تكون هناك جوانب أخرى للحوار لم يتعلق غرض بيانها في القصة على أساس الطريقة القرآنية التي تختصر القصة فلا تذكر كل التفاصيل ، بل تقتصر على الأشياء التي تتصل بالهدف الأساس فيها.

فربما كان الملائكة قد سألوا بعد إخبار الله لهم بجعل الخليفة ، عن خصائصه وأعماله وأدواره ، فأجابهم الله بما يحدث منه من قضايا لا تنسجم مع إرادته كقضايا الإفساد في الأرض وسفك الدماء ، فاستغربوا ذلك ، وسألوا عن الحكمة في ذلك ، فكانت معرفتهم مستمدة من تعريف الله لهم بذلك في إطار

٢٢٨

القصة. وهذا ما نستقربه على أساس دراسة طبيعة الأشياء ، أمّا إذا صحّت الأحاديث المأثورة من جهة السند ، فإننا نتبناها ـ في تفسير السؤال ـ باعتبارها الحجة على التفسير بعيدا عن الآراء والظنون.

ولا بأس من الإشارة إلى بعض هذه الأحاديث ، فمنها ما جاء في تفسير العياشي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : ما علم الملائكة بقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء (١)

* * *

كيف نفهم طبيعة الخلافة عن الله؟

لعل المراد منها إدارة ما يحتاج إلى الإدارة والرعاية والتدبير في بناء الحياة في الأرض على أساس النظام الذي جعله الله واختاره ، وبهذا يظهر الدور الكبير الذي أعده الله للإنسان ، بما أودعه فيه من قوة المعرفة التي يستطيع من خلالها استيعاب كل ما حوله من الظواهر والموجودات ، وما أعطاه من طاقة العقل الذي يدرك به الخير والشر ، والصلاح والفساد ، ويوازن به بين الأمور التي يواجهها ليستنتج منها أفكارا جديدة ، ويثير منها الحلول الصحيحة لمشاكل الحياة وقضاياها. ولعل هذا الدور هو الذي عبر الله عنه بالأمانة في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢].

وربما كان هذا التصوير الكنائي لمواجهة هذه المخلوقات الضخمة بالمسؤولية تدليلا على عظمة الدور الذي يمثله الإنسان عند ما يقوم به.

وقد نفهم من الإشارة إلى تعليم آدم الأسماء كلها ـ في معرض تبرير

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١٢٠.

٢٢٩

صلاحيته للخلافة ـ أن للعلم دورا كبيرا في هذا المجال ، وأن الطاقات التي أودعها الله في الإنسان دون أي مخلوق آخر هي الأساس في هذا الدور ، فمن خلالها يستطيع أن ينتج علما ، وأن يتحول إلى شيء نام متحرك في كل اتجاه يبلغه الفكر ، أو تقود إليه التجربة ، كمظهر من مظاهر الخلق والإبداع.

وبهذا انطلقت مسئولية الإنسان للقيام بدوره بالانسجام بين طبيعة الحياة وبين إرادة الله وتسخير القوى التي بين يديه في سبيل الخير لا في سبيل الشر ، وهذا ما يرفعه إلى المستوى الكبير لدى الله ، فيكون أفضل من الملائكة الذين يمارسون الخير بشكل تكويني ، فلا فضل لهم في ذلك ، أمّا إذا ابتعد عن ممارسة دوره من موقع المسؤولية ، فإنه يتنزل إلى أسفل من درجة الحيوان الذي يعيش الشهوة ونتائجها بشكل غريزي ، فلا إثم عليه في ذلك.

إن سرّ الإنسان هو علمه وعقله وإرادته ، فهو الذي يميزه عن سائر الموجودات من ناحية ذاتية ، وهو الذي يؤهله لأن يتسلم زمام الأمور في الحياة الدنيا من خلال تسخير القوى الطبيعية له. أمّا من الناحية العملية ، فإن عمله هو الذي يحدد قيمته وموقعه على أساس ما أنزله الله في قرآنه : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣].

* * *

من هو الخليفة ؛ آدم أم النوع الإنساني كله؟

الظاهر من الآية الكريمة أنه النوع الإنساني ، لأن آدم الشخص محدود بفترة زمنية معينة ينتهي عمره بانتهائها ، فكيف يمكنه القيام بهذا الدور الكبير الذي يشمل الأرض كلها ويتسع لكل هذه المرحلة الممتدة من الحياة. هذا أولا ، وثانيا : إن الملائكة قد وصفوا هذا الخليفة بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، وهذا الوصف لا ينطبق على آدم بل ينطبق على بعض الجماعات التي

٢٣٠

يتمثل فيها النوع الإنساني في مدى الحياة.

وقد نلاحظ في هذا المجال أن هذا اللفظ « الخليفة » قد استخدم في خطاب بعض الأنبياء والناس في أكثر من آية. وربما نستطيع من هذا ، أن نستوحي الفكرة القائلة بأن تعليم آدم الأسماء ليس تعليما دفعيا بل هو تعليم القابلية والإعداد بالشكل التدريجي الذي تواجهه البشرية في السلّم التطوري للعلم. والله العالم.

وقد يتساءل البعض : إن الله حدود في بعض الآيات الكريمة الاستخلاف بالمؤمنين كما جاء في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور : ٥٥].

فكيف تقول إن المراد بالخليفة النوع الإنساني كله؟

والجواب : إننا قد قلنا بأن الخليفة هو النوع الإنساني في مقابل التحديد بشخص آدم ، فإن الخلافة على قسمين ؛ عامة وخاصة. أما العامة فهي التي جعلها الله للنوع الإنساني بشكل عام في مقابل الفصائل الأخرى من الموجودات الحية من خلال ما منحه من الطاقات والخصائص العامة التي يستطيع أن يستخدمها في ما يريده الله ، أو في ما يمكن أن يصل به إلى رضى الله. أما الخاصة فهي الولاية والسيطرة على الآخرين بشكل مباشر ، وهو ما تعبر عنه هذه الآية التي توحي بأن الله سيمكن المؤمنين في الأرض ويمنحهم السلطة الفعلية ، كما منح من قبلهم ، فلا تنافي ما ذكرناه في معنى الآية.

* * *

ما هي الأسماء التي علمها الله لآدم؟

لقد استفاضت النصوص الدينية في الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وعن غيرهم في أن المراد منها هي أسماء الموجودات الكونية

٢٣١

سواء منها الموجودات العاقلة أو غيرها ، ولعل هذا ما توحي به طبيعة الجو الذي يحكم الموقف في هذه الآيات ، وينسجم مع مهمة الخلافة عن الله في الأرض التي أعد لها الإنسان ، وهي تفرض المعرفة الكاملة بكل متطلباتها ومجالاتها.

جاء في تفسير العياشي : عن أبي العباس ، عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن قوله الله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ماذا علمه؟ قال : الأرضين والجبال والشعاب والأودية (١).

وجاء في تفسير الطبري عن ابن عباس ، قال : علم الله آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجبل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها (٢).

وهناك اتجاه في تفسير ذلك بأسماء الملائكة وأسماء ذريته دون سائر أجناس الخلق ، وهو الذي اختاره الطبري في تفسيره ، « وذلك أن الله جل ثناؤه قال : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) يعني بذلك أعيان المسمين بالأسماء التي علمها آدم ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة ، وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوى من وصفنا فإنها تكنّي عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون » (٣). ولكن هذا الاتجاه لا يتناسب مع طبيعة الخلافة ، لا سيما إذا فهمنا من الآية أن آدم لم يكن هو الخليفة بشخصه بل بسبب تجسيده للنوع الإنساني كما استقربناه آنفا ، فإن معرفة أسماء الذرية والملائكة لا تقدم شيئا ولا تؤخر في الموضوع.

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١٢١.

(٢) الطبري ، ابن جرير ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، دار الفكر ، ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٥ م ، ج : ١ ، ص : ٣٠٩.

(٣) م. ن ، ج : ١ ، ص : ٣١١.

٢٣٢

وأما التعبير عن الأسماء بالضمير المستعمل لما يعقل ، فقد اعترف صاحب التفسير المذكور بأن العرب قد تستعمل ضمير العاقل ، في العاقل وغيره تغليبا ، وبذلك جاء القرآن الكريم : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥]. ولكنه قال إن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وصفنا ، ولكننا لا نعتبر الغلبة في مثل هذا ـ لو ثبتت ـ لغة مرجوحة أو غير فصيحة ، لأن القرآن نزل بذلك في الآية المتقدمة ، مما يوحي بأنها لغة مألوفة معتبرة ، ولعل ذهاب ابن عباس ـ في ما روي عنه ـ يقرّب ما ذكرناه ، لأنه أعرف بكلام العرب من المتأخرين الذين عرفوه بالنقل ، بينما كانت معرفته له بالسماع والممارسة. (١)

* * *

آدم يعرض الأسماء على الملائكة

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) بالطريقة التي يتعرفون فيها أشكالها ، وأوضاعها ، وأنواعها ، ومواقعها ، وغير ذلك مما لا سبيل لنا إلى معرفة خصوصياته ، لأن لله حكمته وقدرته في أسلوب هذا العرض ، الذي يفتح للملائكة أبواب المعرفة ، بالمستوى الذي يريد لهم أن يصلوا إليه بالمشاهدة أو بالإلهام. (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١) في المدى الواسع الذي تملكونه من العلم في ما يؤهلكم للخلافة في الأرض ، وللاطلاع على بواطن هذه الأشياء وحقائقها وخصوصياتها.

وهذا أسلوب دقيق يوحي بالعجز الملائكي عن هذا المستوى المعرفي ،

__________________

(١) م. س ، ج : ١ ، ص : ٣١١.

٢٣٣

لأن الله أعطى لكل مخلوق من مخلوقاته دورا معينا محدودا يتحرك في دائرته ولا يتجاوزه ، لتكون الحياة في تنوعاتها وأوضاعها ومواقعها ، عملية تكامل بين المخلوقات في الأدوار الموضوعة لها والخطط المرسومة لحركتها ، فلا يملك مخلوق أن يقوم بدور مخلوق آخر ، فللملائكة دورهم في الوظائف التي وظّفوا لها في إدارة النظام الكوني ، وللإنسان دوره في المسؤوليات التي حمّله إياها في شؤون نفسه ، وفي شؤون الأرض التي يتحرك فيها ، وللظواهر الكونية المتناثرة في الكون الواسع أدوارها الخاصة هنا وهناك ، فالنظام الكوني نتاج ذلك كله.

والظاهر أن الأسلوب القرآني في خطاب الله للملائكة جار على أساس تأكيد جهلهم بهذه الأسماء في مسمياتها ، تماما كما تقول : أخبر بما في يدي إن كنت صادقا ، أي : إن كنت تعلم فأخبر به ، لأنه لا يمكنه أن يصدق في مثل ذلك ، كما جاء في مجمع البيان (١).

* * *

الملائكة يشهدون بعجزهم

وليس مجرى الأسلوب على تكليفهم بذلك ، لأن الجوّ يتحرك في مقام إظهار عجزهم ، لا في إظهار كذبهم ، لأنهم لم يكونوا في مجال دعوى العلم بذلك ، (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ، فنحن لم ندّع العلم في ما يتجاوز قدرتنا على المعرفة ، لأنك أنت الذي وهبتنا علم ما نعلم بالوسائل التي أودعتها فينا ، ومكنتنا منها ، فلا مصدر للعلم إلّا منك ، ولم يكن ما كان منّا اعتراضا على حكمتك أو تدبيرك ، أو ادعاء لما لا نملك علمه من شؤون

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٩٧.

٢٣٤

خلقك ، بل كان وسيلة من وسائل اكتشاف حقائق الأمور في ما تخلقه وتبدعه وتدبره.

(عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) الذي تملك العلم كله ، فلا حدود لعلمك لأنك أنت الخالق لما تعلمه فكيف لا تحيط به. (الْحَكِيمُ) الذي يتحرك في تدبيره بالحكمة العميقة الشاملة التي تنطلق من الإحاطة بحقائق الأشياء في ما يصلح أمرها أو يفسده ، وعلينا وعلى العباد كلهم أن يسلموا لك كل أمورهم في ثقة مطلقة بأنك وحدك العالم بكل شيء ، الحكيم في كل تدبير.

* * *

عبر ودروس للعاملين

قد يشعر الإنسان مع هذه الآيات البينات بالحاجة إلى أن يعيش الإحساس بمنزلته ومستواه من خلال هذا الحوار الذي يجسد التكريم الإلهي له من خلال المسؤولية الملقاة على عاتقة. ولا بد ـ في هذا الإحساس ـ من التركيز على أن الخصائص الإنسانية الممنوحة له من الله ليست شرفا يزهو به ، بل هي مسئولية يحملها من أجل تفجيرها وتنميتها وتركيزها على الأسس التي يمكن له من خلالها أن يحقق الأهداف التي من أجلها كان وجوده.

ولعنا نستوحي من ذلك اعتبار هذه الطاقات التي أودعها الله فيه أمانة لديه ، فليس له أن يعطلها ويجمدها ، أو يوجهها إلى التفاهات التي لا تحقق للحياة شيئا جديدا ، ولا تقدمها خطوة إلى الأمام ، بل يجب عليه أن يحركها ليحرك الحياة من حوله ، وبذلك يخرج الإنسان عن الإطار الذي يحبس فيه نفسه عبر مشاعر الفردية والأنانية التي تجعله لا يفكر إلا بنفسه ، لأنه لا يشعر بوجود الآخرين ، أو بمسؤوليته الإنسانية عن رعاية هذا الوجود وحمايته من

٢٣٥

الانحراف والانهيار ، بل كل ما عنده هو ذاته ، فهي معبوده في أفكاره وأعماله ، بعيدا عن كل شيء آخر.

إن الشعور بخلافة الإنسان عن الله ، هو الذي يجدد للإنسان ـ في كل يوم ـ حياته من خلال تجديد طاقاته وتحويلها إلى قوة فاعلة متجددة تلاحق كل خطوات الواقع من أجل تركيزها على الطريق المستقيم.

وهذا ما يجب على العاملين في سبيل الله أن يعمّقوه في داخل نفوس الناس كجزء من أساليب التربية الروحية التي يراد منها إيجاد الشخصية المسلمة الفاعلة المتعاطفة مع كل مجالات العمل في الحياة ، المتطلعة في كل صباح جديد إلى واقع جديد ومسئولية جديدة تنطلق أبدا في الآفاق الواسعة الشاملة التي تشرق بنور الله.

ولعل هذا ما يحقق للإنسان الشعور العميق بوجوده الحر في داخل أعماقه بعيدا عن كل نوازع الضعف ، وتهاويل الضغوط المنطلقة من القوى الموجودة خارج ذاته ، لأنه يخلق في هذه الذات القوة الهائلة المستمدة من شعوره بسيطرته على الكون كله من خلال دوره الكبير الممنوح له من الله خالق كل قوة في الكون ، لأنه خالق الكون. فليست هناك قوة تتحدى دوره ، أو تدمر له إنسانيته في ضغوطها الطاغية ، بل هو القوة التي تتحكم في الضغوط الخارجية كلها ، من خلال قوته الداخلية.

* * *

٢٣٦

الآية

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٣٤)

* * *

معاني المفردات :

(اسْجُدُوا) : السجود : الخضوع والتذلل. وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض. والسجود لله يكون على نحو العبادة ، ولغيره على وجه التكريم والتحية ، ومنه سجود الملائكة لآدم وسجود يعقوب وأهله ليوسف ، فقد كان ذلك هو التعبير عن التحية للملوك ، وذلك في قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠]. وهو عام في الإنسان والحيوان والجمادات ـ كما جاء في القرآن الكريم وذلك نوعان :

أـ سجود باختيار ، وهو من خصوصيات الإنسان الذي يستحق به الثواب ويقترب به من مواقع القرب لله.

ب ـ سجود التسخير ، وهو للإنسان والحيوان والنبات والجماد ، وعلى

٢٣٧

ذلك قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد : ١٥].

(إِبْلِيسَ) : اسم أعجمي معرّب ، واستدلوا على ذلك بامتناع صرفه ، وذهب آخرون إلى أنه عربي مشتق من الإبلاس الذي هو الحزن المعترض من شدة اليأس ، قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) [الروم : ١٢]. والمقصود ب « إبليس » المخلوق الغيبي الذي يمثل رمز الشرّ ، وهو من الجن ، التحق بالملائكة حتى أصبح معدودا منهم لشدة عبادته ـ كما يقال ـ وقد جاء الحديث عنه بذلك في قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠]. وتحدث القرآن ، تحت عنوان الشيطان ، عن سلطته في إضلال البشر بالوسوسة والتزيين والإيحاء ونحو ذلك ، من دون أن يكون له القدرة المطلقة على التدخل في قدرتهم الذاتية وشلّ إرادتهم المتحركة في اتجاه الخير.

(أَبى) : الإباء شدة الامتناع ، فكل إباء امتناع ، وليس كل امتناع إباء ، ومنه : رجل أبيّ : ممتنع عن تحمّل الضيم.

(وَاسْتَكْبَرَ) : الاستكبار : إظهار الإنسان من نفسه ما ليس له من خلال تكبره وإعجابه بنفسه ، والكبر ، حالة الإعجاب ورؤية نفسه أكبر من غيره في صورة انتفاخ الشخصية ، والتكبر على الله إنما هو بالامتناع من قبول الحق ومن الإذعان له بعبادته.

* * *

إبليس يأبى ويستكبر

هذا هو الموقف الثاني الذي أراد الله فيه أن يكرّم هذا المخلوق الجديد ، ليظهر قيمته وفضله ، فأمر الملائكة بالسجود له إعظاما وتحية وتكرمة ، وكان إبليس يعيش في أجواء الملائكة حتى كاد أن يحسب منهم ، كما يوحي به

٢٣٨

الاستثناء الذي هو من قسم الاستثناء المنقطع الذي يعتبر فيه المستثنى من لواحق المستثنى منه وإن كان خارجا عنه.

وانسجم الملائكة مع هذا الأمر الإلهي لأنهم عباده المكرمون الذين (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أمّا إبليس ، فإن الأمر يختلف لديه ، لأنه لا يعيش هذا الجو الروحي إزاء أوامر الله ونواهيه ، بل القضية عنده هي ما إذا كانت الطاعة لله منسجمة مع ذاتيته ونظرته إلى نفسه ، أو غير منسجمة. وكان السجود لآدم لا يرضي غروره الذاتي وشعوره بالاستعلاء أمام هذا المخلوق الجديد ، على أساس عنصري ، كما توحي به الآيات القرآنية الأخرى التي تحدثت عن القصة بإسهاب ، فما كان منه إلا أن تمرد وأبى واستكبر وامتنع عن الطاعة.

* * *

كفر إبليس

(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) الذين لم يكفروا بالله مباشرة ، ولكنهم يعيشون روحية الكفر وممارسته في التمرد على الله ، مما يجعل حياتهم تجسيدا للكفر بكل مظاهره ونتائجه. ونجد في القرآن الكثير من الآيات التي تتحدث عن الكفر العملي بالقوة نفسها التي تتحدث فيها عن الكفر العقيدي ، باعتبار أنهما يلتقيان في النتيجة الطبيعية ، وهي التمرد على الله والبعد عن الخط المستقيم الذي أراد الله للحياة أن تسير فيه. ونحن نفهم من الآيات التي تربط العمل الصالح بالإيمان أن خطورة الكفر لا تقتصر على ما تمثله من إنكار لله ولرسله واليوم الآخر ، بل تكمن في الانطلاق بعيدا عن عبادة الله وإرادته في بناء الحياة على أساس شريعته. وهذا ما نستقربه في اعتبار إبليس كافرا. وقد سار بعض المفسرين في اتجاهات أخرى لا تثبت أمام النقد العلمي ؛ فقد جاء في مجمع

٢٣٩

البيان للطبرسي :

أمّا قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) قيل : معناه كان كافرا في الأصل ، وهذا القول لا يوافق مذهبنا في الموافاة ، وقيل : أراد كان في علم الله تعالى من الكافرين ، وقيل : معناه صار من الكافرين كقوله تعالى : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود : ٤٣] واستدل بعضهم بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من الإيمان فقال : لو لم يكن كذلك لوجب أن يكون إبليس مؤمنا بما معه من المعرفة بالله تعالى وإن فسق بإبائه ، وهذا ضعيف لأنا إذا علمنا كفره بالإجماع علمنا أنه لم يكن معه إيمان أصلا كما أنّا إذا رأينا من يسجد للصنم ، علمنا أنه كافر وإن كان نفس السجود ليس بكفر. ثم قال صاحب المجمع : فإن قيل : لم حكم الله بكفره مع أن من ترك السجود الآن لا يكفر؟ قلنا : لأنه جمع إلى ترك السجود خصالا من الكفر ، منها أنه اعتقد أن الله تعالى أمره بالقبيح ولم ير أمره بالسجود حكمة ، ومنها أنه امتنع من السجود تكبرا وردا على الله تعالى أمره ، ومن تركه الآن كذلك يكفر أيضا ، ومنها أنه استخف بنبي الله وازدراه وهذا لا يصدر إلا من معتقد الكفر .. (١).

ولكننا نلاحظ في هذا المجال ، أن هذه الآية ، وغيرها من الآيات ، لا تدل إلا على نقطة واحدة في سبب العصيان ، وهي طبيعة الاستكبار التي كان يشعر بها إبليس تجاه آدم من ناحية العنصر ، كما ورد في قوله تعالى : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف: ١٢] وفي قوله تعالى : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] مما يعطينا الفكرة التي تظل في هذا النطاق المحدود الذي يمثل المعصية التي لم تتجمد في إطار ذاته ، بل امتدت لتتحول إلى عملية إغواء لذرية آدم في كل مجالات العقيدة من ناحية الفكر ومن ناحية العمل.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ١٠٥ ـ ١٠٦.

٢٤٠