تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

ودعا الناس إلى الوفاء بالعهد بقول مطلق : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٤] وتحدث عن الصفات الإيجابية في الناس الذين يرضى عنهم فقال : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) [البقرة : ١٧٧] ، وقال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:٢٣].

وهكذا نجد أن الله يريد جعل حركة الإنسان في الحياة ، حركة التزام بينه وبين خالقه ، وبينه وبين الناس ، وبينه وبين الحياة ، ليتحرك الإنسان من موقع الإحساس بالمسؤولية المنفتحة على كل خير في الحياة ، ليجد أمامه عهدا من الله بأن يتعهده بكل رحمته ولطفه ورعايته في الدنيا والآخرة ، مما يجعل لديه الطمأنينة الروحية والسكينة الحياتية ، ويبتعد عن الشعور باللامبالاة ، فهو الإنسان الملتزم بأن يقدم طاقاته كلها للناس وللحياة ، وأن يخضعها لإرادة الله تعالى الذي سخر الحياة له ، وعاهده بأن يحقق له ما يشاء في خط الحكمة ، والرعاية الربوبية ، في الدنيا والآخرة.

٢ ـ المحافظة على الروابط الروحية والاجتماعية ، فإنها تشدّ أواصر المجتمع وتجعله وحدة متماسكة بعيدة عن أي انقطاع وانفصام في ما يريد من النتائج أو من الأرباح ، مع الإيحاء ـ في مثل هذه القضايا ـ بخسارة الإنسان لوجوده مما تفرضه خصائص الوجود في الحياة. وقد تكون الخسارة في إيحاءاتها العملية في الارتباط بينها وبين الكفر ، باعتبار أنه يبتعد بالإنسان عن الإحساس بالهدف الكبير للحياة التي أودعها الله فيه ، وبالمسؤولية الكبرى في تفجير طاقاته الإنسانية في سبيل حاجات الحياة والإنسان الآخر ، بحيث يعيش التكامل في وجوده مع النظام الكوني والإنساني ، وهذا هو الذي يوحي به الإيمان بالله الذي يشعر معه الإنسان بأن طاقته ليست حالة ذاتية له ، بل هي أمانة الله عنده ، فلا بد له من أن يحركها في الاتجاه الذي يجعل من حركتها في

٢٠١

الوجود صلاة روحية وجودية ترتفع به إلى المستوى الأعلى في درجات القرب من الله والسموّ في مدارج الكمال ، وهذا ما يخسره الإنسان في خط الكفر الذي يحوله إلى إنسان غير مسئول في وجوده إلا من خلال حاجاته الذاتية التي يختنق فيها في دائرته الضيقة.

٣ ـ النزعة الإصلاحية التي تعمل على إصلاح ما فسد من حياة الناس ، ومحاربة تجدد الفساد وانطلاقه في المجتمع ، سواء في ذلك فساد العقيدة أو فساد السلوك والوجدان ، وهذا هو سر الإيمان في حياة المؤمنين عند ما ينطلق في حياتهم ليقوّي هذه الركائز ؛ فهم يحفظون عهده الله في كل التزاماتهم ومواثيقهم في العقيدة والحياة ، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل في علاقة الإيمان والقرابة والجوار وغيرها ، ويصلحون ما فسد في الأرض ، ويقفون ضد المفسدين ، وبذلك يتحول الإيمان والفسق إلى عنصرين فاعلين في بناء المجتمع أو تهديمه بدلا من أن يكونا عنصرين ذاتيين يحكمان النوازع الفردية للإنسان.

وقد حاول المفسرون البحث في تحديد عهد الله بين قائل بأنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد والعدل وتصديق الرسل ، وقائل بأنه وصية الله إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته ونهاهم عن معصيته ، وقد يتجه بعضهم إلى تحديد موضوع الآية بأهل الكتاب ليكون المراد بعهد الله ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد يبتعد بعض بالآية عن ذلك كله ، فيعتبره إشارة إلى العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم مثل الذرّ ، كما وردت به القصة المعروفة ، وردّه بعضهم بأنه ـ تعالى ـ لا يجوز أن يحتجّ على عباده بعهده لا يذكرونه ، ولا يعرفونه ، ولا يكون عليه دليل.

ولكننا نميل إلى ترك الإفاضة في هذه التفاصيل ، لأننا نستوحي من الآية التركيز على الملامح العامة للسلبيات التي ينتجها الفسق في تشوية شخصية

٢٠٢

الإنسان في الحياة ، بعيدا عن التفاصيل ، لأن القضية هي قضية الفارق بين نتائج الإيمان ونتائج الكفر في معطياتهما العامّة التي ترسم الصورة من بعيد.

* * *

نقض العهد والفساد في الأرض خسران للنفس

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الذي يتمثل في إبداع وجودهم بالطريقة التي يتحمل فيها الإنسان مسئولية الخلافة في الأرض ، ممّا تحتاجه الحياة في نموّها وحركتها وتطوّرها ، بحسب حجمه ، الأمر الذي يجعل إفاضة الخلق عليه بهذه الطريقة عهدا تكوينيا أخذه الله عليه ، مع وعي الإنسان للحقائق التوحيدية من خلال العناصر الذاتية ، وانفتاحه على ما أوحى به الله إليه على لسان رسله من أوامره ونواهيه. (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) في نسيانهم لله ، وابتعادهم عن خطه المستقيم الذي يؤدي إلى السير في دروب الفساد ، بما يثيرونه في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم من عوامل الفساد في الأرض ، على مستوى الواقع الاقتصادي الذي يفسدون به حركة المال في الإنسان ، والواقع الاجتماعي الذي يتحرك فسادهم فيه ، ليؤدي إلى تمزيق المجتمع ، وتحلّله الأخلاقي ، وانهياره ، والواقع السياسي الذي يسقط تحت تأثير الظلم والعدوان الذي يعيش فيه الناس من خلال هؤلاء الأمن في حياتهم الخاصة والعامة ، فتدبّ الفوضى عندهم ، ويسود الاضطراب وجودهم ، وهكذا ينطلق هؤلاء ليتحولوا إلى جهة مفسدة للحياة كلها ، وللإنسان كله. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم في الدنيا ، عند ما أبعدوها عن خط الاستقامة ، فعاشوا التخبط في خطواتهم العملية في السير على غير هدى ، وواجهوا المتاعب المتنوعة في ذلك ، وخسروا مصيرهم في الآخرة ، في عصيانهم لله وتمردهم عليه ، مما يستوجب دخولهم في النار وبئس القرار.

٢٠٣

وربما كان في تأكيد جانب الخسارة الأسلوب الإيحائي ، بأن على الإنسان أن يحسب حساب الربح والخسارة ، من خلال النتائج الواقعية النهائية للأعمال ، لا من خلال النتائج الحسية الأولية لها ، ليدرس القضايا التي يتحرك فيها من موقع الربط بين البدايات والنهايات ، والانفتاح على العمق ، لا على السطح. هذا مع ملاحظة أن التعبير بالخسارة ، ينطلق من خسارة الوجود في خسارة الفرص السعيدة التي كان من الممكن أن يبلغها الإنسان إذا أخذ بأسباب الخير في الإيمان والعمل الصالح ، فلا يرد السؤال : كيف يتحدث الله عن خسارة ما لا يملكه الإنسان ، باعتبار أن مفهومها يعني فقدان ما لديه؟ لأن الجواب عن ذلك بأن المقصود هو أن ما يملكه الإنسان قد يكون على مستوى الفعلية ، وقد يكون على مستوى امتلاك الإنسان للفرصة التي يحصل عليها.

* * *

البداية من الله والنهاية إليه

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) أيها الناس ، وأنتم تملكون العقل الذي يتحرك من خلال مفردات الحسّ الذي يتزوّد بعناصر الفكر ، وطاقة الوعي المتحرك التي توجهه نحو التأمّل والدراسة والمقارنة بين الأشياء ، والاستنتاج الحيّ المنفتح على حقائق العقيدة والحياة. وللعقل أكثر من طريق يؤدي بكم إلى معرفة الله من دون حاجة إلى الاستغراق في التجريد الفكري والعمق الفلسفي ، لأن الواقع الحيّ الذي تعيشونه في وجودكم ، وتتحسّسونه في مشاعركم ، هو الذي يمنحكم الإيمان بالله من موقع الوجدان المنفتح على الفطرة ، والفكر المتحرك في نطاق البديهة. (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) قبل وجودكم ، حيث كان العدم هو الأفق الذي يحتويكم في دائرته ، فليس هناك أي شيء يربطكم بالوجود في

٢٠٤

ذاتياتكم ، أو في الأسباب الطبيعية التي تفرضها طبيعة الأشياء في ذاتها ، الأمر الذي جعل مسألة الحياة بحاجة إلى إرادة الخالق القادر الذي يبدع الحياة في التراب ، ويحوّل الدم إلى نطفة ، لتتطور النطفة في مسيرة الحياة إلى علقة ، فمضغة ، فعظام ، فلحم ، فإنسان سويّ ، تتحرك فيه الروح ، وينفتح فيه الإحساس ، (فَأَحْياكُمْ) ، وكانت الحياة هي التي تختصر تفاصيل وجودكم في الوعي والحسّ والحركة والإبداع والإنتاج ، في عملية تكامل مع الوجود الذي ينسجم مع وجودكم ، وتفاعل مع الحياة في تنوعاتها ، ومع الإنسان الآخر في عطاءاته الكثيرة ، وهي التي تنفتح على المسؤوليات التي تجعل لكل طاقة قدرا من المسؤولية في بناء الذات على الصورة التي يريدها الله وبناء المجتمع على المنهج الذي يرضاه ، لتكون الحياة حياة العقل والحس والوعي والانفتاح على الطاقات الداخلية والخارجية للحياة وللإنسان ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) ، لتدخلوا من جديد في غياهب الموت الذي يفصلكم عن هذه الحياة التي أبدعها الله فيكم ، فيغيب وجودكم عنها ، ويبتعد دوركم عن ساحاتها ، وينقطع أثركم منها ، ولكنه ليس الموت الأبدي الذي يموت فيه الوجود بالمطلق ، بل هو الموت الذي تعقبه الحياة في أفق آخر ، وبعد جديد ، وعالم أوسع ، هو عالم الآخرة الذي يطل على الغيب ليضعه في متناول الحس الإنساني ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ، لأن القادر على إبداع الحياة أوّلا قادر على إبداعها ثانيا ، لأن القدرة على الإعادة من موقع المثال الحي أكثر سهولة من إبداع الخلق من دون مثال.

وإذا كان الله هو الذي أطلق لكم البداية من إرادته وقدرته ، فمنه المبدأ الذي يعيدكم إلى رعايته من جديد. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لتواجهوا مسئولياتكم أمامه ، ليكون لكم الاستقرار الموعود في ثوابه أو عقابه.

إنها الحقيقة الوجودية الإلهية التي ينطلق الحسّ في دلالاتها ، ويتحرك الإمكان العقلي في نهاياتها ، وهي التي تفرض نفسها على العقل ليعرف الله ،

٢٠٥

فكيف تكفرون به وتنكرونه؟

ولما كانت العقيدة بالله هي الأساس في كل هذا الجو الذي تتحرك فيه السورة ، في حديثها عن المؤمنين والكافرين والمنافقين ، ولما كان الكفر كشيء يدعو إلى التعجب والاستنكار ، لا إلى التفكير والتأمل ، لأن القضية أوضح من أن تخفى ، لهذا ، واجه الموقف بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي للإنسان بأن رفض الكفر لا يحتاج إلى جهد كبير ، بل يكفي فيه الوقوف في حالة تأملية لمراحل وجود الإنسان ؛ كيف كان ميتا لا يحمل أي مظهر من مظاهر الحياة ، وكيف دبّت فيه الحياة في عملية دقيقة رائعة في طريقة النمو والتكامل والكمال ، وكيف يموت بعد ذلك لينتقل إلى الحياة الواسعة ... وهكذا يعيش الإنسان في حياة عقب الموت الذي يعني العدم المحض ، فقد وجدت الحياة من عدم ، ثم تتجه إلى الموت الذي لا يغرق الإنسان في الضياع ، بل يثير الحياة بقوّة لتقوم قوية جديدة بإذن الله الذي ترجع الأمور إليه جميعا.

هذه الفكرة البسيطة تقدم الإيمان للإنسان ببساطة وجدانية بعيدة عن تعقيدات الفلسفة ومشاكلها ، فلا يحتاج معها إلى الالتفات والاستماع والوعي من دون ابتعاد عن نفسه بالذات ، فمنها تنطلق العقيدة الحقّة وتنمو وتتكامل ، ومن داخل الإنسان ينتقل الموقف إلى رحابة الخلق وإبداعه في رحاب الأرض وآفاق السماء ، في دعوة إلى التأمل الذي يقود إلى المعرفة الواسعة بالحياة في الطريق الرحب إلى الإيمان بالله خالق ذلك كله.

* * *

٢٠٦

الآية

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)

* * *

معاني المفردات

(خَلَقَ) : الخلق : أصله التقدير والمراد به الإيجاد.

(اسْتَوى) : الاستواء : الاعتدال والاستقامة ونقيضه الاعوجاج ، وإذا عدّي ب « إلى » اقتضى معنى الانتهاء إليه إما بالذات أو بالتدبير ، وإذا عدّي ب « على » اقتضى معنى الاستيلاء كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥].

(عَلِيمٌ) : مبالغة في معنى العالم.

* * *

٢٠٧

هو الذي خلق لكم ما في الأرض

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) في الآية لفتة إلى جانب النعمة التي لا تجعل عظمة الخلق بعيدة عن حياة الإنسان وحاجاته ، وذلك من خلال ما توحيه كلمة (لَكُمْ) من تسخير الأرض للإنسان بكل ما فيها من طاقات ظاهرة أو باطنة ، مما يجعل من توجيهه إليها وإلى التفكير فيها عند التفكير في طبيعة الخلق ، حافزا للارتباط بالله ، من خلال شعوره بحاجته المطلقة إليه ، إلى جانب الشعور بعظمته المبدعة. وقد يكون في هذا الأسلوب القرآني الرائع لفتة قرآنية تعطي قضية الإيمان بالله حيوية نابضة تتفجر بالحياة الإنسانية في كل مظاهرها وحاجاتها ، الأمر الذي يبعدها عن الجفاف والجمود الذي يتمثل في أساليب البحث في العقيدة كشيء تجريدي خارج نطاق الحياة العملية للإنسان.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فقد أراد الله للإنسان أن يعيش على هذه الأرض ، وهيّأ له الوسائل المتنوعة التي تتصل بحاجاته الخاصة والعامة في أعماق الأرض وسطوحها وآفاق الفضاء المحيط بها ، ليستطيع الإنسان الحياة عليها من خلال قدرته على إدارته لها في تسخير كل طاقاتها له ، وفي تسخير الكون المطلّ عليها والمحيط بها ، لرعاية كل أوضاعه. وهكذا ، يؤكد الله أنه أبدع ما في الأرض لأجل الإنسان ؛ تكريما له ، وتأكيدا لقيمته المميزة لديه من بين مخلوقاته. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي انتهى إليها ، وقد نستفيد من التعبير ب (ثُمَ) ـ التي تدل على الترتيب مع التراخي ـ تأخر خلق السماء عن الأرض ، ويمكن أن يكون الترتيب ذكريا حقيقيا ، لأن المراد هو التركيز على طبيعة الخلق لا على الأوقات.

(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) من غير بيان تفصيلي لطبيعة هذه السموات

٢٠٨

وكيفياتها ومواقعها وأدوارها إلى ما هنالك من أسئلة يمكن أن تثار حول هذا الموضوع.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) محيط بحقائق الأشياء ، مما يجعل للخلق معنى الإتقان والإحكام إلى جانب القدرة والاستيلاء ليوحي للإنسان بأن تقدير كل هذه النعم وهذه المخلوقات ، وتدبير كل شيء ، منطلق من علم الله بمصالح العباد في ما يقدره لهم ويفرضه عليهم ، ليحسوا بالثقة والطمأنينة في كلّ مجالات الحياة.

* * *

السماوات السبع والمراد بها في القرآن

أما الاستواء الذي يعني القعود ، فلا يتناسب مع تنزيه الله عن الجسمية ، فلا بد من اعتبار الكلمة واردة في مورد الاستعارة لبيان خلق السموات ومشيئته لذلك بعد خلق الأرض من غير أن تتعلق إرادته في ما بين ذلك بخلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهة العلوّ .. أما السماوات السبع ، فلا نملك معرفة واسعة شاملة لطبيعتها في أجواء الآيات القرآنية المتفرقة ، بل كل ما عندنا هو الحديث عن السماء الدنيا بأنها قد زينت بزينة الكواكب ، مما يوحي بأن هذه النجوم المتناثرة في الفضاء موجودة في آفاق السماء الدنيا ، وذلك في قوله سبحانه : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصافات : ٦].

وقد ورد في بعض الآيات الإشارة إلى وجود بعض المعلومات المتعلقة بأحوال الأرض لدى أهل هذه السماء مما كان يغري بعض المخلوقات كالجن والشياطين باستراق السمع ، ولكن الله يمنعهم من ذلك بواسطة الشهب التي تنطلق إليهم لتحرقهم أو لتبعدهم ، وذلك في قوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا

٢٠٩

بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت : ١٢]. وقوله تعالى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ* إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) [الحجر : ١٧ ـ ١٨]. وقوله تعالى في سورة الجن : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٩]. ويكثر الحديث عن وجود الملائكة في السماء ، وتنزّلهم منها إلى الأرض ، ولكن لا يتضمن شيء من تلك الآيات أي تفصيل لذلك.

وترفض بعض الآيات القرآنية ـ في ظاهرها ـ اعتبار الشمس والقمر من هذه السماوات ، لأنها تعتبر السماوات مكانا لهذين الكوكبين وغير هما ، وذلك في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٥ ـ ١٦].

وقد تعددت الآراء حول المراد بالسماوات السبع ، فهناك من قال : إنها السيارات السبع في مصطلح الفلكيين القدماء ، وهي عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل والقمر والشمس ، وهناك من قال : إن المقصود بها هو الطبقات المتراكمة للغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية. ومنهم من رفض اعتبار السبعة عددا مقصودا بمدلوله الحرفي ، بل هو أسلوب من أساليب التعبير عن الكثرة ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧]. فإن من الطبيعي أن علم الله لا ينتهي بهذه الكمية ، حتى لو كان هناك الآلاف من الأبحر ، بل المقصود الكثرة.

ولكن هذا الرأي ينافيه تأكيد كلمة السماوات السبع في أكثر من آية ، مما يوحي بأن للعدد خصوصية وجودية ، كما أن رأي المفسرين القدماء لا شاهد له ، بل إن الاكتشافات الحديثة دللت على أن هناك كواكب سيارة أخرى مثل « نبتون » و« بلوتو » و« أورانوس ».

٢١٠

ويقول بعض الفلكيين حول مرصد (بالمور) في وصفه للمدى الذي بلغه الإنسان في اكتشاف الكون بالمستوى الذي لا مجال لتحديده بحدود معينة في طبيعة العوالم الموجودة فيه :

« قبل نصب مرصد بالمور ، كان العالم في نظرنا لا يزيد على خمسمائة سنة ضوئية ، لكن هذا الناظور وسّع عالمنا إلى ألف مليون سنة ضوئية ، واكتشف على أثر ذلك ملايين المجرات الجديدة التي يبعد بعضها عنّا ألف مليون سنة ضوئية. أما بعد هذه المسافة ، فيتراءى لنا فضاء عظيم رهيب مظلم لا نبصر فيه شيئا ، أي أن النور لا ينفذ إليه كي يؤثر على صفحة التصوير في المرصد.

ومن دون شك ، فإن هذا الفضاء المهيب المظلم يحتوي على مئات الملايين من المجرّات التي تحافظ بجاذبيتها على هذا العالم المرئي.

كل هذا العالم العظيم المرئي الحاوي على مئات آلاف الملايين من المجرات ، ليس إلا جزءا صغيرا جدا من عالم أعظم. ولسنا واثقين من وجود عالم آخر غير هذا العالم الأعظم ».

* * *

ضرورة عدم تكلّف معرفة ما لا حاجة له

وإننا لا نشجع الخوض في مزيد من التفاصيل في هذا المجال ، لأنه يدخلنا في تيه من التصورات ويحملنا على الاستسلام الساذج لكثير من الأحاديث الضعيفة التي لا تفيد علما ولا ظنا ، بل تترك الإنسان يواجه المعرفة القرآنية بما لا يغذي الجوع الحقيقي للمعرفة الحقة ، فيسلمنا ذلك إلى الوقوع في فخ الخرافة الذي ينصبه الوضّاعون ، فلنقف حيث يريدنا الله أن نقف مما لم

٢١١

يكلفنا علمه ، ولم يشرح لنا غوامضه ، ولم يهيئ لنا السبيل لمعرفته ، وهذا هو الطريق الأمثل الذي ينبغي أن تسير عليه المعرفة الإسلامية في ما تأخذ وتدع ، فليس من الضروري أن نتكلف معرفة ما لا حاجة لنا لمعرفته ، ولا سبيل لنا إليه مما أجمله القرآن الكريم في آياته ، ولم تحاول السنّة النبوية الشريفة أن توضحه ، لأن الحاجة لا تقضي إلا بالإشارة إليه في مجال الحديث عن قدرة الله وسعة مخلوقاته ، ولعل هذا ما يبعدنا عن الوقوع في أحاديث الإسرائيليات التي استغلت مجملات القرآن التي أجملها الله عن حكمة ، فحاولت أن تشبع نهم الفضول الذاتي لدى المسلمين ، أو الذي حاولت إثارته لديهم حتى تغرقهم في الأجواء القصصية التي تبعدهم عن الأشياء الأساسية في العقيدة والتشريع نظرا إلى الطبيعة البشرية الطفولية التي تنجذب إلى أجواء القصة وتفاصيلها أكثر من أجواء الفكر والتشريع ، ثم تفرض ـ من خلال ذلك ـ مفاهيمها المنحرفة عن التصور الإسلامي للتاريخ والكون والحياة.

* * *

٢١٢

الآيات

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(٣٣)

* * *

معاني المفردات

(رَبُّكَ) : الرب : السيد ومنه : رب الدار ورب الفرس ، ولا يقال : الرب بالألف واللام إلا لله تعالى ، وأصله : من ربيته إذا قمت بأمره ، ومنه : قيل للعالم ربّاني لأنه يقوم بأمر الأمة .. وفي ضوء ذلك قد يتضمن إطلاق

٢١٣

الرب على الله تعالى معنى التربية ، لأن الله يربّي عباده وينمّي لهم أجسادهم وعقولهم بعد خلقهم.

(لِلْمَلائِكَةِ) : الملائكة : جمع ملك ، واختلف في اشتقاقه ، فذهب أكثر العلماء إلى أنه من الألوكة وهي الرسالة ... وذهب أبو عبيدة إلى أن أصله من لاك إذا أرسل ... وذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك (١).

وقد غلب إطلاق الاسم على مخلوقات سماوية مخصوصة موجودة في عالم الغيب ، قد يصطفي الله منهم رسلا ، وقد يوكل إلى بعضهم مهمات خاصة تتصل بالكون في ظواهره وحركاته ، وهم : (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧].

(جاعِلٌ) : الجعل ، والخلق ، والفعل ، والإحداث ، نظائر ، إلا أن الجعل قد يتعلق بالشيء لا على سبيل الإيجاد بخلاف الفعل والإحداث. والمراد به هنا : الإيجاد.

(خَلِيفَةً) : الخليفة : من يخلف غيره ويقوم مقامه ، والظاهر أن المراد به الإنسان ـ النوع ـ المتمثل في بدايته بآدم.

(أَتَجْعَلُ) : الهمزة ـ هنا ـ للاستفهام في مقام التعجب المجرد الذي يستكشف سرّ الحكمة ، وربما يكون استفهاما تفرضه طبيعة القضية ، وليس حورا حقيقيا ، من أجل توضيح الفكرة بهذا الأسلوب.

(وَيَسْفِكُ) : السفك في الدم : الصب.

(نُسَبِّحُ) : التسبيح : التنزيه لله تعالى عن السوء وعمّا لا يليق به ، وأصله : المرّ السريع في عبادة الله وجعل التسبيح عاما في العبادات قولا وفعلا ونيّة.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٩١.

٢١٤

(وَنُقَدِّسُ) : التقديس التطهير ونقيضه التنجيس.

* * *

حوار الله والملائكة

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) في حوار تثقيفي حول الواقع الجديد الذي أراد الله إبداعه في الأرض التي لم يكن لها أيّ دور في الوجود الحركيّ آنذاك ، وربما كان للملائكة فيها بعض الدور في مهمّاتها التي أوكلها الله إليها في النظام الكوني. (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يملك العقل ، والإرادة ، وحرية الحركة ، وإمكانات الإبداع ، وتنوّع الإنتاج ، لينظم لها حركتها ، وليدبر أوضاعها ، ويصنع فيها مجتمعاتها التي تمتلئ بها ساحاتها ، فيكون الإنسان في الأرض تماما كما الملائكة في السماء ، مع فارق نوعي ، أن الإنسان مخلوق حر بينما الملائكة مجبولون على الطاعة.

(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) من هذا النوع الإنساني الذي يعيش الصراع بين العقل والغريزة في شخصيته ، ويتخزن عناصر النزاع والخلاف ، والرغبة في التدمير ، والأنانية في التملك والتسلط في ذاته ، مما يؤدي إلى الإفساد المادي والمعنوي ، وإلى سفك الدماء ، فتعيش الأرض ، من خلال هذه التعقيدات والاهتزازات ، في جوّ من الحروب المفسدة والمدمرة للمدر والبشر معا ، مما يبعدها عن السلام الموحي بالخير والمحبة والصفاء ، والمساعد على الحق في روحانية الإيمان ، وحركية التقوى ، والقرب منك ، فيحل محل ذلك الحقد والعداوة والبغضاء والتنازع والتقاطع ، وينفتح الواقع على الباطل في ضراوة الشرّ ، وقسوة الجريمة ، وقذارة الشعور ، وسقوط العقل.

٢١٥

وإذا كانت حكمتك ـ والكلام في معناه للملائكة ـ من استخلاف الإنسان في الأرض أن يسبّحك ويقدّس لك ويعبدك ، باعتبار أن العبادة هي غاية الخلق في من تخلقه ، فإننا لن نبلغ كنه الحقيقة العميقة فيها ، لأن الكون لا يعيش الفراغ من هذه الجهة ، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) في الأرض والسماء ، حتى يتحول الكون من حولنا إلى تسبيح وتقديس وانفتاح عليك في كل مواقع القرب إليك ، وربما خيّل إلينا أننا أقرب إلى الخلافة من هذا المخلوق الجديد ، لأننا نطيعك ولا نعصيك ، وهو يخلط الطاعة بالمعصية ، والاستقامة بالانحراف ، مما يجعل النتائج سلبية في حركته ، بينما هي إيجابية في وجودنا.

(قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) لأنكم تعرفون من الأشياء ظواهرها ، ولا تنفذون إلى بواطنها ، فقد تكون هناك بعض المفاسد في التقديرات الوجودية المتصلة بالكون والإنسان ، ولكن المصالح الكامنة فيها ، والحاصلة منها ، أكثر أهمية ، وأقوى تأثيرا ، وأفضل إنتاجا ، بحيث تذوب المفاسد في سلبياتها أمام المصالح في إيجابياتها ، وذلك من خلال النظام الكوني المحدود الذي لا تجد فيه خيرا إلا ومعه شر ، كما لا تجد فيه شرا إلا وهناك خير في داخله ، لتكون المعادلة غلبة هذا الجانب على ذاك في مسألة أفضلية الوجود على العدم ، أو أفضلية العدم على الوجود.

إن مشكلتكم هي أنكم لا تملكون الوعي الكامل الشامل المنفتح على كل حقائق الكون في حركة الخلق والوجود ، ولذلك فإنكم تعرفون جانبا واحدا من الصورة ، ولا تعرفون الجوانب كلها ، وسوف تعلمون من نتائج هذا الخلق كثيرا من الأشياء التي تضيف إلى عملكم علما وإلى وعيكم سعة وشمولا.

* * *

٢١٦

تزويد الله الإنسان بكل مستلزمات الخلافة

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) فقد أعطاه الله عليم الأشياء التي تتصل بمسؤولياته من مفردات الموجودات الأرضية ، وطريقة إدارتها ، واستعمالها في ما يمكن أن يجدّد عناصر الحياة فيها ، ويعمّرها ، ويصنع منها الصناعات التي تسهّل أمور العيش للإنسان ، وتدفع به إلى تطوير طاقاته إلى المستوى الأفضل ، وغير ذلك ، مما يجعل وعيه الإنساني شاملا لكل الأشياء والأوضاع والأعمال والنتائج المتصلة بقضايا وجوده ، ليكون أهلا للقيام بهمّة الخلافة الأرضية التي يتحرك فيها بحرية العقل والإرادة والحركة المتنوعة في شؤون الجماد والنبات والحيوان ، بالإضافة إلى شؤونه الإنسانية الخاصة ، مما أوكل الله إليه أمره ، ليكون أداؤه لوظيفته الفكرية والعملية أداء متقنا منفتحا على الخير كله في مسئولياته العامة والخاصة.

* * *

تسبيح الله بالوعي والمعرفة والعمل والإبداع

وبعد أن كشف الله تعالى للملائكة أن ثمة حدودا لعلمهم ، وبأن ما لديهم من علم ، وبشهادتهم اللاحقة أيضا ، هو مما علمهم الله تعالى ، سأل آدم عليه‌السلام إعلامهم بما لم يحيطوا به علما ، لتوكيد عجزهم ، وإظهار تفوق آدم عليهم في ما أثاروه من إشكال ، لجهة حصوله ، لما يلزم وجوده في الحياة الدنيا ، ويرفع به نواقصه. ثم عطف كلامه مذكرا إياهم بما سبق أن أعلمهم به لجهة إحاطة علمه تعالى بكل شيء ، فلا يفوته منه شيء ، ظاهرا كان أو باطنا ، غائبا

٢١٧

كان أو حاضرا ، مضمرا كان أو معلنا ... إلخ ، وبالتالي فهو يعلم ما يخفونه ويعلنونه.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) في حدود هذا العلم الذي ألهمته وعلّمته ، والذي يجعلك جديرا بإدارة الأرض كلها ، ليعرف الملائكة ، من خلال هذا العلم ، أنهم لا يملكون القدرة على أن يكونوا البديل عنك ، لأن التسبيح والتقديس لله ليسا كل شيء في عملية الخلافة ، بالإضافة إلى أن مظاهر التسبيح قد تتمثل بالحركة المنفتحة على تحريك خلق الله في خط إرادته بالدرجة التي تظهر فيها عجائب خلقه ، وإبداعات قدرته ، فقد تكون المعرفة الواعية ، وقد يكون العمل المنتج ، وجها من وجوه التسبيح في الإنسان وحركة من حركات التقديس. ففي مظاهر العقل معنى التسبيح ، وفي مواقع القوة والإبداع معنى التقديس.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ، وأخبرهم بها في كل ما أراد الله له أن يخبر به ويبينه لهم ، مما يوحي بالدرجة التي يملكها من المعرفة ، وبالقضايا التي يحيط بها من شؤون الحياة ، ليعرفوا الفارق بينهم في خصوصيات ملائكيتهم ، وبينه في إنسانيته ، (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فلا تقدرون على الإحاطة به ، كما أن هناك الكثير من الغيب الذي لم تملكوا إلى معرفته سبيلا ، فليس كل شيء مكشوفا لكم ومقدّرا لكم في وسائله ، في الوقت الذي يستوي لديّ الغيب كما يستوي لديّ السرّ والعلانية في ما تظهرونه وتكتمونه ، مما لا يمكن أن يحاط فيه. (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من خصائص الألوهية في ذات الإله الذي يحيط بكل خلقه في ظواهرها وبواطنها ، مما لا يملكون الإحاطة به (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].

وهنا ، حاول الكثيرون من المفسرين التوقف عند كلمة (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وحاولوا أن يفسروا كلمة (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فتساءلوا

٢١٨

عما كانوا يكتمونه ، وذكروا في ذلك وجوها ؛ منها أنه ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والاغترار تنزيلا للواحد منزلة الجمع باعتباره ملحقا بهم ، ومنها أنه قولهم : لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم ... ولكننا لا نجد لهذا أو ذاك حجة على التفسير ، بل الغالب على الظن ـ والله العالم ـ أن الآية لا تختلف عن مثيلاتها من الآيات التي تختم بالحديث عن صفات الله من خلال مناسبة الموضوع في الآية من أجل تأكيد عظمة الله في أيّ موقف من مواقف القرآن ، وعلى ضوء هذا ، ربما يكون الحديث عن علم الله للغيب منسجما مع الحديث عن الطبيعة الممتدة الفاعلة للخليفة في هذا المخلوق الجديد مما لم يحط الملائكة بعلمه ، ولا بد في هذا المجال من الإيحاء بسعة علم الله بالمستوى الذي يحيط بكل ما يظهره الإنسان أو يضمره ليوقظ في نفسه الإحساس الدائم بالرقابة المستمرة الشاملة عليه ، مما يحقق له مزيدا من الانضباط والشعور العميق بعظمة الله. وفي هذه الحال ، لا نجد ضرورة تقدير أي شيء للكلمة ، لأن القضية لا تنطلق من طبيعة الواقعة الشخصية بل من الطبيعة الأساسية لصفات الله.

* * *

مسألة المسميات في خصائصها وحقائقها :

وقفة مع الطباطبائي

وقد ذكر بعض المفسّرين أن هذه الأسماء ، أو أن مسمياتها ، كانت موجودات أحياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب ، وأن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء ، وإلّا كانت الملائكة بإنباء آدم إياهم بها عالمين وصائرين مثل آدم مساوين معه ، ولم يكن في ذلك إكرام لآدم

٢١٩

ولا كرامة ، حيث علمه الله سبحانه أسماء ولم يعلمهم ، ولو علّمهم إياها لكانوا مثل آدم أو أشرف منه ، ولم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم ، وأيّ حجة تتم في أن يعلّم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به ويتم الحجة على ملائكة مكرمين (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] بأن هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم؟ ويقول تعالى : أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للإفهام والتفهيم إن كنتم صادقين في دعواكم أو مسألتكم خلافتي ، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب ، والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم ، وإنما تتلقى المقاصد من غير واسطة.

ويتابع الحديث فيقول : فقد ظهر مما مرّ أن العلم بأسماء هؤلاء المسمّيات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم ، وأعيان وجوداتهم ، دون مجرد ما يتكلفه الوضع اللغوي من إعطاء المفهوم ، فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية ووجودات عينية ، وهي مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب ؛ غيب السموات والأرض ، والعلم بها على ما هي عليه كان أولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي ، وثانيا دخيلا في الخلافة الإلهية (١).

ونلاحظ على هذا الرأي أنّ من المعلوم أن المسألة بين آدم والملائكة ليست مسألة لغوية ، بل هي مسألة المسميات في خصائصها وحقائقها ، كما أن قضية تعليم الله إياه وعدم تعليمهم لا يجعل لآدم ميزة عليهم ، في ما لو كانت المسألة تعليم الأسماء. هذا ليس واردا في هذه المسألة ، لأن المطلوب هو أن الله أعطى هذا المخلوق علما يملك به إدارة مسئولياته ولم يعط الملائكة ذلك ، تبعا لحكمة الله في توزيع مواهبه على عباده بحسب حاجاتهم العامة

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١١٨ ـ ١١٩.

٢٢٠