تفسير من وحي القرآن - ج ١

السيد محمد حسين فضل الله

الحوار المطلوب

وربما كان من الأفضل ـ بل المتعين ـ أن يكون الحوار بين رجال المذاهب الإسلامية المتنوعة ، الكلامية والفقهية ، لأن ذلك هو الذي ينزع الكثير من الأوهام التي حملها هذا الفريق عن ذاك ، من خلال بعض الكلمات أو بعض الممارسات ، مما يمكن أن يجد لدى صاحبها تأويلا أو تفسيرا يصل بالمسألة إلى مستوى الوضوح الكامل.

وهذا ما يسهّل قضية التفاهم بينهم عند ما يطرح كل واحد منهم وجهة نظره في المسألة الفقهية أو الكلامية في مواقع تقديم الحجج عليها والدفاع عنها ، مما يتيح للآخر القيام بمثل ذلك ، ثم اكتشاف الثغرات التي تخضع للحساب وللمعالجة على أساس القواعد الإسلامية الثابتة بشكل قطعي.

إن تأكيدنا على هذه النقطة ، في خضوع الحوار للمنهج الإسلامي ، وفي ممارسته بشكل مباشر ، وجها لوجه ، ينطلق من ملاحظاتنا على تجارب الجدال بين المذاهب الإسلامية ، التي قد تنسب بعض الأفكار إلى جماعات لا تقول بها ، أو تبتعد عن الدقة في المفردات المتناثرة في هذا المحور أو ذاك ، كنتيجة لسوء الفهم ، أو لإجمال الكلام ، أو لبعض الروايات غير الدقيقة في نقل المضمون الفكري ، أو ما إلى ذلك.

وهذا ما لاحظناه في ما نسب إلى الشيعة الإمامية من الغلوّ في الأئمة ومن السجود لغير الله ، في ما يأخذونه من تراب قبر الإمام الحسين عليه‌السلام ، للسجود عليه في الصلاة ، بحجة أنه يمثل السجود للإمام الحسين عليه‌السلام ، ومن التحريف للقرآن ، وغير ذلك من الأمور التي قد يلتقي المسلمون على

٦١

معرفتها بدقّة ـ من خلال الحوار ـ لتصفو النظرة ، وتستقيم الفكرة ، وتتأكد الثقة.

وخلاصة الفكرة في مسألة العبادة ، أنها تمثل غاية الخضوع للمعبود من حيث الشكل ، في ما يعبر عنه من وسائل التعبير القولية والفعلية بالمستوى الذي يوحي بالانسحاق أمامه ، ومن حيث المضمون في ما ينطلق به العبد من الخضوع الداخلي للمعبود بحيث يستغرق في ذاته ، في ما هي عبادة الذات ، أو في موقعه ، في ما هي عبادة الموقع ـ الرمز.

أمّا الشرك في عبادة الله ، فإنه ينطلق من الاستغراق في عبادة غيره من موقع التألّه ، أو من موقع الإيحاء بالأسرار الإلهية الكامنة في ذاته ، كما في قوله تعالى في الحديث عن منطق العابدين للأصنام : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

فقد كان الوثنيون يتوجهون إليهم بالعبادة ، فيطلبون منهم حوائجهم ، ويبتهلون إليهم على أساس أنهم يتقربون إليهم بذلك ليقربوهم إلى الله ، من خلال الحظوة الذاتية لديهم عند الله ، كما توهم الجاهليون.

* * *

بين عبادة الأصنام واحترام الأولياء

وهذا هو الفرق بين ما يفعله الوثنيون وما يفعله المسلمون الذين يؤكدون شرعية الشفاعة والتوسل بالأنبياء والأولياء ، باعتبار أن المسلمين يفعلون ذلك من موقع التوجه إلى الله بأن يجعلهم الشفعاء لهم ، وأن يقضي حاجاتهم بحق هؤلاء في ما جعله لهم من حق ، مع الوعي الدقيق للمسألة الفكرية في ذلك كله ، وهي الاعتراف بأنهم عباد الله المكرمون المطيعون له الخاضعون لألوهيته

٦٢

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] وأنهم البشر الذين منحهم الله رسالته في ما ألقاه إليهم من وحيه ، ومنحهم ولايته في ما قربهم إليه في خطهم العملي ، فكيف يقاس هذا بذاك؟!

وإذا كانوا يعتقدون أنهم الشفعاء ، فلأن الله أكرمهم بذلك ، وحدّد لهم حدودا في من يشفعون له : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ، فليست القضية قضية أسرار ذاتية في خصائص الألوهية تتيح لهم هذا الموقع ، تماماً كما هي قضية العلاقات المميّزة الخاضعة للأوضاع العاطفية أو نحوها ، بل القضية قضية كرامة من الله لهم من خلال حكمته البالغة في ألطافه بأوليائه.

وهكذا نرى أن الذهنية العقيدية لدى المسلمين لا تحمل أيّ لون من ألوان الشرك بالمعنى العبادي ، كما لا يحملون ذلك بالمعنى الفكري ، بل يختزنون ، في دائرة التعظيم للأنبياء والأولياء ، الشعور العميق بأن الله هو خالق الكون ومدبّره ، وأن هؤلاء لا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نفعا إلّا به ، وأن كل ما لديهم مما يعتقد الناس أنهم يملكون التأثير فيه بشكل وآخر ، هو من آثار لطف الله بهم في تمكنهم من ذلك بإذنه وإرادته ، تماما كما هو الإيحاء في ما تحدّث به القرآن عن عيسى عليه‌السلام في حديثه عن مواقع قدرة الله في ذاته ، وذلك قوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ٤٩].

وإذا كان الله قادراً على أن يحقّق ذلك ـ من خلالهم ـ في حياتهم ، فهو القادر على أن يحقق ذلك بعد مماتهم ـ باسمهم ـ ، لأن القدرة ، في الحالين ، واحدة في ما يريد الله له أن تتجلى قدرته في حركة خلقه.

فليس في ذلك شيء من الشرك ، بالمعنى الدقيق لهذا المفهوم ، عند ما نريد التدقيق في حدود المصطلح ، وفي ما تحكم به الشريعة من أحكام محدّدة

٦٣

على الناس الذين ينطقون بالشهادة بالمستوى الذي لا تتسع له كلمة الكفر أو الشرك في ما يتعلق بها من أحكام.

* * *

ضرورة التوازن

وإذا كنا لا نقرّ إطلاق كلمة الشرك على المسلمين الذين يتوسلون بالأنبياء والأولياء ويتبركون بقبورهم ويطلبون من الله أن يشفّعهم فيهم ، أو يطلبون منهم أن يشفعوا لهم عند الله ، لأن ذلك لا يعني عبادة غير الله ، ولا يقترب ـ بالتالي ـ من أجواء الجاهلية التي كانت تدفع الناس إلى عبادة الأصنام حتى يقربوهم إلى الله زلفى. إذا كنا لا نقر للسلفيين ذلك ، فإننا نحب أن نوجّه الانتباه إلى أن التقاليد المتّبعة لدى العوام من المسلمين في تعظيم الأنبياء والأولياء وفي زيارة قبورهم قد تتخذ اتجاها خطيرا في خط الانحراف في التصور والممارسات ، وذلك من خلال الجانب الشعوري الذي يترك تأثيره على الانفعالات الذاتية في الحالات المتنوعة التي قد تدفع إلى المزيد من الممارسات المنحرفة في غياب الضوابط الفكرية التربوية ، في ما ينطلق به التوجيه الإسلامي للحدود التي يجب الوقوف عندها من خلال طبيعة الحقائق الواقعية للعقيدة ، لأنه لا يكفي ، في استقامة العقيدة ، أن لا يكون هناك دليل مانع من عمل معيّن ، أو من كلمات خاصة ، أو من طقوس متنوعة ، بل لا بد من الانفتاح على العناصر القرآنية للفكرة العقدية ، والأجواء المحيطة بها ، والروحية المميزة المتحركة في طبيعتها ، حتى لا تختلط مظاهر الاحترام بين ما يقدّم للخالق وما يقدّم للمخلوق ، بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك شركا أو كفرا ، أو لم يكن. ولا سيما إذا عرفنا أن الشعوب قد يقلّد بعضها بعضا في الكثير من الطقوس والعادات في مظاهر الاحترام والتعظيم ، مما قد يؤدي إلى التأثر

٦٤

الشعبي ببعض التقاليد الموجودة لدى بعض الشعوب غير الإسلامية التي قد تشتمل على العناصر الفكرية أو الروحية البعيدة عن فكر الإسلام وروحه.

إن هناك نوعا من التوازن في الحدود النفسية للارتباط الروحي بالأشخاص ، من حيث الشكل أو المضمون ، لا بد للمسلم من مراعاته من أجل الاحتفاظ بالأصالة الفكرية التوحيدية في خط الانفتاح على الله بما لا ينفتح به على غيره ، أو في طبيعة الدعوة إلى الله بما لا يدعو به إلى غيره ، لإبقاء الصفاء العقيدي في العمق الشعوري الروحي للإنسان المسلم ، لأن ذلك هو السبيل الأمثل للاستقامة على الخط المستقيم ، لأننا لا نريد أن نصل في استغراقنا العاطفي إلى لون من ألوان عبادة الشخصية في ما تتحرك به مشاعر العاطفة بعيدا عن رقابة العقل ، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نتحمّل مسئولياتنا في الساحة الفكرية ، لنراقب طبيعة الأساليب الشعبية في ذلك كله ؛ لنبقى من خلال المراقبة الدقيقة في مواقع التوازن الفكري والروحي في خط العقيدة.

* * *

الدوافع الروحية للعبادة

وهناك نقطة لا بد من إثارتها في الحديث عن عبادة الله في مواقع توحيده والإخلاص له ، وهي الدوافع الروحية التي تدفع الإنسان المؤمن إلى العبادة.

فهناك الدوافع المتحركة من خلال الرغبة في الحصول على الجنّة ، على أساس الحصول على رضاه ، وهناك الدوافع المنطلقة من خلال الرهبة من النار ، على أساس البعد عن مواقع سخطه ، وهناك الدوافع المنفتحة على الله في مواقع ألوهيته في عظمته في كل صفاته الجمالية والجلالية ، على أساس استحقاقه للعبادة في ذاته ، بعيداً عن عامل الرغبة أو الرهبة.

٦٥

وقد يخيّل لبعض الناس أن العبادة الحقيقة تتمثل في الصنف الثالث ، لأنها المظهر الحيّ للخضوع للذات الإلهية ، من دون أن يكون هناك أيّ شيء للعنصر الذاتي للعابد ، في ما يحتاج إليه من ربح لمصلحته ، أو في ما يبتعد عنه من خسارة لحساب حاجته ، فإن الرغبة والرهبة حالتان إنسانيتان تحرّكان الإنسان نحو ذاته حتى في انفتاحه على الله ، أكثر مما تحركانه نحو الله في مواقع ألوهيته.

وهذا هو الإيحاء الفكري ، في ما جاء عن الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة ، قال : « إنّ قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار » (١). فقد نلاحظ ـ في هذه اللفتة التعبيرية ـ لونا من الإيحاء بأن الإنسان الذي ينطلق من الرغبة إنسان تاجر يتحرك من الذهنية التجارية ، كما أن الذي ينطلق من الرهبة عبد يتحرك من عقلية العبيد الهاربة من كل عقاب .. فليستا حالتين في العبادة ، بل هما حالتان ماديتان في الاستغراق الإنساني في ذاته ، في ما يجلب لها من النفع أو يدفع عنها من الضرر. وقد نقل عنه أنه قال :

« إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» (٢).

ولكننا لا نرى في عنصر الخوف والطمع أيّة منافاة للمعنى العميق للعبادة ، لأن الخضوع الإنساني المستغرق في ذات الله ـ المعبود ، ينطلق من التفكير في عظمته بحيث يشعر بأنه مشدود إليه في وجوده ، ومفتقر إليه في حاجاته ، وخاضع له في مصيره ، فإن الرغبة أو الرهبة ـ بالمعنى المطلق ـ لا

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الحكم / ٢٣٧.

(٢) مرآة العقول ، باب النية ، ج : ٢ ص : ١٠١ ، الطبعة القديمة.

٦٦

تتعلقان إلّا بالذي يملك الأمر كله ، من خلال أنه يملك الوجود كله ، بحيث لا يغيب عنه شيء منه ولا يعجز عن شيء فيه ، ولا يعجزه أحد من المخلوقين. ولا سيّما إذا كانت مواقع الرغبة أو الرهبة خارجة من دائرة الحس وداخلة في دائرة الغيب ، مما لا يتمكن أحد من المخلوقين الوصول إليه ، كما هي الجنة والنار.

وإذا كان الأمر كذلك ، فلا بد من وعي مسألة العظمة في عمق مسألة الحاجة ، على أساس أن ذلك هو الذي يجعله أهلا للعبادة ، لأنه الذي يرجع إليه في كل شيء ولا يرجع إلى غيره إلا من خلاله ، ولأنه الذي يخاف منه كل شيء ، ولا يخاف من أحد إلّا من خلاله.

وبذلك يختزن الخوف منه والطمع فيه معنى أهليّته للعبادة ، الأمر الذي لا يسيء إلى معنى العبادة بل يؤكدها بطريقة أخرى.

وقد جاء في القرآن الكريم التأكيد على استقامة العبادة في هذا الخط ، وذلك كما في قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) [السجدة : ١٦] وقوله تعالى : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] وقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : ٥٧].

وعلى هذا الأساس ، تنطلق التربية الإسلامية لتؤكد على الجانب الإنساني في التطلعات الذاتية التي يعيشها الناس في ما يتحركون فيه من قضايا وأوضاع ، على أساس رغبتهم بما يصلحهم ، وخوفهم مما يفسد أمورهم ، فإن من الصعب عليهم أن يتجردوا عن ذلك في حركة وجودهم المنفتح على العنصر المادي ، من خلال طبيعة الحس المادي في الذات. ولذلك ، فقد انفتح الإسلام على هذا الجانب ، فلم يبعد الإنسان عنه ، ولم يجعله ضد القيمة الروحية ، بل وجّهه إلى الارتباط بالله في مواقع الرغبة والرهبة على مستوى

٦٧

الدنيا والآخرة ، وفي ما هي قضايا النعمة والبلاء في الدنيا ، وقضايا الجنة والنار في الآخر ، على صعيد سلامة الذات في ما تحتاجه وفي ما تخاف منه ، مما جعل الحس الإنساني الواقعي يلتقي بالقيمة الروحية المنفتحة على الله من خلال حركة الحياة في الوجود الإنساني.

وهذا هو المنهج الإنساني في تهذيب دوافع الإنسان في العمل بدلاً من إلغائها ، ليتحرك الإنسان من خلال الواقع لا من خلال المثال.

* * *

ثمرات عملية

وربما كان من فوائد هذا الاتجاه في العبادة ، على صعيد الدوافع الذاتية المتصلة بقضايا الإنسان في تطلعاته إلى الله ، أنه يؤكد الشعور بحضور الله الدائم المتحرك في كل مفردات الحياة الإنسانية ، من خلال كل الحاجات المتفرقة في الحياة اليومية ، بشكل شموليّ ، والتي يحتاج فيها إلى رعاية الله وعنايته ، لارتباطه بالله بشكل مباشر أو غير مباشر ، فلا يغيب عنه الإحساس بالله من خلال أنه لا يغيب عن كل مواقع حياته التفصيلية في جزئياتها وكلياتها. كما أن ذلك يحرّك المضمون العقيدي في داخل إحساسه ، في ما يختزنه في داخل عقله من التدبير الإلهي لكل شيء من أمور الإنسان ، على أساس علاقة كل شيء به ، فتنمو العقيدة في دائرة نموّ الحاجات ، وتتأكد الطمأنينة النفسية في ذلك كله ، من خلال الثقة بالله ، الرحمن الرحيم ، في حالة الشدة والعسر. فقد ورد أنه : « من أراد أن يكون أغنى الناس ، فليكن واثقا بما عند الله جلّ وعزّ ، وروي : فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه » (١).

__________________

(١) البحار ، م : ٢٤ ، ج : ٦٨ ، ص : ٤٤٠ ، باب : ٨٦ ، رواية : ١٧.

٦٨

وبذلك تستريح حاجاته في حركتها في دائرته الشعورية عند ما يستريح إيمانه بالله في دائرته العقيدية والروحية.

* * *

التوحيد في الاستعانة بالله

وإذا كانت الآية الكريمة قد أكدت على التوحيد في العبادة ، فقد أكدت على التوحيد في الاستعانة. فإذا كان الله لا يريد لنا أن نعبد غيره ، فإنه لا يريد لنا أن نستعين بغيره ، لتكون الاستعانة به وحده.

ولكن كيف نفهم معنى التوحيد في الاستعانة بالله؟

فهل نفهم من ذلك أن الإنسان لا يملك الاستقلال في أموره ، وبالتالي لا بد له من الاستعانة بالله في كل شيء ، ليكون فعله مظهرا لفعل الله ، فتكون نسبته إلى الله هي النسبة الحقيقية ، بينما تكون نسبته إلى نفسه بالطريقة الآلية أو الشكلية؟ أو نفهم من ذلك أن الإنسان يملك القدرة على الفعل ، ولكن من حيث ما أعطاه الله ، مع بقاء الارتباط بالله مستمرّا في حركة هذه القدرة في وجوده ، فهو الذي يمدّها بالقوة في طبيعتها ، وهو القادر على أن يأخذها منه ، فيكون للفعل نسبة إلى الله من خلال أنّ إرادته هي عمق القوة في قوّة الإنسان وحركته ، فلولاه لما وجد ولما تمكن من الحركة ، ولما استمرّ في ممارسة إرادته الحركية ، كما يكون للفعل نسبة إلى الإنسان الفاعل باعتبار صدوره منه من خلال إرادته المنطلقة من مواقع قوّته الكامنة في طبيعة وجوده؟

إننا نفهم المسألة في الخط الثاني ، لأن الخط الأول يلغي عنصر الاختيار في الإنسان ، فيبطل الثواب والعقاب على هذا الأساس. أمّا الخط الثاني فيؤكد الاختيار كما يؤكد الإرادة الإلهية في المعونة التكوينية في البدء والاستمرار.

٦٩

وهذا ما يريد الله للإنسان أن يعيشه في وجدانه العقيدي ، وفي إحساسه الروحي ، فلا ينحرف به إحساسه بالحركة الإرادية ، في وجوده ، عن الخط المستقيم في العقيدة الذي يحركه نحو الإحساس بفقره إلى الله ، وحاجته إلى إمداده بعناصر البقاء في حركة وجوده ، بحيث يستعين به بمنطق وجوده التكويني الفقير إليه في كل لحظة ، كما يستعين به بمنطق إحساسه بالعجز الطارئ في كل شدّة ، ليتأكد عنده الإحساس بالعون التكويني في مسألة الوجود ، والعون العملي في مرحلة العجز.

* * *

التوحيد والحاجة إلى الناس

ثم تطرح القضية سؤالاً آخر :

كيف يكون التوحيد في الاستعانة بالله في مقابل الاستعانة بالآخرين ، مما يعيشه الإنسان في كل لحظة من لحظات وجوده ، في القضايا التي لا يستطيع الاستقلال فيها بنفسه ، بل يحتاج ـ فيها ـ إلى مشاركة الآخرين ، أو في القضايا التي لا يستطيع ممارستها بنفسه ، بل يحتاج إلى ممارسة الآخرين لها في حياته؟

فهل تكون الاستعانة بالناس في هذه أو تلك لوناً من ألوان الشرك العملي بالله؟

وكيف يمكن أن تستمر الحياة بالإنسان في ضوء هذا المنطق التوحيدي إذا حاولنا أن نفهمه بهذه الطريقة؟

إن المسألة ـ في الجواب عن هذا السؤال ـ ترتكز إلى العمق الفكري في التصور التوحيدي ، لا إلى الحركة الفعلية في الواقع العملي للإنسان ، إذ من

٧٠

الطبيعي أن الإنسان لا يستغني عن غيره في تفاصيل وجوده ، كما لم يستغن عن غيره في أصل وجوده الفعلي الذي كان محتاجا فيه إلى أبويه ، باعتبارهما العنصرين اللذين يدخلان في السبب المباشر للوجود .. وهناك أشياء كثيرة مما لا بد من أن تصدر عن الآخرين بالمشاركة معه ، أو بالانفراد ، وقد لا يعقل أن يكلّف الله الإنسان بأن يبتعد ، بتصوّره العقيدي ، عن هذا الخط ، لأنه ليس مقدوراً له.

فلا بد من أن يكون الأمر منطلقاً من إحساس الإنسان بأن الله هو أساس كل قدرة ، لأنه من مواقع قدرته كانت قدرتنا على من حولنا وما حولنا ، في ما منحنا ، سبحانه وتعالى ، من ذلك. وإذا كنا نحتاج إلى مباشرة بعض أفعالنا بمشاركة الآخرين أو بواسطتهم ، فإننا نشعر بأن الله هو الذي هيّأ لنا ذلك ، وهو الذي يمنحهم القدرة على فعل ذلك. وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧].

فإن المقصود فيها ليس المعنى المباشر للرمي من الله سبحانه وتعالى ، بل المقصود هو القوّة الحقيقية للعمق الإلهي للإرادة في الأفعال الإنسانية ، بحيث يكون الله هو الأساس في ذلك كله. فإذا توجّه الإنسان ، في حاجته ، إلى أحد ، فإنه يتوجه إلى الله ، قبل ذلك ، ليطلب منه أن يلهمه الاستجابة له ، كما يمنحه القدرة عليه ، بحيث يكون الله هو المقصد في الطلب ، ويكون الآخر هو الآلة في حصول الشيء.

إن القاعدة في العقيدة الإسلامية التوحيدية ، تنطلق من الإيمان بأن كل ما في الوجود مظهر لقدرة الله ، ووسيلة من وسائل تدبيره للكون ، فليس هناك استقلال لأحد في ما هو الغنى الذاتي ، بل هناك الغنى المستمد من غنى الله في ما يتحرك به كرمه للمحتاجين من عباده. ولذلك ، بطل التفويض الذي ينطلق من الفكرة الفلسفية القائلة : « إن الله خلق الخلق ثم فوّض إليهم تدبير أمورهم

٧١

بأنفسهم ، بحيث يخلقون أفعالهم من موقع قدرتهم الذاتية من دون أن يكون لله دخل في ذلك » ، فإن هذه الفكرة توحي بتعدد الخالق ، وانعزال الله عن التصرف في حركة الكون.

ومن خلال ذلك ، كان الاعتراف بالتوحيد في الاستعانة ، يمثل الإقرار العميق بأن العبد لا يستطيع أن يتحرك إلّا من خلال ما يمدّه الله به من معونة ، في ما يملكه من شمولية القدرة في كل مصادرها ومواردها ، سواء كانت متمثلة بالقوى البشرية أو الحيوانية أو الجامدة.

وهذا ما يؤكد وحدة التوجه إلى الله والتوسّل به ، مما يجعل الشخصية الإسلامية مرتبطة به ـ وحده ـ حتى في مواقع حاجاتها الطبيعية المرتبطة ، في حركتها الكونية ، بقانون السببية ، في علاقة الظواهر بأسبابها الكونية أو الاختيارية ، فلا تكون الأسباب واسطة في الإرادة ، بل هي واسطة في حركة الوجود في علاقة الأشياء ببعضها البعض.

* * *

لا واسطة بين العبد وربه

وقد نلاحظ في الارتباط الإنساني بوحدانية العبادة والاستعانة في خطاب العبد لربه في هذه الآية الكريمة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أن الإنسان لا يحتاج ، في حديثه مع الله ، وفي طلبه منه ، إلى أية واسطة من بشر أو غيره ، لأن الله لا يبتعد عن عبده ، ولا يضع أيّ فاصل بينه وبينه ، إلّا ما يضعه العبد من فواصل تبعده عن مواقع رحمته ، وتحبس دعاءه عن الصعود إلى درجات القرب من الله. ولذا أراد من عباده أن يدعوه بشكل مباشر ليستجيب لهم ، وحدّثهم عن قربه منهم بحيث يسمع كلامهم وإن كان بمثل

٧٢

الهمس أو في مثل وسوسة الصدور ، وذلك قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة : ١٨٦] وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦].

* * *

الشفاعة لا الوساطة

أمّا الشفاعة التي جاء الحديث عنها في الآيات القرآنية ، وفي الروايات المتعددة عن السنة والشيعة ، فإنها ليست حالة وساطة بالمعنى الذي يفهمه الناس في علاقاتهم بالعظماء لديهم ، الذين قد لا يستطيع الناس مخاطبتهم بشكل مباشر ، بسبب الحواجز المادية الفاصلة بينهم وبين الناس ، ولذلك يلجأ الناس إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودّة أو مصلحة أو موقع معيّن ليكونوا الواسطة في إيصال مطالبهم إليهم ، وقضاء حوائجهم عندهم.

إن الشفاعة هي كرامة من الله لبعض عباده ، في ما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة ، فيشفّعهم في من يريد المغفرة له ورفع درجته عنده ، لتكون المسألة ـ في الشكل ـ واسطة في النتائج التي يتمثل فيها العفو الإلهي والنعيم الربّاني ، تماما كما لو كان النبي هو السبب ، أو كان الوليّ هو الواسطة. ولكنها ـ في العمق ـ إرادة الله لذلك ، مما لا يملك نبي مرسل أو ملك مقّرب ، أو ولي امتحن الله قلبه للإيمان ، أمر تغييرها في غير الاتجاه الذي تتحرك فيه ، وبذلك فإنهم يدرسون مواقع رضى الله في عباده ليقوموا بالشفاعة ، أو ليأذن الله لهم بها.

وفي ضوء ذلك ، لا معنى للتقرب للأنبياء والأولياء ليحصل الناس على

٧٣

شفاعتهم ، لأنهم لا يملكون من أمرها شيئا بالمعنى الذاتي المستقل ، بل الله هو المالك لذلك كله على جميع المستويات ، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محدّدة ليس لهم أن يتجاوزوها ، الأمر الذي يفرض التقرب إلى الله في أن يجعلنا ممن يأذن لهم بالشفاعة له ، أو الطلب إليهم أن يسألوا الله في الإذن لهم بالشفاعة لطالبها منهم. وهذا ما نفهمه من آيات الشفاعة في القرآن ، التي تؤكد على أنها قضية تتصل بالله ، فليس لأحد أن يمارسها إلّا بإذنه في من ارتضاهم لينالوا عفوه. قال تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم : ٨٧]. (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [طه : ١٠٩]. (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣]. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].

وليس معنى « إذن الله » للشفعاء أنه أعطاهم الحرية في ذلك ، أو أنه يتقبل منهم ذلك على أساس خصوصيات علاقاتهم ، ليتقرب الناس منهم بالوسائل الخاصة التي تثير مشاعرهم ، وتؤكد علاقتهم بهم بشكل شخصي ، كما هي الأشياء الشخصية ، بل إن معنى ذلك أن الله جعل لهم هذه الكرامة ليستعملوها في ما يوافق رضاه ، لأن المفروض أن رضاهم لا ينفصل عن خط رضاه ، كما أنّ رضاه يتحرك في آفاق حكمته ، لا في آفاق رغبات القريبين إليه بالمعنى الذاتي للمسألة.

وفي ضوء ذلك ، فإن التشفّع بالأنبياء والأولياء لا يمثل خروجاً عن توحيد الاستعانة بالله ، لأنه يرجع في الحقيقة إلى طلب المغفرة من الله والنجاة من النار ، من خلال ما اقتضته إرادة الله وحكمته في ارتباط عفوه بشفاعة هذا النبي أو الولي ، على أساس ما أراده من حكمته في ذلك ، والله العالم.

* * *

٧٤

إيحاءات الدعاء ودوره التربوي

للدعاء دور تربوي عميق على صعيد التطلع الروحي للإنسان وانفتاحه على الله سبحانه وتعالى ، بحيث يعيش الإنسان ، في أجواء المناجاة ، سرّ التوحيد الإلهي في حركة مشاعره الإنسانية ، وفي علاقة حاجاته بالله وانفصالها عن غيره ، في عملية إيحاء داخليّ بأن التوجّه إلى غير الله في حاجاته ، حتى في ما يشبه الخطرات الفكرية أو النزعات الغريزية ، يمثل لونا من ألوان الإثم الشعوري ، الذي يسيء إلى الاستقامة الروحية. وهذا ما نتمثله في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام في طلب الحوائج إلى الله في « الصحيفة السجادية » حيث يقول :

« اللهم يا منتهى مطلب الحاجات ، ويا من عنده نيل الطلبات ، ويا من لا يبيع نعمه بالأثمان ، ويا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان ، ويا من يستغنى به ولا يستغنى عنه ، ويا من يرغب إليه ولا يرغب عنه ، ويا من لا تفني خزائنه المسائل ، ويا من لا تبدل حكمته الوسائل ، ويا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين ، ويا من لا يعنّيه دعاء الداعين.

تمدّحت بالغناء عن خلقك وأنت أهل الغنى عنهم ، ونسبتهم إلى الفقر وهم أهل الفقر إليك ، فمن حاول سدّ خلّته من عندك ، ورام صرف الفقر عن نفسه بك ، فقد طلب حاجته في مظانها ، وأتى طلبته من وجهها ، ومن توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك ، أو جعله سبب نجحها دونك ، فقد تعرض للحرمان ، واستحقّ من عندك فوت الإحسان.

اللهم ، ولي إليك حاجة قد قصر عنها جهدي ، وتقطعت دونها حيلي ، وسوّلت لي نفسي رفعها إلى من يرفع حوائجه إليك ، ولا يستغني في طلباته

٧٥

عنك ، وهي زلّة من زلل الخاطئين ، وعثرة من عثرات المذنبين ، ثم انتبهت ، بتذكيرك لي ، من غفلتي ، ونهضت ، بتوفيقك لي ، من عثرتي ، وقلت : سبحان ربي ، كيف يسأل محتاج محتاجا ، وأنّى يرغب معدم إلى معدم ، فقصدتك ، يا إلهي ، بالرغبة ، وأوفدت عليك رجائي بالثقة بك ، وعلمت أنّ كثير ما أسألك يسير في وجدك ، وأن خطير ما أستوهبك حقير في وسعك ، وأن كرمك لا يضيق عن سؤال أحد ، وأن يدك بالعطاء أعلى من كل يد » (١).

وهكذا نرى أن هذا الدعاء ينطلق ليركّز في ذهنية الإنسان الفكرة التي تنفتح على الكلي القدرة ، الكريم في العطاء ، الواسع في النعماء ، الذي لا يضيق كرمه عن سؤال أحد ، كما أن يده بالعطايا أوسع من كل يد ، والذي يستغنى به ولا يستغنى عنه ، ويرغب إليه ولا يرغب عنه. كما ينفتح على الإنسان المحتاج إلى ربه ، لأن ذلك ليس شيئا ذاتيا ينطلق من سر الغنى في شخصه ، بل هو شيء طارئ ، يستمده من عطاء ربه ، في ما يمنحه من قدرة ، أو يعطيه من إمكانات.

وإذا كان الإنسان ؛ كل إنسان ، في موقع الحاجة إلى الله ، فكيف يتوجّه الإنسان الواعي إلى مثله ليرفع حاجته إليه ، وهل ذلك إلّا لون من ألوان الغفلة عن حقيقة الفقر الإنساني أمام حقيقة الغنى الإلهي ، بالإضافة إلى أنها زلّة من زلل الخاطئين ، وعثرة من عثرات المذنبين ، لأنها خطيئة تتصل بالانحراف عن خط الاستقامة في التصور التوحيدي للإنسان ، وبالخلل في الوعي الإيماني للحقيقة الإلهية في معنى وجود الإنسان ، وحركته ، وفي سعة القدرة وشموليتها؟! وهكذا تتبلور لدى الإنسان مسألة الاستعانة بالله وحده ، بعيدا عن الاستعانة بغيره.

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام في طلب الحوائج إلى الله تعالى.

٧٦

إن هذا الدعاء يعالج المسألة في الدائرة الفكرية النظرية على أساس إثارة مسألة الحاجة الذاتية لدى الإنسان في جميع مواقعه وأشكاله ، لتكون رادعا عن توجه الإنسان إلى مثله ، وغفلته عن توجّهه إلى ربه.

وهناك دعاء آخر ، يعالج المسألة في الدائرة الواقعية العملية ، على أساس التجربة الحسيّة في مشاهدات الإنسان المؤمن للنماذج البشرية ، التي عاشت الانبهار بالقوة الظاهرية لبعض الناس ، فاندفعت إليهم لتطلب العزة بهم ، والرفعة من خلالهم ، والثروة بواسطتهم ، فكانت النتائج خيبات أمل كبيرة دفعت الإنسان بعيدا عن قضاياه وحاجاته ، لأن الذين تطلّع إليهم ، وتوجّه نحوهم ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا إلّا بإذن الله ، فكيف يملكون أن يدفعوه عن غيرهم من دون إذنه ، وإذا كانت المسألة مرتبطة بالله بشكل مباشر ، فلما ذا يبتعدون عنه ، ويقتربون من غيره ، في ما لا يملكه أحد إلّا هو؟!

وهذا هو دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام متفزعا إلى الله ، وهو من أدعية « الصحيفة السجادية » :

« اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك ، وأقبلت بكلّي عليك ، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك ، وقلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك ... فكم قد رأيت ، يا إلهي ، من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا ، وراموا الثروة من سواك فافتقروا ، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا ، فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره ، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره ، فأنت ، يا مولاي ، دون كل مسئول موضع مسألتي ، ودون كل مطلوب إليه وليّ حاجتي ، أنت المخصوص قبل كل مدعوّ بدعوتي ، لا يشركك أحد في رجائي ، ولا يتفق أحد معك في دعائي ، ولا ينظمه وإياك ندائي. لك يا إلهي ، وحدانية العدد ، وملكة القدرة الصمد ، ومن سواك مرحوم في عمره ، مغلوب على أمره ، مقهور على شأنه ، مختلف الحالات متنقّل في الصفات ، فتعاليت عن الأشباه والأضداد ، وتكبّرت

٧٧

عن الأمثال والأنداد ، فسبحانك لا إله إلّا أنت » (١).

إنها النظرة إلى واقع الخاضعين للأقوياء والأغنياء والمستكبرين الذين صغرت نفوسهم أمام مظاهر القوة والغنى والكبرياء ، وانسحقت حاجاتهم أمام مفردات القدرة لدى كل هؤلاء ، فانطلقوا نحوهم في عملية خضوع واستجداء ليمنحوهم العزّة من خلال عزتهم ، فازدادوا ذلّا بذلك ، أو ليقدّموا لهم الثروة من مواقع غناهم ، فازدادوا فقرا بذلك ، أو ليرفعوهم إلى مواقع السموّ والعلو ، من خلال علوّهم ، فازدادوا سقوطا وانحطاطا.

وهكذا كان هذا الواقع مصدر فكر للإنسان المؤمن الواعي ، الذي استطاع أن يعرف طريق الرشد والصواب ، ليختار السير فيه ، وليصل إلى النتيجة الحاسمة في توحيد الله على مستوى الألوهية والعبادة والمعونة. ومن خلال هذه التجربة الحيّة ، تنفتح للإنسان الواعي الباحث عن الحقيقة آفاق جديدة ، فيحرّكه الواقع من حوله ، ليكتشف فيها الكثير الكثير من صدق العناوين الروحية في العقيدة التي تطل على الحياة ، لتشير إلى الكثير من مفرداتها التي يتحرك فيها صدق العنوان في وجود المعنون ، وحقيقة المفهوم في واقع المصداق ، فلا يتيه الإنسان في أجواء التجريد الفكري ، بل يجد في كل موقع من مواقع الحياة بعض الحركة التي تتفتّح فيها كل مواقع الإحساس لديه بالصدق في الفكر والشعور ، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأنّ الروح في معانيه العقيدية ليس غيبا من الغيب ، بل هو حالة في ضمير الحياة وإحساس الواقع.

* * *

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، دعاؤه متفزعا إلى الله عزوجل.

٧٨

الصراط المستقيم

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إنها المفردات الحيّة التي تشير إلى الخط الإلهي في التطلّع الإنساني. فهذا الإنسان الحائر في غياهب الظلمات ، التائه في صحارى التيه ، الغارق في بحار الأوهام ، السائر في طريق المجهول ، هذا الإنسان المتطلع إلى مشارق النور في الغيب ليكتشفها في عقله وقلبه وحياته ، في انتظار ، لا يأكل القلق روحه ، بل يملأ الأمل عينيه ؛ يناجي ربّه في طفولة الإحساس الروحي بالفقر إليه ، والذوبان في مواقع الشوق الباحث عنه. إنه يبحث عن الهدى في معرفة ربّه ، ومعرفة مواقع عظمته ، ومفردات نعمته ، وما يريد له ، وما يريده منه ، وما يخطط له من خطط ، وما يثيره في داخله من أشواق وتطلعات.

إنه يناديه ويناجيه ويدعوه : ها هو عبدك الحائر ، فأنقذه من حيرته ، الضالّ ، فاهده من ضلاله ، ووجّهه نحو الطريق الذي تستقيم فيه النيّة ، ويتوازن فيه العقل ، ويطمئن له القلب ، وترتاح فيه الروح ، وتثبت فيه الأقدام.

ولا بد لنا من أن نقف أمام هذه الكلمات وقفة تأمّل.

الهداية : الدلالة بلطف ـ كما في مفردات الراغب للأصفهاني ـ أمّا هداية الله تعالى للإنسان ، فيقول : إنها على أربعة أوجه :

الأول : الهداية التي عمّ بجنسها كل مكلّف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعمّ منها كل شيء بقدر ما فيه حسب احتماله كما قال : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠].

الثاني : الهداية التي جعل للناس بدعائه إيّاهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك ، وهو المقصود بقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [السجدة : ٢٤].

٧٩

الثالث : التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعنيّ بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] وقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) [يونس : ٩] وقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩](وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦](فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢١٣] ، (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ٢١٣].

الرابع : الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيّ بقوله : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٥] ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) إلى قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣](١).

الصراط : الطريق ، وهو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود ، وقد يكون غير حسي ، فيقال: الاحتياط طريق النجاة ، وإطاعة الله طريق الجنة. وإطلاقه على الطريق غير الحسيّ إما لعموم المعنى اللغوي ، وإما من باب التشبيه والاستعارة (٢).

وفي هذه الآية دعاء إلى الله ، يرفعه الإنسان المؤمن إلى ربه ليدلّه إلى الطريق المستقيم الذي يؤدّي به إلى رضوانه في مواقع النعيم المنفتح على جنته.

ولعلّ من الواضح أن الهداية بالمعنى التكويني من لوازم وجوده ، في ما منحه الله من عقل وحسّ وقدرة ، كما أن الهداية ، في مضمونها الرسالي ، في ما أرسل الله به الرسل من رسالاته في ما هي المفاهيم الأساسية للعقيدة والحياة ، هي الحقيقة الرسالية المتحركة في الواقع وفي الوعي ؛ ويبقى للهداية

__________________

(١) الأصفهاني ، الراغب ، معجم مفردات ألفاظ القرآن ، دار الفكر ، ص : ٥٣٦.

(٢) البيان في تفسير القرآن ، ص : ٤٨٥.

٨٠