التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

١ ـ اجتناب الكبائر : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) أي الذين يجتنبون الوقوع في كبائر الذنوب التي أوعد الله عليها وعيدا شديدا ، كالشرك والقتل العمد وعقوق الوالدين ، والفواحش وهي كل ما استقبحه الشرع والعقل والطبع السليم من قول أو فعل ، كالغيبة والكذب ، والزنى ، والسرقة والحرابة (الإفساد في الأرض).

٢ ـ العفو عند المقدرة : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ، ويكظمون الغيظ ، ويحلمون عن ظلمهم ، لأن سجيتهم العفو والصفح وليس الانتقام من الناس. وهذا من محاسن الأخلاق يشفقون على ظالمهم ، ويصفحون عمن جهل عليهم ، يطلبون بذلك ثواب الله وعفوه. جاء في الحديث الصحيح : «ما انتقم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه قط ، إلا أن تنتهك حرمات الله».

٣ ـ تمام الانقياد والطاعة لله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه ، من توحيده والتبرؤ من الشرك ، وأطاعوا الرسل فيما أمر الله به وزجر عنه.

٤ ـ إقام الصلاة : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أدوا الصلاة المفروضة كاملة بإتمام أركانها وشروطها وخشوعها في مواقيتها المفروضة ، وخصت الصلاة هنا بالذكر مع أمهات الفضائل ، لأنها أعظم العبادات لله عزوجل ، فهي معراج الوصول إلى الله ، أو صلة بين العبد وربه.

٥ ـ الأخذ بنظام الشورى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي يتشاورون فيما بينهم في الأمور الخاصة والعامة ، ولا ينفردون برأي في كل أمر من القضايا العامّة ، كتولي الحكم (أو الخلافة) وشؤون تدبير الدولة والتخطيط لمصالحها ، وإعلان الحرب ، وتولية الولاة والحكام والقضاة وغيرهم. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر

٨١

الناس مشاورة لأصحابه ، وسلك الصحابة طريقه ومنهجه في عظائم الأمور كتولية الخلافة وحروب الردة واستنباط الأحكام الشرعية للقضايا والحوادث المستجدة ، وشاور عمر رضي‌الله‌عنه الهرمزان حين وفد عليه مسلما (١) ، ولما طعن عمر جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر ، وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنهم ، فاتفقوا على تقديم عثمان رضي‌الله‌عنه للخلافة الثالثة.

وإذا كانت الآية هنا تقرر وصفا ثابتا للمؤمنين ، فقد أمر الله تعالى بالشورى في آية أخرى ، فقال : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران ٣ / ١٥٩] وقال الحسن البصري رحمه‌الله : «ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم». وقال ابن العربي (٢) : الشورى ألفة للجماعة ، ومسبار للعقول ، وسبب إلى الصواب ، وما تشاور قوم إلا هدوا ، وقد قال حكيم :

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

برأي لبيب أو مشورة حازم

ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة

فريش الخوافي قوة للقوادم

٦ ـ الإنفاق : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون في سبيل الله وطاعته بعض ما رزقناهم من أموال وخيرات ، فالإنفاق من الأغنياء قوة للأمة ، وعلاج لضعفها ، وسبيل للحفاظ على هيبة الدولة ورفعة شأن أفرادها وعزها ، وذلك بالإحسان إلى الأقرب فالأقرب ، ثم للمصالح العامة ، كإغناء المحاويج ، وإعداد القوى الحربية لمجابهة الأعداء.

٧ ـ الشجاعة : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي إذا تعرضوا للظلم والاعتداء انتصروا ممن ظلمهم ، لأن الانتصار عند البغي واجب وفضيلة ،

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٦٥٦

(٢) أحكام القرآن ٤ / ١٦٥٦.

٨٢

ولأن التذلل لمن بغى يتنافى مع عزة المؤمنين ، إذ العجز والاستضعاف يؤدي إلى إغراء العدو على إلحاق صنوف أخرى من العدوان ، فالمؤمنون أعزة كرام يحافظون على الحقوق والحرمات والكرامة ، وليسوا بالعاجزين والأذلّين ، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم ، فإذا قدروا عفوا.

ولا تعارض بين هذه الآية وبين ما سبقها وهي : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) فإن كل آية لها مجال وموضع ، فالسابقة في موضع ، واللاحقة في موضع ، وذلك لأن العفو قسمان (١) :

الأول ـ أن يكون سببا لتسكين الفتنة ، وتهدئة النفوس ، ورجوع الجاني عن جنايته ، وهذا محمود ، تحمل عليه آيات العفو ، مثل : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة ٢ / ٢٣٧]. وهذا مرغب فيه في داخل الأمة الواحدة.

الثاني ـ أن يكون سببا لتجرؤ الظالم وتماديه في غيه واستضعافه الأمة ، وهذا مذموم ، تحمل عليه آيات الحث على الانتقام ، وهذا واجب في مقاومة العدو الخارجي ، وعند اغتصاب الحقوق ، ويتوقف على توافر القوة المكافئة أو القدرة المطلوبة في نظام الإسلام بإلزام المؤمن الصمود أمام اثنين من العدو.

والأمثلة الموضحة كثيرة ، منها : عفا يوسف عليه‌السلام عن إخوته وقال كما حكى القرآن : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) [يوسف ١٢ / ٩٢] مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه. وعفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أهل مكة بعد فتحها ، وعفا عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ، ونزلوا من جبل التنعيم ، فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام : وعفا عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه ـ سيف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٧٧.

٨٣

وهو نائم ، فاستيقظ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في يديه مصلتا ، فانتهره ، فوقع من يده ، وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السيف في يده ، ودعا أصحابه ، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل ، وعفا عنه. وكذلك عفا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المرأة اليهودية ـ وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمد بن مسلمة ، التي سمّت الذراع يوم خيبر ـ فأخبره الذراع بذلك ، فدعاها فاعترفت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حملك على هذا»؟ قالت : أردت إن كنت نبيا لم يضرك ، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك ، فأطلقها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن لما مات منه ـ من السم ـ بشر بن البراء رضي‌الله‌عنه ، قتلها به.

وروي أن زينب أقبلت على عائشة ، فشتمتها ، فنهاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها ، فلم تنته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دونك فانتصري» (١) وهذه تطبيق لقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء ٤ / ١٤٨]. أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المستبّان ما قالا من شيء ، فعلى البادي حتى يعتدي المظلوم» ثم قرأ : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).

ثم إن الله تعالى لم يرغب دائما في الانتصار ، بل بيّن أنه مشروع فقط ، ثم بيّن بعده أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة ، ثم أبان أن العفو أولى بقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

وشرط الله تعالى المماثلة بين الجناية والعقوبة في قوله تعالى :

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي إن عقاب السيئة عقاب مماثل للجرم ، وإن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة ، فإذا قال المسيء : أخزاك

__________________

(١) أخرجه مسلم ، وأخرجه بلفظ آخر النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة ، وجاء فيه : «فقال لي : سبّيها ، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها».

٨٤

الله ، يقول : أخزاك الله ، من غير أن يعتدي. وسمى جزاء السيئة سيئة ، لأنها تسوء من تنزل به.

ونظير الآية قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة ٢ / ١٩٤] وقوله سبحانه : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل ١٦ / ١٢٦] وقوله عزوجل : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام ٦ / ١٦٠].

وهكذا فإن جميع العقوبات المدنية والجنائية في الإسلام تجب فيها المماثلة ، فالقصاص مثلا من القاتل عمدا أو في الجروح واجب بقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة ٢ / ١٩٤] وقوله عزوجل : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة ٢ / ١٩٤] وقوله سبحانه : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة ٥ / ٤٥] لكن رغّب تعالى بالعفو في آخر الآية الأخيرة ، فقال : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) وهنا قال :

(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي من عفا عن الظالم المسيء ، وأصلح بالود والعفو ما بينه وبين معاديه ، فثوابه على الله ، يعطيه جزاء أعظم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة : «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا».

ووصف الله المتقين بقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران ٣ / ١٣٤].

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إنه تعالى لا يحب المبتدئين بالظلم ، ولا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد فيه ، لأن المجاوزة ظلم. والمراد أنه تعالى يعاقب المتجاوز حده. وهذا تأكيد لمطلع الآية في اشتراط المماثلة نوعا ومقدارا.

ثم أكد الله تعالى مشروعية دفع الظلم والبغي ، فقال :

٨٥

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي والله إن المنتصر من الظالم بعد ظلمه له ، لا سبيل عليه بمؤاخذة أو عقوبة ، لأن الانتصار بحق ، فيشرع القصاص في الجنايات العمدية ، والضمان في جنايات الخطأ والإتلافات ، ويجوز الشتم والسب بالمثل دون اعتداء ولا تجاوز.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي إنما المؤاخذة والعقوبة على الذين يبدءون الناس بالظلم ، أو يتعدّون مبدأ المماثلة ، ويتجاوزون الحد في الانتقام ، ويجنون على النفوس والأموال بغير الحق ، ويتكبرون ويتجبرون بظلم الناس ، وسلب الحقوق.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أولئك البادئون بالظلم أو المتجاوزون الحدود لهم عذاب مؤلم شديد بسبب اعتدائهم.

ثم أكد الله تعالى الترغيب في العفو والصفح عند المقدرة ، فقال :

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي بعد أن ذم تعالى الظلم وأهله وشرع القصاص ، ندب إلى العفو والصفح ، فقال : إن من صبر على الأذى ، وستر السيئة ، وغفر خطأ من ظلمه ، فإن ذلك الصبر والمغفرة لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة ، التي يثاب عليها بالثواب الجزيل والثناء الجميل ، لأن الإنسان الغاضب يثبت فيها ويرسخ ، ولا ينطلق وراء شهوة الانتقام.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات ما يأتي :

١ ـ ترغيب المؤمنين بالاتصاف بأمهات الفضائل التي ذكرت في الآيات ليكونوا ورّاث الجنة وأهلها ، وتلك الصفات سبع هي : اجتناب كبائر الإثم والفواحش ، وهي كل ما توعد الله عليه بالعذاب أو أوجب فيه حدا من الحدود

٨٦

المقدرة شرعا ، والتجاوز والحلم عمن ظلمهم ، والانقياد والطاعة لأوامر الله تعالى ، وإقام الصلاة ، والتشاور فيما بينهم ، والبذل والإنفاق في طاعة الله ، والجرأة والشجاعة في دفع البغي والظلم.

٢ ـ قال ابن العربي : مدح الله المشاورة في الأمور ، ومدح القوم الذين يمتثلون ذلك ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشاور أصحابه في الأمور المتعلقة بمصالح الحروب ، وذلك في الآثار كثير ، ولم يشاورهم في الأحكام ، لأنها منزّلة من عند الله على جميع الأقسام : من الفرض ، والندب ، والمكروه ، والمباح ، والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله به علينا ، فكانوا يتشاورون في الأحكام ، ويستنبطونها من الكتاب والسنة ، وإن أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينصّ عليها ، حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما هو معروف ، وقال عمر : نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لديننا ، وتشاوروا في أمر الردّة ، فاستقر رأي أبي بكر على القتال ، وتشاوروا في الجدّ وميراثه ، وفي حد الخمر وعدده ، وتشاوروا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحروب ، حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي قائلا : فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى (١).

وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان أمراؤكم خياركم ، وأغنياؤكم سمحاءكم ، وأمركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، وأموركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها».

٣ ـ إن آية (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) هي غالبا في العلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم ، فقد أصابهم بغي المشركين في الماضي ،

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٥٦.

٨٧

قال ابن عباس : وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه ، وآذوهم وأخرجوهم من مكة ، فأذن الله لهم بالخروج ومكّن لهم في الأرض ، ونصرهم على من بغى عليهم ، وذلك قوله في سورة الحج : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ..) الآيات [٣٩ ـ ٤١].

وليست الآية مقصورة على الماضي ، وإنما هي عامة في بغي كل باغ من كافر وغيره ، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه. وهذا إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود (١) ، وإشارة إلى أن من صفات المؤمنين العزة والكرامة وإباء الذل والشمم ، والاعتزاز بقوة الله والثقة بنصره.

٤ ـ أما إذا كان الظلم بين المسلمين فقط أو بين المسلمين وغيرهم ، فإذا كان الباغي معلنا الفجور ، وقحا يؤذي الصغير والكبير ، فيكون الانتقام منه أفضل ، قال إبراهيم النّخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فتجترئ عليهم الفسّاق. أي أنّه في حال وقوع الأذى أو الضرر العام يكون الانتقام.

وإذا وقعت الجناية خطأ أو فلتة أو تعمدها صاحبها ثم طلب المغفرة ، فالعفو هاهنا أفضل ، وفي مثله نزلت : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة ٢ / ٢٣٧] وقوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة ٥ / ٤٥] وقوله : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) [النور ٢٤ / ٢٢].

٥ ـ إن آية : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أصل كبير في علم الفقه وهو مقابلة الجناية بمثلها ، سواء في العقوبات البدنية أو المالية. وتأول الشافعي في هذه الآية : أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٨ ـ ٣٩.

٨٨

واستشهد في ذلك بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهند زوج أبي سفيان في الحديث المتفق عليه عن عائشة : «خذي من ماله ما يكفيك وولدك» فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه.

٦ ـ اختلف اجتهاد المجتهدين فيما إذا لم يمكن استيفاء الحق إلّا باستيفاء الزيادة ، بسبب التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني ، وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه ، فأيهما أولى؟ وذكر الرازي أمثلة عشرة لهذا الخلاف (١) أشير إليها بإيجاز :

المثال الأول ـ احتج الشافعي رضي‌الله‌عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد : بأن قال : المماثلة شرط لجريان القصاص ، وهي مفقودة في هاتين المسألتين ، فوجب ألا يجري القصاص بينهما.

المثال الثاني ـ احتج الشافعي رضي‌الله‌عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحدة ، فقال : لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم ، فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله ، لهذه النصوص.

المثال الثالث ـ شريك الأب يشرع في حقه القصاص ، لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله ، لقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة ٥ / ٤٥].

المثال الرابع ـ قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : من حرّق حرقناه ، ومن غرّق غرقناه ، والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله.

المثال الخامس ـ شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا : تعمدنا الكذب ، يلزمهم القصاص ، لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه ، فوجب أن يصير دمهم مهدرا لقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٧٩ ـ ١٨٠.

٨٩

المثال السادس ـ قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : المكره يجب عليه القود (القصاص) لأنه صدر عنه القتل ، فوجب أن يجب عليه مثله ، أي كالمكره.

المثال السابع ـ قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : القتل بالمثقل كالحجر والخشب يوجب القود ، لهذه الآية : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ ..).

المثال الثامن ـ الحر لا يقتل بالعبد قصاصا ، كما تقدم ، ولأن القاتل أتلف على مالك العبد شيئا ، فيجب ضمانه ، وإذا وجب الضمان ، وجب ألا يجب القصاص ، إذ لا فرق.

المثال التاسع ـ منافع الغصب مضمونة عند الشافعي رضي‌الله‌عنه ، لأن الغاصب فوّت على المالك منافع تقابل في العرف بمال ، فوجب أن يفوت على الغاصب مثله من المال ، لهذه الآية : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ ..).

المثال العاشر ـ الحر لا يقتل بالعبد قصاصا لعلة ثالثة وهي أنه لو قتل بالعبد لكان هو مساويا للعبد في المعاني الموجبة للقصاص ، لقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [غافر ٤٠ / ٤٠].

والخلاصة : أن قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) يقتضي وجوب رعاية المماثلة مطلقا في كل الأحوال إلا ما استثني وخص بدليل.

٧ ـ لمن عفا وأصلح النزاع بينه وبين الظالم بالعفو : أجر كبير عند الله تعالى. والمقصود من قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم ، لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم ، والانتصار قد يؤدي إلى تجاوز المساواة ، والتعدي ، خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية ، فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالما.

٨ ـ للمظلوم الانتصار من الظالم دون مؤاخذة ولا عقوبة ولا حرج وهل له

٩٠

أن يستوفي ذلك بنفسه؟ هناك ثلاثة أقسام (١) :

الأول ـ القصاص بالنفس إذا ثبت الحق فيه عند الحكام يجوز استيفاؤه من ولي الدم ، لكن يزجره الإمام لجرأته على سفك الدم. أما إذا لم يثبت حقه عند الحاكم ، فيجوز له استيفاؤه ديانة بينه وبين الله ، لكن يؤاخذ قضاء ويعاقب على فعله.

الثاني ـ الحد الخالص لله تعالى الذي لا حق فيه للآدمي كحد الزنى وقطع السرقة : إن لم يثبت عند حاكم عوقب به ، وإن ثبت عند حاكم ، فإن كان قطع يد أو رجل ، سقط به الحد ، ويعزر ، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد ، لتعدّيه ، فيؤاخذ بحكمه.

الثالث ـ الحقوق المالية : يجوز أخذها مغالبة ممن هو عالم بها ، أما غير العالم بها ، فإن أمكن أخذها منه بالمطالبة القضائية وجبت ، ويجوز أخذها سرا ، وإن لم يكن أخذها منه بالمطالبة القضائية ، لجحود من هي عنده ، ولا بينه تشهد بالحق ، فيجوز أخذها سرا عند مالك والشافعي ، ولا يجوز ذلك عند أبي حنيفة.

٩ ـ يؤاخذ الظلمة بعدوانهم ، فيعاقبون في الدنيا ، ولهم عذاب أليم في الآخرة ، وذلك سواء أكان الظلم في النفوس أم في الأموال. والحاكم هو الذي يؤاخذ.

١٠ ـ قال ابن العربي في آية (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ..) : هذه الآية في مقابلة الآية المتقدمة في براءة ، وهي قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٤١.

٩١

مِنْ سَبِيلٍ) [٩٢] فكما نفى الله السبيل عمن أحسن ، فكذلك أثبتها على من ظلم (١).

١١ ـ اختلف العلماء في فرض الحاكم الرسوم والضرائب والأموال على الناس ، هل يجوز الخلاص منها لمن قدر على ذلك ، مع أنه يستوفي جميع المطلوب من الآخرين؟ قال سحنون من المالكية : لا ، وقال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي المالكي : نعم له ذلك إن قدر على الخلاص ، لأن الظلم لا أسوة فيه ، ولا يلزم أحد بظلم مخافة أن يضاعف الظلم على غيره ، والله سبحانه يقول : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ).

١٢ ـ اختلف العلماء في التحليل (٢) والمسامحة عن العرض والمال ، فأجازه على العرض والمال سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين من التابعين. ورأى مالك التحليل من المال دون العرض. ورأى سعيد بن المسيب : ألا يحلله بحال. وجه الرأي الأول : أنه حقه ، فله أن يسقطه كما يسقط دمه وعرضه. ووجه الرأي الثاني : أن التحليل في المال رفق ، وفي العرض يتجرأ الظلمة ويغترون ويسترسلون في أفعالهم القبيحة.

ووجه الرأي الثالث : أنه تحليل ما حرّم الله ، فيكون كالتبديل لحكم الله. والصحيح الجواز بدليل قصة أبي ضمضم الذي كان قد استحل عرضه ، أي سامح من يؤذيه ويشتمه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيما روى مسلم في صحيحة : أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟

١٣ ـ إن ثواب المال المأخوذ ظلما لصاحبه طوال حياته وإلى موته ، ثم يرجع الثواب إلى ورثته ، لأن المال يصير لهم بالإرث.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٥٨.

(٢) التحليل هنا : أن يجعل من ظلمه في حلّ.

٩٢

١٤ ـ من صبر على الأذى ، وغفر بأن ترك الانتصار لوجه الله إذا كان الظالم مسلما ، كان صبره من عزائم الله التي أمر بها ، ومن عزائم الصواب التي وفق لها.

أحوال الكفار أمام النار

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))

الإعراب :

(مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ مِنَ) : ابتدائية ، أو بمعنى الباء.

(إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا الْخاسِرِينَ) : اسم إن ، و (الَّذِينَ) : خبرها.

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ومن يخذل الله ، فلا يوفقه إلى الإيمان ويضله بسبب رضاه بالكفر (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) فليس له أحد يلي هدايته (مَرَدٍّ) رجوع إلى الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) طريق.

(يُعْرَضُونَ عَلَيْها) على النار (خاشِعِينَ) خائفين ذليلين (يَنْظُرُونَ) إليها (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ضعيف النظر مسارقة ، والطرف : العين ، أو مصدر معناه إطباق أحد جفني العين على الآخر ، والمرة منه : طرفة ، و (مِنَ) ابتدائية ، أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك ضعيف لأجفانهم (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) بالتعريض لعذاب الخلد (إِنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين (فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) دائم. وقوله : (إِنَّ الظَّالِمِينَ) تمام كلام المؤمنين ، أو تصديق من الله لهم.

٩٣

(مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (أَوْلِياءَ) نصراء وأعوان يدفع عذابه عنهم (فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) طريق إلى الهدى والنجاة والجنة في الآخرة.

المناسبة :

بعد بيان أن الذين يظلمون الناس ويفسدون في الأرض لهم عذاب أليم على بغيهم وعدوانهم ، ذكر الله تعالى أحوال الكفار عند رؤية عذاب النار ، فهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا ، ويقفون أمام النار ذليلين خائفين ، وتتبين خسارتهم الفادحة بخلودهم في العذاب ، دون أن يجدوا أنصارا يخلصونهم من العذاب. وقد بدئت الآيات وختمت ببيان أن الإضلال من الله تعالى ، وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله تعالى.

التفسير والبيان :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي من يخذله الله بإضلاله إياه ، لعلمه بسوء استعداده للخير والإيمان ، واقترافه المعاصي والآثام ، فما له من أحد يتولى هدايته ونصره ، والأخذ بيده إلى طريق الهدى والرشاد والفوز ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف ١٨ / ١٧] وهذا تحقير لأمر الكفرة ، وبيان أنه لا يقع شيء في الكون من الهدى والضلال وغيرهما إلا بإرادة الله ومشيئته ، حتى لا يوصف بالعجز ، وكشف لأحوال الذين أعرضوا عن دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان بالله تعالى ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.

ثم أخبر الله تعالى عن أحوال الظالمين في الآخرة ، وهم المشركون بالله ، فقال :

١ ـ (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ : هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)؟ أي وتبصر المشركين الكافرين بالله المكذبين بالبعث ، حين نظروا إلى النار ،

٩٤

وعاينوا العذاب ، يتمنون الرجوع إلى الدنيا من أي طريق ، قائلين : هل من سبيل إلى الرجعة؟

ونظير الآية قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٧ ـ ٢٨].

٢ ـ (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي وتبصرهم أيضا يعرضون على النار ، وهم خائفون أذلاء ، يسارقون النظر إليها من شدة الخوف. وهذا شأن الرهبة من العقاب.

٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ويقول المؤمنون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة : إن الخاسرين الخسار الأكبر ، هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، بدخول النار والخلود فيها ، وعلى هذا التأويل يكون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلقا ب (قالَ) ويصح أن يتعلق ب (خَسِرُوا) ويكون قول المؤمنين واقعا في الدنيا ، والظاهر : الأول.

أما خسرانهم لأنفسهم ، فلكونهم صاروا معذبين في النار ، دون أمل في النّجارة ، وأما خسرانهم لأهليهم ، فإن كانوا معهم في النار ، فلا ينتفعون بهم ، ولأنهم كانوا هم السّبب في تعذيبهم ، وإن كانوا في الجنة فقد فرّق بينهم وبيتهم.

٤ ـ (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي ألا إن الكافرين في عذاب دائم لا ينتهي ، ولا يخرجون منه ، ولا محيد لهم عنه ، وهذا تتمة كلام المؤمنين أو تصديق من الله لهم فهو من كلامه.

٥ ـ (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي وليس لهم أعوان وأنصار من غير الله ، ينقذونهم مما هم فيه من العذاب.

٩٥

٦ ـ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي ومن يحجب الله عنه توفيقه إلى الإيمان بسبب علم الله السابق بما سيختاره ويقترفه من الآثام ، فلا طريق له إلى النّجاة والجنّة. أي فلا غرابة في وقوع تلك الظّواهر ، لأنهم ضالّون منحرفون عن سبيل الإيمان والحقّ.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا هادي ولا منقذ ولا ناصر لمن خذله الله ، بسبب إعراضه عن الإيمان بالله ، والمودّة في القربى ، والتّكذيب بالبعث ، وعدم إدراكه أن متاع الدنيا قليل.

٢ ـ يرى المؤمنون الظالمين الكافرين عند عرض النار عليهم ، حال كونهم حقيرين مهانين بسبب ما لحقهم من الذّلّ ، يرونهم قائلين طالبين أن يردّوا إلى الدنيا ، ليعملوا بطاعة الله ، فلا يجابون إلى ذلك.

٣ ـ ويرونهم أيضا حين يعرضون على النار أذلّة صاغرين لا يرفعون أبصارهم للنظر رفعا تامّا ، لأنّهم ناكسوا الرؤوس ، والعرب تصف الذّليل بغضّ الطّرف.

٤ ـ يقول المؤمنون في الجنة ، لما عاينوا ما حلّ بالكفار : إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء الكفار ، فإنهم خسروا أنفسهم ، لأنهم في العذاب المخلّد ، وخسروا أهليهم ، لأن الأهل إن كانوا في النار فلا انتفاع بهم ، وإن كانوا في الجنة ، فقد حدثت القطيعة الدائمة بينهم وبينهم ، ألا إن الظالمين في عذاب دائم لا ينقطع.

٥ ـ ليس لأولئك الكافرين الظالمين أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب

٩٦

الله ، وليس للأصنام التي كانوا يعبدونها بقصد الشافعة لهم عند الله أي مجال في الشفاعة : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ٤٠ / ١٨] ، ومن أضلّه الله وخذله ، فلا طريق له يصل به إلى الحق في الدنيا والجنة في الآخرة ، لانسداد طريق النّجاة عليه.

الاستجابة لنداء الله مالك السموات والأرض

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

الإعراب :

(لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ لا) : نافية للجنس ، و (مَرَدَّ) : اسمها المبني على الفتح ، والجارّ والمجرور الأول : صفة له ، والآخر : خبره.

(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً يَجْعَلُ) : بدل من (يَخْلُقُ) بدل البعض من الكلّ.

البلاغة :

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) فيها ما يسمى بالتّقسيم.

٩٧

المفردات اللغوية :

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أجيبوا نداء ربّكم إلى ما فيه نجاتكم بالتّوحيد والعبادة الخالصة لله. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) هو يوم القيامة. (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) لا يردّه الله بعد ما حكم به ، فيكون (مِنَ اللهِ) صلة (لا مَرَدَّ) ويصح كونه صلة ل : (يَأْتِيَ) أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه. (مَلْجَإٍ) مأمن أو منجى أو ملاذ تلجؤون إليه. (نَكِيرٍ) إنكار لذنوبكم يومئذ.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإجابة (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) رقيبا أو محاسبا لأعمالهم. (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) ما عليك إلا تبليغ الرسالة ، وقد بلّغت. (رَحْمَةً) نعمة كالصحّة والغنى. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) الضمير يعود لجنس الإنسان. (سَيِّئَةٌ) بلاء من مرض أو فقر أو خوف أو موت عزيز مثلا. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما قدّموا لأنفسهم من ذنوب وآثام ، وعبّر بالأيدي ، لأن أكثر الأفعال تزاول بها. (كَفُورٌ) جحود للنّعمة ، نسّاء لها ، ذكّار للبلية ، يذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها. وهذا وإن اختصّ بالمجرمين من الناس ، جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه.

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) الله المالك يهب ويمنح بعض الناس إناثا فقط أو ذكورا فقط ، أو يجعل لهم الذّكور والإناث ، أو يجعل من يشاء عقيما ، فلا يلد ولا يولد له. والمعنى : يجعل أحوال العباد في الأولاد أربعة أصناف مختلفة على مقتضى المشيئة ، ولعل تقديم الإناث ، لتكثير النسل وتطييب قلوب الآباء ، والتّكريم والاهتمام ردا على العرب الذين يعدّونهن بلاء. وعرف (الذُّكُورَ) للمحافظة على فواصل الآيات على نسق واحد : (نَكِيرٍ) ، (كَفُورٌ) ، (الذُّكُورَ). (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) إنه تعالى يفعل بحكمه واختيار ، عليم بما يخلق ، قدير على ما يشاء.

المناسبة :

بعد الإفاضة في وعد المؤمنين ووعيد الكافرين وبيان أحوال الكفار أمام النار ، ذكر الله تعالى الهدف والغاية ، وهو الاستجابة لدعوة الله إلى التوحيد والعبادة الخاصة ، محذّرا من أهوال القيامة ، ومبيّنا أنهم إن أعرضوا عن دعوته ، فلا يؤبه بهم ، وأن من شأن الإنسان جحود النعمة ، لبيان سبب إعراضهم

٩٨

وإصرارهم على مذاهبهم الباطلة ، ثم ذكر تعالى مثلا من تقسيم هبات الأولاد ليكون دليلا على تصرف الله في العالم.

التفسير والبيان :

يحذّر تعالى من أهوال يوم القيامة ، ويأمر بالاستعداد له ، فيقول :

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي أجيبوا دعوة ربّكم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله ، واتّبعوا ما جاءكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من قبل مجيء يوم يكون كلمح البصر ، ليس له دافع ، ولا مانع ، فلا يردّه أحد ، أو لا يردّه الله بعد أن حكم به ، وهو يوم القيامة. واستجاب وأجاب بمعنى واحد.

(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي ليس لكم فيه حصن أو ملجأ تتحصّنون أو تلجؤون إليه ، ولا تجدون يومئذ من ينكر ما ينزل بكم من العذاب ، ولا تقدرون إنكار شيء مما اقترفتموه من السّيئات ، لرصده في صحفكم ، وشهادة ألسنتكم وجلودكم به ، فلا ملجأ من الله إلا إليه ، كما قال تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ : أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).

والنّكير بمعنى المنكر ، كالأليم بمعنى المؤلم ، أو بمعنى الإنكار ، أي إنكار ما ينزل بهم من العذاب ، والنّكير والإنكار : تغيير المنكر.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا ، فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي فإن أعرض المشركون عن إجابة دعوة الله ورسوله ، فما أرسلناك أيها الرّسول موكّلا بهم ، رقيبا عليهم ، تحفظ أعمالهم وتحصيها ، حتى تحاسبهم عليها ، فما عليك إلا تبليغ ما أرسلناك به ، وليس عليك غيره.

ونظائر الآية كثير ، مثل : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢٢] ،

٩٩

ومثل : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة ٢ / ٢٧٢] ، ومثل: (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرّعد ١٣ / ٤٠].

وهذا كله تسلية من الله تعالى لرسوله ، ثم بيّن الله تعالى سبب إصرارهم على مذاهبهم الباطلة وهو طبع الإنسان ، فقال :

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي وإننا إذا أعطينا الإنسان منا نعمة ، وغمرناه بالرّخاء كالصّحة والأمن وسعة الرّزق ، فرح بذلك ، وإن أصيب الناس بسيئة ، كجدب ونقمة ، وبلاء وشدّة ، ومرض أو فقر ، بسبب ما اقترف من المعاصي والذنوب ، فإن الإنسان جحود ما تقدّم من النّعم ، ينساها ولا يذكرها بسبب الضّر الواقع عليه ، ولا يعرف إلا الساعة الراهنة ، فإن أصابته نعمة بطر وأشر ، وإن أصابته محنة يئس وقنط. والكفور : المبالغ في كفران النّعم.

ويظهر أثر هذا في الواقع المتكرر من أكثر النّساء ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنّساء فيما أخرجه مسلم وابن ماجه عن ابن عمر : «يا معشر النّساء ، تصدّقن ، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار ، فقالت امرأة : ولم يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأنكنّ تكثرن الشكاية ، وتكفرن العشير ـ الزوج ـ ، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدهر ، ثم تركت يوما قالت : ما رأيت منك خيرا قطّ».

أما المؤمن الصالح فشأنه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد ومسلم عن صهيب : «إن أصابته سرّاء ، شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرّاء ، صبر ، فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».

ثمّ حذّر تعالى من الاغترار بالدنيا ، وما ملكه الإنسان من المال والجاه ، فقال مبيّنا أن الكلّ ملك الله ونعم الله :

١٠٠