تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

لهم الهدف ، ولينقذهم من الحيرة والتمزق والضياع ، فيقودهم إلى حيث الطمأنينة والوضوح في الرؤية والاستقامة في التفكير ، وكان بإمكانهم أن يلتقوا به على درب الإيمان ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ولكن العقدة المتأصلة التي تحولت إلى عقدة مرضية مستعصية حالت بينهم وبين الالتقاء بالنور والانطلاق مع الهدى ، فعاشوا مع هذه العقدة التي زيّنت لهم أساليب التلاعب الشيطانية ، وأوحت إليهم أن ذلك هو السبيل الذي يستطيعون من خلاله أن يحرزوا النتائج المضمونة من كلا الفريقين : فريق الكفر ، وفريق الإيمان ، بأسلوب اللف والدوران ، فعادوا إلى الظلمة من جديد ، بعد أن (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بفعل إرادتهم المجنونة التي لا تعرف ما تريد وكيف تريد ، الأمر الذي جعل اختيارهم يتحرك في مصلحة الظلام لا في مصلحة النور ، فخذلهم الله وأوكلهم إلى أنفسهم (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

وجاءت الآية الثانية لتعطينا الفكرة الواضحة عن الأسباب التي دفعتهم إلى هذا الاتجاه المنحرف ، ولتعرّفنا أنهم لم يستخدموا الوسائل التي خلقها الله لهم ليحصلوا على المعرفة الشاملة ، بل حاولوا أن يجمّدوها ، فقد خلق الله لهم السمع ليصغى من خلاله إلى الكلمات الحقة من الآيات البيّنات التي تثير في داخلهم التفكير والتأمل ، وخلق لهم اللسان ليسألوا به عن كل الأمور التي يجهلونها أو يشكّون فيها ليصلوا إلى المعرفة الحقة ، وخلق لهم البصر ليتطلعوا به إلى آياته الكونية التي أودع فيها كل الدلائل والأسرار التي تقودنا إلى الشعور بعظمته والإيمان بوحدانيته ، لقد خلق لهم كل هذه الوسائل ليستخدموها كأدوات للمعرفة ، ولكنهم أهملوها ، فكانوا أشبه بالذين يفقدون هذه القوى ، لأن قيمة الحواس الإنسانية لا تكمن في وجودها الجامد ، بل في وجودها الحيّ المتحرك في كل اتجاه يمنح المعرفة وينمّي الحسّ بالحياة ، ويضيء للقلب طريق التفكير ، وبذلك يفقد العاملون الأمل في رجوعهم إلى الحقّ والصواب ، لأن شرطه الإحساس بالمعرفة من خلال الشعور بالحاجة إلى

١٦١

استخدام وسائلها الطبيعية.

المثل الثاني في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ* يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

حاول بعض المفسرين اعتبار التشبيه في المثل خاضعا لمفردات الظواهر الموجودة في الصورة ، وذلك بتشبيه الإسلام وما فيه من نور يهدي السائرين إلى الطريق الحق ، بالبرق الذي يهدي الناس في دياجير الظلام ، وبتشبيه الظلمات بشبهات الكفر والضلال التي توقع الإنسان حائرا في خطوات الطريق المظلم .. أمّا الرعد والصواعق ، فقد شبه بهما الإنذار بالعذاب والهول الذي يوجهه القرآن للضالين والمنحرفين عن الصراط المستقيم.

وهكذا يكون المثل من تشبيه مفردات صورة بمفردات صورة أخرى ، فلا تكون الصورة هي مركز التشبيه هنا ، وقد يكون مثل هذا القول واردا من خلال طبيعة التركيب اللفظي ، ولكن الجو العام للموقف ، يوحي بانطلاق التشبيه في حركة الصورة بعيدا عن المفردات ، لأن القضية هي قضية الحالة الداخلية لشخصية المنافق الذي يعيش الازدواجية الداخلية في الفكر والشعور ، التي تفرض عليه الجو القلق الحائر ، حيث تتأرجح مشاعره بين لمعات الطهر ونزوات الخبث ، وتضطرب أفكاره بين أفكار الخير وأفكار الشر ، وتختلط في عينيه مواقع النور وكهوف الظلام ، وتزدحم في سمعه صرخات العذاب وهدهدات النعيم ، وقد تؤكد لنا هذه الصورة ، أننا نعتبر ازدواجية المنافق في حياته العملية نابعة من ازدواجيته الداخلية في فكره وشعوره ، ولعلّنا نلمس الروعة في التشبيه في هذا الإطار الذي تهتز فيه الصورة بالحركة وتموج بالحياة ، لأنه يصبح أكثر انسجاما مع طبيعة الفكرة التي يوحي بها المثل

١٦٢

المنطلق من تجسيد الصورة في الواقع كأسلوب من أساليب وضعها في الواجهة من وعي الإنسان وتفكيره.

وقد نجد أن لكل واحد من هذين المثلين مهمة في إعطاء الفكرة عن شخصية المنافق تختلف عن الآخر ، ففي المثل الأول تصوير لحالة المنافق وهو يواجه الدعوة التي تشير إلى الطريق المستقيم من خلال النور الذي يضيء الروح والقلب والفكر ، فيبادر إلى الطريق الملتوي الغارق بالظلمة التي تعمي قلبه ، وتغشي بصره ، وتصمّ سمعه.

وفي المثل الثاني تصوير لحالته وهو يعيش حياته في أجواء النفاق واهتزازات المواقف بين الظلمة والنور والرعد والبرق ، فتجعله في حيرة مدمرة تأكل قلبه وتمزق روحه ؛ والله العالم بأسرار آياته.

(أَوْ كَصَيِّبٍ) مثل هؤلاء المنافقين في حيرتهم الذهنية وقلقهم النفسي ، مثل الناس الذين يتحركون في أجواء الصيّب ، وهو المطر الغزير الهاطل من السماء ، (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) فهو يحتوي في حركته كلها الظلمات المتمثلة بالسحاب الأسود ، والضباب الكثيف ، والليل المدلهم ، والرعد الذي يدوّي فيصمّ الأسماع ، ويثير المخاوف ، ويهزّ الأفق ، والبرق الذي يظهر بين لحظة وأخرى بكل قوة فيثير الفزع من تأثيراته في العيون بقدر ما يثير من النور الساطع الذي يشق الظلام بسرعة ، فيحرّك ذلك الجوّ المتنوع في مخاوفه الإحساس بالخطر ، فتراهم (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ليتفادوا ضغط الرعد على أسماعهم ، وليتخفّفوا من خطر الصواعق القاصفة المحرقة ، تماما كما لو كان الهروب من الإحساس بصوتها سبيلا للهروب من أخطارها ، (حَذَرَ الْمَوْتِ) الذي قد يأتيهم من خلالها (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) ، فلا عاصم من أمر الله ، لأن الأجل يأتيهم من كل مكان ، وبأكثر من سبب ، فلا يحميهم منه شيء ، ولا هناك من يستجيرون به.

١٦٣

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) ويستلبها لشدة لمعانه ، ولكنهم ولكنهم ينطلقون ليهتدوا به في الظلام الكثيف الدامس ، (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) ، وتحركوا ، من خلاله ، إلى غاياتهم ، (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) ووقفوا في حيرتهم القاسية أمام الظلام الذي لا يبصرون فيه طريقهم. وهكذا يبقون في قلق روحي مدمّر بين النور الخاطف والظلمة الكثيفة ، فلا ينفتحون على الدرب ، ولا يستقرون في الظلام. إنها حركة المنافق بين الضوء القادم من القرآن ، والظلام المندفع من الكفر ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) فلا يسمعون شيئا ، (وَأَبْصارِهِمْ) فلا يبصرون شيئا ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو القادر على أن يسلبهم كل شيء ، ويدمّر عليهم كل أوضاعهم في جميع المجالات ، ولكن الله يمهلهم ، ويملي لهم ، ويمدّ لهم الحبل ، حتى يقيم عليهم الحجة ، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

* * *

١٦٤

الآيتان

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢٢)

* * *

دعوة إلى التأمل

في بداية هذا الفصل من السورة ، دعوة إلى تحديد الموقف من قضايا الكفر والإيمان ، بالوقوف مع خط الإيمان من خلال العبادة ، ومواجهة فكرة الشرك والتوحيد بالأدلة الواضحة التي تلتقي بالتوحيد في حركة الحياة. ولعلنا نستطيع تفصيل هذه الفكرة في عدة نقاط :

١ ـ إننا نلتقي في هذه الآية بأسلوب الدعوة القرآنية ، الذي لا يدعو إلى الإيمان من خلال التفكير المجرد الذي يطرح القضايا من خلال المواقف التأملية ، التي ينفصل فيها جانب الفكر عن أجواء العمل ، فيكون للإنسان

١٦٥

مجالان ، يتحرك في أحدهما مع الفكر ، وفي الثاني مع خطوات العمل ، كما هي طريقة التفكير الفلسفي الذي يبعد جانب الفكر عن جانب العمل ، بل يدعو إلى الارتباط العملي بالله من موقع العبادة بطريقة إيحائية تترك انطباعا في النفس بأن قضية الإيمان بالله ليست من القضايا الفكرية التي يدخل الإنسان معها في مجال المناقشة التي تحتمل الرفض والقبول ، بل هي من قضايا الوجدان الذي يوحي بالفكرة من خلال الإحساس الداخلي النابع من مواجهة الكون الذي يحيط بالإنسان في كل مظاهره ، حتى يجد الله متمثلا في عمق ذلك كله ، في اللفتة والنظرة والشعور ، حيث ينتقل من جوّ الملاحظة العفوية إلى جوّ العبادة من دون تردد أو توقف.

٢ ـ إنّ الآية توحي بأنّ الدعوة إلى الإيمان بالله وإلى عبادته ، ليست خاضعة لموقف فكري بعيد عن حياة الإنسان وشعوره ، ككثير من القضايا الفكرية التي ترتبط بها وتنسجم معها باعتبارها حقيقة من حقائق الحياة التي تفرض نفسها عليه ، من دون أن يكون لها ارتباط به من ناحية شعورية ، بل هي خاضعة لإحساس الإنسان بوجوده ووجود الناس الذين من قبله ، ومرتبطة بحركة حياته ، وهو يتنقل في الأرض ليعيش قضايا الحياة ، أو يتطلع إلى السماء التي تمنحه الشعور بالعظمة ، وتنزل عليه بركاتها التي تحوّل الأرض إلى خصب يعطي الرزق الذي يفسح للإنسان مجال الامتداد في هذه الحياة.

وبذلك يستوحي الإنسان في عبادته لله العظمة المحيطة به في كل مظاهر الحياة ، والنعمة المتفجرة من الأرض ، والمنهمرة من السماء ، لتعطيه الخير والبركة والرخاء ، مما يبعد العبادة عن الخضوع الأبله الساذج ، ويربطها بالخشوع الذي يمتزج فيه الشعور بالعظمة ، بالإحساس بالنعمة ، التي يحتاج معها إلى الاعتراف بالجميل ، ويجعل من علاقة الإنسان بالله شيئا يتصل بمشاعره الحميمة لا بأفكاره المجردة ، وهذا ما يحقق للإنسان معنى التقوى الذي اعتبرته الآية غاية للعبادة ، لأنه يمثّل الانضباط العملي على خط الله ، من

١٦٦

خلال الإحساس العميق به ، في موقف نفسيّ داخلي يتجسّد فيه الإيمان المسؤول بالجانب العملي في الحياة.

وهذا هو ما ينبغي للعالمين في سبيل الدعوة إلى الله أن يسلكوه في أساليبهم العملية في الدعوة ، أي عليهم استيحاء الجو القرآني الذي يتحرك فيه الأسلوب بعيدا عن الأجواء الفلسفية المجردة التي قد تعطي فكرا قويا ، ولكنها لا تمنح الإنسان حركة الإيمان في داخل النفس ، وفي أعماق الحياة.

٣ ـ لقد جاء في الآية التعبير عن الأرض بأنها فراش ، وعن السماء بأنها بناء ، وهما استعارتان ، أريد بهما التدليل على معنى دقيق ، فقد جاءت كلمة فراش لتعبر عن الراحة التي يحس بها الإنسان في وجوده على هذه الأرض بما أودعه الله فيها من قوانين الحياة ، تماما كالراحة التي يشعر فيها الإنسان بالإغفاءة الهانئة على الفراش الوثير بعد تعب يوم مكدود. وقد جاءت كلمة بناء للإيحاء بالتماسك والقوة التي تمنع من السقوط على الرغم من أنها لا تعتمد على قواعد ثابتة في الأرض.

٤ ـ إنّ التطلّع إلى الأرض في ما تمنحه للإنسان من الراحة بفعل القوانين الطبيعية المودعة فيها ، وإلى السماء في تماسكها وفي خيراتها التي تغدقها على الإنسان ، وفي ما توحيه من عظمة الخالق من خلال سر عظمة الخلق ، إن ذلك كله يدفعنا إلى رفض الأنداد والشركاء لله ، عند ما نحصل على القناعة الثابتة التي تؤكد لنا ـ بما لا يقبل الشك ـ أن الله هو وحده صانع ذلك كله ، لأنه ـ وحده ـ القادر على ذلك كله.

٥ ـ ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أن التقوى هي الغاية للخلق ، فيكون المعنى أن الغاية من خلق الإنسان هي الوصول به إلى التقوى ، ولكن التأمل في الآية يؤدي بنا إلى أنها غاية للعبادة ، لجهتين ، الأولى : أن الكلام قد سيق للأمر بالعبادة فهي الأصل في الكلام ، أمّا

١٦٧

الخلق فقد ذكر كصفة من صفات الله التي توحي للإنسان بمسؤوليته أمام الله في عبادته له ، فلا يناسب المقام رجوع الغاية إليه. الثانية : أن الغاية لا بد من أن تكون بمثابة النتيجة الطبيعية للعمل ، ونحن نعرف أن مجرّد الخلق لا يتصل بالغاية ، بل الذي يحققها هو العبادة ذاتها التي تثير في النفس الشعور بالله ، والخضوع له ، مما يوحي له بمسؤوليته الممتدة أمام الله ، ويؤكد ذلك بممارسته العملية الدائمة المنفتحة على الحق.

* * *

خطاب القرآن بين (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ،

و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) الذين يتحركون في الحياة على هدى إنسانيتهم في أصالتها الفطرية ، وشعورها المنفتح على الحقيقة ، وجهدها المتحرك في خط الفكر الأصيل ، بعيدا عن عناصر الخصوصيات القومية والجغرافية والعرقية ، سواء كنتم مؤمنين أم كافرين ، فهذا هو النداء الذي ينفذ إلى أعماقكم ويستثير فيها الحركة نحو عبادة الله.

وفي هذا السياق ، ثمة قول ينسب إلى ابن عباس والحسن ، أن ما في القرآن من (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فإنه نزل بمكة ، وما فيه من (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإنه نزل في المدينة. وبعيدا عن ثبوت صدور هذا الرأي عنهما ، أو عدمه ، فإن مضمونه يحثّنا على الوقوف عند أساس هذه الفكرة ، التي في تقديرنا ، ترجع إلى كون سورة البقرة مدنية كلها إلا آية واحدة وهي قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) الآية ، فإنها نزلت في حجة الوداع بمنى.

وقد يكون الأساس في هذه الفكرة ، أن مكة كانت مرحلة الدعوة التي

١٦٨

يتوجه فيها الخطاب إلى الناس كلهم من أجل إدخالهم في الإيمان ، بينما يتوجه الخطاب في المدينة إلى المؤمنين من أجل تفصيل مسئولياتهم العملية باعتبارها مرحلة الحركة في الدولة. ولكن لنا ملاحظتان في هذه المسألة :

الأولى : أن من الممكن مخاطبة المؤمنين في صفتهم الإنسانية لاستثارة المضمون الإنساني الذي ينفتح بهم على القضايا الحيوية في عناصر الحذر والخوف والرحمة والمحبة ونحو ذلك التي تتمثل في خصائص الإنسان من حيث هو إنسان مما يتصل بساحة الدعوة وساحة الحركة معا.

الثانية : أن مرحلة المدينة لم تبتعد عن مرحلة الدعوة ، لأن الكثيرين من العرب وغيرهم كانوا لا يزالون مقيمين على الشرك أو الكفر ، مما يفرض التوجه إليهم بين وقت وآخر ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين معه ، لم يكونوا مستغرقين في أجواء المدينة ، بل كانوا يتطلعون إلى الناس خارجها ، ويتحركون من أجل توعيتهم وهدايتهم إلى الإسلام.

* * *

(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)

(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فإن الخلق يمثل العبودية التكوينية من خلال الإرادة الإنسانية في تحقيق معنى المضمون الواقعي لعبودية الإنسان ، في وجوده لتكون مظهر الوعي المتحرك فيه ، لأن القضية لا تنطلق من حالة فكرية مجردة في عقله ، بل تتحرك من حالة وجودية في ذاته ، تماما كما يتحسس خصائصه الشعورية الذاتية.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لأن العبادة تفتح وجدانكم على الله في الإحساس بعظمته وربوبيته ووحدانيته ، الأمر الذي يؤدي إلى اهتزاز العمق الإنساني في

١٦٩

الخضوع لله ، والخوف منه ، والمحبة له ، بحيث تصبح التقوى حالة طبيعية في حركة الذات.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) ومستقرا ومقاما تستريحون فيه ، وتتقلبون عليه ، في حركتكم ، وفي يقظتكم ومنامكم. (وَالسَّماءَ بِناءً) من فوقكم كما هي القبة المطلّة عليكم ، وخلق فيها الشمس التي تمنحكم النور والدفء والحرارة ، والقمر الذي يضيء لكم ظلمات الليل ويحدّد لكم المواقيت ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يحيي الأرض بعد موتها ، ويمنحها الحيوية التي تعطي العناصر المودعة فيها قوّة النموّ وحركة الخصب ، (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ) من البذور المتناثرة في أعماقها وسطوحها (رِزْقاً لَكُمْ) ، وذلك لتلبية حاجات أجسادكم الغذائية ، بما يكفل استمرار حياتكم وتواصلها ، لتعتبروا بذلك كله ، ولتعرفوا حاجتكم وفقركم إلى الله الذي لا يملك غيره أن يعطيكم ما أعطاكم ، ويرزقكم ما رزقكم من فضله ، ولتؤمنوا بأنه الله الذي لا إله إلا هو لا شريك له ، لأن كل من عداه فهو مخلوق له ، فكيف يكون ربا للناس؟! (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) تحبونهم كحبكم لله ، وتطيعونهم كطاعتكم له ، وتعبدونهم كما تعبدونه ، في القوت الذي لا يملك هؤلاء لأنفسهم من أمرهم أو أمر الناس شيئا ، لأنهم عباد أمثالكم لا فرق بينكم وبينهم في معنى العبودية لله الواحد الذي لا إله إلا هو ، ولا شبيه له ولا نظير ، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلك كله ، فكيف تحوّلون علمكم جهلا بالسير في دروب الجاهلين؟

* * *

١٧٠

الآيتان

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(٢٤)

بلاغة القرآن طريق لإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(وَإِنْ كُنْتُمْ) أيها الناس ، (فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) بفعل استبعاد تصوراتكم أن يكون النبي بشرا ، أو أن تكون له من الأوضاع والمميزات ما ترونه منافيا للموقع المميز للنبوّة ، كالفقر والمنزلة الاجتماعية العادية وما إلى ذلك ، فإننا ندعوكم ، لرفع هذه الشكوك والشبهات ، إلى دراسة هذا التنزيل القرآني الذي لم تألفوا مثل فصاحته وبلاغته في أساليبكم ومحاوراتكم ؛ والذي يتحداكم في أن تحاكوه ، (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) من دون تحديد لحجم السورة وطبيعتها ومضمونها ، فتكون لكم حرية الاختيار في رد التحدي بما يتناسب مع إمكاناتكم البلاغية إذا لم تنفتحوا على إمكانات علمية أو فكرية مما

١٧١

تتضمنه هذه السورة أو تلك.

وإذا كنتم لا تملكون القدرة الذاتية على ذلك ، فاعملوا على أن تستعينوا بالذين ترون فيهم القدرة العالية على القيام بالأمور الصعبة ، (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) الذين اتخذتموهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) ، وزعمتم أنهم يملكون القوة الكبيرة التي تميزهم عن الناس ، واعتقدتم أنهم يشهدون لكم ، في حضورهم القوي الفاعل الذي يتدخل لإعانتكم ، في ما لا تقدرون عليه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم والتزامكم بالشرك.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي لم تستطيعوا القيام بذلك ، (وَلَنْ تَفْعَلُوا) لأن القضية أكبر من طاقة البشر ، وبالتالي لا يملك إنسان أن يجيب على هذا التحدي ، مما يدل على أنه ليس كلاما صادرا من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو صادر من الله سبحانه ، ليكون ذلك دليلا على صدقه في رسالته ، وانطلاقه من الوحي الإلهي في كل ما جاء به ، الأمر الذي يفرض عليكم الإيمان به ، وبرسالته ، والاتباع له في شريعته في كل أوضاعكم وأعمالكم ، لأن ذلك هو الذي ينقذكم من غضبه وسخطه وعذابه ، (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) ، مما يميزها عن غيرها من النيران التي توقد أولا بالوقود المألوف من الخشب ونحوه ثم يلقى فيها ما يراد إحراقه بها ، ولكنها توقد بما تحرقه من الناس والحجارة التي تتحول إلى جمر متّقد ، فهي موقده لهم وبهم ، (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) بالله ، وبرسوله ، وبرسالاته ، واليوم الآخر بعد قيام الحجّة عليهم بذلك ، مما جعل كفرهم منطلقا من موقع التمرد لا من موقع القناعة الفكرية ، فاستحقّوا عذاب المتمردين.

هذه هي إحدى الآيات التي واجه القرآن بها حالة الشك والجحود التي قابل بها المشركون النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما أوحي إليه ، باعتباره جهدا بشريا لا يدعم دعوى الرسالة التي لا بد لها من الارتباط بالوحي الإلهي والانطلاق

١٧٢

منه ، وذلك على الرغم من الآيات والبيّنات التي قدمها إليهم كدليل على ذلك ، فلم يفكروا ، ولم يتحركوا في اتجاه إدارة الحوار معه بالأسلوب العقلي للتفكير ، ليصل الحوار إلى النتيجة الطبيعية التي تثبت أنه رسول الله ، فلم يبق أمامه إلا التحدي الصارخ ، الذي لا ينطلق من المواجهة الهادئة التي تخاطب الفكر ، بل يتحرك بهزة عنيفة تتحدى الفكر والشعور والكرامة ، في محاولة لتعرية حالة الشك ، وتجريدها من مبرراتها أمام أنفسهم وأمام الآخرين ، عند ما ينكشف لهم أنهم لا يملكون أية إمكانية لمواجهة التحدي بمثله ، بما يملكونه من أدوات المواجهة في مثل هذه الحالات التي يستثيرون فيها كل القوى الذاتية في أعلى درجاتها الثقافية والفنية.

* * *

القرآن يقطع ، في تحدّيه ، أعذار الكفّار

لقد مثّلت هذه الآية قمّة التحدي ، في طبيعة الموضوع الذي طرحته عليهم ، وفي الأسلوب المثير الذي حشدت فيه أقوى أنواع الإثارة النفسية التي تثير حسّ الكرامة فيهم ، كأعمق ما يكون ، بما لا يترك مجالا للاستمرار في أجواء اللامبالاة ، ولا سيما في تلك البيئة العربية التي تنفعل بأسباب الإثارة الذاتية على مستوى الفرد والقبيلة ، مما يجعل للأشعار والخطب المنقولة عنهم ، طابع الحماسة المشحونة بالفخر والتحدي والاعتزاز وإباء الضيم ، فقد أرادت منهم الآية أن يأتوا بسورة من مثل القرآن ، أيا كانت طبيعة تلك السورة ، في الموضوع وفي الكمية ، فتركت لهم الحرية في اختيار أقصر سورة في كلماتها ، وفي بساطة موضوعاتها ، وسهولة معانيها.

وقد كان التحدي في بداياته يطرح فكرة الإتيان بمثل القرآن ، من دون أن

١٧٣

يحدد حجما معينا للمقدار ، وذلك هو قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] ، ثم بدأ التحديد في عملية تدريجية ، فألقى عليهم فكرة الإتيان بعشر سور مثله مفتريات ، مهما كان حجم السورة وبساطتها وسهولة أفكارها ، وذلك هو قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوالَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : ١٣ ـ ١٤].

وهكذا نجد أن الله لم يترك لهم أي مجال لعذر في ما إذا أرادوا أن يتلمّسوا الأعذار المألوفة في مثل هذه الحالات ، من مشاغل الحياة ومتاعبها ، لأن التحدي في صيغته الأخيرة دعا إلى الإتيان بسورة واحدة ، من دون تحديد لأي منها ، تاركا لهم حرية اختيار السورة التي يريدون. ومن المعلوم أن في القرآن سورا كبيرة من حيث عدد الآيات ، وسورا قصيرة لا تتجاوز الثلاث آيات ، مما شأنه أن يقطع الطريق أمامهم من مثل هذه الأعذار.

وهنا قد نلاحظ أن الآية قد طرحت أمامهم فكرة الإتيان بمماثل لسورة من سور القرآن ، لا الإتيان بسورة بعينها ، لئلا يعتذروا ، كما يحلو للبعض أن يقول ، بأن ذلك لا يرتبط بالإعجاز ، لأن لكل إنسان أسلوبا متميزا عن أسلوب الآخرين من حيث الخصائص الذاتية التي تحكم الأسلوب وتوجهه ، فقد لا يستطيع الإنسان ـ في أغلب الحالات ـ أن يأتي بالأسلوب نفسه لكاتب مثله ، لا لعجز في المستوى الفني ، بل لاختلاف العوامل الذاتية التي تؤثر فيه ، ولا تنفصل عنه. وبذلك ، كانت المماثلة المطلوبة هي التي طرحها القرآن الكريم ، لأنها من الأمور الممكنة للذين يملكون القدرة الفنية التي تتيح لهم مراعاة الخصائص البلاغية الكامنة في عناصر الأثر النفي ، بكل دقائقها وأسرارها الخاصة والعامة ، لينكشف لهم ، من خلال عجزهم عن الإتيان بالمماثل الذي يجمع عناصر السورة لا نفسها ، أن القضية ليست قضية جهد بشري رفيع

١٧٤

المستوى ، بل هي قضية الوحي الإلهي الذي لا يبلغ البشر مداه ، ولا يرتفعون إلى مستواه.

* * *

القرآن يتحدى الكفّار وآلهتهم

أمّا عناصر الإثارة التي اشتملت عليها آية التحدي مع ما بعدها ، فهي التوجه إليهم بدعوة

شهدائهم الذين يدعونهم من دون الله ليشهدوا لهم أو ليعاونوهم ـ وهو الأقرب ـ باعتبار القوة الهائلة التي يزعمونها لهم ، مما يجعل القضية لا تقف في مستوى قوتهم الذاتية فحسب ، بل تتعداهم إلى شهدائهم الذين يمكن أن يكون المقصود بهم الشركاء الذين يعبدونهم من دون الله ، ويرون فيهم القوة التي تقترب من الله. وبذلك ، كان التحدي يواجه كل القوى الذاتية وغير الذاتية ، مما يملكونه لدى شركائهم الذين يدعون من دون الله. وهذا من أبلغ حالات التحدي التي تعمل على كشف تفاهة ما لدى الشركاء ، إلى جانب تعرية حالة الشك المزعومة لديهم بتجريدها من كل مبرراتها. ثم نواجه ـ في الآية ـ التأكيد الحاسم بأنهم لن يستطيعوا مواجهة التحدي بمثله في المستقبل ، كما في الحاضر ، لأن القضية لا ترتكز على حالة آنية ، أو مستوى محدود قابل للتطور في المستقبل ، بل ترتكز على الطبيعة البشرية ، التي لا تستطيع من خلال إمكاناتها الذاتية مواجهة ذلك.

ثم يمعن في الإثارة التي تقودهم إلى التجربة لئلّا يقول قائل : إن القوم لم يجدوا ما يدعوهم إلى الإلحاح في المواجهة ، فلا نستطيع أن نعتبر عدم التجربة دليلا على العجز ، فيواجههم بضرورة الإيمان المتمثل بمراقبة الله من ناحية عملية في ما يعتقدونه وفي ما يعملونه ، ليجنبوا أنفسهم (النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) المعدّة للكافرين ، فإن في هذا الوصف إيحاء بعظمة النار

١٧٥

وشدة لهبها وحرارتها ، التي تحوّل الحجارة إلى جمر يتوقّد ويشتعل ، وتحقيرا للكافرين بمقارنتهم بالحجارة في النار ، مما يؤجج في نفوسهم حس الكرامة ، فيدعوهم إلى رد التحدي ، ومحاولة المجابهة التي يرجعون منها خاسرين.

* * *

الإعجاز البياني ، سرّ التحدي القرآني

وقد يتساءل الكثيرون عن سر التحدي القرآني المتمثل في الإعجاز؟

ونجيب : إنه الإعجاز البياني الذي تصل فيه الناحية التعبيرية في الكلمة إلى أعلى مستوى من الفنّ والروعة والأداء ، بحيث تلحظ كل الجوانب المحيطة بالكلمة ، وبالموقف ، وبالإنسان ، في الامتداد الرحب للحياة ، من دون أن يتغلب جانب على آخر ، بل هو التناسب والتوازن في الحركة والحرف والأسلوب ، والروح المتدفق بالحياة ، المناسب بالسحر والروعة والقوة والجلال.

وذلك هو سر القرآن الخالد في كلماته وآياته ، التي تضج بالحركة ، فتحس ، وأنت تقرأه ، بالتجدد يملأ روحك وقلبك وضميرك ، ويحرك حياتك لتسمو ، وترقّ ، وتصفو ، وتتعمق ، وتنساب ، في عمق الفكرة ، وإشراق الإيحاء ، وسماحة الأسلوب.

وذلك هو سر الكلمة التي لا تموت ، لأنها انطلقت من الحياة الكبيرة الممتدة ، لتمنح الأرض والإنسان سرّ الحياة التي تتجدد ، ولتشير إلى الدرب الذي يتخذ من الموت جسرا تسير عليه الحياة إلى العالم السر مدي الذي يخجل الموت أن يمر على وهمه في خفة الضلال ، لأن الموت يختبئ حيث تعيش الأشباح السوداء في عتمة الحياة ، أو حيث يتجمد الصقيع في وحشة الضباب

١٧٦

وبرودته ، فلا يقترب من الصّحو الذي يتوهّج فيه النور ، كمثل الحلم الوردي السابح في بحيرات الصفاء ، في وداعة الروح ، حيث تنطلق الرؤية في وضوح تخجل أمامه كل نوازع الشكوك. وذلك هو السر الذي يطوف بالكلمات ، فتمتد في أعماق الروح حبا ، وروحانية ، وفكرا ، وحياة.

ولسنا ، هنا ، في معرض التحليل الفني للإعجاز البياني في القرآن ، فلذلك مجاله الواسع في علوم البلاغة والأدب ، ولكننا ، هنا ، من أجل أن نؤكّد حقيقة قرآنية ملموسة ، وهي أن أيّ تحليل أو تصوير للقرآن في معانيه وأسراره ، أو أي بحث للأسرار البلاغية الكامنة في كلماته وآياته ، لن تستطيع أن تجسد الحالة الروحية والشعورية والفكرية التي تغمر الإنسان وهو يقرأ القرآن أو يستمع إليه ، لأن القضية ليست قضية المقاييس الفنية للجمال الأدبي ، بل هي الروح الغامضة الرائعة المنسابة في الحروف والكلمات والمعاني والأسلوب ، فإنك تشعر بها ، وهي تتصاعد في مشاعرك وأفكارك وآفاقك في عالم من السموّ الإلهي الذي لا يدرك الإنسان مداه.

* * *

معاني القرآن أكبر من اللغة وقواميسها

ولعل القيمة ، كل القيمة ، أن تقرأ القرآن أو تستمع إليه ، لا لتتجمد أمام كتب اللغة في تحديد معاني الكلمات ، أو لتطوف في آفاق كتب الأدب والبلاغة ، لتجعل لكل جملة أجواءها الجمالية ومقاييسها الفنية ، بل لتشعر بأن الوحي القرآني الذي تعيشه في داخل الكلمات ، وفي ما بينها ، وأمامها وخلفها ، هو الشيء الذي يغمر كيانك ، ويفتح قلبك على عالم من المعاني والأضواء والألوان والمشاعر والظلال ، التي تجعلك تحس بالمعنى وهو يتسع ويتسع حتى تتلاشى الكلمة ، فلا تعود حروفا تقبع في كتب اللغة ، بل معاني

١٧٧

تنطلق في رحاب الحياة ، لتوحي للإنسان ، وقد ارتفع إلى المستوى العظيم حيث تغمره الألطاف الإلهية ، بروعة القرب إليها ، روعة نجواها الخالدة خلود الحياة في الأبد ، بالأسرار الخالدة.

* * *

ضرورة انسجام التحدي وإبداعات المجتمع

هذا ما نفهمه من طبيعة التحدي القرآني الذي أطلقه القرآن بآياته .. إنه التحدي بالكلمة التي كانت سر القيمة لدى المجتمع الذي ولدت فيه الرسالة وعاشت .. ولكي يكون التحدي تحديا ، لا بد من أن يوجّه إلى المجتمع الذي تتحرك فيه الرسالة عند ما يضع أمامها العقبات أو التحديات ، ليمنعها من الاستمرار والتقدم في الوصول إلى أهدافها الكبرى. ولا بد للتحدي ـ إلى جانب ذلك ـ من أن يكون في الإطار الذي تتجمع فيه الطاقات المبدعة للمجتمع ، لتتضاءل تلك الطاقات أمام الرسالة ، فتسير معها في فعل إيمان ، أو لتنسحب من ساحة الصراع وهي تجرّ أذيال الهزيمة ، لتكون الانطلاقة من موقع القوة في إطار الفكرة ، كما هي القوة في موقع الحياة.

وعلى ضوء ذلك ، نفهم كيف كانت معجزة موسى عليه‌السلام التي تحدّت إبداع السحرة بإعجاز السحر ، وكيف كانت معجزة عيسى عليه‌السلام التي تحدّت عظمة الطب ، بإعجاز تتضاءل أمامه كل قوانين الطب وقواعده. ومرت المسيرة ، وتراجع الفكر عن التحدي ، ليفسح في المجال للغوغاء التي لا يمكن للحياة أن تحتضن أصواتها باستمرار إلا ريثما يستسلم الإنسان ـ ولبعض لحظات ـ ليقظة الفكر ، وصفاء الوجدان ، وإشراقة الروح ، حيث تتبخّر كل السحب ، وتخفت كل الأصوات.

١٧٨

وليس معنى ذلك ، أن قصة المعجزة تتحرك في إطار المجتمع الذي تبدأ فيه الرسالة حركتها ، فلا تتجاوز إلى غيره ، لتكون المعجزة حدثا طارئا في حياة الرسول ، وفي حركة الرسالة ، فليس ذلك هو ما نحاوله ، لأننا نعتبر المعجزة ضرورة حية لتأكيد علاقة الرسالة بالله باعتبارها عملا خارقا للقوانين الطبيعية المألوفة في الحياة ، من دون أن نسيء إلى قانون السببية الذي جعله الله في الكون في علاقة الظواهر العامة بأسبابها ، لأنها لا تخرق القانون بل تتحرك في النطاق الخفي في حركته الكونية لتكون اختراقا للقانون العادي لا للقانون من حيث المبدأ ، بمعنى أنه ليس من الضروري أن تكون خرقا له ، لكن لا مانع من ذلك إذا انطلقت حكمته ـ تعالى ـ في تعلق إرادته بها بشكل مباشر.

وبذلك ، فإن المعجزة تشكل القاعدة التي تنطلق منها الرسالة ، لتؤكد شرعيتها في إخضاع الحياة لمفاهيمها وشرائعها على أساس ما تمثله من إرادة الله ، كما أنها تشكل القوة الصادمة للقوى المناوئة ، بحيث لا تسمح لاستفزازاتها بأن تشوّه وجه الدعوة ، أو تحرفها عن مسيرتها القوية ، لا سيما في بداياتها الأولى ، لئلا تبدأ بداية ضعيفة يحوطها الغموض ، وتنتابها الشبهات.

وذلك لأن خصوم الدعوة ، في بداياتها الأولى ، يمثلون القوى الطاغية الغاشمة ، التي تقف ضد امتدادها وانتشارها ، وتمنع الآخرين من الدخول في عملية حوار مع الدعوة حول القضايا التي تطرحها والمفاهيم التي تحملها ، الأمر الذي قد يفسح في المجال للأوهام والأضاليل والشبهات ، بالانتشار ، لتؤخر مسيرتها وتشوّه صورتها ، كما نلاحظ ذلك في الأساليب التي كان يتبعها فرعون ضد موسى عليه‌السلام بالتهوين من شأنه ، والحط من قدره ، لتشويه صورة الرسالة التي يدعو إليها ، والوقوف أمام كل تحرك عملي يحاوله موسى عليه‌السلام في سبيل الوصول إلى أفكار الناس وقناعاتهم.

وهذا ما استطاع موسى عليه‌السلام أن يحطمه بمعجزة العصا التي

١٧٩

(تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧] ، فكانت صدمة عنيفة قوية هزت كيان السحرة حتى خرّوا ساجدين من دون انتظار لأي شيء ، مما خيل لفرعون ، أو هكذا حاول أن يوحي لقومه ، بأنها مؤامرة بين موسى عليه‌السلام وبينهم باعتبار أنه كبيرهم الذي علمهم السحر. وهذا ما فعله كل الأنبياء الذين جاؤوا بالمعجزات لتحطيم الحواجز الضخمة التي أقامها خصومهم أمام الرسالات ، وانطلقوا ـ بعد ذلك ـ لمواجهة الصراع من موقع القوة التي هزمت أعداءها في الداخل ، وإن ظلوا متماسكين في ظاهر الأمور.

* * *

القرآن والجوانب الإعجازية غير البلاغية

هل هناك جوانب أخرى للإعجاز في التحدي القرآني؟

قد يجد الكثيرون من المفسرين أن الإعجاز القرآني لا يقتصر على الجانب البياني ؛ فيذكرون معه الإعجاز العملي ، لاشتمال القرآن على الإشارة إلى بعض القضايا العلمية التي لم يكتشفها الإنسان إلا بعد وقت طويل ، أو التي كانت معروفة لدى اليونانيين وغيرهم من دون أن تكون هناك أية وسيلة معقولة لوصولها إلى النبي محمد صلّ الله عليه وآله وسلّم ، أو إلى المجتمع الذي عاش فيه ، فقد كان المجتمع مجتمعا جاهليا يفقد الاهتمامات التي تدفعه إلى البحث والتعمق والسفر من أجل المعرفة الشاملة ، بل كانت ثقافته واهتماماته تدور حول ما يشارك فيه الناس من قضايا الشعر والنثر المحدودة الأفق ، الضيقة المعاني ، في امتداد الفكر وسعته ، ولم تكن للنبي محمد صلّ الله عليه وآله وسلّم ثقافة ذاتية يتميز بها عن ثقافة قومه ، لأنه لا يملك الوسائل الكفيلة بانفتاحه على هذه الثقافة من قراءة أو كتابة أو ممارسة دائبة لأصحاب الفكر والمعرفة في نواديهم ومجتمعاتهم.

١٨٠