تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

فليس لها مدلول معيّن ومضمون واضح. ومن هنا ، يبدأ التساؤل الداخلي الذي يهيّئ النفس لانتظار ما بعدها لتستوضح معناها من خلال ذلك. وتتحقّق الغاية من ذلك في سماعهم لآيات الله.

ونحن لا نمانع في معقولية هذا الرأي وانسجامه مع الأجواء العدائية التي كان المشركون يثيرونها أمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا حدّثنا القرآن الكريم عنه في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦].

ولكن ذلك كان موقف المشركين في مكة ، بينما يغلب على السور التي اشتملت على هذه الكلمات الطابع المدني في نزولها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي المدينة لم تكن هذه الأجواء مثارة ، لأن المشكلة لم تكن مطروحة هناك ، فلا يصلح هذا الرأي لتفسير هذه المفردات.

الرأي الثالث : ما ذهب إليه العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان حيث قال : إنّ بين هذه الحروف المقطّعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا ، ويؤيد ذلك ما نجد أنّ سورة الأعراف المصدرة ب (المص) في مضمونها ، كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص. وكذا سورة الرعد المصدّرة ب (المر) في مضمونها ، كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات. ويستفاد من ذلك أنّ هذه الحروف رموز بين الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خفيت عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها ، إلّا بمقدار أن نستشعر أنّ بينها وبين المضامين المودعة في السورة ارتباطا خاصا (١).

ونلاحظ على ذلك ، أن هذا الرأي لا يملك أيّ وضوح للمضمون الذاتي لهذه الحروف ، لأن الارتباط الذي يتحدث عنه لا دليل عليه إلا بالاستشعار الذي لا يوحي بأيّة فكرة معيّنة ، وقد نتساءل : ما هي الحكمة في تنزّل رموز خفيّة بين الله ورسوله ، لا يملك الناس أن يفهموها ، ولا يعمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٨ ـ ٩.

١٠١

أن يشرحها لهم ، في الوقت الذي كان القرآن فيه منزّلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الناس لأنه ذكر له ولقومه وللعالمين.

الرأي الرابع : إن الله سبحانه وتعالى تحدى الناس بالقرآن ، وبالغ في التحدي بطرق متنوّعة ، فأراد أن يبيّن لهم أن هذا القرآن الذي أعجزهم الإتيان بسورة من مثله ، لم يكن مؤلفا من حروف يجهلونها ، لأن المادة الخام التي صنع منها القرآن موجودة بين أيديهم ، وهي هذه الحروف المتنوعة المعلومة لديهم : فإذا كانت عندهم القدرة على صنع مثل هذا القرآن ، فهذه هي المواد الخام جاهزة عندهم ، ولعلّ هذا من أبلغ أنواع التحدّي ، تماما كما تواجه إنسانا واقفا أمام مبني ذي شكل هندسي متقن ، فتقول له : هل تستطيع أن تبني مثل هذا؟ ثم تعقب على ذلك بأن المواد جاهزة إذا كنت تملك الفكر الهندسي والممارسة الفنية. إنه سيقف عاجزا من موقع عظمة هذه الهندسة وجهله بأصولها الفنية.

وقد يكون هذا التفسير أقرب التفاسير إلى الفهم ، وينسب إلى الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت عليه‌السلام الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، برغم أنه لم تثبت صحة نسبته إليه لعدم وثاقة رواته ، ولكن من الممكن أن ينسجم مع طبيعة الموقع الذي وردت فيه هذه الكلمات في القرآن الكريم ، ففي هذه السورة عند ما تلتقي بكلمة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) فربما تفهم منها أن هذا الكتاب الكامل في كل شيء ، مصنوع ومؤلف من هذه الحروف ، فإذا كنتم ترون في أنفسكم القدرة على مجاراته ، فهذه الحروف أمامكم ، فاصنعوا منها ولو سورة ممّا تشاؤون.

وقد يتأمّل المتأمل في هذا الرأي ، فلا يجد في بعض المواضع القرآنية ما ينسجم معه ، أو لا يلمح مثل هذا التوجيه في ما قدمناه من تفسير ، ولكن المهم أن التفسير يتحرّك في مثل هذه الأجواء ؛ فإن استطعنا أن نقرّبها إلى

١٠٢

أذواقنا ، وإلا فحسبنا أن نرجع علمها إلى الله والراسخين في العلم ، فتكون مما استأثر الله بحقيقة علمه ، ضاربين صفحا عما يخوض فيه المفسرون من متاهات الاحتمالات التي لا تستند إلى أساس صحيح.

* * *

ذلك الكتاب لا ريب فيه

(ذلِكَ الْكِتابُ) ربما يخطر في الذهن أن من المناسب أن تستبدل بكلمة « ذلك » كلمة « هذا » ، لأن اسم الإشارة عند ما يكون للقريب يعبّر عنه به « هذا » ، أمّا كلمة « ذلك » فهي للبعيد ، والمفروض أن الكتاب قريب إلى قارئيه وسامعيه ؛ ولكنّ اللغة العربية تتّسع للتّنزيل ، فيمكن فيها تنزيل القريب منزلة البعيد لمناسبة تقتضي ذلك لعلوّ مكانة هذا الشيء ، أو بعدها ، وإن كان قريب المكان ، تنزيلا للمكانة البعيدة عن متناول الأفكار في الوصول إليها منزلة بعد المكان.

واستعملت الألف واللام في « الكتاب » للتدليل على النوع ، فذلك الكتاب يعني الكامل ، تماما كما تقول « ذلك الرجل » أو « ذلك البطل » وتريد الكامل في الرجولة أو البطولة ؛ فكأنّ النوع مجسّد فيه ، لاجتماع كل خصائص الكمال المتفرقة في الأفراد في هذا الفرد ؛ فهو يمثّل النوع بكل صفاته وخصائصه. وعلى هذا الأساس ، فالمراد ب (ذلِكَ الْكِتابُ) ، الكامل في هدايته ، الجامع لجميع الخصائص التي تجعل منه قيمة عظيمة هادية للناس في كل مجالات العصر.

(لا رَيْبَ فِيهِ) أي : أنه الكتاب الذي لا يحمل في آياته وفي مفاهيمه أي عنصر من العناصر التي توحي بالرّيب أو تقود إليه ، فلا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه إذا دقق في الخصائص الموجودة فيه ، وفي المعاني الأصلية الواضحة التي

١٠٣

إذا تأمّلها الإنسان ، وأمعن النظر فيها ، ووعاها وعيا صحيحا ، لما ارتاب فيها ، ولانكشفت أمامه كل أجواء الرّيب والشكّ والشبهة.

من هنا ، فليس معناه أنه لم يرتب فيه أحد ، لأن كثيرا من الناس أثاروا حوله جوّا من الريبة والشك ؛ فقد قالوا عنه إنه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، وقالوا عنه أشياء أخرى ، إمّا لغفلتهم عن طبيعته الواضحة باستغراقهم في أجواء الإثارة ، وإما لخضوعهم لأساليب التضليل المتنوّعة التي تنحرف بالفكر عن وجه الحق.

* * *

القرآن كتاب هداية

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) هذه هي الصفة الثالثة من صفات الكتاب الكامل في كل شيء الذي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ، فهو (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). إنّه كتاب هداية ، وهذا هو دوره الأصيل ، وليس دوره أن يكون كتابا يتحدّث عن المخترعات أو عن أي شيء آخر مما ينسب إليه ، إنما هو كتاب هدى للإنسان ليوجّهه إلى الطريق الصحيح والصراط المستقيم .. ولا مانع من أن يلتفت القرآن إلى بعض الأسرار الكونية ، والظواهر الطبيعية ، إذا دعت إليها المعالجة القرآنية لبعض المواضيع ، ولكنها لا تأتي على أساس مستقلّ دائما ، بل تكتفي بالتركيز على عنصر الهداية في وسائلها وأهدافها. فليس القرآن كتابا علميا يجمع علوم الكيمياء والفيزياء وعلوم الحيوان والنبات وغير ذلك ، بل هو كتاب إرشاد وتوجيه وهداية للإنسان ، ليعرف كيف يسير ويصارع وينظّم حياته في كل المجالات.

إنّه يحدّد للإنسان الفكرة في صفاء ونقاء ، ويربطه ، من خلال ذلك ،

١٠٤

بالمسيرة الإسلامية من بدايتها إلى نهايتها ، ويخطّط له مسيرته وحياته من خلال الأحكام الشرعية التي تعرّفه كيف يتحرّك ، من موقع المسؤولية ، في هدوء واطمئنان ، حركة تعرف نفسها جيدا ، لأنها تعيش الوضوح في الرؤية ، والانسجام مع الهدف.

ولعل القيمة الكبيرة للهدى القرآني هي أنه لا يتجمّد عند حدود الذات ليملأها بالإشراق والصفاء ، وتقف الهداية في الداخل فلا تتجاوزه إلى خارج نطاق الذات في حياة الآخرين ، بل هو الهدى الممتدّ من القلب إلى الحياة ، كمثل الينبوع المتدفّق الذي ينطلق ويتفجّر ليفيض ويتدفق على الأرض الرحبة الفسيحة ليمنحها الخصب والحياة.

* * *

الطابع الفريد للهدى القرآني

أمّا طابع الهدى القرآني فهو فريد من نوعه ، لأنه لا يقف في منطقة الفكر ليشير إلى العقل أن يتفلسف ويحلّل ، ويبدع الفكر من موقع الفلسفة والتحليل ، ولكنه يتحرّك في أبعاد النفس الإنسانية ليثير فيها الفكر الممزوج بالعاطفة ، والعقل المتحرّك بالوجدان ، والروحية المتّصلة بالواقعية ، فليس هناك جفاف فكري تشعر معه بأنك تعيش ضمن قوالب جاهزة جامدة تقدم إليك من خارج ذلتك ، بل هناك الحيويّة النابضة بالروح التي تنساب في مشاعرك وعواطفك وفكرك ووجدانك ، فتشعر معها بأنك تمارس فكرك من موقع النور المتفجّر من أعماقك في رحاب الله ، ممّا يجعل من قضية الفكر شيئا يشبه العبادة ويصنع الحياة.

* * *

١٠٥

المتقون هم المنفتحون على الحق

أما « المتّقون » ، فهم أولئك الذين انفتحت عقولهم على فكر الحقّ من خلال التأمل والمعاناة الوجدانية ، حتى عاش في وجدانهم قناعة واطمئنانا ، واندمجت أرواحهم في لقاء الله ، حتى شعروا بحضوره معهم في يقظتهم ومنامهم ، فلا يواجهون شيئا في الحياة إلا ويواجهون الله معه ، باعتبار أن الأشياء تفقد استقلالها وذاتيتها في داخلهم ، لأنها المظهر الحي لوجود الله وقدرته وحكمته ورحمته. وهم الذين تحركت حياتهم في الصراط المستقيم حتى لتحسّ بخطواتهم تتنقل في ثبات واتزان ، كأنها تعيش وعي الطريق في كل أبعاده واتجاهاته ، فلا تغيب عنها أية انعطافة من منعطفات الطريق التي تدعو للانحراف ، بل هي الاستقامة الباحثة أبدا عن النور في طريق الله.

* * *

هل القرآن هدى للمتقين فقط؟

وهنا يواجهنا سؤال مثير ، كيف يكون القرآن هدى للمتقين ولا يكون هدى لكل الناس؟ وهل يحتاج المتقون الذين يعيشون الهدى في كيانهم إلى هداية ليكون القرآن هاديا لهم؟

والجواب : هو أن المتّقين هم الذين يشعرون بمسؤوليتهم الفكرية والاجتماعية تجاه العقيدة والحياة ، فهم الذين يعيشون تقوى الفكر التي توحي بالتأمّل والتفكير العميق ، فيطلبون الهداية من موقع المواجهة الحادة للمشاكل الصعبة التي تعترضهم في قضايا الصراع ، فيقفون أمامها موقف الجادّ الذي لا يعيش حالة اللامبالاة والاسترخاء الفكري ، بل يحاول أن يدخل عملية الصدام

١٠٦

الفكري ليفكّر في ما يعرض عليه ليناقشه ، فإمّا أن يقتنع به وإمّا أن يرفضه على أساس من الوعي ، ثم إن المتّقين هم الذين يخافون الله ويحبونه بإخلاص وإيمان ، فيشعرون من خلال ذلك بالمسؤولية التي تتحول إلى مراقبة ومحاسبة في الفكر والعمل ، فيندفعون في عملية ملاحقة للأسس التي يرتكز عليها الهدى من أجل أن تكون موضع تفكير ومناقشة.

أما الآخرون من غير المتّقين ، فهم الذين لا يشعرون بالمسؤولية تجاه أنفسهم ، وتجاه ربهم ، بل وتجاه الحياة كلها. إنهم يواجهون الحياة مواجهة اللامبالاة والهروب من كل شيء يتعب الفكر والوجدان ، فلا يحاولون أن يهتدوا ، ولا يريدون أن يفكروا بالهدى ، فلا يمكن للكتاب أن يكون هدى لهم ، لأن الهدى لا بد له من عقل مفتوح ووجدان سليم ، ولكنه يظل يطرق أسماعهم منتظرا حالة الوعي الجديدة التي تربطهم بالإرادة الواعية ليهديهم من موقع إرادتهم للهداية ، في آفاق الله الرحبة الممتدة بالإيمان.

* * *

١٠٧

الآيات

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)

* * *

معاني المفردات

(يُؤْمِنُونَ) : الإيمان : الإذعان للحق على سبيل التصديق.

(بِالْغَيْبِ) : هو ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول ، وهو مقابل الشهود الذي يمثل عالم الحسّ.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : يؤدّونها بحدودها وفرائضها وتوفية شروطها ، من القيام للشيء ، وهو مراعاته وحفظه.

(رَزَقْناهُمْ) : الرزق : هو العطاء الجاري ، وهو نقيض الحرمان.

(يُنْفِقُونَ) : أي : يخرجون أموالهم ويبذلونها لغيرهم ممن يحتاج إليها ، من نفق الشيء إذا خرج ومضى ، يقال : نفقت الدابة : إذا خرج روحها.

١٠٨

(يُوقِنُونَ) : اليقين : هو سكون الفهم مع ثبات الحكم ، وسمّي العلم يقينا لحصول القطع عليه وسكون النفس إليه ، فكل يقين علم وليس كل علم يقينا ، وكأن اليقين علم يحصل بعد الاستدلال والنظر لغموض المعلوم المنظور إليه ، أو لإشكال ذلك على الناظر ، ولهذا لا يقال في صفات الله موقن لأن الأشياء كلها في الجلاء عنده على السواء.

(الْمُفْلِحُونَ) : الفلاح : هو النجاح ، وهو الظفر بالحاجة وإدراك البغية ، وأصله من الفلح ، وهو القطع ، ومنه : قيل للفلّاح : الحرّاث لأنه يشق الأرض ، وفي المثل : الحديد بالحديد يفلح ، أي : يشق. فالمفلح على هذا كأنه قطع له بالخير.

* * *

المعرفة بين اتجاهات العقل والحسن

إننا نواجه في هذه الآيات تحديدا لصفات المتقين في إيمانهم وسلوكهم ضمن إطار يحدّد أصول العقيدة ، ويشتمل على الجوانب الأساسية من حركة العقيدة في الحياة. وهنا ، نحاول استحياء هذه الصفات من حيث طبيعتها ومدلولها ودورها في حياتنا الروحية والعملية.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الإيمان بالغيب صفة أساسية من صفات المتقين. وللكلمة مجالات متنوّعة تتحرك فيها ، فما هو المراد من الإيمان بالغيب؟

الإيمان بالغيب هو الإيمان بالأشياء التي لا يصل إليها الحس بشكل مباشر ، ومنها الإيمان بالله ، فالإنسان يؤمن بالله من خلال آثاره ، ومن خلال مخلوقاته في ما تدل عليه من عظمة الخلق ، على الرغم من أنه لا يمسّ ولا

١٠٩

يرى ، لأن الوجدان يفرض ذلك كحقيقة حاسمة ترتكز على الأسس العلميّة والعقليّة ؛ وبذلك تتحول التقوى الفكرية إلى حركة في داخل الذات ، تثير فيها اليقين وتقودها نحو الإيمان. أما غير المتقين ، فلا يؤمنون إلا بالحسّ والتجربة من دون أن ينفذوا إلى ما وراءهما من قواعد وركائز ؛ فالقيمة الفكرية في القضايا عندهم هي في خضوعها للملاحظة الحسيّة بعيدا عن كل مضمون عقلي أو فكر سابق ، لأن الإيمان بالحسّ ـ كما يقول البعض ـ يحمل للإنسان المقاييس الطبيعية ، التي يمكنه من خلالها أن يعرف الحق والباطل ، إذ من الممكن أن يدرك الإنسان نتائج التجربة في حالتي النجاح والفشل ، فإذا نجحت انطلقت الحياة معه في عملية تكرار يكتشف أبعاد النجاح ، وإذا فشلت فإنّها تقف عند حدود التجربة في مراحلها المحدودة ، فلا تتكرر ؛ لأن الخطأ لا يغري بمعاودة التجربة من جديد.

أمّا الأفكار العقلية ـ حسب هذا الرأي ـ فلا يمكن للإنسان أن يلمس بوجدانه مدى الحق والباطل فيها بطريقة حسيّة ، لأنه لا يملك الميزان في ذلك ، لأنها ليست من الأشياء المرئية التي تخضع للملاحظة والتأمّل ليرتكز الإيمان من خلالها على قاعدة متينة. وربما كانت هذه الشبهة من أقوى الشبهات التي أثارها الحسّيون في مقابل العقليّين الذين يقولون بأن هناك أساسا للمعرفة غير الحس.

ولكننا نلاحظ على هذه الشبهة ـ في مجال الجواب ـ أنها لا تصمد أمام النقد لأسباب ، منها :

أولا : إنّ هذا الدليل الذي أقاموه على خطأ الرجوع إلى العقل ، هو دليل عقلي خاضع للملاحظة والتأمّل التجريديّين في البداية ، لأنهم يقولون : لو لم نعتمد على الحسّ والتجربة أساسا للمعرفة ، لما كان لدينا مقياس دقيق للحق والباطل ، وهذا مما يوحي لنا بطرح سؤال محدد : هل معاني هذه الفكرة من

١١٠

المعاني المحسوسة التي تخضع للتجربة؟! فإن لم تكن كذلك ، كانت النتيجة محاولة لإبطال الدليل العقلي بالدليل العقلي. وفي هذا تأكيد وتأييد للفكرة التي تؤمن بوجود دليل غير التجربة كأساس للإيمان والقناعة الفكرية والوجدانية.

ثانيا : إن الحسّ والتجربة لا يصلحان أساسا للمعرفة بشكل عام من دون ضمّ المقدّمات العقلية ، لأن التجربة محدودة بزمان ومكان معينين ، فلا تنتج إلا النتائج المحدودة بحجم التجربة ، أمّا في الإطار العام الذي يمتد خارج نطاقها في تجارب أخرى لم تحدث ، فلا مجال لاستكشاف أيّ شيء منها. فإذا أجرينا تجربة معينة وأدّت إلى نتيجة معينة ، ثم عاودنا التجربة مع نتيجة مماثلة وهكذا إلى ما شاء الله ، فإن المنطق الحسّي لا يسمح ـ من ناحية ذاتية ـ بأي حكم مماثل في ما يستحدث من تجارب ، لأنها لم تخضع للملاحظة بشكل مباشر. كما أننا إذا طرحنا القضية في حالة اختلاف التجربة الثانية عن التجربة الأولى ، فإننا لا نستطيع اكتشاف الخطأ من خلال ذلك ، لأن لكل منهما ، مثلا ، ظروفا محدّدة تجعل أية واحدة منهما خاضعة للحظة الزمنية التي عاشت فيها ؛ إذا ليس لأي من نماذج التجربة سعة تتجاوز نطاقها.

ولكن المنطق العقلي هو الذي يمدّ التجربة إلى المجال الواسع الذي يتجاوز الظروف الطارئة من الزمان والمكان. ولنضرب لذلك مثلا : لو واجهنا قانونا علميا مثل « الحركة تولّد الحرارة » من خلال مليون تجربة لحالة الحركة ، فلا نستطيع الإقرار بالقانون العلمي بصفته الشاملة الممتدة إلا على أساس أحكام عقلية مجرّدة مثل حكم العقل « بأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد » ؛ والذي يعني أن الأشياء المتماثلة في الخصائص وفي الظروف تكون مماثلة في النتائج ، ومثل حكم العقل « بأن الواحد لا يصدر عن متعدد » أو « أن الواحد لا يصدر إلا عن واحد » ، وقاعدة « أن الشيء لا يصدق في حالة صدق نقيضه » ... فلو لا ضمّ هذه القواعد العقلية المسلم بها ، لما استطعنا أن

١١١

نمدّ التجربة إلى أكثر من مجالها ؛ فإن القاعدة الأولى تتكفّل باعتبار الحالات التي لم تقع تحت التجربة ، مماثلة في النتائج لمثيلاتها ممّا وقع تحت التجربة ، وتنطلق القاعدة الثانية لتخضع النتيجة الواحدة للمليون حركة لعلة واحدة ، وهي طبيعة الحركة بعيدا عن الخصائص الذاتية لكل واحدة منها ، لأنه لا يمكن أن تصدر الحرارة الواحدة مثلا عن مليون سبب. وتأتي القاعدة الثالثة لتمنع افتراض الخطأ في موقع افتراض الصواب ، لأنّ ذلك يؤدي إلى اجتماع النقيضين المستحيل.

في ضوء ما تقدم ، نعرف أن المبادئ العقلية هي التي استطاعت أن تربطنا بالأفكار والقوانين العامّة من خلال التجارب المحدودة ؛ ولولاها لما استطاعت التجارب المحسوسة أن تمنح الإنسان الغنى العلمي والفكري ، سواء في القوانين العلمية العامة ، أو في المبادئ العامة للحياة.

وربما نحتاج إلى أن نلفت النظر إلى القاعدة الثالثة ، كنموذج حاسم من نماذج المسلمات العقلية البديهية التي تعتبر مقياسا لمعرفة الحق والباطل في شتى ألوان المعرفة ؛ فإن الوجود والعدم لا يمكن أن يجتمعا في إطار واحد في زمان واحد ومن جهة واحدة ، فهذه الفكرة من الأفكار العقلية القطعية التي لا مجال للشك فيها ، كما لا يمكن لأية معرفة أن تستغني عنها ، لأن أية وسيلة من وسائل المعرفة لا تملك أية قيمة لنتائجها إذا كان احتمال صدق نقيض النتيجة واردا في حساب الواقع ، لأنّ القضية عندها ستواجه إمكانية الصدق والكذب في وقت واحد. فلو لا هذه القاعدة العقلية التي لا تستند إلى أي أساس تجريبي محسوس ، لما أمكن قيام أو إثبات أية معرفة من المعارف.

وخلاصة الحديث ، في ما قدمناه ، أن التجربة ليست هي المقياس الوحيد لمعرفة الحق والباطل لتتجمّد المعرفة عند المحسوس ، بل هناك العقل

١١٢

الذي يربط الإنسان بالقاعدة الصلبة لمعرفة ، سواء في الأفكار التجريدية أو في الأفكار التجريبية.

* * *

الإيمان بالغيب

ومن هذا الاتجاه ، نتحرك في الاستدلال على سلامة الفكرة الدينية التي تعتقد بوجود أشياء غير منظورة من القوى والعوالم والأشياء ، كنتيجة لوجود أسس موضوعية في عالم الواقع ، للاستدلال على هذه الأشياء ، بمعونة الأدلة العقلية الثابتة ؛ كما في الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى ، فإن كل ما حولنا يدل على وجوده وإن لم تدركه أبصارنا ، ولم تلمسه حواسنا ، انطلاقا من القاعدة العقلية التي تقرّر أن كل ممكن لا بد له من علة موجدة لا تخضع لعلة أخرى ، وقد نستطيع إدراك ذلك ببعض وسائل الإيضاح ، فنلاحظ أننا نؤمن بأشياء غير محسوسة لنا في نطاق الكون ، مما لم يتيسر لنا رؤيته من خلال وسائل القناعة التي نملكها في حياتنا العملية ، مما يعني أن المبدأ الذي يقرر واقعية الإيمان بغير المحسوس صحيح وواقع .. أمّا إمكانية الرؤية في ما يستقبل وعدم إمكانيتها فلا يغيّران من الموضوع شيئا. والإيمان بالغيب هو امتداد للتفكير القائل بأن الحسّ والتجربة ليسا كل شيء في المعرفة بل هناك العقل الذي يسير إلى جانب الحس ليمدّنا بالمعرفة ، من خلال الحس أو العقل.

* * *

١١٣

هل الدين غيب كله؟

لا بد لنا من أن نتوقف في هذا المجال عند نقطة مهمة جدا ، وهي أن الدين عند ما يركّز على الإيمان بالغيب ، فهل يعني هذا أن الدين قائم على الإيمان بالغيب فقط ، وليس هناك إلا الغيب في مضمون الإيمان ، وفي تقويم الأشخاص ، وفي تعليل الأحداث والظواهر الكونية والاجتماعية ، كما يحلو للبعض أن يقولوا أو يعتقدوا أو يفسروا ، فيخضعوا الظواهر الطبيعية كلها أو أكثرها لتفسيرات غيبية ، لا يصل إليها فكر الإنسان ، مما جعل العقل البشري ، في بعض مراحله ، يبحث عن أسباب الظواهر الطبيعية وعللها ، كالصحة والمرض والهزيمة والنصر ، وعن خلفيات المشاكل الاقتصادية أو السياسية ، خارج الواقع العملي للأشياء ، مكتفيا بإرجاع ذلك إلى عوامل غيبية ، أو إلى الله ، من دون أن يبحث عن القوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون ، ليقوم عليها نظامه ونظام الحياة في نطاق مبدأ السببية الطبيعية في الأشياء؟

لقد وقع في هذه الشبهة بعض المؤمنين الساذجين ، فوقفوا موقف المنكر لكثير من نتائج العلم لاصطدامها بالذهنية الغيبية التي لا تألف مثل هذه النتائج ، والبعض منهم تطرّف في موقفه لدرجة تكفير الإنسان الذي يؤمن بوجود قوانين طبيعية تحتكم إليها الظواهر الطبيعية والكونية ، لأنهم يحسبون الفارق بين الإيمان والكفر هو الاعتقاد بغيبية الأسباب في جانب الإيمان ، وبواقعيتها أو ماديتها في جانب الكفر.

وقد نشأت في هذا الجو ـ ولفترات ـ فكرة تركيز الوعظ على الجانب الغيبي في كل مجالات الحياة ، من دون توضيح للقوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون ، مما أدى إلى ربط كل الظواهر الطبيعية بالله بشكل مباشر ،

١١٤

وربما كان هذا أحد الأسباب التي أقعدت الإنسان المسلم في العصور الماضية عن التقدم في اتجاه فهم الكون من خلال فهم القوانين المتحكّمة في مسيرته ، وساهمت في تكوين الشخصية الغيبية ، ذات العقل الغيبي والمشاعر الغيبية ، التي تبحث في الماضي والحاضر عن خطوات الغيب ، وتواجه المستقبل بتطلعات غيبية ، تفسح في المجال للكهان والمتنبئين للّعب بعواطف الناس ومشاعرهم من خلال عمليات « فتح الفال » وغيرها. حتى أننا رأينا الكثيرين من السياسيين وغيرهم ممن يهمهم أمر معرفة مستقبلهم السياسي والعاطفي ، يتجهون إلى العجائز أو الفلكيين الذين يدّعون معرفة الغيب ويتاجرون بها ليعرفوا منهم تطورات المستقبل.

إننا لا نؤمن بحركة الإيمان بالغيب في مثل هذه المساحة الواسعة من حياة الناس العامة والخاصة ، بل نؤمن بالغيب الذي يربطنا بالله في مجال محدود ، ولذا نرى الإسلام يشنّ حملة شديدة على الكهان والكهانة والتنجيم والمنجمين لإبعاد العقلية الغيبية عن واقع الفكر والحياة ، ولإبقاء الإيمان بالغيب في منطقة العقيدة عالما يعيش في داخل الذات ، ليطوف بالإنسان في بعض مجالات حياته ، بعيدا عن الاستغراق في المادة العمياء ، التي لا تفتح عينيها على الآفاق الواسعة المنطلقة أبدا مع الله ، لكيلا يتجمد الإنسان عند حدود الأمل الضيق الذي تسمح به ظروفه الخاصة المحدودة.

إننا قد نؤمن بالغيب بشكل جريء في كثير من الحالات التي لا نفهمها ، أو ربما نتمرد ـ في وعينا ـ على بعض القوانين الطبيعية التي قد يكون لها جانب غيبي ، لأننا نعتقد بأن الحياة لا تخضع دائما للتفسيرات المادية ، فقد تحدث في حياة كل منا أشياء غيبية في عالم الرزق أو الصحة أو غير ذلك ، فيشفى بعض المرضى نتيجة التوسل لله ، بنبيّ أو وليّ ، أو بسبب دعاء أو عمل عبادي ، في جو نفسي معين قد لا ينسجم مع التفسير النفسي العملي.

١١٥

إننا لا ننكر وجود جانب روحي يرعى الإنسان ويتدخل في حياته ، ولكن المبدأ الأساس في الحياة من وجهة نظر إسلامية ، هو أن الحياة تخضع في جميع أسرارها ومظاهرها ، سواء كانت سياسية ، أو اجتماعية ، أو اقتصادية ، لقوانين طبيعية أودعها الله في الكون ، وهذا ما نجده في القرآن في أكثر من آية ، في حديث الله عن سننه في الكون : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) [الأحزاب : ٣٨] ، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) [فاطر: ٤٣].

ولذلك ، فإن إيماننا بالغيب ، لا يمنعنا من الوقوف أمام كل ظاهرة كونية أو حياتية لنفهم أسبابها وأسرارها ، بل الملحوظ أن القرآن يدعونا في كل آيات التفكر والتدبر ، للنظر في الكون ، وفي التاريخ ، لنعرف أسبابها وأسرارها ، ولنكتشف من خلالها عظمة الله تعالى. وبذلك يحتضن الفكر الإسلامي كل علوم الحياة والإنسان ، التي تحاول البحث عن القواعد العلمية التي تحكم الكون والسلوك والتفكير في ضمن كيان متكامل متوازن ، ويتجه إلى الواقع ليفسره تفسيرا ينسجم مع الدور الكبير الذي أعد الله له الإنسان في الحياة.

* * *

تجليات العقيدة في الممارسة الإنسانية

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) لقد تحدث القرآن عن الإيمان بالغيب الذي يتمثل ب « الإيمان بالله » ، ثم ربطه بالجانب العملي ليفهم منه أن الإيمان الذي يراد في الإسلام ليس هو الإيمان النظري الذي يعيش في فكر الإنسان من خلال المعادلات العقلية المجردة ، بل هو الذي يعيش في النفس لينطلق في مجال الحياة العملية ، ولهذا كانت الشخصية الإسلامية الإيمانية مرتكزة على الجانب

١١٦

الفكري في العقيدة والجانب العملي في الممارسة.

وقد طرح القرآن للجانب العملي نموذجين :

أحدهما : يمثل تعبيرا للإنسان عن جانب ممارسته العقدية في حركات تعبيرية ، تتجسد فيها معاناته الداخلية للإيمان ، وتنسجم فيها روحه مع تطلعاتها وإحساسها الحي بارتباطها العميق بالله ، وذلك لحاجة التكامل الإيماني لديه إلى الممارسة العملية ، والتعبير المتجسد الذي تنساب فيه الإيحاءات الخفية في النفس ، من خلال الكلمة والحركة والموقف والشعور ، مما يفسح في المجال للنفس لتواجه الموقف الإيماني من عمق الإحساس الذاتي بالفكرة ، لا من خلال الإيحاء والتوجيه الخارجي.

إنه موقف العطاء الذي يتفجر كالينبوع من النفس ، لا موقف التلقي والأخذ من عطاء الآخرين ، وهذا هو ما تعبر عنه الصلاة في روحيتها المنسابة مع كل كلمة من كلماتها ، أو حركة من حركاتها ، ليتحسس الإنسان معها العلاقة بالله ، كما لو كانت شيئا يتجسد ويحس ويتحول إلى فعل محبة وعبادة وصداقة ، واستغراق للروح في وعي القيم الكبيرة المنطلقة من خلال الله ، واستشعار لمسؤولياته عن المعاني الكبيرة في الحياة ، من خلال الموقف الحق الذي يقفه بين يدي الله في استعادته لعملية الإيمان ، وليعيش القوة ، أمام نوازع الضعف ، وتحديات القوى ، لئلا يبقى بعيدا عن مصدر القوة التي تسنده ، وتدعم وجوده وموقفه ، وترعاه في كل مجالاته ، فيستطيع أن يحقق التماسك والانضباط بين يدي الله.

ثانيهما : ما يؤكده قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) من تكامل بين علاقة الإنسان بالله وعلاقته بالحياة.

فهذه الآية تؤكد بأن على الإنسان أن يعيش العطاء ، فيعطي مما رزقه الله ، لأن كل ما في الكون هو لله تعالى ، وكلّ ما يقع تحت يديه هو لله تعالى ،

١١٧

لأنه إنما كان له بقدرته تعالى ، وبما هيّأ له من الأسباب والوسائل ، ورفع من طريقه العقبات والموانع ، ولذا عليه أن يشعر بأن العطاء ، وظيفة ومسئولية لا تفضلا ومنّة. فالإنسان مؤتمن على ما ملّكه الله تعالى ومكنه منه ، وبالتالي على أن يدبره ويديره ويتصرف به وفق مشيئة مالكه الحق ، أي الله سبحانه وتعالى.

وبذلك يتصاعد الإيحاء ، في لفتة رائعة ، تنسب المال إلى مصدره الأساس وهو الله ، ليدرك أنه لا ينفق مما يختص به ، أو يملكه ملكا ذاتيا حتى يعيش أنانية العطاء ، بل ينفق مما رزقه الله. ويتسع الإيحاء في ربط الإنفاق بمصدر العطاء الذي هو الله ، ليعتبر الإنسان أنه مسئول عن كل ما رزقه الله من رزق ليعطيه وينفق منه على أساس المسؤولية ، فليس حرا في أن يفعل به ما يريد كما يريد. وقد نلتقي ببعض الأحاديث المأثورة التي تستوحي من الآية الفكرة التي تمتد بالإنفاق إلى ما هو أبعد من المال ، فتتسع المسؤولية لتشمل كل طاقة يملكها الإنسان مما يحتاج إليه الآخرون ، فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في مقام تطبيق الآية : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : وممّا علمناهم يبثون » (١). وفي حديث آخر : « وما علمناهم من القرآن يتلون » (٢) ، ومن الطبيعي أن الإمام الصادق عليه‌السلام لا يريد أن يحصر مدلول الآية في إنفاق العلم ، لأن مجالها اللغوي أوسع من ذلك ، ولأن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في أمثال هذا السياق ظاهرة في المال أو في ما هو أوسع من المال ... ولكن الظاهر أنه يريد الإيحاء ، للذين يفهمون منها المال ، أنها تشمل العلم كأسلوب من أساليب التوجيه والتنبيه للآخرين الذين يملكون العلم ولا يبثونه في من يحتاج إليه ، على اعتبار أن هذه الصفة من السمات البارزة للشخصية الإيمانية ، وهذا ما استوحيناه من سعة المدلول القرآني.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٥٠.

(٢) م. ن ، ج : ١ ، ص : ٥٠.

١١٨

ونحن نستطيع أن نستوحي منها ، أيضا ، الإنفاق في مجالات أخرى كإنفاق الجاه والجهد والخبرة وغيرها من الطاقات ، لنطلب من الآخرين الذين يملكون أمثال ذلك أن لا يحتكروه لأنفسهم ، بل أن يبذلوه لمن يحتاجه من الناس.

وملخّص الفكرة ، أن المؤمن يشعر بأنه مسئول عن الإنفاق من كل ما رزقه الله من مال أو علم أو جهد أو جاه وغيره ، من موقع الواجب لا من موقع التفضل.

وقد يناقش المناقشون في ظهور اللفظ في ذلك ، ولكن اللفظ ليس مدلولا لغويا يتجمد المعنى عنده ، بل هو إيحاء عميق ممتد في رحاب الحياة ، يتسع ويشمل كل ما يتصل به من أجواء ومواقف وأشياء.

* * *

الإيمان بالرسالات السماوية ، شرط أساس

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، هذه هي الصفة الرابعة من صفات المتقين ، وهي صفة الإيمان بالوحي المنزل على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لينسجموا في إيمانهم مع كل مفهوم من مفاهيم الإسلام ، ومع كل حكم من أحكامه ، لئلا يبقى هناك أيّ فراغ فكري أو تشريعي أو روحي يواجه به الإنسان حياته ، ليبحث في أفكار الآخرين وتشريعاتهم عما يسد هذا الفراغ ، بل يعيش الامتلاء الفكري والوجداني والقانوني في كل المجالات.

ثم ، الإيمان بوحدة الرسالات. فالمؤمنون هم الذين يؤمنون برسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنها امتداد للرسالات السابقة التي لم تكن رسالات بشرية ، بل هي وحي منزل من الله سبحانه وتعالى. وفي هذا الجو نشعر بأن

١١٩

الإنسان المسلم لا يعيش أية عقدة نفسية إزاء الرسالات الأخرى كالنصرانية واليهودية ، ولا يرفض مقدساتها الأصيلة ، بل الإنسان المسلم هو الذي يؤمن بالأديان الأخرى وبمقدساتها ، ولكن ضمن إطارها الزمني الخاص الذي أراد الله للرسالات أن تعيش فيه ، لأن الإسلام يعتبر نفسه امتدادا للأديان الأخرى ومكملا لها ، كما كان كل دين مكمّلا للدين الذي سبقه. وقد ورد عن المسيح عليه‌السلام قوله : « إنما جئت لأكمل الناموس » ، وورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ».

وقد نستطيع أن نفهم من هذا كله أن الإسلام يجمع الخصائص الأساسية في اليهودية والنصرانية ، وفي رسالة إبراهيم عليه‌السلام والرسل من قبله ، ويحوي ـ بالإضافة إلى ذلك ـ خصائص جديدة اقتضتها طبيعة الحاجات التي استحدثتها الحياة بعد انتهاء دور الرسالات. ولذلك ، فإن المسلم ـ كما قلنا ـ لا يعاني أية عقدة من هذه الجهة ، بل قد يعاني من عقدة الانحراف العقيدي والتشريعي الذي وصلت إليه هاتان الديانتان ، وهذا ما أظهرته النصوص القرآنية الكثيرة التي حدثتنا عن تحريف التوراة والإنجيل من قبل أهل الكتاب.

وقد نستنتج من ذلك أن المسلم لا يعيش الروح الطائفية المعقدة تجاه الأديان الأخرى ، وذلك لارتباطه بالمفاهيم الإسلامية الأصلية ، وإذا صدرت أحيانا مواقف سلبية تناقض تلك الروح الإسلامية المتسامحة مع الأديان الأخرى ، فإنما مردها إلى تعقيدات وضغوط الواقع السياسي والاجتماعي الذي يفرز مثل هذه المواقف ، وبالتالي فإن السلبيات ليست ناتجة من خلال نظرة المسلم تجاه الدين الآخر أو المقدسات الأخرى ، وذلك على العكس تماما مما نجده عند الآخرين ؛ فاليهود مثلا ، ينكرون النصرانية والإسلام كدين ، والنصارى ينكرون الإسلام كدين ، لذلك نجدهم معقّدين من جهتنا دينيا.

وعلى ضوء الانفتاح الإسلامي على اليهود والنصارى باعتبارهم أهل

١٢٠