تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

كتاب يؤمن به المسلمون من خلال إسلامهم ، أطلق القرآن الكريم الدعوة إلى الحوار معهم وذلك في قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] باعتبار أن المفاهيم الروحية والأخلاقية ـ بالإضافة إلى المسألة التوحيدية في خطها العام ـ تمثل قاعدة التوافق التي يمكن أن ينطلق معها اللقاء ، ويتحرك فيها الحوار ، ويرتكز عليها التعايش الذي طرحه الإسلام في علاقة المسلمين بأهل الكتاب.

* * *

دور الاعتقاد بالآخرة

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الإيقان : هو الاعتقاد. والإيمان بالآخرة هو الصفة الخامسة من صفات المتقين. وهو من أقوى الأسس العقيدية لبناء الشخصية الإسلامية التقيّة ، وسنعرف ـ في ما نستقبل من آيات ـ أن قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر ، هي في تعاظم الشعور بالمسؤولية لدى الإنسان ، لأنها تجعل للحياة هدفا ، وتمدّ الحياة إلى مجال أبعد من الحياة الحسية التي نمارسها. وبهذا يستطيع الإنسان الارتباط بالمثل العليا ارتباطا أعمق على أساس إيمانه بالله واليوم الآخر ، فإذا اجتمعت هذه الصفات في نفس الإنسان وفي عمله ، أمكن له أن يطمئن إلى أنه يسير على هدى من ربه في ما يفكر ويعمل ، وأنه يتحرك في اتجاه الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) هؤلاء ، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله ، يسيرون على طريق الهدى ، لأن الإيمان بالله يفتح آفاق الحياة أمام الإنسان ، والإيمان بالرسالات يخطط له حياته ، أما

١٢١

الإيمان بالآخرة ، فيجعل للحياة هدفا كبيرا يمكن للإنسان أن يجاهد من أجله ويسعى إليه.

هذه هي الأسس الثلاثة للعقيدة .. ويتبعها ـ كما قلنا ـ المظهران العمليان للعقيدة ، وهما: إقامة الصلاة التي تربطه بالله ؛ والإنفاق مما رزقه الله الذي يربطه بالحياة.

* * *

وقفة مع صاحب الميزان

ويلاحظ صاحب تفسير الميزان أن كلمة (مِنْ رَبِّهِمْ) توحي بأن هناك هداية من الله بعد التقوى ، تخلف عن الهداية التي صاروا بها متقين ، وهي الهداية الأولى « قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة ، فإن الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمر خارج عنها ، وكذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه من حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج ، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس ، منه يبدأ الجميع وإليه ينتهي ويعود ، وأنه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة ، كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والأخلاق ، وهذا هو الإذغان بالتوحيد والنبوّة والمعاد ، وهي أصول الدين ، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته ، واستعمال ما في وسع الإنسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لإحياء هذا الأمر ونشره ، وهذان هما الصلاة والإنفاق. ومن هنا يعلم : أن الذي أخذه سبحانه من اوصافهم هو الذي تقضي به الفطرة إذا سلمت ، وأنه ، سبحانه ، وعدهم أنه سيفيض عليهم أمرا سمّاه هداية ، فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت ؛ هداية سابقة وهداية لاحقة ، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل ،

١٢٢

ومن الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الأولى ، آيات كثيرة كقوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، [إبراهيم : ٢٧] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) [الحديد : ٢٨]. وقوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧]. وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الصف : ٧]. وقوله تعالى: (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [الصف : ٥] إلى غير ذلك » (١).

وما يمكن ملاحظته هنا ، أن الآيات التي استدل بها صاحب الميزان على وجهة نظره ، لا تؤيد ما استفاده ، لأن تثبيت الله تعالى للمؤمنين (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ، وإيتاءه لهم (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، وجعله لهم « نورا » يمشون به ، ومن ثم نصره لهم وتثبيته لأقدامهم ، ونحو ذلك ، إنما تمثل الآثار اللازمة للتقوى والإيمان بالله وبرسوله ونصرتهم لله ، فهي نتيجة لهذه الأمور وليست شيئا منفصلا عنها ، وذلك من خلال سببية المقدمات للنتائج في الواقع الكوني للوجود ، والواقع العملي للإنسان ، وهذا لا يمنع صدق النسبة إلى الله في كل شيء باعتباره مسبّب الأسباب ، أو قل السبب الأعمق في وجود كلّ شيء ، في المبدأ والتفاصيل.

وقد نجد أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، من مظاهر سلامة الفطرة ، باعتبارهما مظهرا للخضوع لله في ربوبيته ؛ ليس واضحا ، لأن هذين الأمرين لم ينطلقا من حالة ذاتية للإنسان ، بل من التشريعات الإلهية.

ومن خلال ذلك ، نستطيع التأكيد أنّ كل هذه الأمور كانت من مظاهر الهدى القرآني الذي ينفتح ـ في مفاهيمه ـ على إثارة التفكير بالغيب كوسيلة من وسائل الإيمان به ، وتوجيه الإنسان إلى إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٤٧ ـ ٤٨.

١٢٣

وإلى الحديث عن الوحي في رسالة النبي وفي رسالات الأنبياء الذين تقدّموه من أجل الوصول إلى الإيمان به ، وتركيز القاعدة الفكرية للإيمان باليوم الآخر من خلال مواجهة الشبهات التي تستبعده ، وتقريب الأسس التي يرتكز عليها.

إن القرآن لم ينزل على المتقين الذين عاشوا التقوى ومارسوا آثارها قبله ، بل نزل على الناس الذين انفتحوا على هداه من خلال وعيهم للقاعدة التي ارتكزوا عليها ، فاهتدوا به في تفاصيل العقيدة كلها ، وربما كان الواقع التاريخي للمجتمع الذي نزل فيه القرآن يؤكد غياب هذه الاعتقادات والأعمال عن حركة الإنسان فيه والله العالم.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأن الفلاح والنجاح يتمثلان في أن يعرف الإنسان طريقه جيدا في بدايته ونهايته وفي خطوات الطريق. وهذا هو الذي ينطلق منه الإنسان المسلم في ما يتعلق بشؤون العقيدة. وقد نفهم ، من خلال ذلك كله ، أن التقوى ليست شيئا آخر غير الإيمان ، بل هي الإيمان المتفاعل في الفكر والحياة ، لأن الله تحدث عن المتقين بأنهم الذين ينطلقون في الاتجاه الصحيح في العقيدة والعمل.

* * *

١٢٤

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧)

* * *

معاني المفردات

(كَفَرُوا) : الفكر : أصله الستر ، ووصف الزّارع بالكافر لأنه يستر البذرة في الأرض. قال لبيد : « في ليلة كفر النجوم غمامها » أي : سترها. وكفر النعمة : سترها بترك التحدث عنها وأداء شكرها. والكفر ضد الشكر ، الذي هو إظهار النعمة ، كما أن الحمد خلاف الذم. وقد جاءت المقابلة بينهما في القرآن الكريم : (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل : ٤٠]. (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣]. (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] فالكافرون : هم الجاحدون للوحدانية والنبوّة واليوم الآخر.

(سَواءٌ) : مصدر أقيم مقام الفاعل ، ومعناه : مستو. والاستواء :

١٢٥

الاعتدال ، والسواء : العدل. وإذا كانت سواء بعد همزة التسوية ، فتعني : استوى الأمران ، كقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] و (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) [إبراهيم : ٢١].

(أَأَنْذَرْتَهُمْ) : الإنذار : إعلام فيه تخويف ، ويقابله التبشير : وهو إعلام فيه سرور.

(أَمْ) : إمّا متصلة ، وهي على نوعين : الأول : التي تتقدم عليها همزة التسوية كما في الآية. الثاني : التي تتقدم عليها همزة يطلب فيها التعيين. وإما منقطعة ، وهي التي يكون ما بعدها منقطعا عما قبلها.

(خَتَمَ) : الختم والطبع بمعنى واحد ، وهو تغطية الشيء ، فإن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يتوصل إليه ويطّلع عليه.

(غِشاوَةٌ) : فعالة من غشاه إذا غطاه.

* * *

نموذج آخر ... الكافرون

هذا هو النموذج الثاني ، من النماذج البشرية التي تتنوع مواقفها أمام قضية الكفر والإيمان ، وهو نموذج الكافرين.

والظاهر أن الآية لا تتعرض لهذا النموذج في طبيعته الشاملة ، بل تتعرض له من خلال الفئة التي واجهت الدعوة الإسلامية في بداياتها ، فلم تفتح قلوبها للإسلام لتفكر فيه ، وتناقشه لتتبعه عن قناعة ، أو لترفضه عن دليل ، وإنما وقفت موقف المعاند الذي يصرّ على موقفه ، ولا يسمح لنفسه أو للآخرين بأية تجربة فكرية أو عملية للحوار حول خطأ الموقف أو صوابه.

١٢٦

إن هذه الفئة هي التي لا ينفع معها الترغيب ولا الترهيب ، ويستوي في حالتها الإنذار وعدمه ، لأنها غير مستعدة لسماع آيات الله ، وللتفكير في ما تدعو إليه ، وغير مستعدة لا لاستعمال أبصارها في ما يحيط بها من دلائل عظمة الله سبحانه في الكون العظيم ، لتحصل ، من ذلك ، على وسائل القناعة والإيمان.

ولعل من الطبيعي أن تكون التجربة المستمرة في الدعوة منطلقة في حياة أولئك الذين يشعرون بمسؤوليتهم تجاه أنفسهم وتجاه ربّهم في قضية الإيمان والكفر ، على أساس أنها تمثل قضية المصير في الدنيا والآخرة ، مما يدفعهم إلى مزيد من التفكير والاهتمام ، بينما النموذج الذي تشير إليه الآية تبدو دعوته نوعا من الجهد الضائع ، لأن أفراده هم الذين لا يسمحون للعيون بأن تحدّق في الكون ، وللأسماع بأن تستلهم قضايا الفكر والإيمان ، وللقلوب بأن تفكر وتحاكم وتناقش ، وبالتالي أقفلت كل منافذ الإيمان والوعي.

ونحن نعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جرّب هداية هذه الفئة أكثر من مرّة بمختلف الوسائل والأساليب ، ولم يتراجع عن تجربته أمام حالات الكفران والجحود والضغط النفسي والمعنوي الذي وجّهوه إليه ، انطلاقا من القاعدة الإسلامية الأساسية التي تحكم عمل الدعوة ، في سلوك كل الطرق الممكنة للوصول إلى عقل الإنسان وتفكيره وشعوره للحصول على قناعته الإيمانية.

ولكن القضية أصبحت تمثل جهدا ضائعا لا يصل إلى أية نتيجة ملموسة ، لأن القوم قد حدّدوا موقفهم على أساس العناد والمكابرة ، لا على أساس الفكر والإيمان ، ولذلك جاءت هذه الآية لتحدد للرسول الموقف الحاسم من هؤلاء ، ولتدعوه إلى عدم مواصلة التجربة التي أثبتت عقمها ، لينطلق بجهوده إلى مجال آخر ، تنفتح فيه الدعوة على جماعة آخرين يفتحون قلوبهم للإيمان ، وعيونهم للصراط المستقيم ، وأسماعهم للكلمات النافعة.

١٢٧

وقد جاءت الآية الثانية لتؤكد الفكرة بشكل ملموس ، فقد ختم الله على قلوبهم ، فهي مغلقة النوافذ من جميع الجهات ، وختم الله على أسماعهم حتى سدّت منافذها عن كل كلمة ، وأما أبصارهم فتعلوها الغشاوة التي تحجب عنها الرؤية. وبذلك حكموا على مصيرهم بالعذاب الأليم في الآخرة.

* * *

الآيتان في حركة الواقع المعاصر

ويواجهنا في هذا المجال جانبان لا بد من الحديث عنهما عند استيحاء هاتين الآيتين الكريمتين :

الجانب الأول : ما هي المجالات التي تتحرك فيها الآيتان الكريمتان في حياتنا المعاصرة ، أو بالأحرى كيف يواجه المسلم ، الذي يريد أن يدعو إلى الله ، الفئات الكافرة التي تتحدّاه؟

إننا نعتقد أن واقع الكفر والانحراف اليوم ، لا يختلف عن الواقع بالأمس من حيث طبيعة المناذج العامة لجماعات الكفر ؛ فهناك نموذج يعيش حالة القلق النفسي ، والتطلع الروحي للمعرفة التي تدفعه إلى الموقف الثابت المطمئن في قضية الكفر والإيمان ، لكن الأخطاء الفكرية ، والانحرافات العقيدية ، تحوّل الكفر إلى قناعة ذاتية تحت عنوان « العلم » أو « العقل » ، أو نحو ذلك ، في غفلة عن العناصر الأخرى في فكر الإيمان التي يمكن أن تفتح للعقل آفاقا جديدة تطلّ على معرفة الله ؛ وهؤلاء هم الكافرون الغافلون الذين يطّلعون على مواقع المعرفة من زاوية واحدة.

وهناك نموذج يعيش حالة العناد والمكابرة والإصرار على الانحراف انطلاقا من التركيب الداخلي الذي يحكم وجوده. فهو يواجه الحياة بعقلية

١٢٨

المصالح والأطماع والشهوات الذاتية ، بحيث تكون هي التي تحدد له خطوط سيره الملتوية أو المستقيمة ، بعيدا عن مسئوليته تجاه ربّه ونفسه وحياته.

وهناك نموذج آخر يخضع أفكاره لمزاجه ولعاطفته ، فيحدد طريقه على أساس ما يدفعه إليه مزاجه ، أو توحي به عاطفته من قضايا الحياة ، وعلى ضوء ذلك ، يحكم على قضايا الكفر والإيمان ، من دون أن يسمح بالمناقشة فيها مباشرة ، مما يجعله ينظر إليها فرعا من أصل ، لا أصلا لفرع كما هو الواقع. وهذا النموذج يتمثل في الفئات التي تنطلق في حركتها من خلال القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الشهوانية .. فتتبنى المواقف العقائدية التي تكمن وراء التيارات التي تدفع الحياة في اتجاه معالجة هذه القضايا العامة والخاصة.

وفي هذا الاتجاه ، لا بد للإنسان المسلم من دراسة المجتمعات التي تحيط به دراسة واعية ، يحدد فيها نوعية الأفراد الذين يعيشون فيها في إطار ما حدّدناه من نماذج ، ليتخذ الموقف القرآني الذي يعتبر الحوار جهدا ضائعا مع الفئات التي تنطلق من موقف العناد في مواقعها الفكرية والعملية ، أو الفئات التي ليست مستعدة لفتح حوار مباشر في قضايا العقيدة من خلال الفكر ، بل من خلال قضايا الحياة. وبذلك ، يفتش عن وسيلة أخرى يحطم فيها الحاجز النفسي الذي وضعوه بينهم وبين الإيمان ، لينفذ بعد ذلك من جديد إلى قضية الحوار ، بعد إزالة كل الحواجز التي تقف بين الإنسان وبين التفكير.

* * *

الآيتان في إطار الجبر والاختيار الجانب الثاني :

كيف نفسر إسناد الفعل إلى الله في قوله سبحانه وتعالى :

١٢٩

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)؟ وهل يتّفق هذا مع فكرة الاختيار التي نؤمن بها في مقابل فكرة الجبر التي يقول أصحابها : إن العباد مجبورون على الكفر والإيمان وعلى نتائجهما في الطاعة والعصيان؟

والجواب : أن هناك اتجاهين في تفسير الآية : الأول ؛ الاتجاه الذي يجعل القضية واردة مورد التشبيه المجازي ، فقد جاء في الكشّاف للزمخشري : « فإن قلت : فلم أسند الختم إلى الله تعالى ، وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه ، وهو قبيح ، والله ، يتعالى عن فعل القبيح علوّا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه ، وقد نص على تنزيه ذاته بقوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] ، (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف : ٧٦] ، (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت : القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى الله عزوجل ، فلينبه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي ، ألا ترى إلى قولهم : فلان مجبول على كذا ومفطور عليه : يريدون أنه بليغ في الثبات عليه .. ويجوز أن تضرب الجملة كما هي ، وهي (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) مثلا ، كقولهم : سال به الوادي إذا هلك ، وطارت به العنقاء إذا أطال الغيبة. وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته ، وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء. فكذلك مثلت حال قلوبهم في ما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الأغنام (الغنم : العجمة ، والأغنم : الأعجم الذي لا يفصح شيئا) التي هي في خلوّها عن الفطن كقلوب البهائم ، أو بحال قلوب البهائم أنفسها ، أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها حتى لا تعي شيئا ولا تفقه ، وليس له عزوجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله ، وهو متعال عن

١٣٠

ذلك » (١).

الاتجاه الثاني : الذي يرتكز على الفكرة الإسلامية التي أوضحها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في القول المأثور عنهم : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين بين » ... الذي يجعل أفعال العباد منسوبة إليهم من جهة ، باعتبار صدورها منهم بالمباشرة والإرادة والاختيار ، ومنسوبة إلى الله من جهة ، باعتبار أن الله هو السبب الأعمق في كل شيء لأنه هو الذي يهب العباد القدرة ، ويستطيع أن يمنعها عنهم ، وهو الذي سخر لهم كل ما لديهم وما حولهم مما يستخدمونه في المعصية أو في الطاعة من دون أن يتدخل في عملية الاختيار.

وبذلك تصح نسبة الفعل إلى الله ، لأن له مدخلية في حصوله ولو بلحاظ كثير من مقدماته ، ففي مثل هذا المورد ، يمكن أن يقال إن الله قد ركّب الإنسان على وضع معين ، بحيث إذا اختار الإنسان الكفر وأصرّ عليه ، أغلق قلبه وسمعه عن سماع أية كلمة للإيمان ، وأغشى بصره عن الرؤية ... فالفعل يبدأ من اختيار الإنسان وينتهي إلى هذه النتيجة من موقع الاختيار ، ولكن عملية التسبب خاضعة للقوانين التي أودعها الله في وجود الإنسان الذي ترتبط فيها النتائج بمقدماتها.

ومن الطبيعي ، أن مثل هذه النسبة لا تدخلنا في دائرة الجبر ، ولا تسلبنا عملية الاختيار ، لأنها تنطلق من موقع حرية الإرادة التي تتحرك ضمن القوانين الطبيعية للحياة والإنسان ، وبالتالي ، لا تستلزم نسبة القبح إلى الله من قريب أو من بعيد.

أما لماذا انطلق القرآن في هذا الأسلوب الذي ينسب كل شيء إلى الله ، مما يدخل الإنسان في كثير من الأوهام والشبهات التي تبحث عن جواب وعن

__________________

(١) الزمخشري ، أبو القاسم ، جار الله ، محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ١ ، ص : ١٥٧ ـ ١٦٠.

١٣١

تحليل؟ فهذا ما نوضحه بالتحليل الآتي ، وخلاصته : أن القرآن الكريم قد انطلق ليعالج قضية التوحيد بطريقة جذرية حاسمة ، في مقابل فكرة الشرك التي ترتكز على تعدد الآلهة انطلاقا من القدرات التي تتخيلها لهم ، سواء في ذلك الآلهة الذين يتحركون في الحياة بصورة بشر ، أو الذين يتمثلون في بعض الظواهر الكونية العظيمة كالشمس والقمر والكواكب ، أو الأصنام الجامدة التي يصنعها الناس من الحجر وغيره. وبذلك ، كانت فكرة الشرك خاضعة لهذا التصور المنحرف الخيالي.

فأراد القرآن الكريم أن يعزل كل موجود في الكون عن أية قدرة من القدرات التي تتمثل في حركة الكون نفسها أو في حركة الإنسان في الكون ، ليجعل القدرة بيد الله وحده ، باعتبار أنه خالق كل شيء ومسبّب كل سبب ، وليوحي لنا ، بأن هذه القوى التي نشاهدها ، لا تمثل إلا حركة موجّهة في إطار القوة الأساسية التي تحكم هذه القوى بوسائلها وقوانينها المودعة فيها.

وبذلك ، كانت نسبة الأفعال إلى الله للإيحاء الدائم بوجوده خلف كل شيء ، ومع كل شيء ، ولكن لا على أساس مباشر يلغي عملية الاختيار للإنسان أو يسلبه حرية الإرادة. إنها النسبة التي تحتفظ لله بالإطار العام للقوة في كل ما في الكون من مظاهر الوجود ، ولكنها لا تسلب الإنسان القدرة الذاتية التي تتحرك داخل الإطار العام. وبهذا نفهم كيف ينطلق القرآن لينسب الضلال والهدى والخير والشر والرزق والحياة والمرض والصحة وغيرها إلى الله مع أنها تتحرك من خلال الأسباب الطبيعية في وجودها العملي بطريقة مباشرة.

ولعل هذا الاتجاه هو الاتجاه السليم في طريقة التعبير في الآية الكريمة.

وربما علّل إسناد الختم إلى الله بأنه عقوبة لهم على كفرهم كما جاء في الآية الكريمة : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] ، وقوله تعالى : (وَما

١٣٢

(يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦].

ولكن الآيتين تدلان على أن المسألة تنطلق من أن زيغ القلب ناشئ من إرادتهم الانحراف ، من خلال علاقة الانفعال بالفعل ، كما أن الضلال نتيجة للفسق أو مظهر له ، ويبقى السؤال في نسبة الفعل إلى الله على أساس أنه خالق علاقة المسبب بالسبب ، والصورة بالواقع.

ولعلّ هذا هو ما جاء في تفسير الآية عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، فقد سئل عن معنى قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) قال : الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم كما قال تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(١) [النساء: ١٥٥] ، فإن الظاهر أن المقصود بالعقوبة ، النتيجة التكوينية للكفر ، باعتبار أنه يغلق القلب عن وحي الحقيقة الإيمانية ، فكأن الله يجعل انغلاق القلب عقوبة له ، والشاهد على ما قلناه هو الاستشهاد بالآية حيث يشير ظاهرها إلى أن الطبع كان بسبب الكفر من خلال تأثيره في عدم الإيمان إلا بدرجة ضعيفة جدا.

* * *

الكفر والعصبية

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) واختاروا الكفر من خلال الغفلة المطبقة على عقولهم ، أو العقدة المتحكمة في ذاتهم ، أو الأهواء المسيطرة على مواقفهم وانتماءاتهم ، وقرّروا الالتزام به ، والوقوف عنده ، بحيث لا يتحولون عنه مهما كانت الظروف والأوضاع والمؤثرات (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا

__________________

(١) البحار ، م : ٢ ، ج : ٥ ، ص : ٤٣٥ ، باب : ١ ، روآية : ١٧.

١٣٣

يُؤْمِنُونَ)، لأن مسألة حركية الإنذار في انفتاح العقل على الإيمان لا ترتبط بمضمون الإنذار ، بل بإرادة الإنسان في سماعه ، وفي التفكير به ، واستعداده النفسي للانفعال بمعانيه وإيحاءاته ، أما الإنسان الذي يفقد هذه الإرادة ، وذلك الاستعداد ، فإن الإنذار وعدمه سواء عنده ، لأن قراره عدم الإيمان ، بعيدا عمّا إذا كان ذلك حقا أو باطلا ، لأنها مسألة عصبية لا مسألة اختيار عقلي منفتح على المعرفة الواسعة.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) فقد أغلقوا قلوبهم عن الحق فلم يسمحوا لها بالتفكير فيه وإدارة الحوار حوله ، وأعرضوا عن الإقبال عليه أو قبوله ، عنادا واستكبارا وتمرّدا ، فلم تبق هناك وسيلة لنفاذ الحق إلى داخلهم ، كما أنهم أغلقوا أسماعهم عن سماع كلماته ، تعقيدا واستنكارا ، فلم ينفذ إليها شيء منها.

(وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) فهم لا ينظرون إلى آيات الله في الكون ، ولا ينفتحون على مظاهر العظمة والإبداع فيه ، ليكتشفوا بذلك توحيده ، تماما كما لو كان هناك غطاء يغطي أبصارهم ويحجب عنهم وضوح الرؤية للأشياء.

وهكذا تلتقي الإرادة الإنسانية السلبية تجاه الحق ، والإيجابية تجاه الباطل ، لتتحول إلى حالة انغلاق فكري للعقل ، وحسي للسمع والبصر ، بحيث ينفصل الإنسان عن الحقيقة في جميع مجالاتها.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لأن الله أقام الحجة عليهم بدلائله وبراهينه ، فلم ينفتحوا عليها أو يلتزموا بها ، فكان كفرهم حركة تمرد وعصبية وجحود ، فاستحقوا به العذاب العظيم الذي انطلقت عظمته من خطورة الانحراف الأعظم الذي يتصل بالاستكبار على الله ، والكفر به ، وإنكار وحدانيته.

* * *

١٣٤

الآيات

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٥)

* * *

معاني المفردات

(يَخْدَعُونَ) : الخداع : أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ، وأصله الإخفاء والإبهام. و (يُخادِعُونَ اللهَ) : أي : يعملون عمل المخادع الذي

١٣٥

يريد أن يصل إلى أغراضه بطريقة خفية ، فيما الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه ويعلم أنه لا تخفى عليه خافية.

(أَنْفُسَهُمْ) : النفس تطلق على ثلاثة أوجه : النفس : بمعنى الروح ، والنفس : بمعنى التأكيد ، تقول : جاء زيد نفسه ، والنفس : بمعنى الذات ، وهو الأصل.

(يَشْعُرُونَ) : الشعور : أصله الإحساس بالشيء من جهة تدقّ وتخفى ، وهو مشتقّ من الشعر لدقته ، ومنه : اشتقاق الشعر لأن الشاعر يفطن لما يدقّ من المعنى والوزن ، ولا يوصف به الله تعالى ـ بأنه يشعر ـ لما فيه من معنى التلطف والتخيّل ، والمقصود بكلمة (يَشْعُرُونَ) : يعلمون وذلك على نحو الاستعارة.

(مَرَضٌ) : المرض : العلة في البدن التي يخرج بها على حدّ الاعتدال ، وقد يكون في البدن كالأعراض التي تصيبه فتؤلمه أو تضعفه أو تعطل وظائفه ، وقد يكون في القلب كالنفاق والشك ونحوهما.

(لا تُفْسِدُوا) : إحداث الفساد : هو كل ما تغير عن استقامة الحال ، والصلاح : نقيض الفساد.

(السُّفَهاءُ) : جمع سفيه ، والسفه : خفة في البدن ، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل ، والسفيه : الضعيف الرأي ، الجاهل ، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ.

(شَياطِينِهِمْ) : الشيطان : كل متمرد من الجن والإنس ، ومنه قوله تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] وأصله من شطن أي : تباعد ، فالشيطان : هو البعيد من الخير ، المبعد عن رحمة الله.

(مُسْتَهْزِؤُنَ) : الاستهزاء : ارتياد الهزء أو تعاطيه ، وهو السخرية

١٣٦

والاستخفاف ، والهزء أيضا : هو القتل السريع. وناقته تهزأ به : أي تسرع وتخف.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) : أن ينزل الهوان والحقارة بهم ، لأن المستهزئ يستهدف إلحاق الخفّة والزراية بمن يهزأ به ، وقد يراد منه أنه يجازيهم جزاء الهزء من خلال إمهالهم مدة استدراجا واغترارا. وقد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في معنى الاستدراج : إذا أحدث العبد ذنبا جدد له نعمة (١).

(وَيَمُدُّهُمْ) : مدّ الجيش وأمدّه ، أي : زاده وألحق به ما يقوّيه ويكثره. ومده الشيطان في الغيّ وأمدّه : إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه ويزداد انهماكا فيه.

(طُغْيانِهِمْ) : الطغيان : تجاوز الحد في العصيان ، وطغى الماء : إذا تجاوز الحد ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) [الحاقّة : ١١]. والطاغية : هو الجبار العنيد.

(يَعْمَهُونَ) : العمه : هو التردد في الأمر ، من التحير ، وهو قريب من العمى الذي يقال في افتقاد البصر ، إلا أن العمه يكون في البصيرة.

* * *

المنافقون أخطر فئة على الأمة

هذا هو النموذج الثالث من نماذج الناس في مواقفهم الفكرية والعملية

__________________

(١) البحار ، م : ٢ ، ج : ٥ ، ص : ٥٦٦ ، باب : ٨.

١٣٧

أمام قضية الإيمان والكفر. وقد عايش الإسلام هذا النموذج في عصره الأول ، وعانى الكثير من دسه وتضليله ولفّه ودورانه ، مما كان يربك الحياة الإسلامية في حركة المجتمع الإسلامي الداخلية والخارجية.

وقد نلاحظ ـ ونحن نواجه هذه الآيات الكريمة التي تحدثت عن المنافقين ـ أن الحديث عنهم يأخذ مساحة واسعة في تحليل شخصياتهم ، وإبراز ملامحهم ، أكثر من المساحة التي أخذها الحديث عن الكافرين ، ولعل السبب في ذلك ، أن قضية الكفر كقضية الإيمان ، تمثل موقفا حاسما في حياة الإنسان ، باعتبارها تحديدا واضحا للموقف إزاء ما يطرح من قضايا العقيدة والحياة ، فلا تعقيد في مواجهة الواقع ، ولا التواء في التعبير عنه. وبذلك يسهل التعرّف على المؤمنين والكافرين من خلال حركتهم في الحياة ، لكل من يعرف طبيعة الإيمان والكفر.

أمّا المنافقون ، فهم الذين يعيشون ازدواجية الموقف بين ما يضمرونه في داخل أنفسهم وما يظهرونه أمام الناس ، ممّا يجعل من اكتشافهم ومعرفتهم عملية معقّدة ، لأنها تحتاج إلى رصد دقيق لأقوالهم وأفعالهم لمواجهة العوامل القلقة التي تتحرك في سلوكهم الحياتي العام والخاص.

وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل القرآن الكريم يواجه هذا المنوذج القلق بعدّة آيات تلاحق مظاهر النفاق في كلماتهم التي يواجهون بها الناس ، وشعاراتهم التي يطرحونها ، ومواقفهم الاجتماعية العملية والحياتية ، ليسهل على الناس كشف واقعهم من أجل التخلص من ضررهم في الحاضر والمستقبل.

* * *

١٣٨

القرآن دليلنا

ونحن عند ما نريد أن نواجه هذه النماذج من الناس من خلال الآيات القرآنية ، نشعر بالحاجة إلى ملاحقة أمثالها في حياتنا العامة ، في صراعنا المرير في قضية الكفر والإيمان ، لأن قيمة القراءة القرآنية وطبيعة الوعي القرآني ، لا تتمثل في الفهم الحرفي والتاريخي لآياته فقط ، بل في معرفتنا للجانب التطبيقي الذي يمثل حركة الوعي القرآني في حياة الناس المستقبلية التي تتنوع مظاهرها وأشكالها ونماذجها في إطار وحدة القضايا الأساسية التي تبقى وتعيش في جميع المراحل ، لأننا نريد أن نتحرك مع القرآن ، والقرآن يتحرك مع الحياة في اتجاه الأهداف الكبيرة التي أراد الله من الإنسان بلوغها وتحقيقها. وهذا ما يجب أن يحكم قراءتنا للقرآن وفهمنا له ، ليكون القرآن هو المرآة الصافية التي نكتشف فيها أنفسنا وحياتنا ، انطلاقا من آياته التي نعتبرها نورا ورحمة للعالمين ، ومن الأحاديث الشريفة المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، عند ما قالوا ـ في أكثر من حديث ـ : إن القرآن حيّ لم يمت ، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما يجري الشمس والقمر (١). فإن الحياة تتجدد ، ولكن الليل والنهار يبقيان فيحكمان حركة الحياة. كما أن الكون يتجدد ، ولكن الشمس والقمر يظلان في مدد دائم للحياة بالنور والإشعاع والدفء.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ١١ ، ج : ٣٥ ، ص : ٦٤٨ ، باب : ٢٠ ، رواية : ٢١.

١٣٩

نماذج على المشرحة

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). هذه هي إحدى صفات المنافقين ، فهم يعلنون كلمة الإيمان وشعاره أمام الناس ، فيسجّلون على أنفسهم الاعتراف به والالتزام بأحكامه ، ليحصلوا على ثقة الناس بهم ، فيثق الناس بمنطلقاتهم ، ويحسون بالأمن إزاءهم ، مما يفسح لهم المجال الواسع للتحرك بحرية كبيرة في مجالات الدسّ والتضليل ، ولكنهم لا يلتزمون بالإيمان في قناعاتهم الفكرية من خلال مؤثراتهم الذاتية المعقّدة ، فهم يعيشون ازدواجية الموقف بين الظاهر المؤمن الذي يتحرك في دائرة العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين ، والباطن الكافر الذي يعيش في داخل الذات وفي المجتمع الكافر.

وقد نواجه مثل هؤلاء في بعض أتباع المبادئ الكافرة ، الذين يرفعون شعار الإيمان والإسلام في كلماتهم ، مع أن مبادئهم ترتكز على قاعدة الكفر والإلحاد ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، ليحس المجتمع المؤمن بالأمن من ناحيتهم ، فيسهل عليهم النفاذ إلى حياته.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي : يعملون عمل المخادع الذي يريد أن يصل إلى أغراضه بطريقة خفية لا يشعر بها المخدوع ، يحاولون أن يظهروا بغير ما هم فيه ليحصلوا على الثقة والاطمئنان بإيمانهم وصلاحهم. ولكن جهودهم تذهب هباء ، فإنهم لا يخدعون إلا أنفسهم عند ما يوحون إليها أنهم ينجحون في هذه الأساليب الملتوية ، ولا يلتفتون إلى أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وأنه يكشف واقعهم للمؤمنين ليحذروا منهم.

١٤٠