تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

وفي ضوء ذلك ، لا نجد أيّة ضرورة لهذا التكلف الذي يريد أن يربط هذا التمرد بالمعنى المصطلح للكفر ، وإلا أمكن أن نرجع الكثير من أعمال العباد وخطاياهم إلى الكفر.

وقد نجد في القرآن الكريم أنه قد يعيش في بعض حالاته النفسية حالة الخوف من الله سبحانه كما في قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [الحشر : ١٦].

ولكن ذلك لم يمنع الحديث عنه بعنوان الكفر في الآية التالية : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) [الحشر : ١٧] وربما كان ذلك من خلال العناصر الذاتية الخفية الكامنة في نفسه التي تأبى على الله أن يأمر بما أمر به بما يلتقي بالكفر العقيدي في لوازمه الفكرية.

وقد لا يكون لهذا النوع من الحديث أيّ أثر عملي في مجال العقيدة والعمل ، فإن هذا المخلوق هو سرّ الكفر والفسق في الحياة في ما يزينه لبني آدم من أساليب الضلال والانحراف عن الله وشريعته ، ولكننا نريد أن نخلص منه إلى فكرة تفسيرية وهي ملاحظة مصطلح الكفر في القرآن من خلال المعنى الحقيقي الذي يتحرك في إطار العقيدة ، ومن خلال المعنى المجازي الذي يتحرك في نطاق العمل. وربما كانت هذه الآية ـ في ما نظن ـ من مصاديق المعنى الثاني ، والله العالم.

* * *

خرافة مأساة إبليس

وقد حاول بعض المتفلسفين تصوير إبليس في قضية إيمانه بصورة المأساة ، فصوروه بصورة الموحد الخالص في توحيده ، المؤمن العميق في إيمانه ، لأنه رفض السجود لآدم انطلاقا من رغبته في توحيده العبادة لله ، فلا

٢٤١

يريد أن يشرك أحدا في السجود له وإن كان ذلك بأمر من الله ، فهو مستعد لتقبل عذاب الله في سبيل الإخلاص لمحبته له وإيمانه به. ولكن القضية التي حاولوا تبيانها ، لا ترتكز على أيّ أساس منطقي أو ديني ، لأمرين :

الأول : إن فكرة إبليس كموجود حي ليست من الأفكار التي تخضع للحس لتدخل في نطاق التجربة لنملك أمر التصرف في تفاصيلها من خلال تجاربنا الذاتية ، بل هي من الغيب الذي عرّفنا الله إياه ، في ما عرّفه لأنبيائه من أمور الغيب. وفي هذا الإطار ، لا بد لنا من أن نأخذ ملامحها وتفاصيلها من النصوص الدينية في ما أوحاه الله من الكتب السماوية ، وقد رأينا في هذه الآية ـ التي نحن بصددها ـ أن امتناع إبليس عن السجود لآدم كان بفعل الكبرياء ، لا بفعل التوحيد والمحبة لله ، وسنجد في شخصيته في ما يأتي من حديث إبليس في القرآن ـ صفة الحاقد الذي يدفعه حقده إلى أن يمارس كل ما يستطيع من الأعمال الشريرة في سبيل تحطيم هذا الكائن في ذاته وفي ذريته كسبيل من سبل التنفيس عن حقده المكبوت في أعماقه ، ولذا فإنه يطلب الخلود من أجل تحقيق هذه الغاية الشريرة في نفسه.

وإذا كانت الصورة القرآنية هي هذه ، فمن أين تأتي لنا صورة الموحّد لله الفاني في ذاته الذي يريد أن يحرق نفسه من أجل الاحتفاظ بصفاء حبه وإيمانه؟!

إننا لا نستطيع أن نضع ذلك إلا في أجواء الخيالات الشعرية التي تعيش في آفاق الشعراء الحالمين الذين يحاولون أن يمنحوا جو المأساة للمجرمين انطلاقا من الاستغراق الذاتي في مشاعر المجرم أمام مصيره ، بعيدا عن دوافع الجريمة ونتائجها الشريرة في تأثيرها على البلاد والعباد ، تماما كالكثيرين الذين يشجبون قانون القصاص للقاتل على أساس المشاعر العاطفية الساذجة بعيدا عن التخطيط الواعي للتشريع في حياة الإنسان.

٢٤٢

وقد نجد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام بعضا من الملامح التفصيلية للصورة ، ولكن في اتجاه آخر.

فقد ورد في البحار عن قصص الأنبياء ، عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : أمر إبليس بالسجود لآدم فقال : يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها ، قال الله جلّ جلاله : إني أحب أن أطاع من حيث أريد (١).

فقد نلمح في هذا الحديث بعضا من ملامح الفكرة التي نقلناها ، ولكنها لا تسير في الاتجاه الذي يحاوله هذا البعض ، بل تسير في جو المساومة الساذج الذي يريد إبليس من خلالها أن يرضي كبرياءه بالامتناع عن السجود لآدم ، وذلك بالطلب إلى الله أن يقبل تعويضا عنه بعبادة لم يعبده مثلها أحد. ولكن الجواب يضع القضية في إطارها الصحيح ، لأن موضوع عبادة الله ليس عملية شكلية تتمثل في أوضاع معينة من أعمال الإنسان ، بل هي الخضوع له في كل ما يريده بالطريقة التي يريدها بعيدا عن كل نوازع النفس ودوافعها الذاتية. ولعل من أوضح مظاهر ذلك أن يكبت الإنسان رغباته الشخصية أمام إرادة الله.

الأمر الثاني : إن قضية السجود لا تمثل شكلا من أشكال عبادة آدم ليتعارض مع الإيمان بالله وتوحيد عبادته ، وكيف يأمر الله عباده بالإشراك به ، وهو الذي (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، ولكنها تحية وتكرمة لآدم من جهة ، كما حدث من يعقوب وأهله عند مقابلته لولده يوسف في ما حدثنا الله عنه في قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] ، وهي من جهة أخرى طاعة لله في امتثال أوامره ، وفي تعظيم خلقه ، كمظهر من مظاهر عظمته.

__________________

(١) البحار ، م : ١ ، ج : ٢ ، ص : ٥٠٩ ، باب : ٣٢ ، رواية : ٥.

٢٤٣

وهناك نقطة أساسية في هذا المجال ، وهي أن اعتبار أيّ عمل من أعمال الإنسان عبادة لأي شخص ، يخضع للنية الدافعة له نحو العمل ، فإذا كان السجود خضوعا للإنسان أو للصنم ، كان ذلك عبادة لهما ، أمّا إذا كان خضوعا لله كما إذا كان بأمره له ـ تعالى ـ فهو عبادة لله وإن كان موجها للإنسان أو لشيء آخر ، وبهذا لا يعتبر تقبيل الحجر الأسود عبادة له ، لأن ذلك لا يتصل بالعظمة الذاتية للحجر ، بل بالأمر الإلهي الذي اعتبره رمزا من رموز القداسة وشعيرة من شعائر العبادة .. إنه أسلوب من أساليب عبادة الله التي شرع لنا فيها شعائر العبادة التي لا نملك أمر تغييرها ، ولكنها مهما اختلفت ، فهي موجّهة إليه وحده. وقد أكدت هذا المعنى بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام.

فقد ورد في تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام قال : « إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم » (١).

وفي قصص الأنبياء عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام : سجدت الملائكة ووضعوا جباههم على الأرض قال : « نعم ، تكرمة من الله تعالى » (٢).

وفي حديث الاحتجاج عن الإمام علي عليه‌السلام « في ضمن حوار أهل اليهود » : أن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنهم عبدوا آدم من دون الله عزوجل ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له (٣).

* * *

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١٢٦.

(٢) م. ن ، ج : ١ ، ص : ١٢٦.

(٣) م. ن ، ج : ١ ، ص : ١٢٦.

٢٤٤

الملائكة تسجد لآدم تكريما له

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) هذا المخلوق الجديد الذي هو قبضة من الطين وإبداع من القدرة ، ونفخة من روح الله ، في ميزاته الإنسانية ؛ في عقله الذي يتسع لكل حقائق العقيدة والحياة ، وإرادته التي تمثل العزيمة القوية في حركة القوّة الروحية في وجوده ، وحرية حركته في جميع مجالات الكون الموضوعة تحت قدرته ، وفي حيوية إحساسه بالمسؤولية الشاملة لكل مواقع الخلافة عن الله في الأرض في إدارة شؤونها ، وترتيب أوضاعها ، وتنظيم حركتها ، وتوجيهها في الخط الذي يرضاه الله للحياة في داخل النظام الكوني.

وفي ضوء ذلك ، كانت عظمة خلقه لونا من ألوان الدلالة على عظمة الله في إبداع مثله ، مما يفرض التحية له والتكريم لوجوده ، والخضوع لله على عظمة قدرته في خلقه ، الأمر الذي يجعل السجود له شأنا من شؤون العبادة لله والتقدير لإبداعه في الخلق ، والتحية للمخلوق الحي الفاعل الذي يشارك الملائكة المهمات الموكولة للعباد في إدارة النظام الكوني. (فَسَجَدُوا) خضوعا ، وإذعانا للأمر الإلهي ، وتحية لهذا الخلق الذي أكرمه الله بخلافته وكرّمه بنعمه ، (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أن يسجد ، (وَاسْتَكْبَرَ) انطلاقا من العقدة المستعلية في داخل ذاته في إحساسه المرضيّ بالتفوّق العنصري لانتمائه إلى النار أمام انتماء آدم إلى التراب ، حيث تستطيع النار أن تحرق التراب.

* * *

المستكبرون ومشكلة تضخّم الذات

وهذه مشكلة المستكبرين الذين يستغرقون في جانب من جوانب الذات ،

٢٤٥

ويغفلون عن الجوانب الأخرى المتصلة بالعناصر الحية الفاعلة في الشخصية المنفتحة على الآفاق الواسعة في الحياة في أفكارها وحركيتها وفاعليتها ، من دون اعتبار للمادة في ماديتها الذاتية التي لا تمثل إلّا أداة من أدوات الحركة الوجودية في الشكل ، لتكون الروح هي العنصر الذي يمنح الذات امتدادا في البعد العملي وعمقا في المضمون الفكري والروحي للدور الإنساني في الحياة ، فلم يدخل الشيطان في المقارنة بينه وبين الإنسان في الجوانب الأخرى ، بل استغرق في المسألة المادية ، فابتعد عن وعي الخصائص الأخرى التي قد يتفوّق فيها هذا المخلوق عليه ليتواضع أمامه من خلالها ، وهكذا سقط من الأعالي ليهوي في الحضيض الأسفل في وحول الاستكبار الذي يتغذى من قذارات العناصر الشريرة في الذات.

(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) الذين ابتعدوا عن الله ، واعترضوا على حكمته ، وتمردوا على أوامره ، فكانوا سواء مع الذين أنكروا وجوده في النتائج العملية الحاسمة في الموقف والموقع.

* * *

٢٤٦

الآيات

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٩)

* * *

معاني المفردات

(رَغَداً) : يقال : عيش رغد ورغيد : طيب واسع.

(الظَّالِمِينَ) : الظلم : أصله انتقاص الحق. قال الله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] أي : لم تنقص ، وقيل :

٢٤٧

أصله وضع الشيء في غير موضعه من قولهم : من أشبه أباه فما ظلم ، أي : فما وضع الشيء في غير موضعه ، وهو ضد الإنصاف والعدل.

(فَتابَ) : التوب : ترك الذنب على أجمل الوجوه ، وهو أبلغ وجوه الاعتذار ، فإن المعتذر يعترف بإساءته ويعلن إقلاعه عنها ، والتوبة في الشرع ترك المذنب الذنب لقبحه ، والندم على ما فرط منه ، والعزيمة على ترك المعاودة ، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال ، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شروط التوبة.

(خَوْفٌ) : الخوف : توقّع المكروه من أمارة مظنونة أو معلومة ، ويضاد الخوف الأمن.

(يَحْزَنُونَ) : الحزن : هو خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم ، ولهذا كان الخوف من أمر مستقبلي ، والحزن على أمر قد مضى.

(خالِدُونَ) : الخلود : هو تبرّؤ الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها ، وأصل المخلد : الذي يبقى مدة طويلة ثم أستعير للمبقى دائما. والخلود في الجنة : بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الفساد عليها.

* * *

آدم في الاختبار

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) أي : امرأتك ، والزوج يطلق على الذكر والأنثى ، (الْجَنَّةَ) ، والظاهر أن المراد بها جنّة الخلد لأن الألف واللام للتعريف وقد صارا كالعلم عليها ، وهناك من قال بأنها جنّة من جنات السماء غير جنة الخلد ، لأن جنة الخلد أكلها دائم ولا تكليف فيها ، وقال أبو مسلم :

٢٤٨

هي جنة من جنان الدنيا في الأرض ، وقال : إن قوله : (اهْبِطُوا مِنْها) ، لا يقتضي كونها في السماء ، لأنه مثل قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً)(١). وهذان القولان لا يرتكزان على قاعدة ثابتة ، لأن الأساس فيهما هو امتناع أن تكون هي الجنة الموعودة ، باعتبار أنها التي لا يخرج منها الداخل فيها ، ولكن لا دليل على ذلك ، لأن هذا شأن الذي يدخل الجنة بعد انقضاء مدة العمل في الدنيا وبعثه بعد الموت في الآخرة ، وليس مثل مسألة آدم الذي أدخله الله الجنة ليعيش التجربة الصعبة فيها ، وليتعرف قيمتها في خط العمل ، ليعمل لها في المستقبل ، ولتكون هدف أولاده من بعده في السعي الحثيث إليها من خلال الإيمان والعمل ، وربما نستوحي ذلك من قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] ، فقد يكون المراد هو التحذير من فتنة الشيطان لبني آدم حتى لا يبعدهم عن الجنة كما أبعد أبويهم عنها.

وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن جنة آدم فقال : « كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا » (٢). فإذا صحّ هذا الحديث كان هو الحجّة على المدّعى.

(وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) في عيش هنيّ طيب واسع لا نفاد له ولا عناء فيه ، فليست هناك شجرة محرّمة في كل أشجار الجنة ، وليس هناك موقع ممنوع عنكم فيها.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي : لا تأكلا منها ـ على سبيل الكناية ـ باعتبار أن المطلوب بالقرب منها ، هو الأكل من ثمرها ، تماما كما يأكلان من بقية

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ١٠٨.

(٢) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١٣٩.

٢٤٩

أشجار الجنة ، فكأنه قال : كلا منها رغدا إلا من هذه الشجرة. وفي التعبير عن الأكل بالقرب منها مبالغة في التحذير. واختلف المفسرون في نوع هذه الشجرة ، بين المعنى المادي للكلمة وهو السنبلة والكرمة والكافور ونحو ذلك ، وبين المدلول المعنوي لها وهو : أن المراد بها شجرة العلم ؛ علم الخير والشر على سبيل الاستعارة ، ولكن لا دليل على شيء من ذلك بشكل موثق.

(فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسكما بذلك ، لأنكما أبعدتماها عن موقع السعادة وساحة الخلود.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي : أبعدهما عنها ، من الزلل بمعنى الخطيئة التي تبعد الإنسان عن الثبات في موقعه ، وذلك من خلال وسوسته وإغوائه وخداعه ، وهذا ما قد نستوحيه من قوله تعالى : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من الجنة الخالدة والعيش الرغيد والراحة والهدوء والطمأنينة والفرح الروحي المنفتح على لذّات الجنة وجمالاتها.

* * *

آدم وإبليس في الأرض

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) إلى الأرض أنتما وإبليس لعصيانكم الله وفشلكم في الاستقامة على خط أوامره ونواهيه ، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) بفعل الحرب المفتوحة بينكما وذريتكما وبينه وجنوده ، لأنه يستهدف إبعادكم عن رحمة الله وعن جنته ، بينما تعملون على التمرد عليه والخروج من سلطته والسعي إلى دخول الجنة والبعد عن النار. (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مقام ثابت لأن الله جعلها قرارا ، (وَمَتاعٌ) تستمتعون فيه في حاجاتكم الوجودية العامة والخاصة ، (إِلى حِينٍ) إلى الأجل الذي جعله الله لكم في مدة العمر التي حددها لكم

٢٥٠

في هذه الدنيا.

وهكذا عرف آدم ومعه زوجته معنى الشيطان في وسوسته ، وقسوة التجربة في نتائجها ، وأدرك الهول الكبير الذي يواجهه في البعد عن رحمة الله ، وفي الخروج من مواقع القرب إليه ، ومقامات الروح في رحابه.

* * *

آدم يتوب إلى الله تعالى

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) ترتفع إلى الله من روح خاشعة خاضعة وقلب نابض بالحسرة والندم ، ولسان ينطق بالتوبة ، وكيان يرتجف بالتوسل ، وذلك بالإلهام الإلهي من خلال الفطرة التي توحي بالمعرفة في علاقة النتائج بالمقدمات ، وفي طريقة تغيير الموقف من دائرة السلب إلى دائرة الإيجاب ، ليكون التحوّل الإنساني في الاعتراف بالذنب والاستسلام للندم ، والعزيمة على التصحيح ، والرجوع إلى الله بالعودة إلى طاعته في ما يكلفه به من مهمّات ، وفي ما يرشده إليه من إرشادات ، لأن أوامر الله الإرشادية تتصل بمحبته لعبده لئلا يقع في قبضة الفساد ، كما تتصل أوامره المولوية بحرصه عليه في البقاء في خط الاستقامة ، وابتعاده عن خط الانحراف الذي يؤدي به إلى الزلل ويقوده إلى الهلاك.

ولكن ما هي هذه الكلمات؟

إن الرجوع إلى القصة في سورة الأعراف يوحي بأن آدم الذي انطلق نحو التوبة في عملية تكامل مع حوّاء ، وقف معها ليقولا في توبتهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣] ، ويبدو من خلال هذه الآية ، أن التوبة كانت قبل الهبوط إلى الأرض ، بعد التوبيخ الإلهي

٢٥١

والتذكير لهما بأن سقوطهما في التجربة الصعبة لم يحصل من حالة غفلة لا تعرف الطريق إلى الوعي ، بل كان حاصلا بعد التحذير الإلهي من الأكل من الشجرة ، ومن الشيطان ، باعتباره عدوّا لهما ، وذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢]. ويؤكد هذا التفسير للكلمات الحديث المرويّ في قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) قال : لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين ، لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم (١).

وهذا ما ينسجم مع الآية في أصل الفكرة ولكنه يختلف عنها في التفاصيل.

* * *

وقفة مع صاحب الميزان

ويعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا القول ، فيردّه بأن التوبة كما تدل عليه الآيات في هذه السورة ـ أعني سورة البقرة ـ وقعت بعد الهبوط إلى الأرض ، قال تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) إلى أن قال : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) الآيات ، وهذه الكلمات تكلم بها آدم وزوجته قبل

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١٤٨.

٢٥٢

الهبوط وهما في الجنة كما في سورة الأعراف ، قال تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) إلى أن قال : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) إلى أن قال : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الأعراف : ٢٢ ـ ٢٤] الآيات ، بل الظاهر أن قولهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) تذلّل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأن الأمر إلى الله سبحانه كيف يشاء ، بعد الاعتراف بأن له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران (١).

ونلاحظ على ذلك ، أن الآيات في سورة الأعراف وطه ، تدل على أن التوبة كانت قبل الهبوط إلى الأرض ، أما في الأعراف فإن الظاهر من الآية : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) إلى آخر الآية أنها تعبير عن التوبة والندم بقرينة : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، فإن مدلولها ، هو طلب الغفران والرحمة من الله لإدراكهما النتائج الخاسرة في حالة عدم حصولهما على ذلك ، وليست مجرد تعبير عن التذلل والخضوع لله ، في قبال ندائه وإيكال الأمر إليه ، لأنه المالك للأمر كله. أما في سورة طه ، فقد ذكر التوبة بعد العصيان وذلك قوله تعالى : (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) وذكر الأمر بالهبوط إلى الأرض ـ بعد ذلك ـ (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) [طه : ١٢١ ـ ١٢٣].

أما آية سورة البقرة ، فإنها لا تبتعد عن ذلك إلّا من خلال موقع الفاء التي لا مانع من حملها على خلاف الظاهر من الترتيب بقرينة ما جاء في سورة الأعراف وطه ، والله العالم.

* * *

__________________

(١) م. س ، ج : ١ ، ص : ١٥٠.

٢٥٣

الكلمات التي تلقّاها آدم عليه‌السلام

وهناك تفسير آخر للكلمات ؛ فقد جاء في الدر المنثور ، للسيوطي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه ، رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلا غفرت لي ، فأوحى الله إليه : ومن محمد؟ فقال : تبارك اسمك ، لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه : يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك ، ولولا هو ما خلقتك (١).

وقال الكليني في الكافي : وفي رواية أخرى في قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) قال : سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وروى هذا المعنى أيضا الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ـ كما جاء في الميزان (٢).

ولكن صاحب الميزان يرى أن هذا المعنى بعيد عن ظاهر الآيات في بادي النظر ، ومع ذلك فإنه يستقربه لأن « إشباع النظر والتدبر فيها ربما قرّب ذلك تقريبا ، إذ قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ) ، يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال ، ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربه ، ففيه علم سابق على التوبة ، وقد كان عليه‌السلام تعلّم من ربه الأسماء كلها ، إذ قال تعالى للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ

__________________

(١) السيوطي ، عبد الرحمن جلال الدين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، ج : ١ ، ص : ١٤٢.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١٤٨.

٢٥٤

بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم ومعصية لا محالة ، ودواء كل داء وإلّا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم : (يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) شيئا ولم يقابلهم بشيء دون أن علّم آدم الأسماء كلها ، ففيه إصلاح كل فاسد ، وقد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء ، وأنها موجودات عالية مغيبة في غيب السموات والأرض ، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها ، لا يتم كمال لمستكمل إلا ببركاتها ، وقد ورد في بعض الأخبار أنه رأى أشباح أهل البيت وأنوارهم حين علم الأسماء ، وورد أنه رآها حين أخرج الله ذريته من ظهره ، وورد أيضا أنه رآها وهو في الجنة ، فراجع » (١).

* * *

مناقشة السيد الطباطبائي

ولنا ملاحظات :

أولا : إن حمل القرآن على خلاف ظاهره لا بد فيه من حجة واضحة تقرّب الفكرة الجديدة إلى الفهم العام بحيث تتبادر إليه بعد البيان. ولم يثبت سلامة هذه الروايات من حيث التوثيق السندي ، بالإضافة إلى معارضتها بالروايات التي تؤكدها آية الأعراف.

وثانيا : إن العلّامة الطباطبائي ركّز على كلمة التلقي ، التي تعني معنى الأخذ مع الاستقبال ، ففيه دلالة على أخذ هذه الكلمات من ربه ، ففيه علم سابق على التوبة.

__________________

(١) م. س ، ج : ١ ، ص : ١٤٩.

٢٥٥

ولكن الكلمة لا تدل على ذلك ـ بحسب الظهور ـ لأنه يكفي في صدق التلقي الإلهام من خلال الفطرة ، لأن كل شيء لدى الإنسان هو من الله ، تماما كما هي الهداية من الله ، وليس من الضروري أن يكون هناك علم سابق على التوبة ، بل قد تكون القضية هي إيحاء الله له بأن يتوب ويتراجع ليتوب الله عليه ، لأنه قد لا يكون عالما بذلك أو بأساليب التوبة.

هذا مع ملاحظة مهمة ، وهي أن الظاهر من الآية أن التلقي كان بعد المعصية ، ولم يكن في حال جعل الخلافة لآدم.

وإذا لاحظنا الأحاديث ، فإننا نرى أنها تتحدث عن مبادرة آدم للتوسل بهذه الأسماء من خلال تجربته النفسية ، أو ملاحظته الرؤيوية مما رآه مكتوبا في السماء ، أو مما شاهده من أشباح أهل البيت وأنوارهم.

ثالثا : إننا ناقشنا ما استفاده صاحب الميزان من كلمة الأسماء أن المقصود بها الموجودات الحية العاقلة المغيبة في غيب السموات والأرض.

وربما كان هناك مجال للجمع بين الروايات بأن آدم دعا ربه بما جاء في سورة طه متوسلا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام.

ومهما كان الأمر ، فإن الله قد أبهم أمر هذه الكلمات ونكّرها ، للإيحاء بأن القضية هي قضية لطف الله بآدم في توجيهه نحو التوبة وتقريبه إليه ، للتدليل على كرامته عنده ، بخلاف إبليس الذي سلب الله عنه رحمته وأبعده عن مواقع القرب عنده ، فلنجمل ما أجمله الله ، ولنقف في التفاصيل على ما تثبت لنا حجيته ، لأن أمر تفسير كلام الله من القضايا الكبيرة التي لا مجال للتساهل فيها بالاعتماد على رأي واحد.

* * *

٢٥٦

توبة آدم عليه‌السلام بين مرحلتين

(فَتابَ عَلَيْهِ) لأنه عرف منه صدق الندم ، وإخلاص النية ، ووعي الموقف. فآدم عليه‌السلام لم يخالف أمر ربه من موقع التمرد ، بل من حالة ضعف في وعي التجربة الجديدة التي لم يسبق له أن مرّ بها ، أو عرف طبيعتها وخلفياتها ، حيث كان تفكيره يتحرك في اتجاه صدق محدّثه الذي أقسم له أنه من الناصحين ، فانفتح له قلبه الطاهر الطيب ، وضعفت إرادته أمامه ، وخيّل إليه أن المسألة ليست مسألة عصيان يستتبع غضب الله ، بل هي مسألة نصيحة عادية يمكن أن يتجاوز الله أمرها في حالة عدم الاستجابة لها ، ولا سيما أن مسألة الالتزامات القانونية الشرعية لم تكن واردة في حسابه ، لأنها ليست مطروحة في المرحلة التي عاشها ، مما جعله لا يعيش الذهنية القانونية في عملية الالتزام بالتعاليم ، فكان ينسى العهد بسرعة ، ويفقد العزم على الاستجابة له من موقع الضعف الإنساني لديه بالإضافة إلى ضعف التجربة في حياته.

وهكذا أدخله الله في التجربة التي سقط فيها ، ليضعه بعد ذلك في خط التجربة الأصعب في قضايا المسؤولية في الحياة في خط الخلافة ، بعد أن اهتزت مشاعره بفعل الصدمة الأولى ، فاجتباه إليه واختاره ليكون أول نبي في الأرض ، بل ربما كانت المسألة تتجه في طبيعتها هذا الاتجاه التربوي الذي يتعرض فيه الإنسان الجديد للخطأ في تجربته الأولى ليعرف كيف يقف مع الصواب. وهكذا كانت التوبة نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى.

* * *

٢٥٧

الله هو التوّاب الرحيم

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) لأنه هو الذي خلق في عباده نقاط ضعفهم التي قد يسقطون معها في الخطيئة ، وأراد لهم أن يرجعوا إليه ، ليستقيموا في الخط الصحيح ، وليقبلهم من جديد في ساحة طاعته ، وليرحمهم بمغفرته ورضوانه. وأراد الله له ولذريته ـ بعد ذلك ـ أن ينطلقوا في المنهج الإلهي الذي يضع الحياة الإنسانية في خطين : خط الهدى وخط الضلال. فإن الله ، سبحانه وتعالى ، وضع لهم برنامجا عمليا في وحيه ، بالإضافة إلى البرنامج الذي يوحي به العقل عندهم ، ليلتزموا به ويستقيموا على نهجه.

* * *

آدم عليه‌السلام في الأرض بين الهداية والضلالة

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) والخطاب لآدم وحواء ـ على الظاهر ـ وإن كان يشمل الأمر بالهبوط إبليس أيضا ، ففي الأرض مستقركم وحركتكم ومسئولياتكم ، فليست لكم الحرية في أن تتحركوا على مزاجكم في ما تفعلون أو تتركون ، لأن عبوديتكم لله الذي خلقكم تفرض عليكم أن تخضعوا له ، وتطيعوه في أوامره ونواهيه ، وتسيروا على منهاجه ، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) مما أوحي به إليكم من خلال رسلي في كل شؤونكم العامة والخاصة وفي ما يتصل بدوركم في رعاية الحياة من حولكم ، (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) وآمن بي وبرسلي وبرسالاتي وباليوم الآخر وعمل صالحا ، فله الدرجة العليا عندي ، وله النجاة في الآخرة ، وله النعيم الخالد في الجنة ، حيث الأمن والفرح

٢٥٨

والطمأنينة الروحية ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إذ من يعيش في أمان الله ، فممن يخاف؟ ومم يخاف؟ ومن ينفتح على فرح رضوانه ، فكيف يحزن ، وعلى ما ذا يحزن؟!

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) وجحدوا حقائق الإيمان (وَكَذَّبُوا) الرسل وانحرفوا عن خط الرسالات ، فكذبوا (بِآياتِنا) الواضحة الجلية التي لا مجال فيها لإنكار منكر ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون ، لأن الله قد أقام عليهم الحجة في توحيده وربوبيته ، وأخذ عليهم العهد في الالتزام بالمضمون الحيّ لمعنى العبودية المنطلقة من خلقه لهم ، فأنكروا ذلك كله ، فحقّت عليهم كلمة العذاب في نار جهنم وبئس المصير.

* * *

خلاصات وتساؤلات من وحي قصة الخلق

هذا هو الفصل الأخير من الفصول التي تحدث فيها القرآن الكريم عن بداية الخلق ، وعن دور الإنسان وقيمته ، وكيف أراد الله سبحانه أن يظهر قيمة الإنسان وكرامته وأهميته من خلال الحوار بين الله والملائكة ، ثم بين الملائكة وآدم الذي قام بدور المعلم لهم في ما تحداهم الله بأن يعلموه فلم يستطيعوا ، ليوضح لهم السرّ في خلقه ، ليعرفوا ـ من خلال ذلك ـ أن السلبيات التي تحدث من خلال وجوده وخلافته لا تقابل الإيجابيات الكبيرة جدا التي تكمن في طبيعة هذا الإنسان وفي مؤهلاته الذاتية للخلافة عن الله في الأرض.

ثم ينطلق في الفصل الثاني ليتحدث عن رمز التقديس للإنسان ، في ما أراده الله من الملائكة ، في سجودهم لآدم ، وهم الذين يمثلون القمة في الروح والقرب من الله ، فلما امتنع إبليس من السجود له ، كتعبير عن الكبرياء

٢٥٩

والاستعلاء ، عاقبه الله وأخرجه من رحمته.

أما في هذا الفصل ، فإن القرآن يدخل في تصوير تجربة الإنسان للمسؤولية ، وكيف تتدخل نوازع الإغراء الكامنة في طبيعته في سقوطه أمام التجربة أحيانا ، وكيف استطاع إبليس أن يستغل ذلك في إزاحته عن الخط المستقيم من خلال إغراءاته وتسويلاته. وإننا في هذا السياق التفسيري لسورة البقرة ، نريد أن نستوحي الآية من طبيعة القصة ، ثم ندخل ـ بعد ذلك ـ في التفاصيل الفكرية للقضايا التي أثارتها هذه الآيات ، وذلك في عدة نقاط.

* * *

تجربة الإنسان الأولى

إن الله أباح لآدم وحواء أن يسكنا الجنة ، ويستمتعا بكل ما فيها من لذائذ من دون حرج ولا تحديد ، فلهما أن يأكلا من كل أشجار الجنة حيث يشاءان ، ولكنه منعهما عن شجرة واحدة كشرط لبقائهما في الجنة ، في ما يوحيه جو الآيات : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

ولا نريد أن ندخل في تفاصيل تحديد هذه الشجرة ؛ هل هي شجرة تفاح ، أم هي سنبلة ، أم هي شجرة معنوية ، كما يحلو للبعض أن يقول إنها شجرة معرفة الخير والشر ، لأن ذلك لا يمس طبيعة الموضوع ، ولا يفيدنا في شيء.

كانت أول تجربة لهما في الوجود ، وانسجما مع التجربة ببساطة وعفوية. وكان الشيطان لهما بالمرصاد ؛ فقد عرف أن الفكر الذي يملكه الإنسان لا يقوى على مواجهة التحديات إلا من خلال التجارب المريرة التي

٢٦٠