التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

ذلك بأنه (رَسُولٌ أَمِينٌ) قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته ، وهذا هو الظاهر المناسب لأصول دعوة الرسول قومه وللكلام الآتي بعده ، أما إطلاق بني إسرائيل فهو مطلب فرعي ثانوي بالنسبة لأصل الدعوة.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ، إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي لا تتجبروا ولا تتكبروا عن اتباع آيات الله ، والانقياد لبراهينه ، ولا تترفعوا عن طاعته ومتابعة رسله ، كقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٦٠] إني آتيكم بحجة ظاهرة واضحة لا سبيل إلى إنكارها ، وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والمعجزات القاطعات كالعصا واليد وسائر الآيات التسع ، فهددوه بالرجم كما قال تعالى :

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي أستعيذ بالله وألتجئ إليه وأتوكل عليه مما تتوعدوني به من القتل بالحجارة أو الإيذاء والشتم.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي وإن لم تصدّقوني وتقرّوا بنبوتي وبما جئتكم به من عند الله ، فاتركوني ، ولا تتعرضوا لي بأذى إلى أن يحكم الله بيننا.

فلما يئس من إيمانهم ، ولمس إصرارهم على الكفر وعنادهم ، دعا عليهم فقال :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي فدعا موسى ربه حين كذبوه وهمّوا بقتله بأن هؤلاء قوم مكذبون رسلك مشركون بك ، كما جاء في آية أخرى : (وَقالَ مُوسى : رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ، قالَ : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ..) [يونس ١٠ / ٨٨ ـ ٨٩].

وحينئذ أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر سرا ليلا :

٢٢١

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً ، إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي أجاب الله سبحانه دعاءه ، فأمره أن يسير بقومه بني إسرائيل ليلا ، لأن فرعون وقومه يتبعونكم إذا علموا بخروجكم. وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ، لا تَخافُ دَرَكاً ، وَلا تَخْشى) [طه ٢٠ / ٧٧].

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي دع يا موسى البحر ساكنا منفرجا مفتوحا ، لا تضربه بعصاك حتى يعود كما كان ، ليدخله فرعون وجنوده ، فإنهم قوم مغرقون في اليم. وهذه بشارة من الله بنجاتهم وإهلاك عدوهم ليسكن قلب موسى عليه‌السلام ، ويطمئن جأشه.

ثم ذكر تعالى ما خلّفوه وراءهم من عز ومجد ونعيم وثراء ، فقال :

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي كثيرا ما تركوا في مصر وراءهم من بساتين خضراء ، وحدائق غناء ، وأنهار متدفقة وآبار مترعة بالماء ، وزروع نضرة ، ومنازل ومجالس حسنة وثيرة ، وتنعم بالمال والخير الوفير ، كانوا يرفلون بالنعمة ويتنعمون بعيشة هنية ، ويستمتعون بأنواع اللذة ، كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة ، فيأكلون ويلبسون ما شاؤوا.

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) أي مثل ذلك الإهلاك والسلب والتدمير فعلنا بالذين كذبوا رسلنا ، ونفعل بكل من عصانا ، وأورثنا تلك البلاد بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين في الأرض ، كما قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف ٧ / ١٣٧].

ثم تهكم الله بهم وأبدى عدم الاكتراث بشأنهم قائلا :

٢٢٢

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي لا أسف ولا حزن عليهم من أحد بسبب بغيهم وفسادهم ، بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم ، ولم يمهلوا لتوبة ، لأنها غير منتظرة منهم.

ثم أتبع الله تعالى ما يقابل النقمة بالنعمة للعبرة ، فقال :

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ، مِنْ فِرْعَوْنَ ، إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي لقد خلصنا شعب بني إسرائيل بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة ، من عذاب فرعون الذي كان متعاليا عنيدا ، متكبرا متجبرا ، ومن المسرفين في الكفر بالله ، وارتكاب معاصيه ، ورأس الكفر : ادعاؤه الألوهية والربوبية بقوله : أنا ربكم الأعلى.

وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص ٢٨ / ٤] وقوله سبحانه : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) [المؤمنون ٢٣ / ٤٦].

ويلاحظ أن بيان الإحسان إلى موسى وقومه كان بعد بيان كيفية إهلاك فرعون وقومه ، لأن دفع الضرر مقدم على جلب المصالح والمنافع.

ثم بيّن الله تعالى مدى تكريمه لبني إسرائيل حين ذاك قائلا :

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي لقد اختارهم الله على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك ، لكثرة الأنبياء فيهم ، ولصبرهم مع موسى ، وجهادهم في سبيل الله ، فلما بدلوا الإيمان بالكفر ، والصلاح بالفساد غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.

٢٢٣

وأعطيناهم على يد موسى عليه‌السلام المعجزات الظاهرة والبراهين الواضحة ، وخوارق العادات ، مما فيه اختبار ظاهر ، وامتحان واضح لمن اهتدى به ، ولننظر كيف يعملون. ومنها : إنجاؤهم من الغرق ، وتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المن والسلوى لهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي :

١ ـ لا يغترن أحد بمال أو جاه أو سلطان أو عزّ أو حكم قوي ، فذلك كله للاختبار والامتحان ، فقد ابتلى الله قوم فرعون بالأمر بطاعة الله ورسولهم موسى عليه‌السلام ، فكذبوا وكفروا ، والمقصود أنه عاملهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم ، فكذبوا فأهلكوا ، وهكذا يفعل بأعداء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن لم يؤمنوا.

٢ ـ طلب موسى عليه‌السلام من فرعون وقومه أن يتبعوه في رسالته ، كما قال ابن عباس ، أو أن يرسلوا معه بني إسرائيل ويطلقوهم من العذاب ، كما قال مجاهد ، وهو في الحالين أمين على الوحي ، فما عليهم إلا أن يقبلوا نصحه.

٣ ـ اتبع موسى عليه‌السلام معهم أسلوبا لطيفا ، فنصحهم بألا يتكبروا على الله ولا يترفعوا عن طاعته ، وخاطبهم بما يقنع عقلا ومنطقا ، فذكر لهم أنه يأتيهم بحجة بينة وبرهان واضح على صدقه ، وصحة دعوته ، وإثبات ألوهية الله الواحد الأحد ، وحرص على مسالمتهم قائلا : إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني ، فدعوني واتركوني ، وخلّوا سبيلي وكفّوا عن أذاي.

٤ ـ لم يدع نبي على قومه إلا بعد اليأس من إيمانهم ، وهكذا فعل موسى عليه‌السلام ، فإنه لما وجد إصرار فرعون وقومه على الكفر دعا ربه بأن هؤلاء قوم مشركون ، امتنعوا من الإيمان ، ومن إطلاق بني إسرائيل.

٢٢٤

٥ ـ أجاب الله دعاء موسى عليه‌السلام ، فأمره بأن يسير بمن آمن بالله من بني إسرائيل ليلا قبل الصباح ، فإن فرعون وقومه سيتبعونهم حينما يعلمون بخروجهم.

وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف إما من العدو ، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان.

وأمره ربه أيضا أن يترك البحر الذي فتح لهم أثناء العبور بأمر من الله مفتوحا ساكنا على حاله ، لا يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ، وذلك استدراج لقوم فرعون ليعبروا فيغرقهم الله بعد أن نجى بني إسرائيل.

٦ ـ دلت آية (كَمْ تَرَكُوا ...) على أنه تعالى أغرق قوم فرعون ، ثم ذكر أنهم تركوا أشياء خمسة : هي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والنّعمة بالفتح من التنعيم ، أي حسن العيش ونضارته ، أو سعة العيش والراحة.

أما النّعمة بالكسر من الإنعام : فهي إحسان الله وعطاؤه وأفضاله.

وورث تعالى تلك الديار بما فيها من الخيرات لبني إسرائيل ، بعد أن كانوا مستعبدين فيها ، فصاروا لها وارثين ، كوصول الميراث إلى مستحقيه.

٧ ـ لا أسف ولا حزن على إهلاك فرعون وجنوده ، لأنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم السماء والأرض لأجله ، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح ، فتبكي فقد ذلك.

قال مجاهد : إن السماء والأرض يبكيان على المؤمنين أربعين صباحا. وقال علي وابن عباس رضي‌الله‌عنهما في المؤمن : إنه يبكي عليه مصلّاه من الأرض ، ومصعد عمله من السماء. وهذا تعبير كنائي يراد به فقد الأعمال الصالحة. قال الواحدي في البسيط : روى أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما رواه أبو يعلى

٢٢٥

وأبو نعيم في الحلية : «ما من عبد مسلم إلا له بابان في السماء : باب ينزل منه رزقه ، وباب يدخل فيه عمله وكلامه ، فإذا فقداه بكيا عليه» وتلا هذه الآية.

٨ ـ امتن الله تعالى بحق على بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون وقومه إذ نجّاهم أولا من بطش فرعون وظلمه واستعباده لهم ، وقتله الأبناء ، واستخدام النساء ، وتكليفهم بالأعمال الشاقة ، لأن فرعون كان جبارا عاليا من المشركين ، وليس هذا علو مدح بل علو إسراف.

٩ ـ ثم ذكر ثانيا أنه تعالى اختارهم على علم منه باستحقاقهم على عالمي زمانهم ، لكثرة الأنبياء منهم ، وإيمانهم بموسى وصلاحهم ، فلما بدّلوا تبدل الحال ، وغضب الله عليهم ولعنهم ، وأعد لهم جهنّم وساءت مصيرا.

١٠ ـ ثم أبان ثالثا أنه تعالى أمدهم بالآيات البينات في التوراة ، وبمعجزات موسى التسع ، كإنجائهم من فرعون ، وفلق البحر لهم ، وتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المن والسلوى.

١١ ـ لقد تبين الفارق الواضح في هذه القصة بين الكافرين وبين المؤمنين ، فقد أغرق الله الكفار الأشداء ، ونجّى المؤمنين ، وجعل العاقبة للمتقين ، والنصر للصادقين الصابرين المستضعفين ، وهذا عدل من الله تعالى ، إذ لا يعقل التسوية بين الطائعين والعصاة.

فليعتبر بهذا كفار قريش وأمثالهم ، فقد أهلك الله من هم أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، وأعز سلطانا ومجدا ، وأقوى علما وحضارة.

٢٢٦

إنكار المشركين البعث وإثباته لهم

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩))

الإعراب :

(إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) : (إِنْ) : بمعنى «ما» مثل قوله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) و (هِيَ) مبتدأ ، و (مَوْتَتُنَا) : خبره ، ولا يجوز أن تعمل (إِنْ) هنا في لغة من أعملها ، لدخول (إِلَّا) لأن «إلا» إذا دخلت على «ما» بطل عملها ، ومثلها «إن».

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الَّذِينَ) : إما مرفوع على أنه مبتدأ ، و (أَهْلَكْناهُمْ) خبره ، أو على أنه معطوف على (قَوْمُ تُبَّعٍ) وإما منصوب بفعل مقدر دلّ عليه (أَهْلَكْناهُمْ) وتقديره : وأهلكنا الذين من قبلهم أهلكناهم.

(لاعِبِينَ) حال.

البلاغة :

(إِنَّ هؤُلاءِ) الإشارة هنا للتحقير.

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أسلوب التعجيز.

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ..) استفهام إنكار ، للتحقير والاستصغار.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ هؤُلاءِ) كفار قريش ، لأن الكلام فيهم ، قال البيضاوي : وقصة فرعون ـ السابقة ـ

٢٢٧

وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة ، والإنذار عن مثل ما حل بهم. (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي ما نهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ، وليس هناك حياة أخرى. (بِمُنْشَرِينَ) بمبعوثين أحياء بعد الموتة الأولى ، يقال : نشر الله الموتى وأنشرهم : أحياهم (فَأْتُوا بِآبائِنا) خطاب لمن وعدهم بالنشور والبعث من الرسل والأنبياء. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في وعدكم.

(أَهُمْ خَيْرٌ) في القوة والمنعة. (تُبَّعٍ) كل من ملك اليمن والشّحر وحضر موت ، وجمعه التبابعة وهم ملوك اليمن ، وهذا شبيه بفرعون لدى قدماء المصريين ، وهو كل من ملك مصر. ومن التبابعة : ذو القرنين أو إفريقش ويسمى الصعب ، وجاء بعده عمرو زوج بلقيس ، ثم أبو كرب ابنه ، ثم ذو نواس.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم كعاد وثمود. (أَهْلَكْناهُمْ) بكفرهم ، والمراد : ليس كفار قريش أقوى منهم ، وأهلكوا (لاعِبِينَ) لاهين عابثين. (ما خَلَقْناهُما) وما بينهما (إِلَّا بِالْحَقِ) أي محقين في ذلك ، ليستدل به على قدرتنا على البعث وغيره وعلى وحدانيتنا وغير ذلك. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي كفار مكة لا يعلمون ذلك ، لقلة نظرهم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة فرعون وقومه مع موسى عليه‌السلام ليتعظ بها كفار قريش ، عاد إليهم بعد أن وصفهم أولا بأنهم في شك من البعث والقيامة ، وأنهم في إصرارهم على كفرهم مثل قوم فرعون الذين أهلكهم ونجّى بني إسرائيل ، وذكر هنا صراحة أنهم منكرون للبعث ، ثم رد عليهم بأن الله خالق السموات والأرض وما بينهما قادر على بعثهم ، ثم توعدهم بالهلاك ، كما أهلك قوم تبّع من قحطان ملوك اليمن ، الذين هم أقوى منهم.

وبه تبين أن الله هدد كفار مكة بمصير مشؤوم ، مثل مصير قوم فرعون وقوم تبّع.

التفسير والبيان :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ : إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي

٢٢٨

إن كفار مكة هؤلاء يقولون : ما هي وما العاقبة إلا الموتة الأولى التي نموتها بعد هذه الحياة الدنيوية ، ولا حياة بعدها ، ولا بعث ، وما نحن بمبعوثين.

وهذا إنكار من الله تعالى على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد ، وأنه ما ثمّ إلا هذه الحياة الدنيا ، ولا حياة بعد الممات ، ولا بعث ولا نشور ، وهذا كقوله تعالى : (وَقالُوا : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٩].

ثم احتجوا بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا مخاطبين النبي والمؤمنين :

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فإن كان البعث حقا ، فأرجعوا إلينا آباءنا بعد موتهم إلى الدنيا ، إن كنتم صادقين فيما تدعونه من البعث.

يروى أنهم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعجل الله لهم إحياء الموتى ، فينشر كبيرهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة البعث ، فلم يجبهم الله إلى ذلك.

وهذه حجة واهية ، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة ، لا في الدار الدنيا ، بل بعد انقضائها وذهابها ، يعيد الله العالمين خلقا جديدا.

ثم هددهم تعالى وتوعدهم وأنذرهم بأسه الذي لا يرد ، فقال :

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، أَهْلَكْناهُمْ ، إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي أهم كفار قريش الذين هم عرب من عدنان خير في القوة والمنعة ، أم قوم تبّع الحميري الذين هم عرب من قحطان ، الذين كانوا أقوى جندا وأكثر عددا ، وكان لهم دولة وحضارة عريقة ومجد ، وكذلك الأمم الذين سبقوهم ، كعاد وثمود ونحوهم ، أهلكناهم جميعا لكفرهم وإجرامهم ، فإهلاك من هو دونهم لجرمه وضعفه وعجزه بالأولى ، فهم ليسوا بخير من قوم تبع في العدد والعز والمنعة.

٢٢٩

وتبّع : رجل صالح دار في الدنيا بجيوشه وغلب أهلها وقهرهم ، وقد كانت حمير وهم سبأ ، كلما ملك فيهم رجل سموه تبّعا ، كما يقال (كسرى) لمن ملك الفرس ، و (قيصر) لمن ملك الروم ، و (فرعون) لمن ملك مصر كافرا ، و (النجاشي) لمن ملك الحبشة ، وغير ذلك من الألقاب السلطانية.

أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسبّوا تبّعا فإنه قد أسلم». وكان يكتب إذا كتب : بسم الله الذي ملك برا وبحرا.

ثم أقام تعالى الدليل على قدرته الفائقة ليستدل بذلك على إمكان البعث ، فقال :

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي كيف ينكرون البعث ، وقد شاهدوا أدلة قدرتنا في خلق هذا الكون ، فإنا خلقنا هذه السموات والأرضين وما بينهما من المخلوقات المنظورة وغير المنظورة ، ما خلقنا ذلك عبثا ولعبا ، وباطلا ولهوا ، وإنما بإبداع لا مثيل له ، ولحكمة منقطعة النظير ، كقوله جل وعلا : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٧] وقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ، فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٥ ـ ١١٦] فهذا برهان على صحة البعث. وإنما جمع السموات في قوله. (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ) لموافقة قوله في أول السورة : (رَبِّ السَّماواتِ).

(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما إلا خلقا ملازما للحق ، ولإظهار الحق ، وهو الاستدلال على وجود الخالق ووحدانيته ، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك ، لقلة نظرهم ، فصاروا لا يرجون ثوابا ولا يخشون عقابا.

٢٣٠

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لا يؤمن المشركون بالبعث ، فهم قوم ماديون دهريون كما في آية أخرى : (وَقالُوا : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية ٤٥ / ٢٤] وقالوا هنا : ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى في عالم الذر والنطف دون الموتة الثانية.

٢ ـ احتجوا بحجة واهية وهي الإتيان بآبائهم وأجدادهم أحياء ، بعد أن ماتوا ، وتلك مغالطة ، لأن المقصود بالبعث : هو إحياء جميع الخلق بعد فناء الدنيا ، ولأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف مرة أخرى.

قيل : إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل ، قال : يا محمد ، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما ـ قصيّ بن كلاب ، فإنه كان رجلا صادقا ، لنسأله عما يكون بعد الموت.

٣ ـ إنهم بهذا القول استحقوا العذاب ، إذ ليسوا هم خيرا من قوم تبّع والأمم المهلكة ، وإذا أهلكنا أولئك ، فكذا هؤلاء. وكان من قبلهم أظهر نعمة وأكثر أموالا ، وأعز وأشد وأمنع جانبا ، فأهلكهم الله لكفرهم وإجرامهم.

قال القرطبي : وليس المراد بتبّع رجلا واحدا ، بل المراد به ملوك اليمن ، فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة ، فتبّع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين ، وكسرى للفرس ، وقيصر للروم.

ثم قال : والظاهر من الآيات أن الله سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء ، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم اشدّ من معرفة غيره ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا

٢٣١

أدري أتبّع لعين أم لا؟» ثم قد روي عنه أنه قال فيما رواه أحمد عن سهل بن سعد : «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم». فهذا يدلك على أنه كان رجلا واحدا بعينه ، وهو ـ والله أعلم ـ أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه ، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها ، ثم انصرف عنها لمّا أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد (١).

٤ ـ لم يخلق الله السموات والأرض عبثا ولهوا ، وإنما خلقهما بالأمر الحق ، وللحق ، ولإقامة الحق وإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته ، ولكن أكثر الناس وهم في الماضي مشركو مكة لا يعلمون ذلك.

٥ ـ لم يذكر كفار مكة في نفي الحشر والنشر شبهة حتى يجاب عنها ، ولكنهم أصروا على الجهل والتقليد في ذلك الإنكار ، لذا اقتصر الله تعالى على الوعيد والتهديد بأن يتعرضوا للهلاك مثلما أهلك قوم فرعون وقوم تبّع.

أهوال يوم القيامة التي يتعرض لها الكفار والعصاة

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٤٤ وما بعدها.

٢٣٢

الإعراب :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ) : اسم (إِنَ) و (مِيقاتُهُمْ) : خبرها ، و (أَجْمَعِينَ) : توكيد ضمير (مِيقاتُهُمْ).

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى ... يَوْمَ) : بدل منصوب من (يَوْمَ) الأول.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ مَنْ) : بالنصب على الاستثناء المنقطع ، وبالرفع : إما بدل من ضمير (يُنْصَرُونَ) أي ولا ينصر إلا من رحم الله ، أو بدل من (مَوْلًى) الأول ، أي يوم لا يغني إلا من رحم الله ، أو مبتدأ ، تقديره : إلا من رحم الله فيعفى عنه.

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَالْمُهْلِ) : خبر ثان ، و (يَغْلِي) بالياء : لتذكير المهل ، وهو خبر ثالث ، ويقرأ بالتاء : لتأنيث الجرّة ، وهو حال من المهل.

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّكَ) بالكسر : على الابتداء ، وتقرأ بالفتح بتقدير حذف حرف الجر ، أي ذق لأنك العزيز الكريم عند نفسك.

البلاغة :

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) تشبيه مرسل مجمل.

(الرَّحِيمُ الزَّقُّومِ الْأَثِيمِ الْحَمِيمِ الْجَحِيمِ الْكَرِيمُ) سجع رصين لا تكلف فيه ، فيه جمال.

المفردات اللغوية :

(يَوْمَ الْفَصْلِ) يوم القيامة ، سمي بذلك ، لأنه يفصل فيه بين الناس ، فيفصل المحق عن المبطل بالجزاء ، ويفصل الحق عن الباطل (مِيقاتُهُمْ) وقت موعدهم للعذاب الدائم (لا يُغْنِي) لا يدفع عنه (مَوْلًى) ناصر بقرابة أو صداقة ، ويطلق المولى في الأصل على السيد والعبد وابن العم والناصر والحليف والقريب والصديق (شَيْئاً) من العذاب أو الإغناء (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون منه.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه ، وهم المؤمنون فإنه يشفع بعضهم لبعض بإذن الله (الْعَزِيزُ) الغالب في انتقامه من الكفار ، فلا ينصر من أراد تعذيبه (الرَّحِيمُ) من أراد أن يرحمه ، وهم المؤمنون.

(شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) هي شجرة ذات ثمر مرّ ، تنبت بتهامة ، شبهت بها شجرة الجحيم ، وهي

٢٣٣

الشجرة الملعونة التي ينبتها الله تعالى في قعر جهنم (الْأَثِيمِ) الكثير الإثم ، والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه ، مثل أبي جهل وأصحابه وأمثالهم من الملاحدة ذوي الإثم الكبير في كل عصر. (كَالْمُهْلِ) ما يمهل في النار حتى يذوب أو دردي الزيت الأسود ، أي عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس أو غيره من المعادن (الْحَمِيمِ) الماء الساخن الشديد الحرارة.

(خُذُوهُ) أي يقال للزبانية : خذوا الأثيم (فَاعْتِلُوهُ) بكسر التاء وضمها : جرّوه وسوقوه بغلظة وشدة وعنف ، ومنه العتل : الجافي الغليظ (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) وسط النار (عَذابِ الْحَمِيمِ) أي من الحميم الذي لا يفارقه العذاب ، فهو أبلغ من قوله : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ) لأن المراد : يصب من فوق رؤوسهم عذاب هو الحميم ، للمبالغة ، ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف ، وزيدت (مِنْ) للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ) أي يقال له : ذق العذاب ، استهزاء به أو تقريعا على ما كان يزعمه (الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) بزعمك وقولك : ما بين جبليها أعز وأكرم مني (إِنَّ هذا) إن هذا العذاب (تَمْتَرُونَ) تشكون فيه أو تمارون.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٣) وما بعدها :

(إِنَّ شَجَرَةَ) : أخرج سعيد بن منصور عن أبي مالك قال : إن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزّبد ، فيقول : تزقموا ، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد ، فنزلت : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ..).

نزول الآية (٤٩):

(ذُقْ إِنَّكَ ..) : أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال : «لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا جهل ، فقال : إن الله أمرني أن أقول لك : «أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى» فنزع يده من يده ، وقال : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء ، لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء ، وأنا العزيز الكريم ، فقتله الله يوم بدر ، وأذله وعيّره بكلمته ، ونزل فيه: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)».

وأخرج ابن جرير الطبري عن قتادة نحوه. قال أبو جهل لرسول الله

٢٣٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بين جبليها أعزّ ولا أمنع منى ، فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، فنزلت الآية.

المناسبة :

بعد إثبات البعث والقيامة ، أعقبه تعالى بذكر ما يتعرض له الكافر يوم القيامة من أهوال بفقد الأعوان والنصراء ، وتجرع الزقوم ، وشرب المهل عكر الزيت والقطران ، وجره بشدة وعنف إلى جهنم ، وصب الماء الحميم البالغ منتهى السخونة والحرارة فوق رأسه ، وتقريعه والاستهزاء به فيما زعمه من عز وإكرام ، جزاء الشك بيوم البعث والقيامة.

التفسير والبيان :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) إن يوم القيامة الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق ، فيعذب الكافرين ، ويثيب المؤمنين ، هو ميعاد جميعهم ووقت حسابهم وجزائهم جميعا ، يجمعهم كلهم أو لهم عن آخرهم ، ليميز المحسن من المسيء ، والمحق من المبطل ، كقوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ ٧٨ / ١٧]. وسمى يوم القيامة (يَوْمَ الْفَصْلِ) لأنه تعالى يفصل بين عباده في الحكم والقضاء ، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار ، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون ، وبين الكافرين وبين ما يشتهون ، فيفصل بين الوالد وولده ، والرجل وزوجته ، والمرء وخليله.

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي يوم لا ينفع قريب قريبا ، ولا يدفع عنه شيئا من العذاب أو الإغناء ، ولا هم يمنعون من عذاب الله ، فلا يفيد المؤمن الكافر ولا ينصر القريب قريبه ، كقوله تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة ٦٠ / ٣] وقوله سبحانه : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ ، فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ، وَلا يَتَساءَلُونَ)

٢٣٥

[المؤمنون ٢٣ / ١٠١] وقوله عزوجل : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ، يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج ٧٠ / ١٠ ـ ١١] أي لا يسأل أخ له عن حاله ، وهو يراه عيانا ، وقوله جل وعلا : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة ٢ / ٤٨].

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي لكن من رحمه‌الله فإنه ينتصر وينجو ، ولا يحتاج إلى ناصر غيره ، إن الله هو الغالب الذي لا يفلت أحد من أعدائه من عذابه ، (الرَّحِيمُ) : ذو الرحمة الواسعة بعباده المؤمنين ، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا ، ويجوز أن يكون متصلا ، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين ، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض.

وبعد إقامة الدليل على أن القيامة حق ، ووصف ذلك اليوم ، أردفه تعالى بوعيد الفجار الكفار الجاحدين لقاءه ، قائلا :

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) أي إن الشجرة التي خلقها الله في جهنم وهي الشجرة الملعونة ، يكون ثمرها طعام أهل النار الكثيري الإثم ، قولا وفعلا ، فإذا جاعوا أكلوا منها ، ويدخل معهم أبو جهل. و (الْأَثِيمِ) : مبالغة الآثم.

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي وذلك الطعام يشبه دردي الزيت ، وعكر القطران ، والنحاس المذاب ، يغلي في بطون الكفار كغلي الماء الشديد الحرارة ، لحرارته ورداءته. شبه ما يصير في البطون منها بالمهل : وهو النحاس المذاب.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) يقال للملائكة الذين هم خزنة النار : خذوا هذا الأثيم ، فادفعوه وجروه إلى وسط النار بعنف وغلظة.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي ثم صبوا على رأسه الماء الشديد الحرارة المتقدم الوصف ، كقوله عزوجل : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) [الحج ٢٢ / ١٩ ـ ٢٠].

٢٣٦

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي : وقولوا له تهكما وتقريعا وتوبيخا : ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك في الدنيا.

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي إن هذا العذاب هو الذي كنتم تشكون فيه ، حين كنتم في الدنيا. وهو كقوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ، هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور ٥٢ / ١٣ ـ ١٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن يوم القيامة هو يوم الحسم النهائي في مصير الخلائق ، وهو يوم الفصل ، لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه ، فيتميز المسيء من المحسن ، والمبطل من المحق ، ويكون هناك فريقان : فريق في الجنة ، وفريق في السعير. وهذا غاية في التحذير والوعيد.

٢ ـ من خصائص يوم القيامة : فقد النصراء والأعوان والأقارب ، فلا ينصر المؤمن الكافر لقرابته ، لكن من رحمه‌الله فإنه ينجو وينتصر بنصر الله ، ولا يحتاج إلى معونة المخلوقين ، والله سبحانه في ذلك اليوم هو المنتقم من أعدائه ، الرحيم بأوليائه ، كما قال : (شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ) [غافر ٤٠ / ٢] فقرن الوعد بالوعيد.

٣ ـ إن طعام أهل النار وهم الآثمون الفجار هو الثمر الشديد المرارة من شجرة الزقوم التي لا تقبل الاحتراق في النار ، وهو لشدة حرارته ورداءته يغلي في بطون الكفار ، كغلي الماء الشديد السخونة ، فإذا جاع أهل النار أكلوا منها ، فغلت في بطونهم كما يغلي الماء الحار.

٤ ـ يتعرض أهل النار لأنواع كثيرة من الإهانة والذل ، منها : أنهم بواسطة

٢٣٧

الزبانية يدفعون في النار على وجوههم دفعا قويا جدا ، ويساقون إليها سوقا عنيفا ، ويلقون في وسط النار ليذوقوا عذابها الشديد.

ومنها : أنه يقال للأثيم الفاجر توبيخا وتقريعا وتهكما واستهزاء : ذق هذا العذاب فإنك كنت تزعم أنك المتعزز المتكرم ، والمراد : إنك أنت الذليل المهان.

ومنها : أن ملائكة العذاب زبانية جهنم تقول للكفار : إن هذا العذاب هو ما كنتم تشكون فيه في الدنيا ، كما قال تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر ١٠٢ / ٥ ـ ٧].

ما يلقاه المتقون من ألوان النعيم في الجنان

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

الإعراب :

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) بدل من (مَقامٍ).

(يَلْبَسُونَ) خبر ثان ل (إِنَ) أو حال من الضمير في الجارّ ، أو استئناف.

(مُتَقابِلِينَ) حال من واو (يَلْبَسُونَ).

(كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ) الكاف : إما في موضع الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، تقديره :

٢٣٨

الأمر كذلك ، أو في موضع النصب على أنها وصف لمصدر محذوف ، تقديره : يفعل بالمتقين فعلا كذلك.

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يَدْعُونَ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في (زَوَّجْناهُمْ) والباء : ليست للتعدية ، لأن (يَدْعُونَ) متعد بنفسه ، وإنما هي للحال ، تقديره : متلبسين بكل فاكهة ، بمنزلة الباء في قولهم : خرج زيد بسلاحه ، أي متلبسا بسلاحه.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) استثناء منقطع ، أي لكن قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا ، والبصريون يقدرون «إلا» في الاستثناء المنقطع ب «لكن» والكوفيون يقدرونه ب «سوى».

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ فَضْلاً) : إما منصوب على المصدر المؤكد ، وتقديره : ويفضل عليهم فضلا ، أو منصوب بفعل مقدر ، وتقديره : أعطاهم فضلا.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) الهاء تعود على الكتاب ، وقد تقدم ذكره في أول السورة في قوله تعالى : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ).

المفردات اللغوية :

(فِي مَقامٍ) مجلس أو مكان ، والمقام والمقام بمعنى واحد (أَمِينٍ) يؤمن فيه من كل خوف وهمّ وحزن (جَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ) ينابيع جارية (سُندُسٍ) ما رقّ من الديباج أو الحرير (إِسْتَبْرَقٍ) ما غلظ منه وهما معرّبان (مُتَقابِلِينَ) في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض ، فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم.

(كَذلِكَ) أي الأمر كذلك ، أو آتيناهم مثل ذلك (وَزَوَّجْناهُمْ) قرناهم (بِحُورٍ عِينٍ) بنساء بيض حسان واسعات الأعين (يَدْعُونَ) يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه وغيرها (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) أي في الآخرة ، بل يحيون فيها دائما (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) الاستثناء منقطع أو متصل ، والمراد به المبالغة في تعميم النفي وامتناع الموت ، فكأنه قال : لا يذوقون فيها الموت إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل (وَوَقاهُمْ) حماهم وحفظهم ، وقرئ : «ووقيهم».

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب (يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) سهلنا القرآن حيث أنزلناه بلغتك ، لتفهمه العرب منك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لعلهم يفهمونه فيتعظون به ، فيؤمنون بك (فَارْتَقِبْ) انتظر هلاكهم إذا لم يتذكروا ولم يؤمنوا (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) منتظرون هلاكك وما يحل بك.

٢٣٩

المناسبة :

بعد وعيد الكفار الأشقياء وبيان ما يتعرضون له من أهوال الآخرة ، ذكر تعالى وعده للمتقين الأبرار السعداء وما أعده لهم من جنات النعيم ذات المآكل والمشارب والملابس والزوجات الفائقة ، وأنه نعيم أبدي. ثم أتبعه بختام للسورة يناسب مطلعها وهو الامتنان على العرب بنزول القرآن بلغتهم لّيعملوا بأحكامه ، فإن كذّبوا انتقم الله منهم.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات خمسة أنواع لنعيم الجنان لبيان وعد الأبرار ، وهي :

١ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي إن المتقين لله في الدنيا باتقاء الشرك والمعاصي وامتثال الفرائض ، لهم مساكن آمنة من جميع المخاوف ، طيبة المكان والنزهة ، فهي في بساتين غناء وينابيع متدفقة بالماء ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين ٨٣ / ٢٢ ـ ٢٨].

وهذا في مقابلة ما للكفار من شجرة الزقوم وشرب الحميم.

٢ ـ ٣ : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ) أي ملابسهم من الحرير الرقيق والغليظ ، ذي البريق واللمعان والجمال الأخّاذ ، وجلوسهم على صفة التقابل بقصد الاستئناس ونظر بعضهم لبعض ، كقوله تعالى : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الصافات : ٣٧ / ٤٣ ـ ٤٤].

٢٤٠