تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

وذلك هو شأن الضال الباحث عن أطماعه وشهواته عند ما تتحكم به الفكرة المنحرفة ، وتتعمق في داخله ، فتصرفه عن الالتفات إلى حقائق الأمور ، وطبيعة المواقف ، فينطلق بأصحابه إلى المواقع التي يظنون أنهم ينجحون فيها ، من دون شعور بالنتائج السيئة التي تترتب على السير في هذا السبيل ، وذلك كهؤلاء المنافقين الذين لا يشعرون بأنهم مكشوفون للمؤمنين ، فيخيل لهم أن مواقفهم تعيش خلف الضباب ، ولكن شمس الإيمان تشرق على أوضاعهم الداخلية والخارجية فتكشفهم من حيث لا يشعرون.

* * *

ظاهرة النفاق : عللها وأسبابها

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في هذه الفقرة محاولة لتفسير ظاهرة النفاق وتعليل أسبابها ، بكونها عقدة تتحكم في داخل الإنسان ومرضا نفسيا أو روحيا يعاني منه ؛ ذلك أنّ الإنسان إمّا أن يؤمن بالشيء وإمّا أن لا يؤمن به. وعلى كلتا الحالتين ، فإن الوضع الطبيعي الصحي ، هو أن يسير على ما يوحي به موقفه ، فإذا كان مؤمنا ، انطلقت سيرته ، في خط إيمانه ، وتحركت حياته في هذا الاتجاه .. أما إذا كان كافرا ، فإن الكفر يفرض عليه أن يحدد لحياته الخطوط التي لا تلتقي بالإيمان من قريب أو من بعيد ، سواء في ذلك ، مشاعره الداخلية أو خطواته العملية ، لكن أن يرفض الإنسان الإيمان ويعمل عمل المؤمن ، فهذا موقف غير طبيعي في حياته ، لأن الموقف الطبيعي ، هو أن ينبع عمله من إيمانه وتفكيره.

وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنعرف أن أيّة حالة غير طبيعية تعتبر ظاهرة مرضية في حياة الإنسان ، سواء أكانت موجودة في جسده ، أم في

١٤١

روحه ، أم في تفكيره. ولهذا اعتبر الله النفاق مرضا ينطلق من عقدة نفسية ، تحمل في داخلها طبيعة الشخصية المزدوجة التي تتمثل في الداخل بصورة وحركة تختلفان عن الصورة والحركة الموجودتين في الخارج.

وقد لا تكون هذه العقدة ، أو هذا المرض ، من الأشياء الأصلية في ذات الإنسان ، بل قد ينشأ ذلك من حالة الخوف من مواجهة المجتمع بما يخالف تفكيره وأوضاعه .. وقد تنشأ من حالة الطمع الذي يمنع الإنسان من الوقوف في المواقع الحاسمة التي لا تنسجم مع مصادر الطمع وموارده. وقد تنشأ من حالة نفسية قلقة يعيش الإنسان معها طبيعة الحيرة والتردد في كل موقف من مواقف الحياة ، وقد يتبين لنا ممّا يأتي من الآيات القرآنية ، ما يوحي بطبيعة « العقدة النفاقية » في ما يعيشه المنافقون في واقع الإسلام منذ بدايات عهد الدعوة الإسلامية حتى اليوم.

* * *

النفاق في سياق قانون السببية

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) قد يتساءل المرء عن هذه الزيادة التي ينسبها الله إلى نفسه ، فهل أراد الله لهذا المرض أن يزيد بشكل مباشر؟ وكيف تتعلق إرادة الله بتعاظم النفاق في داخل هؤلاء المنافقين ، في الوقت الذي يلعن فيه الله النفاق والمنافقين؟

وقد يكون الجواب في هذا المجال ، أن هذا التعبير ينسجم مع التعابير القرآنية الكثيرة التي ينسب فيها الفعل إلى الله ، باعتبار أن القوانين الطبيعية التي تقتضيها طبيعة الأشياء ، في ما أودعه فيها من علاقة السببية ، تستتبع هذا الفعل ، وتقتضيه ، مما يبرز نسبته إلى الله باعتباره مسبّب الأسباب ، ومكوّن

١٤٢

القوانين التي تحكم الأشياء ، من دون أن ينافي ذلك نسبته إلى الإنسان ، باعتباره الأداة المحركة للفعل بشكل مباشر ، من خلال الإرادة المنطلقة من حركة العقل والفكر.

وعلى ضوء هذا نفهم الآيات ؛ فإن هذه العقدة انطلقت في حياة المنافقين على أساس لا يبتعد عن حالة الإرادة والاختيار ، واستمرت معهم بدون علاج ، بل كان الأمر بالعكس ؛ زيادة في ممارسة النفاق ، وإمعانا في تأكيد طبيعته في الداخل والخارج ، مما أوجب تعقيدا في المرض ، واتساعا لدوائره ، تماما كالمريض الذي يهمل مرضه ، فلا يعالجه ، بل يبقى ـ زيادة على ذلك ـ في تعامل مستمر مع أسبابه ، مما يوجب تطوّره إلى الأسوأ ، من خلال السنن الطبيعية التي أودعها الله في الكون ، في مسائل الصحة والمرض ، سواء أكانت جسدية أم روحية.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) فهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن هذا الوضع الذي يعيشونه ويمارسون فيه الكذب كلمة ، وموقفا وعملا ، عن عمد وسبق إصرار. ومهما كانت الظاهرة مرضية ، فإنها لا تبرر ما يؤدّونه من أعمال ، لأن المرض اختياري في بداياته ، وقد كانوا قادرين على أن لا يقعوا في نهاياته ، لأنهم يستطيعون أن يتخلصوا منه إذا شاءوا.

* * *

المنافقون والإفساد عن طريق التظاهر بالإصلاح

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) قد توحي هذه الآية الكريمة بأن المنافقين كانوا يقومون ببعض الأعمال ، أو يطرحون بعض الشعارات ، في داخل الحياة الإسلامية ، ممّا كان يسيء إلى خط

١٤٣

الإيمان ، ويفسح في المجال لحركة فساد في العقيدة والسلوك والعلاقات ، وقد يتمثّل ذلك بعمل المعاصي ، وصدّ الناس عن الإيمان بالأساليب الملتوية ـ على ما روي عن ابن عباس ـ أو بممالأة الكفار ، فإن فيه توهين الإسلام ، على ما قاله أبو علي ، أو بتغيير الملة وتحريف الكتاب على ما قاله الضحاك (١). وقد يتمثل في غير ذلك مما ذكره المفسرون. والظاهر أن مثل هذه التفسيرات لم تنطلق من نص ديني مأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنها ارتكزت على ملاحقة بعض الآيات التي تتحدث عن المنافقين في سلوكهم العملي تجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما لا يبّرر لنا حصره في نطاق خاص ، لأنه لا يحاول حصر هذه الحالات به ، بل يحاول عرض بعض ملامحها المتعلقة بالأفكار الإسلامية العامة.

وعلى ضوء ذلك ، يمكن لهذه الآية أن تتحرك في كل مجال من مجالات حركة النفاق في داخل المجتمع ، مما قد يوحي ظاهره بالصلاح ، ولكنه يحمل الفساد في أهدافه ووسائله ودوافعه .. ولعلنا نواجه مثل هذه الحالات في سلوك الكثيرين من حملة الأفكار التي تتحرك في اتجاه إثارة الفوضى والدمار في المجتمع باسم الإصلاح الذي يستهدف تغيير الواقع من خلال نسف جذوره ، كما نواجه ذلك في كلمات البعض ممّن يفسحون المجال في المجتمع للدعوات والأعمال التي يطلقها أصحاب الهوى والفجور والانحلال حيث يحاولون تبرير ذلك بأنه ثورة على الجمود ، وتحرير للإرادة الإنسانية من عوامل الكبت الداخلي ، وتحطيم للعقد النفسية المرضية التي تؤدي إلى ما يشبه الشلل في حركة الفرد والمجتمع ، كما نلاحظ ذلك في الدعوات التي تبرر الأزياء الفاضحة أو العري المنحلّ ، بأنه يمنح الإنسان صحة نفسية يتعافى بها من كل العقد الداخلية.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٦١.

١٤٤

ومن الطريف أن نجد في بعض التحليلات النفسية لحركة التحرر في الأزياء التي تعمل على تقصير الثياب إلى أبعد مدى ، أن القضية قضية تحطيم للحواجز النفسية الداخلية للمرأة إزاء حركة الحياة في تفكيرها وسلوكها ، وليست مجرد تقصير للثياب ، فكلما استطعنا تمزيق أي نوع من الحجاب ، أو أي مقدار من الثياب ، استطعنا أن نمزق حاجزا نفسيا ، وحاجبا روحيا للمرأة ، مما يجعل من قضية الانحلال الداخلي قضية ترتبط بقضايا الحرية في العالم ، من دون مراعاة للأسس الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي ترتكز عليها ، هذه القيم التي يدعو إليها الدين ويرعاها في مفاهيمه وشريعته. وعلى هذا الأساس ، نقف مع الآية وقفة استيحاء ، فقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ، أي إذا نهوا عن الفساد البيّن ، فهم يحاولون فلسفته وإعطاءه الصفات التي تجعله واجهة من واجهات الإصلاح ، ويمنحون أنفسهم ، من خلال ذلك ، صفة المصلحين الذين يريدون أن يغيّروا القيم التقليدية في العالم.

وتحاول الآية الكريمة أن تعطينا ـ من خلال أسلوبها ـ انطباعا ، بأنهم غير مقتنعين بما يطرحونه ، ولكنهم يريدون تنفيذ مآربهم ، وبهذا لا تمثل القضية موقفا حقيقيا لهم ، لأنهم لا يتعاملون مع المواقف الحقيقة الحاسمة في الحياة ، بل تمثل محاولة للفّ والدوران في سبيل تحطيم الركائز الأساسية للمجتمع ، كسبيل من سبل تحطيم الرسالة الشاملة التي تنطلق من هذه الركائز.

ويأتي القرآن لحسم الموقف على أساس كشف الواقع الفكري لهؤلاء ، وقيمته في حساب الإصلاح ، (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) في ما تفرزه أعمالهم وشعاراتهم من آثار سلبية في حياة الأفراد والمجتمعات ، (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) لأنهم لا يعيشون الأجواء النظيفة التي ترتبط بالقيم ، ولذلك ، لا يشعرون بالنتائج السيئة المرتبطة بأعمالهم ، على أساس المقاييس الواقعية

١٤٥

للأشياء ، بل يظلّون في ارتباط مجنون بالأطماع والشهوات ، مما يجعل الموازين تتحرك في اتجاه القيم الشريرة في تقييم الواقع وتحليله.

المنافقون والشعور بالاستعلاء

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) هذه إحدى الملامح البارزة للمنافقين ، وهي مواجهة الرأي العام بمشاعر الكبرياء والعظمة التي تدفعهم إلى احتقار الناس في مستوى تفكيرهم وطبيعة إيمانهم وطريقة حياتهم ، لأنهم يجدون في أنفسهم المستوى الفكري والعقلي الذي يرفعهم عن مستوى الآخرين ، ولا سيما إذا كانوا مزوّدين بالثقافة التي تتيح لهم أن يجادلوا ويناقشوا ، ويحركوا ألسنتهم بتحليل الأمور وتفسيرها ومحاكمتها ، على أساس المصطلحات العلمية التي تعطي لكلماتهم مدلولا علميا ، كما نرى ذلك في بعض المتعلّمين الذين لا يناقشون القضايا العامة التي يتبناها الناس من خلال طبيعتها الأساسية ، بل من خلال طبيعة المستوى الذي يمثله هؤلاء الناس المرتبطون بالفكرة أو بالعقيدة. فإذا حاولت أن تربطهم بالحقائق الدينية أو الكونية التي تربطهم بالله وتقودهم إلى الإيمان ، قالوا لك : إن هذا كلام غير علمي ، وإن هذه الأفكار التي تطرحها علينا هي أفكار العامة من الناس الذين يعيشون سذاجة الفكر والعقيدة ، وليست أفكار المتعلّمين الذين يحملون شهادات العلم والفلسفة.

ولعل هذا هو الذي كان يسيطر على أجواء المنافقين الذين كانوا يدعون إلى الإيمان الخالص الذي ينطلق من الفطرة بعفوية وبساطة ، باعتبار أن طبيعة الأسس التي يرتكز عليها لا تستند إلى فكر معقّد ، بل إلى الوجدان الذي يتحرك في إطار الفكرة بهدوء وصفاء. فكانوا يجيبون : إننا لا نؤمن بمثل هذا

١٤٦

الإيمان البسيط ، لأنه إيمان السفهاء الذين لا يعرفون طبيعة الأسس التي يستندون إليها في حركة الحياة. وقد توحي الآية الكريمة بأنهم كانوا يركزون على نوعية الإيمان لا على أصله ، لأن المفروض ـ في أجواء هذه الآيات ـ قبولهم بمبدإ الإيمان ظاهرا ، ولكن الله ، سبحانه ، يكشف طبيعة هذا التعاظم الأجوف والكبرياء الكاذب ، ويؤكد ، من خلال أوضاعهم ومنطلقاتهم وحركاتهم ، أنهم يرمون الناس بصفة هي أقرب إلى واقعهم الفكري والعملي من واقع الناس الآخرين.

* * *

المنافقون هم السفهاء

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) لأن السفيه يعبر ـ في مفهومه ـ عن ضعيف الرأي ، الجاهل ، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ ، والذي يتحول إلى إنسان ضائع متخبط لا يملك إدارة شؤونه بنفسه من خلال فقدانه وضوح الرؤية للأشياء ، مما يبعده عن الاستقامة في عالم التطبيق العملي. وفي مقابله الرشيد الذي يملك وعي المعرفة للأشياء على مستوى التصوّر ، وعلى صعيد الواقع ، بحيث يملك إدارة حركة النظرية في الوجدان ، وحركة التطبيق في الواقع ، الأمر الذي يؤدي إلى التوازن في مواجهة القضايا ، والاستفادة من كل الفرص النافعة الموجودة لديه.

وهذا ما يؤكده التزامهم الداخلي بالكفر الذي يجسد الضعف الفكري والجهل بالأسس المتينة التي ترتكز عليها عقيدة الإيمان ، وحركتهم العملية التي تؤدي بهم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة ، ولا سيما في هذا الموقف المتأرجح الذي يعيش معه الإنسان في عذاب داخليّ مستمر من خلال خوفه من انكشاف موقفه الداخلي الذي يغطيه بنفاقه العملي. ف (هُمُ السُّفَهاءُ) في

١٤٧

أفكارهم وأفعالهم ، (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) ، لأنهم لا ينفتحون على الآفاق الرحبة للمعرفة ليصلوا إلى النتائج الحقيقة للأمور ، وليعرفوا أن قيمة العلم في التقائه بالحقيقة تكمن في ارتكاز نتائجه على الفكرة السليمة ، والوجدان السليم ، في نهاية المطاف ، لأن أيّة نتيجة برهانية لا ترجع إلى أساس وجداني ، لا تمثل أيّة قيمة حقيقة في مجال المعرفة. وبهذا كان الإيمان الفطري يمثل العقيدة الصافية المنطلقة من أساس صحيح ثابت ، أكثر من الإيمان الذي لا يلتقي بالفطرة إلا من بعيد ، مما يجعلنا نحترم إيمان الفطريين من حيث ما يمثل الإيمان من صفاء ونقاء ، وإن لم يعرفوا طريق الجدال والنقاش العلمي.

* * *

بين الإفساد والسّفه

قد يواجهنا سؤال في هذه الآية ، وفي الآية السابقة عليها ، وهي قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

لماذا قيل هناك : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) فنفى عنهم الشعور بصفة الإفساد ، وقيل هنا : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) ، فنفى عنهم العلم بالسفه ، لماذا لم يستعمل العكس ، أو يوحّد بين الآيتين في طبيعة الكلمة؟ والجواب : لعل الفرق بينهما أن قضية اكتشاف الفساد ليست قضية فكرية ، بل هي من القضايا التي تواجه الإحساس والشعور عند ما تفرض نفسها في الحياة تماما كالألم واللذة في مواجهة مصادر الألم واللذة ، لأن الفساد يمثل اختلال مسيرة الحياة العملية في أوضاعها العامة والخاصة ، فلا يحتاج اكتشافه إلا إلى الوعي الشعوري بالموضوع ، أمّا الذين تبلدت أحاسيسهم ، وغرقوا في أجواء الفساد ، فإنهم لا يشعرون بذلك ، تماما كما هو

١٤٨

الإنسان الذي لا يعيش الإحساس بالألم عند ما تتجمد مواطن الحس في جسده.

أمّا قضية السفه ، فهي من القضايا المرتبطة بوعينا الفكري بطبيعة المصلحة والمفسدة في ما نواجه من قضايا أو نمارس من معاملات أو علاقات. فلا بد لاكتشافها من المعرفة للآفاق العملية التي تتحرك فيها حياة الناس في موازينها المستقيمة. أمّا الذين يجهلون طبيعة التوازن في ذلك ، فإنهم يجهلون ـ بطبيعة الحال ـ موقعهم من ذلك كله.

* * *

المنافقون والتظاهر بالتدين

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) إنهم يظهرون الإيمان ويعملون عمل المؤمنين في صلاتهم وصومهم وغير ذلك ، ليحصلوا على الثقة الاجتماعية التي ينفذون من خلالها إلى أهدافهم ، ثم يذهبون إلى جماعاتهم الشيطانية ، في الخلوات التي يعقدونها ، ليؤكدوا لهم مواقفهم الأساسية الثابتة ، وليبعدوا عن أنفسهم الشكوك التي قد تحدث من جراء سلوكهم مع المؤمنين ، وليبرروا سلوكهم ذلك بأنه كان استهزاء بالمؤمنين ، واستغلالا لبساطتهم وسذاجتهم ، التي تجعلهم يتقبلون ظواهر الأمور من دون أن ينفذوا إلى بواطنها ، مما يسهّل نجاح كل الحيل التي يدبرها لهم أعداؤهم.

وربما يقال : إن خطابهم للذين آمنوا بالجملة الفعلية (آمَنَّا) لإعلان المبدأ في دائرة الحدوث ، بينما كان خطابهم لشياطينهم ، بالجملة الاسميّة (إِنَّا مَعَكُمْ) لإفادتها الثبات والاستمرار ، لتأكد البقاء في الخط الفكري والعملي المتمثل في دينهم في داخل مجتمعهم الكافر.

١٤٩

وقد روي عن ابن عباس ، أن المراد بشياطينهم رؤساؤهم من الكفار وقيل : هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب ، وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنهم كهّانهم (١).

وقد نجد أمثال هذه النماذج في الكثيرين من الأشخاص الذين ينطلقون مع التيارات السياسية وغير السياسية في عملية ارتباط وانتماء ، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ يمثلون أدوار الإيمان عند ما يلتقون بالمؤمنين البسطاء ليخدعوهم ، ولينفذوا إلى حياتهم العامة والخاصة ، من أجل تحقيق الأهداف الشريرة التي لا تلتقي بمصلحة الإيمان والمؤمنين من قريب أو من بعيد. فإذا ذهبوا إلى مجالسهم الخاصة ، أطلقوا الضحكات الفاجرة ، وأظهروا السخرية والاستهزاء بالمؤمنين ، وبعباداتهم ، وبأقوالهم ، بمختلف الأساليب التي تثير الاستهزاء والاشمئزاز.

وهكذا يقدّم لنا القرآن هذه النماذج الحية ، التي كانت تعيش في العصور الأولى للإسلام ، ليبعث فينا روح الوعي للمجتمعات التي نعايشها ، وليفتح أعيننا على هذه النماذج في حركة المجتمع ، لئلا ننطلق في التعامل مع الآخرين بسذاجة ، بل نحاول اعتماد أسلوب الحذر ، الذي لا يحكم على الناس بغير علم ، ولكنه لا يستسلم إليهم بدون أساس للثقة والاطمئنان ، من دون فرق في ذلك بين أساليب التعامل والقيادة والدخول في قلب المجتمع. فلا بد لنا ، في ذلك كله ، من محاولة فهم خلفيات هؤلاء الأشخاص الذين يحتلون مركزا مميزا في التعامل والقيادة والدخول في خصوصيات حياتنا الاجتماعية ، واكتشاف منطلقاتهم الفكرية والسياسية.

إننا لا نريد أن نتحوّل إلى أشخاص معقّدين ضد الأفراد الذين نعيش معهم ، ولكننا نريد أن نجعل من أنفسنا الأمة الواعية التي تفهم الواقع فهما

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٦٣.

١٥٠

جيدا لنحدد موقفنا على أساس ذلك ، مما يجعلنا لا ندخل في طريق إلا بعد أن نكتشف بداياته ونهاياته ، ولا نعطي قيادنا لأحد ، ولا نمنحه أسرارنا ـ إذا كان لنا أسرار ـ إلا بعد. أن نحصل من سلوكه الداخلي على ما يبرز هذه الثقة العملية ، لتظلّ أوضاعنا منطلقة من قاعدة صلبة لا مجال فيها للانحراف والاستغلال والاهتزاز.

* * *

الله يستهزئ بهم

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فيخيل لهم أن حيلتهم قد انطلت على المؤمنين ، وأن شخصيتهم المزدوجة لم تنكشف لهم. (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فلا يعاجلهم بالعذاب مما يشعرهم بالامتداد الآمن ، ويعيشون مطمئنين في ما يخططون ويدبرون ، ويبقون على هذا التردد والتخبط بين الشخصية الداخلية والشخصية الخارجية ، الأمر الذي يوحي بالضحك والاستهزاء. وأيّ موقف أدعى للهزء والسخرية من موقف المنافق الذي يتحرك في المجتمع كحركة الفأر المذعور الذي يخاف من أية حركة يسمعها ، أو أي شيء يشاهده ، حذرا من الخطر؟! والمنافق حاله حال هذا الفأر ، حيث يخاف من انكشاف حقيقة موقفه للآخرين ، فيقف موقف الخائف من نتائجه ومترتّباته.

وربما يطرح سؤال : إن الآية نسبت الاستهزاء إلى الله ، وهو من المعاني التي لا تتناسب مع عظمته تعالى ، لأن الاستهزاء يمثّل لونا من ألوان الخداع ، لأنك تظهر في حديثك بمظهر الجد ، ثم تعطيه بعض اللمحات والإشارات التي توحي بالسخرية؟

١٥١

والجواب : إن التعبير يتجه اتجاه المحاكاة لتعبير الآخرين من دون أن يكون حاملا لمعناه ، كما في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] ، فإن رد الاعتداء بمثله لا يعتبر عدوانا على المعتدي ، لأن مفهوم العدوان يعني الممارسة التي لا تملك فيها جانب الحق. ولكن المشاكلة في التعبير لإيحاء بأن هذا الفعل من نوع ذلك الفعل ، من حيث طبيعته العنيفة وإيلامه للنفس .. وربما كانت القضية في كلمة الاستهزاء كذلك ، باعتبار ما تمثله كلمة الاستهزاء من الاحتقار وعدم المبالاة ، فكأن الله يستهزئ بهم في ما يظهر لهم من الإمداد بطغيانهم ، كالذي يتكلم مع الشخص بأسلوب الاحترام وهو يقصد السخرية.

وقد يكون المراد من استهزاء الله بهم ، مجازاته لهم على استهزائهم ، على هدى قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، ويحتمل أن يكون معناها ، تخطئته إياهم ، وتجهيله لهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال ، ويمكن أن يكون المراد منه استدراجهم وإهلاكهم من حيث لا يعلمون ، كما جاء في معنى الاستدراج أنهم كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة ، وهكذا تتنوع الاحتمالات لتلتقي عند الواقع العملي الذي يجريه الله عليهم.

وقد يلفت نظرنا نسبة الإمداد بالطغيان لله عزوجل ، ولكن لهذا التعبير جانبين في مظهرين : سلبي وإيجابي ، فقد يتمثل الإمداد بالطغيان في تشجيع الشخص على الإمعان فيه بالأساليب التي ترغّبه فيه وتدفعه إليه بطريقة إيجابية ، وقد يتمثل في الامتناع عن ممارسة الضغوط القوية ضده من أجل منعه من العمل وشلّ قدرته على المضيّ فيه. ولعل هذا هو المقصود بالآية ، فقد كان الله قادرا على أن يعطل قدرتهم على الامتداد بالموت أو بغيره من وسائل التعطيل ، ولكنه لم يفعل ذلك ، بل تركهم وأنفسهم ليمارسوا عملية المواجهة

١٥٢

للواقع من موقع الحرية والاختيار ، فكان من نتائج ذلك ، أنهم امتدوا في طغيانهم من خلال الوسائل الموجودة لديهم ، وهذا لا يتنافى مع إيماننا بحرية الإنسان في كفره وإيمانه وضلاله وهداه.

* * *

١٥٣

الآيات

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠)

* * *

المنافقون اشتروا الضلالة بالهدى

ربما كانت هذه الآيات إيحاء ختاميا بطبيعة عملهم ، بعد أن كانت الآيات السابقة تعدادا لملامحهم ، وذلك كإشارة إيحائية للإنسان بالابتعاد عنهم ، وعن خطهم العملي في الحياة على أساس النتائج السيئة الناتجة عنه.

١٥٤

(أُولئِكَ) المنافقون (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) ، وذلك من خلال اختيارهم الضلال ، الذي أصرّوا عليه وساروا فيه ، على الهدى الذي قدمه لهم الرسول ، ووعاه العقل من خلال الحق الكامن فيه والخير المنفتح عليه.

إنهم « اشتروا الضلالة » في سلوكهم وخططهم النافية ، فتاهوا في منعطفات الطرق ، ومتاهات الرمال المتحركة التي تضيع عندها الخطوط وتتلاشى فيها العلامات ، وتركوا الهدى الذي يحدد للإنسان بداية الطريق التي تشير إلى نهايته في خط مستقيم ثابت لا التواء فيه ولا انحراف.

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) مما يوحي به هذا النوع من المواقف القائم على أسلوب التبادل التجاري وما يستهدف من تحقيق الربح المادي ، في الوقت الذي تنطلق فيه النتائج الحاسمة على خلاف ذلك خسرانا وسقوطا وضياعا ، (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) في اختيارهم العملي ، لأنهم واجهوا متاهات الأوضاع القلقة على مستوى المصير.

* * *

مفهوم الشّراء كمقوّم لكلّ عمل إنساني

ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن القرآن الكريم يركز في هذه الآية وفي غيرها من الآيات ، على كلمة « الشراء » في كل عمل يقوم به الإنسان في حياته ، على أساس النتائج السيئة والحسنة التي تنتج عنه ، مما يجعل من مجموعة الأعمال الإنسانية في الحياة عملا تجاريا يخضع للربح وللخسارة في طبيعته العامة والخاصة ، فهناك عوض ومعوّض في كل حركة يتحركها ، وفي كل كلمة يتكلمها ، فقد تشتري ببعض الأعمال نفسك ومصيرك وحياتك عند ما يكون للعمل نتائج إيجابية على قضية الحياة والمصير ، سواء في ذلك على المستوى

١٥٥

المادي أو المستوى المعنوي ، حتى في مجال التضحية بالنفس أو بالمال مما يدخل في عملية العطاء بلا مقابل ، فإن القضية لا تخلو من العوض ، ولكنه العوض الأخروي للمؤمنين ، والعوض النفسي بشكل عام.

ونواجه في هذا الجوّ بعض الآيات الكريمة كمثال على ذلك ، كقوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ١١١] ، وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [البقرة : ٢٠٧] ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف : ١٠ ـ ١١].

وهكذا تكون الحياة في كل مجالاتها وصراعاتها ، عملية بيع وشراء مع الله أو مع الشيطان ، فلا تعطي شيئا ، إلا لتأخذ شيئا مقابلا له ، وهي في ذلك ، قد تربح إذا كانت النتائج جيدة في مصلحة البائع والمشتري ، وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما ، وعلى ضوء ذلك ، نعرف طبيعة تجارة هؤلاء المنافقين ، فهم قد أخذوا الشيء أو الموقف الذي يخسرون به مصيرهم في الدنيا والآخرة ، والذي يضعهم في تيه لا نهاية له من الحيرة والتمزق ، وتركوا في مقابل ذلك الهدى الذي يعطيهم القوة والفلاح والسلام الروحي في الدنيا والآخرة ، وبذلك كانت تجارتهم غير رابحة من خلال ما كانوا يأملونه من الأرباح ، في الوقت الذي خسروا فيه هدى الطريق ، مما جعلهم في ضياع دائم وتخبّط مستمر ، وظلام داخلي يحجب عنهم رؤية النور الذي يتفجر من أعماق

١٥٦

القلوب المؤمنة السابحة أبدا في ينابيع الضياء الروحي المنهمر من روح الله.

* * *

ما ينبغي للدعاة استيحاؤه

من هنا ، ينبغي للدعاة إلى الله أن يتوفروا على استيحاء هذا الأسلوب القرآني في مجال عملهم الدعوتي إلى الله ، فقد يلتقون بالأشخاص الذين يعيشون قضايا الحياة من خلال حسابات الربح والخسارة ، فيحتاجون إلى إثارة هذه القضايا في حياتهم في انسجامهم مع خط الله أو ابتعادهم عنه ، ودراسة سلبيات الضلال وإيجابية الهدى في الحياة العملية في الدنيا ، ثم الاتجاه بهم إلى قضية الدار الآخرة ، كمجال حيوي من المجالات التي تتحرك فيها حسابات الربح والخسارة ، والتركيز على اعتبارها النقطة الحاسمة في ذلك ، كما حدثنا الله عن ذلك في بعض آياته الكريمة ، عند الحديث عن جانب الخسارة :

١ ـ (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الزمر : ١٥].

٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ* لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [الأنفال : ٣٦ ـ ٣٧].

وقد حدثنا الله عن الفوز في الآخرة كمقياس للفوز في قوله تعالى :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ

١٥٧

النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران : ١٨٥].

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ٧٢].

ولا بد للداعية من أن يتوفر على إيجاد الأجواء النفسية التي تهيئ للالتقاء بالفكرة القرآنية التي تريد للإنسان أن يعيش الشعور بالربح والخسارة في الآخرة بالقوة نفسها التي يستشعر فيها القضية في الدنيا إن لم يكن بنحو أقوى وأشد. وربما كان هذا الأسلوب من أكثر الأساليب ارتباطا بالهدف القرآني الذي يعمل له العاملون ، وهو أن يعيش الناس أجواء الدار الآخرة في جميع مجالات الحياة الدنيا ، ليكون السلوك العملي للإنسان خاضعا للتأثيرات الروحية التي يعيشها من خلال فيوضات العيش في رحاب الله تعالى.

* * *

حالة المنافقين في مثلين

ثم انتقلت السورة إلى تجسيد صورة المنافقين ، وما يعانونه من حيرة وتمزق وخيبة آمال ، من خلال عرض الصورة الحسية المماثلة لصورتهم الداخلية ، ولكن في إطار حركة الطبيعة ضمن نماذجها الواقعية المتحركة في الحياة ، وذلك بأسلوب ضرب المثل ، وهو من الأساليب البلاغية الرائعة التي استخدمها القرآن ، في أكثر من مجال ، من أجل إعطاء فكرة واضحة حية عن القضايا المعنوية بمقارنتها بالأشياء الحسية ، التي تتجسد فيها الصورة في هزّة حركية مثيرة للنظر والوجدان والشعور ، تماما كوسائل الإيضاح التي تحاول

١٥٨

تعميق الفكرة في النفس وتقريبها إلى الوجدان عبر إبراز عناصرها بالوسائل الحسية ، لأن تأثير الحس في النفس أشد عمقا وأكثر تأثيرا من الجوانب المعنوية ، ولذا كانت هي الطريقة المفصلة لتربية الأطفال الذين لا يستطيعون إدراك الجوانب المعنوية ، إلا بأسلوب التجسيد الحسي الذي يربط الطفل بمرئياته وملموساته. وقد تكون قيمتها في تقريب الفكرة التي يوحيها المثل إلى ذهن الإنسان وروحه ، مما يجعل مقارنتها بالفكرة التي يراد عرضها للفكر أمرا عمليا مثيرا.

ولعل السر في محاولة القرآن الكريم إبراز ملامحهم الداخلية من خلال الصورة الحسية المتمثلة في واقع الطبيعة الملموس ، هو أن الله يريد إبعاد الناس عن هذا الاتجاه المنحرف في موقف الإنسان من قضايا الحق والباطل ، الأمر الذي يفرض على الأسلوب أن يلتمس كل العناصر المنفّرة التي تشارك في حشد الصورة بأكبر قدر ممكن من الأجواء المظلمة القاسية المغرقة في الضياع.

وقد صور الله لنا حالة المنافقين في مثلين محسوسين من صورة الطبيعة :

المثل الأول في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

فالمنافقون (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ليستعين بضوئها على معرفة الأوضاع المحيطة به ، والطريق الذي يسير فيه ، والغاية التي يسعى إليها. (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) ، ورأى من خلالها ما يريد رؤيته ، وحصل منها على ما يستفيده من الدفء والحرارة ، واستراح لذلك ، واطمأنّ به ، وفكّر في قضاء ليلة سعيدة مشرقة ، جاءته الريح العاصفة فأطفأت ناره و (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ، فانطلقوا يتخبطون على غير هدى ، (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) ما

١٥٩

حولهم ، ومن حولهم ، ولا يهتدون طريقهم.

(صُمٌ) لم يركزوا أسماعهم لاستماع الحق ، فكأنهم لا يسمعون ، لأن وجود السمع كعدمه بالنسبة إليهم ، من حيث النتيجة. (بُكْمٌ) لم يقرّوا بالله ورسوله ورسالاته ، فكأنهم لا ينطقون ، لأنهم لم يستفيدوا من لسانهم في ما يراد له من النطق بالحق. (عُمْيٌ) لم ينظروا في ملكوت الله في السماوات والأرض ، ليعرفوا سر عظمة الله من خلال ذلك ، فكأنهم لا يبصرون لانعدام الفائدة المطلوبة من وجود البصر. (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الحق لينطلقوا منه نحو سعادة الدنيا والآخرة ، بل يبقون في متاهات الضلال التي تقودهم إلى الضياع.

فهم تماما كما لو كنّا في صحراء مظلمة ليس فيها بصيص نور ، لا قمر تشع أنواره الشفافة الوديعة في الأجواء الممتدة التي تنسكب على الرمال بوداعة وهدوء ، ولا كواكب تلمع من بعيد ، فتوشي حواشي الظلام بلمعات من النور الأبيض القادم من بعيد في خجل واستحياء ، فتفتح أمام الخطى بعض مسالك الطريق. ليس هناك إلا ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض ، ثم استطعنا فجأة أن نوقد بعض النار ، وتصاعد اللهب الذي يكشف لنا الجو والموقع والطريق .. ثم جاءت ريح فأطفأت هذه النار ، أو حاولت أن تعبث بها فأطفأتها في حركة عاصفة شديدة. فلنتصور الحالة النفسية التي سنكون عليها ، والتي تتجسد فيها خيبة الأمل واليأس من الوصول إلى الهدف المنشود ، فهل ثمة حالة أقسى من مثل هذه الحالة التي ينفتح لنا فيها النور بعد يأس ، ثم يذهب فجأة وينطفئ بدون انتظار في أشد حالات الحاجة إليه؟

إنها ، تماما ، حالة المنافق الذي كان يعيش في ظلام دامس من الشك والحيرة والتمزق والضياع ، ككل الناس الذين يعيشون الكفر والجحود والنكران ، فيأتي النور الذي أرسله الله على رسوله ليدلهم على الطريق وليحدد

١٦٠