التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

٧ ـ رفع الله تعالى من معنويات نبيه إلى القمّة بأمرين :

الأول ـ إعلامه بأنه على صراط مستقيم يوصله إلى الله ورضاه وثوابه.

الثاني ـ إعلاء مجده وشرفه بالقرآن الذي هو شرف له ولقومه من قريش والعرب قاطبة ، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم ، وسوف تسألون عن الشكر عليه ، وعن العمل بتكاليفه. قال المحققون : في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان.

وقال القرطبي : والصحيح أنه شرف لمن عمل به ، كان من قريش أو من غيرهم.

أخرج الطبري عن ابن عباس قال : أقبل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سريّة أو غزاة ، فدعا فاطمة ، فقال : «يا فاطمة اشتري نفسك من الله ، فإنّي لا أغني عنك من الله شيئا» وقال مثل ذلك لنسوته ، ولعترته ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي ، إن أولى الناس بأمتي المتقون ، ولا قريش بأولى الناس بأمتي ، إن أولى الناس بأمتي المتقون ، ولا الأنصار بأولى الناس بأمتي ، إن أولى الناس بأمتي المتقون ، ولا الموالي بأولى الناس بأمتي ، إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة كجمام (١) الصاع ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى».

وأخرج الطبري أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم ، أو يكونون شرّا عند الله من الجعلان التي تدفع النّتن بأنفها ، كلكم بنو آدم ، وآدم من تراب ، إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس مؤمن تقي وفاجر شقي» (٢).

__________________

(١) الجمام : ما عدا رأس المكيال من الطفاف.

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ٦٤.

١٦١

٨ ـ إن دين التوحيد قديم ، ونبذ الشرك قديم ، فإذا سئلت أمم الرسل عليهم‌السلام قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أذن الله بعبادة الأوثان ، وهل أمر بعبادة غير الله؟ أجابوا عن السؤالين بالنفي. والسبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنكاره لأصنامهم ، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذا الإنكار ، ولكنه دين كل الأنبياء ودعوتهم.

العبرة من قصة موسى عليه‌السلام وفرعون

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

١٦٢

الإعراب :

(وَهذِهِ الْأَنْهارُ) الواو : إما عاطفة على (مُلْكُ مِصْرَ) و (تَجْرِي) حال منها ، أو واو الحال ، و (هذِهِ) مبتدأ و (الْأَنْهارُ) صفتها ، و (تَجْرِي) خبرها.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا أَمْ) هنا : منقطعة ، لأنه لو أراد أم المعادلة لقال : أم تبصرون ، لكنه أضرب عن الأول بقوله : (أَنَا خَيْرٌ) وكأنه قال : أنا خير منه ، فلما كان فيه هذا المعنى ، لم تكن (أَمْ) للمعادلة للهمزة.

البلاغة :

(أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) الاستفهام للتقرير ، لا للإنكار ، أي أقروا بما تعلمون من أني ملك مصر.

المفردات اللغوية :

(بِآياتِنا) الآيات هي المعجزات. (وَمَلَائِهِ) أشراف قومه ورعاياهم القبط ، والمراد بإيراد القصة هنا الاستشهاد بدعوة موسى عليه‌السلام إلى التوحيد ، وتسلية الرسول ومناقضة قول قريش : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) حين جاءهم بآياتنا الدالة على رسالته ، فاجؤوه بضحكهم منها واستهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها. (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) من آيات العذاب كالطوفان والجراد. (إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) إلا وهي أعظم في الإعجاز بحيث يظن أنها أكبر من الآيات الأخرى ، و (أُخْتِها) قرينتها التي قبلها ، والمراد وصف الكل بالكبر ، كقولك : رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض ، أو إلا وهي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي أخذ قهر بعذاب كالسنين (الجدب) والطوفان والجراد. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ليرجعوا عن الكفر أو على نحو يرجى رجوعهم.

(وَقالُوا) لموسى لما رأوا العذاب. (السَّاحِرُ) العالم الماهر ، لأن السحر عندهم علم عظيم. (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) بعهده إليك أنا إن آمنا كشف العذاب عنا ، أو بعهده عندك من النبوة. (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) مؤمنون بشرط أن تدعو لنا ، فيكشف عنا العذاب. (يَنْكُثُونَ) ينقضون العهد الذي عاهدوا به موسى ، ويصرون على الكفر.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) افتخارا ، إما بنفسه أو بواسطة مناديه ، في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم ، مخافة أن يؤمن بعضهم. (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) فروع النيل ، وأهمها أربعة :

١٦٣

نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس ، والمشهور الآن فرع دمياط وفرع الرشيد المكونان لدلتا النيل فيما بينهما. (مِنْ تَحْتِي) تحت قصري وفي جناتي. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) عظمتي.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا أَمْ) منقطعة أي بل أنا مع هذا الملك والسعة أفضل من موسى ، أو متصلة بمعنى : أم تبصرون فتعلمون أني خير منه. (الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) ضعيف حقير ليس أهلا للرياسة ، مأخوذ من المهانة : وهي القلة. (يُبِينُ) يفصح عن مراده بكلامه ، بسبب لثغته في لسانه بالجمرة التي تناولها في صغره.

(فَلَوْ لا) هلا. (أُلْقِيَ عَلَيْهِ) إن كان صادقا. (أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) جمع سوار كأخمرة وخمار ، وقرئ «أساورة» جمع الجمع ، أي جمع أسورة ، وهذا تأثر منه بعادة الملوك ، فإنهم كانوا إذا سؤدوه وتوّجوه ألبسوه أسورة ذهب وطوق ذهب. (مُقْتَرِنِينَ) مقرونين به يعينونه على مخالفه ، أو متتابعين يشهدون بصدقه.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) استخف واستصغر عقولهم ، فدعاهم إلى الضلال ، فأجابوه. (فَأَطاعُوهُ) فيما يريد من تكذيب موسى. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) هذا تعليل للطاعة. (آسَفُونا) أغضبونا بالإفراط في العصيان والعناد ، والأسف : الحزن والغضب معا ، وقد يطلق على أحدهما. (فَأَغْرَقْناهُمْ) في اليم. (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) قدوة لمن بعدهم من الكفار ، جمع سالف ، كخدم وخادم ، وقرئ «سلفا» جمع سليف كرغف. (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) عظة وعبرة لمن يأتي بعدهم.

المناسبة :

بعد بيان طعن قريش بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونه فقيرا عديم المال والجاه ، ذكر الله تعالى شبيها لذلك في قصة فرعون حيث قال : إنّي غني كثير المال والجاه. ولما أمر الله نبيه بسؤال أمم المرسلين ، ذكر هنا قصة موسى ، وبعده عيسى عليهما‌السلام ، للاستدلال بما جاءا به من التوحيد ، وإبطال عبادة الأصنام. ثم ذكر شبهة لفرعون وهي أن الملك يلازم النبوة ، فطلب من موسى بما جرت العادة لديهم أنهم إذا جعلوا منهم رئيسا لهم سوّروه بسوار من ذهب ، وطوّقوه بطوق من ذهب ، أو طلب أن تصاحبه الملائكة لدعم موقفه أمام المخالفين.

١٦٤

وأعقب هذا توضيحا لأثر السلطة والحكم ، فإن فرعون استخف عقول قومه ، حينما دعاهم إلى تكذيب موسى ، فأطاعوه لضلالهم ، فانتقم الله منهم أشد الانتقام.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ. فَقالَ : إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لقد بعثنا موسى مؤيدا بالمعجزات الدالة على صدقه وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية ١٠١] إلى فرعون وأشراف قومه وأتباعهم من القبط وبني إسرائيل ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهاهم عن عبادة ما سواه ، وقال لهم : إني مرسل إليكم من الله رب العالمين : الإنس والجن. ومعجزاته : الطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، والسنين. أي نقص الزروع والأنفس ، والثمرات ، واليد ، والعصا ، فاستكبروا عن الإيمان بها وكذبوها وسخروا منها ، كما قال تعالى :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي فلما أتاهم بتلك الآيات والأدلة على صدقه ، إذا فرعون وقومه يضحكون ويسخرون ممن جاءهم بها. وقوله : (إِذا هُمْ) معناه أنهم فاجؤوا المجيء بها بالضحك عليها والسخرية منها.

وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ، وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وما نري فرعون وملأه من كل حجة دالة على صدق موسى في دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها في الحجية عليهم ، والدلالة على صحة دعوته إلى التوحيد ، مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها ، لقوله : (أُخْتِها) أي مثيلتها وقرينتها في الدلالة على صدق نبوة موسى.

١٦٥

ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم ، فأخذناهم أخذ قهر بإنزال العذاب عليهم بسبب تكذيبهم بتلك الآيات ، لكي يرجعوا عن كفرهم ، ويؤمنوا بالله وحده لا شريك له ، ويطيعوه فيما أمر ونهى.

وكانوا كلما جاءتهم آية يصفونها بالسحر وبأن موسى ساحر ، كما قال تعالى :

(وَقالُوا : يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ، ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي وقالوا يا أيها الساحر العالم ـ وكانوا يسمون العلماء سحرة تعظيما لهم ـ ادع لنا ربك لكشف العذاب عنا بما أخبرتنا به من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب ، فإننا بعدئذ لمؤمنون بما جئت به.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فدعا موسى ربه ، فكشف عنهم العذاب ، فلما كشف عنهم العذاب ، نقضوا عهدهم ، وعادوا إلى كفرهم ، كما جاء في آية أخرى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ، فَاسْتَكْبَرُوا ، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) [الأعراف ٧ / ١٣٣ ـ ١٣٥].

ثم أخبر الله تعالى عن تمرد فرعون وعتوّه وكفره وعناده ، فقال :

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ : يا قَوْمِ ، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ، أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟ أي لما خاف فرعون ميل القوم إلى موسى ، فجمعهم ونادى بصوته فيهم مفتخرا ، أو أمر مناديا ينادي بقوله : أليس لي ملك مصر العظيم ، فلا ينازعني فيه أحد ، والسلطة المطلقة لي ، وأنهار النيل تجري من تحت قصري وبين يدي في جناتي ، أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك ، وتستدلون به على أحقيتي بالسلطة وفرض النظام ، وتنظروا إلى فقر موسى

١٦٦

وضعفه هو وأتباعه عن مقاومتي؟

ونحو الآية (فَحَشَرَ فَنادى ، فَقالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ، فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) [النازعات ٧٩ / ٢٣ ـ ٢٥].

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ، وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي بل أنا خير وأفضل بمالي من الملك والسلطة والسعة والجاه من هذا ، أي موسى الذي هو ضعيف حقير ممتهن في نفسه ، لا عزّ له ، ولا يكاد يبين الكلام ، لما في لسانه من العقدة. وهذا حكم عليه بما يعلم عنه في الماضي ، دون أن يدري أن الله الكريم أزال عقدته ، فقال تعالى : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي) إلى أن قال : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه ٢٠ / ٢٧ ـ ٢٨ و ٣٦] فقد كان أصاب لسانه في حال صغره شيء من اللكنة بسبب الجمرة التي تناولها ، فسأل الله عزوجل أن يحل عقدة لسانه ، ليفقهوا قوله ، فاستجاب الله ذلك. والتعييب بالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد خسّة ونقيصة في صاحبه الذي يعيب ، فذلك لا يعاب به ولا يذم عليه. وفرعون ، وإن كان يدرك هذا ، لكنه أراد التزويج على رعيته الجهلة الأغبياء.

ثم استعلى فرعون على موسى بمظاهر الترف والملوك ، ظنّا منه أن الرئاسة تلازم النبوة ، فقال تعالى :

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي فهلّا حلّي بأساور الذهب إن كان عظيما ، أو هلّا ألقى عليه ربه أساور الذهب إن كان صادقا في نبوته ، وهذا يشبه قول كفار قريش عن استحقاق عظيم القريتين النبوة.

أو جاء معه الملائكة متتابعين متقاربين إن كان صادقا ، يعينونه على مهمته ، ويشهدون له بالنبوة ، فأوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة

١٦٧

الجبابرة أو محفوفين بالملائكة ، ونظر إلى الشكل الظاهر ، ولم يدرك الجوهر المعنوي لحقيقة الرسل.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي فاستهان بعقول قومه ورعيته ، ودعاهم إلى الضلالة ، فاستجابوا له ، وأطاعوه فيما أمرهم به ، وكذّبوا موسى ، إنهم كانوا خارجين عن طاعة الله تعالى.

ثم جاء دور العقاب مما فعلوا ، فقال تعالى :

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فلما أسخطونا وأغضبونا ، انتقمنا منهم أشد الانتقام ، فأغرقناهم جميعا في البحر ، وإنما أهلكوا بالغرق ليناسب ما تفاخروا وتباهوا به وهو قوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي).

أخرج أحمد والطبراني والبيهقي وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء ، وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك استدراج منه له ، ثم تلا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ).

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي فجعلنا فرعون وقومه قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب ، وعبرة وعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين ، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من القصة ما يأتي :

١ ـ إن هذه القصة تمثل صراع الجبابرة الطغاة أصحاب الثروة والمال مع أهل القيم الإنسانية والدينية الرشيدة ذوي الدخل المتوسط أو الفقراء ، تشابهت حالة

١٦٨

فرعون مع موسى ، مع حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كفار قريش أصحاب النفوذ والثراء.

اتفق الأنبياء كلهم على توحيد الإله ، فكذب فرعون وقومه موسى عليه‌السلام ، بالرغم من تدعيمه بالمعجزات وهي التسع آيات ، فكانت عاقبتهم الإغراق بسبب التكذيب ، ونجّى الله موسى وقومه بني إسرائيل ، وجعلت العاقبة الحميدة له. وكذلك حصل الأمر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذّبه قومه فأهلكهم الله ، ونصر رسوله والمؤمنين بدعوته.

٢ ـ كانت حيثيات الحكم ومسوغاته على فرعون وقومه هي الضحك والسخرية والاستهزاء من معجزات موسى عليه‌السلام ، كالسنين (نقص الأنفس والزروع) ونقص الثمرات ، والطوفان والجراد والقمّل والضفادع ، وكانت هذه الآيات عذابا لهم وآيات لموسى.

وكانت المعجزات قوية التأثير ، فما من آية إلا وهي أعظم من أختها ـ سابقتها ـ ومع ذلك لم يؤمنوا بها ، فأخذهم الله بالعذاب على تكذيبهم بتلك الآيات.

ووصفوا موسى بأنه ساحر لما عاينوا العذاب ، تعظيما له على حسب عادتهم في احترام السحرة ، وكانوا يسمون العلماء سحرة ، ويحتمل أنهم أرادوا به الساحر على الحقيقة على الاستفهام ، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا ، وطلبوا منه كشف العذاب عنهم بما أخبرهم عن عهد الله إليه أنهم إن آمنوا كشف عنهم ، فقالوا : إنا لمهتدون فيما يستقبل.

فلما دعا فكشف الله عنهم الكرب والغم ، عادوا إلى كفرهم ، ونقضوا العهد والميثاق الذي جعلوه على أنفسهم ، فلم يؤمنوا.

٣ ـ وبعد أن حكى الله معاملة فرعون مع موسى ، حكى أيضا معاملة فرعون مع ربه ، فلما رأى آيات موسى خاف ميل القوم إليه ، فجمع قومه ، فقال ،

١٦٩

ونادى بمعنى قال ، فرفع صوته بينهم : يا قوم ، أليس لي ملك مصر ، لا ينازعني فيه أحد ، وأنهار النيل تجري من تحت قصري ، أفلا تبصرون عظمتي وقوتي وضعف موسى؟.

ثم صرح بحاله فقال : بل أنا خير من موسى المهين الحقير الضعيف ، والذي لا يكاد يفصح كلامه بسبب العقدة التي كانت في لسانه بحسب علمهم السابق عنه ، ومن لا بيان له ولا لسان كيف يكون نبيا؟! والرجل الفقير كيف يكون رسولا من عند الله إلى الملك الكبير الغني؟!

ثم تعاظم فرعون وتغطرس واعتز بالثروة والملك والمال ، فقال : هلا ألقي عليه أساور من ذهب ، جريا على عادة الوقت وزيّ أهل الشرف ، أو تأيد بجماعة من الملائكة يمشون معا متتابعين مقترنين إن كان صادقا يعاونونه على من خالفه؟ والمعنى : هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه ، حتى يتعزّز بهم ويستعملهم في أمره ونهيه ، فيكون ذلك أهيب في القلوب.

فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في المظاهر ، ولم يعلم أن رسول الله إنما أيّدوا بالجنود السماوية ، وكل إنسان عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده من فرعون مع كثرة أتباعه ، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء ، كان أبلغ في التأييد من أن يكون له أسورة ذهب أو ملائكة أعوان وأدلة على صدقه.

٤ ـ ثم حكى الله علاقة فرعون بقومه ، فإنه استخف عقولهم واستجهلهم فأطاعوه لخفة أحلامهم وقلة عقولهم ، إنهم كانوا فسقة خارجين عن طاعة الله تعالى.

٥ ـ لما تجاوز فرعون وقومه الحدود القصوى ، وأسخطوا الله وأغضبوه ، عاجلهم بالانتقام الشديد ، وأغرقهم الله في أليم.

١٧٠

والفرق بين السخط والغضب : أن السخط إظهار الكراهة ، والغضب إرادة الانتقام ، ولما كان ذكر الأسف والانتقام في حق الله محالا ، أوّل المفسرون ذلك ، فجعلوا الغضب في حق الله إرادة العقاب ، والانتقام إرادة العقاب لجرم سابق.

٦ ـ جعل الله قوم فرعون قدوة لمن عمل عملهم من الكفار ، وعبرة وعظة لهم ولمن يأتي بعدهم من الكافرين.

والخلاصة : إن المقصود من إيراد هذه القصة تقرير أمرين :

أحدهما ـ أن الكفار والجهال يحتجون دائما على الأنبياء بشبهة الفقر والضعف ، وهذا هو سر النبوة والقوة ، فلا يلتفت لما يقولون.

الثاني ـ أن فرعون في أعز حالاته في الدنيا صار مقهورا ، فيكون الأمر في حق أعداء رسول الله هكذا إلى يوم القيامة (١).

العبرة من قصة عيسى عليه‌السلام

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٢١٧.

١٧١

(٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

الإعراب :

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَرْيَمَ) : ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والعجمة ، أو للتعريف والتأنيث.

(أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أَمْ) هنا متصلة ، لأنها معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى «أي» وتقديره : أيهما خير؟ كقولك : أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً ..) من : إما بمعنى البدل ، أي لو نشاء لجعلنا بدلا منكم ، أو زائدة ، أي لجعلناكم.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) : بدل من الساعة ، والمعنى : هل ينظرون إلا إتيان الساعة؟

المفردات اللغوية :

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) جعل مثلا ، أي حجة وبرهانا ، حين نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٨] فقال المشركون ـ على لسان ابن الزّبعرى أو غيره ـ : رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى ، لأنه عبد من دون الله (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي إذا المشركون في قريش من المثل يضحكون ويصيحون ويضجون فرحا بما سمعوا.

(وَقالُوا : أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي قال المشركون : هل آلهتنا الأصنام خير عندك أم عيسى ، فإن كان في النار فلتكن آلهتنا معه ، أو هل آلهتنا الملائكة خير أم عيسى؟ فإذا جاز أن يعبد ، ويكون ابن الله ، كانت آلهتنا الملائكة أولى بذلك (ما ضَرَبُوهُ) المثل (إِلَّا جَدَلاً) ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل ، لعلمهم أن (ما) لغير العاقل ، فلا يتناول عيسى عليه‌السلام (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) شديد والخصومة معتاد واللجاج.

١٧٢

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) أي ما عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي جعلناه بإيجاده من غير أب كالمثل السائر في الغرابة ، يستدل به على قدرة الله تعالى على ما يشاء (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) بدلكم (مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) بأن نهلككم ونخلفكم بالملائكة في الأرض. والمعنى : أن حال عيسى عليه‌السلام وإن كانت عجيبة ، فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك ، وأن الملائكة مثلكم ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليدا ، ويحتمل خلقها إبداعا ، فمن أين لكم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى؟

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي وإن عيسى أو نزوله لدليل تعلم الساعة بنزوله (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) لا تشكن فيها ، حذف منها نون الرفع للجزم ، وواو الضمير لالتقاء الساكنين (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) يصرفكم عن دين الله (وَاتَّبِعُونِ) واتبعوا شرعي وهداي القائم على التوحيد (هذا) الذي آمركم به (صِراطٌ) طريق (مُسْتَقِيمٌ) يوقم (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ) يمنعنكم عن المتابعة ويصرفكم (عَدُوٌّ مُبِينٌ) بيّن العداوة ثابت عليها.

(بِالْبَيِّناتِ) المعجزات أو بآيات الإنجيل (بِالْحِكْمَةِ) بالإنجيل أو بالشريعة (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من أمر الدين لا من أمر الدنيا ، فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم عن أنس وعائشة : «أنتم أعلم بأمور دنياكم». (وَأَطِيعُونِ) فيما أبلغكم عنه (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بيان لما أمرهم بالطاعة فيه ، وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) إشارة لمجموع الأمرين ، وهو تتمة كلام عيسى عليه‌السلام ، أو استئناف من الله يدل على مقتضي الطاعة في ذلك.

(الْأَحْزابُ) الفرق المتحزبة (مِنْ بَيْنِهِمْ) من بين النصارى أو اليهود والنصارى من بين قومه المبعوث هو إليهم في عيسى : أهو الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة (فَوَيْلٌ) كلمة عذاب أو واد في جهنم (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا بما قالوه في عيسى من المتحزبين (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) الضمير لقريش أو للذين ظلموا (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) أي هل ينظرون إلا إتيان الساعة (بَغْتَةً) فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت مجيئها لاشتغالهم بأمور الدنيا.

سبب النزول : نزول الآية (٥٧):

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) : أخرج أحمد بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لقريش : إنه ليس أحد يعبد من دون الله ،

١٧٣

وفيه خير ، فقالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا صالحا ، وقد عبد من دون الله؟ فأنزل الله : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) الآية».

وقد تقدم في آخر سورة الأنبياء عند قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أن عبد الله بن الزّبعري السّهمي قال : خصمت وربّ هذه البنية ، يعني الكعبة ، ألست ـ الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تزعم أن الملائكة عباد صالحون ، وأن عيسى عبد صالح ، وهذه بنو مليح يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى يعبدون عيسى عليه‌السلام ، وهذه اليهود يعبدون عزيرا؟ قال : فصاح أهل مكة ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) ـ الملائكة وعزير وعيسى عليهم‌السلام ـ (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ).

التفسير والبيان :

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) هذا لون آخر من تعنت قريش في كفرهم وعنادهم وجدلهم بالباطل ونوع خامس من كفرياتهم المذكورة في هذه السورة (١) ، والمعنى : ولما جعل ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا في مجادلته مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٨] إذا قومك قريش منه يضجون ويصيحون فرحا بذلك المثل المضروب. أو لم يدروا أن (ما) في قوله (وَما تَعْبُدُونَ) لغير العاقل ، وأن المقصود الأصنام والأوثان ، ولا تتناول الآية عيسى والعزير والملائكة ، فهؤلاء كلهم عباد لله موحدون ، قال عيسى في وصية قومه : الربّ إلهنا إله واحد.

__________________

(١) الأربعة السابقة : هي (١) أنهم جعلوا لله من عباده جزءا (٢) (جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٣) قولهم : لو شاء الرحمن ما عبدنا الأصنام (٤) قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).

١٧٤

(وَقالُوا : أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي وقال كفار قريش مجادلين بالباطل : آلهتنا ليست خيرا من عيسى ، فإن كان كل من عبد من غير الله في النار ، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة. وما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك ، فهم قوم شديد والخصومة ، كثير واللّدد والجدل. أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن جرير عن أبي أمامة رضي‌الله‌عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية: (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)».

ثم أبان الله تعالى أن عيسى عبد من عبيد الله ، فقال :

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ، وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي ما عيسى ابن مريم إلا عبد من عبيدنا أكرمناه وأنعمنا عليه بالنبوة والرسالة ، وجعلنا آية وعبرة لبني إسرائيل ، وبرهانا وحجة على قدرتنا على من نشاء ، فإنا خلقناه من غير أب ، وكان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص وكل مريض بإذن الله ، وخلقه أسهل من خلق آدم من غير أب ولا أم ، قال الله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٥٩]. والله قادر على كل شيء ، ومن مظاهر قدرته :

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي ولو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة في الأرض يعمرونها يخلفونكم فيها. قال بعض النحويين : من : تكون للبدل ، أي لجعلنا بدلكم ملائكة ، مثل قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة ٩ / ٣٨] أي بدل الآخرة. والمراد بالآية التهديد والتخويف وبيان عجائب قدرة الله تعالى.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ، فَلا تَمْتَرُنَّ بِها ، وَاتَّبِعُونِ ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي

١٧٥

وإن نزول المسيح وخروجه أمارة ودليل على وقوع الساعة ، لكونه من أشراطها ـ علاماتها ـ لأن الله سبحانه ينزّله من السماء قبيل الساعة ، كما أن خروج الدجال قبله من أمارات الساعة ، فلا تشكوا في وقوعها ولا تكذبوا بها فإنها كائنة لا محالة ، قبل من أمارات الساعة ، فلا تشكوا في وقوعها ولا تكذبوا فإنها كائنة لا محالة ، واتبعوا هداي فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك ، وهذا المأمور به المدعو إليه طريق قويم موصل إلى النجاة والسعادة.

قال ابن كثير : وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه‌السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مسقطا (١).

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ولا يصرفنكم الشيطان عن اتباع الحق بوساوسه التي يلقيها في نفوسكم ، إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة من عهد أبيكم آدم عليه‌السلام.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ : قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي لما جاء عيسى بالمعجزات والآيات الدالة على صدقه ، وبالشرائع في الإنجيل قال لبني إسرائيل : جئتكم بالشرائع الصالحة التي ترغب في الجميل وتكف عن القبيح ، وبأصول الدين العامة ، من توحيد الله والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر ، وجئتكم أيضا لأوضّح لكم بعض ما تختلفون فيه من أحكام التوراة ، فاتقوا المعاصي ، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وشرائعه وتكاليفه.

ورأس الأمر : التوحيد والعبادة ، فقال مبينا ما أمرهم أن يطيعوه فيه :

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي إن الله عزوجل هو ربي وربكم وإلهي وإلهكم ، فأخلصوا العبادة له ، وعبادة الله وحده ، فإن العمل بشرائعه هو الطريق القويم والمنهج الصحيح السليم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٣٢.

١٧٦

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي فاختلفت الفرق المتحزبة من اليهود والنصارى الذين بعث إليهم عيسى ، في شأنه أهو الله أم ابن الله أم ثالث ثلاثة؟ وصاروا فرقا وأحزابا ، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله ، وهو الحق ، ومنهم من يدعي أنه ولد الله ، ومنهم من يقول : إنه الله ، وقد استقر أمر طوائف النصارى ، الكاثوليك والأرثوذكس على أنه هو الرب والإله ، وكتبوا على الصفحة الأولى من الإنجيل : «هذا كتاب ربّنا وإلهنا يسوع المسيح».

فالويل ثم الويل والعذاب الشديد للذين ظلموا من هؤلاء المختلفين في طبيعة المسيح ، أهي بشرية أم ناسوتية إلهية؟ وهم الذين أشركوا بالله ، ولم يعملوا بشرائعه ، إنه عذاب مؤلم شديد دائم في يوم القيامة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل إلا مجيء القيامة فجأة ، وهم لا يشعرون أو لا يعلمون بمجيئها لانشغالهم بشؤون الدنيا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ ذكر الله تعالى أنواعا خمسة من كفريات المشركين في هذه السورة :

أولها ـ قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً).

ثانيها ـ قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً).

ثالثها ـ قوله : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ).

رابعها ـ قوله : (وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ. عَظِيمٍ).

١٧٧

خامسها ـ قوله هنا : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).

٢ ـ يتعلق المشركون عادة بشبه واهية ، فتراهم يسلكون مسلك الغوغائية ، فيضجون ويصيحون إذا وجدوا شبهة يمكن التعلق بها في الظاهر ، فلو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها ، لأنه تعالى قال : (وَما تَعْبُدُونَ) ولم يقل : ومن تعبدون ، وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل ، ولم يرد المسيح ولا الملائكة ، وإن كانوا معبودين.

٣ ـ يعتمد المشركون على الجدل السوفسطائي الذي يفقد الموضوعية والهدف ، فهو جدل بالباطل ، لذا قالوا : آلهتنا خير أم عيسى؟ وما ضربوا هذا المثل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بقصد إرادة الجدل غير الهادف ، الذي أريد به الغلبة في الكلام ، لا طلب الفرق بين الحق والباطل.

٤ ـ تمسك القائلون بذم الجدل بهذه الآية : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً ..) والحق التفرقة بين نوعين من الجدل : الجدل لتقرير الحق ، وهذا محمود ، والجدل لتقرير الباطل ، وهذا مذموم ، قال تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر ٤٠ / ٤].

٥ ـ إن جميع الأنبياء والرسل صرحوا لأقوامهم أنهم بشر عبيد لله تعالى ، فلا يصح رفع أحد عن المنزلة البشرية كسائر الناس ، وعلى هذا فإن عيسى عليه‌السلام ذو طبيعة بشرية ، وليست إلهية كما يزعم النصارى ، وما هو إلا عبد كسائر عبيد الله أنعم الله عليه بالنبوة ، وجعل خلقه من غير أب آية ، وعبرة لبني إسرائيل والنصارى ، يستدل بها على قدرة الله تعالى ، وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام كلها بإذن الله ، ولم يجعل هذا لغيره في زمانه ، وكان بنو

١٧٨

إسرائيل يومئذ أحبّ الخلق إلى الله عزوجل ، لإيمانهم بالله وتوحيدهم إياه ، فلما كفروا هانوا وغضب الله عليهم.

٦ ـ الله تعالى قادر على كل شيء ، فهو قادر على أن يجعل بدل الإنس ملائكة يكونون خلفاء عنهم في الأرض ، يعمرونها ويشيدون حضارتها ، ويتعاقبون بعضهم إثر بعض في تولي شؤونها كلها.

٧ ـ إن خروج عيسى عليه‌السلام ونزوله من السماء آخر الزمان من أعلام الساعة ، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. ورد في صحيح مسلم : «فبينما هو ـ يعني المسيح الدجال ـ إذ بعث الله المسيح ابن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء ، شرقيّ دمشق بين مهرودتين (١) ، واضعا كفّيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه ، حتى يدركه بباب لدّ (٢) ، فيقتله ..».

وثبت في صحيح مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لينزلنّ عيسى ابن مريم حكما عادلا ، فليكسرنّ الصليب ، وليقتلنّ الخنزير ، وليضعنّ الجزية ، ولتتركنّ القلاص (٣) ، فلا يسعى عليها ، ولتذهبنّ الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعونّ إلى المال ، فلا يقبله أحد».

٨ ـ لمّا جاء عيسى عليه‌السلام بالحكمة وهي أصول الدين كمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، وبعض الذي يختلفون فيه وهو فروع الدين ، أمر قومه بني إسرائيل أن يتقوا الشرك ولا يعبدوا إلا الله وحده ، وأن يطيعوه فيما يدعوهم

__________________

(١) أي شقتين أو حلتين.

(٢) اللّد : بلد معروف قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين.

(٣) القلاص : جمع القلص ، والقلص جمع قلوص : وهي الناقة الشابة من الإبل.

١٧٩

إليه من التوحيد ، وأعلن أن الله ربه وربهم ، وأمرهم بإخلاص العبادة لله ، والتوحيد والعبادة صراط مستقيم ، وما سواه معوّج لا يؤدي إلى الحق.

وإذا كان هذا قول عيسى عليه‌السلام ، فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله؟

٩ ـ اختلفت أحزاب أهل الكتاب من اليهود والنصارى أو الفرق المتحزبة بعد عيسى من النصارى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية ، اختلفوا في عيسى ، فقالت النسطورية : هو ابن الله ، وقالت اليعاقبة : هو الله ، وقالت الملكية : ثالث ثلاثة أحدهم الله ، فويل للذين كفروا وأشركوا عذاب يوم مؤلم وهو يوم القيامة.

١٠ ـ لا ينتظر الأحزاب إلا مجيء القيامة فجأة ، وهم لا يفطنون بمجيئها ، ولا يشعرون بحدوثها. وفائدة قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بعد قوله : (بَغْتَةً) بيان أنهم لا يعرفون وجودها بسبب من الأسباب التي يشاهدونها.

ألوان نعيم المتقين أهل الجنة

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

١٨٠