التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

ويستجيب أي يجيب ، قال الزجاج : استجاب وأجاب بمعنى واحد (١).

وبعد أن وعد المؤمنين بالثواب أو عد الكافرين بالعذاب ، فقال :

(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي وللكافرين الذين لم يؤمنوا بالله رسوله يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات الكريمات ما يأتي :

١ ـ إن مبدأ الإسلام هو العمل للدنيا والآخرة معا ، كما قال تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص ٢٨ / ٧٧]. وقال عبد الله بن عمر : «واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا». والحرث : العمل والكسب.

٢ ـ فضّل الله تعالى من أراد الآخرة على من أراد الدنيا في الآية من وجوه ستة هي :

الأول ـ أنه قدم تعالى مريد حرث الآخرة في الذّكر على مريد حرث الدنيا.

الثاني ـ أنه قال في مريد حرث الآخرة : (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) وقال في مريد حرث الدنيا : (نُؤْتِهِ مِنْها) وكلمة «من» للتبعيض ، أي نعطيه بعض ما يطلبه ، ولا نؤتيه كله.

__________________

(١) تبين بهذا أن قوله تعالى : وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ .. الَّذِينَ إما فاعل مرفوع تقديره : ويجيب المؤمنون الله فيما دعاهم إليه ، وإمّا مفعول محله النصب ، والفاعل مضمر وهو الله ، وتقديره : ويستجيب الله للمؤمنين ، إلا أنه حذف اللام ، كما حذف في قوله : (وَإِذا كالُوهُمْ) [المطففين ٨٣ / ٣] والثاني أولى كما ذكر الرازي.

٦١

الثالث ـ أنه تعالى سكت عن طالب حرث الآخرة ، ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا ، أما طالب حرث الدنيا ، فإنه تعالى بيّن أنه لا يعطيه شيئا من نصيب الآخرة على التنصيص ، وهذا يعني أن الآخرة أصل والدنيا تبع ، وواجد الأصل يكون واجدا للتبع بقدر الحاجة.

الرابع ـ أنه تعالى بيّن أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه ، وأما طالب الدنيا فيعطى بعض مطلوبه من الدنيا ، ويحرم من نصيب الآخرة.

الخامس ـ إن الآخرة نسيئة ، والدنيا نقد ، والنسيئة مرجوحة بالنسبة إلى النقد ، لأن الناس يقولون : النقد خير من النسيئة ، فبين تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا ، فالأولى متجهة للزيادة والنمو ، والثانية آيلة إلى النقصان.

السادس ـ الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا تحتاج إلى حرث وعمل وتعب ، وصرف المتاعب إلى ما يؤدي إلى التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يؤدي إلى النقصان والانقضاء والفناء (١).

٣ ـ استنبط ابن العربي من هذه الآية : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) أن الوضوء تبردا الذي هو من حرث الدنيا ، لا يجزئ عن فريضة الوضوء الذي هو من حرث الآخرة ، خلافا لأبي حنيفة رحمه‌الله تعالى (٢).

٤ ـ إن شرع الله الدائم هو ما أنزله على أولي العزم من الرسل ، والله لم يشرع الشرك ، فمن أين يدين المشركون به؟

٥ ـ من رحمة الله بالمشركين تأخير العذاب عنهم إلى القيامة ، ليعطوا فرصة

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٦٢.

(٢) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٥٥.

٦٢

كاملة في أيام العمر كله للإقلاع عن الشرك والكفر ، والدخول في ساحة الإيمان والرضا الإلهي. فإن ماتوا مشركين فلهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع.

٦ ـ يبصر الناس الكافرين الظالمين خائفين في يوم القيامة من جراء ما كسبوا ، والجزاء حتما نازل بهم. والمراد بالظالمين هاهنا الكافرون ، بدليل التقسيم بين المؤمن والكافر.

أما المؤمنون الطائعون لربهم فهم في روضات الجنان ، ولهم ما يشتهون من النعيم والثواب الجزيل ، وذلك هو الفضل الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى حقيقته ، لأن الله إذا وصف الفضل بأنه (الْكَبِيرُ) فمن ذا الذي يقدر قدره. قال الرازي : وفي الآية تنبيه على أن الفساق من أهل الصلاة كلهم في الجنة ، إلا أنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بروضات الجنات ، وهي البقاع الشريعة من الجنة.

٧ ـ يبشر الله عباده المؤمنين بالثواب العظيم حثا لهم على الطاعة ، وليتعجلوا السرور ، ويزدادوا منه. ولكن هذا الجزاء والبشارة ، إنّما هو على الإيمان والأعمال الصالحات.

٨ ـ عظّم الله تعالى ثواب المؤمنين من وجوه أربعة هي :

الأول ـ أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصالحات روضات الجنات ، وترتيب هذا الجزاء من الله صاحب السلطان الأعظم دليل على أن ذلك الجزاء قد بلغ النهاية التي لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى.

الثاني ـ أنه تعالى قال : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وهذا يدخل في باب غير المتناهي.

الثالث ـ أنه تعالى قال : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) وإذا كان هذا من الله الأكبر كان في غاية الكبر.

٦٣

الرابع ـ أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم ، فقال : (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) وذلك يدل على غاية العظمة.

٩ ـ إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطلب من قومه أي منفعة مادية على تبليغ الرسالة ، وهذا دليل على صدقه وإخلاصه ، والحد الأدنى الذي طالب به هو مراعاة قرابته من قريش. قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوسط الناس في قريش ، فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، فقال الله له : (قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي لكن أذكركم قرابتي منكم.

وقد صرح أكثر الأنبياء ، بنفي طلب الأجر على تبليغ الرسالة ، فقال نوح عليه‌السلام : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٠٩] وكذا قال هود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام (١).

١٠ ـ إن قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) يشمل قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش ، وآل بيته الأقارب ، وهم كما جاء في بعض الأحاديث : علي وفاطمة والحسن والحسين ، فمراعاة قرابته وحبهم واحترامهم واجب بالنص القرآني المذكور ، لذا شرع الدعاء لهم في خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو منصب عظيم ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمدا وآل محمد» وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، مما يدل على أن حب آل محمد واجب.

ذكر الزمخشري حديثا طويلا في حب آل البيت جاء فيه : «من مات على حب آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد ، مات مؤمنا مستكمل الإيمان .. ألا ومن مات على بعض آل محمد ، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة الله» (٢).

__________________

(١) الشعراء : ١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠

(٢) الكشاف : ٣ / ٨٢

٦٤

وقال الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه :

يا راكبا قف بالمحصّب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضا حبّ آل محمد

فليشهد الثقلان أني رافضي

١١ ـ من يكتسب حسنة أو خصلة من خصال الخير ، ومنها مودة القربى تأكيدا للآية السابقة ، ضاعف الله له الحسنة بعشر فصاعدا ، ومن فضله ورحمته تعالى أنه غفور للذنوب ، شكور للحسنات. والشكور في حق الله مجاز ، والمعنى : إنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي زيادة الأفضال عليهم.

١٢ ـ أنكر القرآن الكريم على المشركين قولهم : إن هذا ليس وحيا من الله تعالى ، وكان قوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) متعلقا بالمذكور ، أول السورة ، (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ...). وكان إنكاره في هذه الآية متكررا ، فوبخهم أولا بقوله : (أَمْ يَقُولُونَ ..) وثانيا بقوله : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) قال قتادة : يطبع على قلبك فينسيك القرآن ، فأخبرهم الله أنه لو افترى عليه لفعل بمحمد ما أخبرهم به في هذه الآية. وثالثا بقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي بما أنزله من القرآن ، ورابعا بقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) وهو نص عام ، أي بما في قلوب العباد.

١٣ ـ فتح الله تعالى باب الأمل والرجاء والتوبة لعباده جميعا ليتداركوا أمرهم ، فيؤمنوا ويطيعوا ربهم ، فذكر أنه يقبل التوبة في المستقبل عن عباده ، ويعفو عن سيئات الماضي ، ويعلم ما يفعل الناس من الخير والشر ، فيثيب على الحسنات ، ويعاقب على السيئات.

روى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : اللهم إني

٦٥

أستغفرك وأتوب إليك ، وكبّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي‌الله‌عنه : يا هذا ، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين ، فتوبتك تحتاج إلى توبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة؟ فقال :

اسم يقع على ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندم ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة ، كما ربّيتها في المعصية ، وإذاقة النفس ومرارة الطاعة ، كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.

١٤ ـ أكد الله تعالى قبول التوبة بأنه يقبل عبادة من أخلص له بقلبه وأطاع ببدنه ، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه أو استحقوه.

١٥ ـ جرت عادته تعالى على إقران الوعد بالوعيد ، لذا ذكر بعد وعد المؤمنين بالثواب ، وعيد الكافرين بالعذاب الشديد.

من مظاهر حكمة الله في خلقه وآياته على قدرته

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى

٦٦

ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦))

الإعراب :

(وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ فِيهِما) : أي في أحدهما ، فحذف المضاف ، كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ) [الرحمن ٥٥ / ٢٢] أي من أحدهما ، فحذف المضاف.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ .. فَبِما) : الفاء في جواب الشرط ، وقرئ بغير فاء ، وحذفت إما لأن (ما) بمعنى الذي ، فحذفت كما تحذف مع الذي ، أو أن (ما) الشرطية لا تعمل في الفعل شيئا ، لأنه فعل ماض ، فحذفت الفاء ، وهذا أولى من الأول ، لأنها أعم في كل مصيبة ، فكان المعنى أقوى.

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ... وَيَعْلَمَ يُوبِقْهُنَ) : مجزوم بالعطف على قوله تعالى: (فَيَظْلَلْنَ) المعطوف على جواب الشرط. و (يَعْلَمَ) : بتقدير «أن» بعد الفاء ، ونصب الفعل بها ، لأنه غير معطوف على ما قبله ، ويقرأ بالرفع : «ويعلم» على الاستئناف. وجملة (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) سدت مسد مفعولي (يَعْلَمَ) لأن النفي يعلق الفعل عن العمل.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ .. فَما) : موصولة تضمنت معنى الشرط ، لأن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا ، فجازت الفاء في جوابها.

البلاغة :

(يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) : عطف عام على خاص ، فالغيث خاص ، والرحمة عام.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) : تشبيه مرسل مجمل ، حذف منه وجه الشبه ، أي كالجبال في الضخامة والعظم.

٦٧

(صَبَّارٍ شَكُورٍ) من صيغ المبالغة.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية :

(بَسَطَ) وسع (لِعِبادِهِ) لجميعهم (لَبَغَوْا) جميعهم أي طغوا وتجاوزوا الحد ، والبغي : الظلم ومجاوزة الحد (يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ) بتقدير معين (ما يَشاءُ) ما اقتضته مشيئته (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي إنه يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم.

(الْغَيْثَ) المطر الذي يغيث من الجدب (قَنَطُوا) يئسوا من نزوله (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) يعم رحمته كل شيء من السهل والجبل والنبات والإنسان والحيوان (الْوَلِيُ) المتولي عباده بالإحسان (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد على نعمه.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهي بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم (وَما بَثَّ فِيهِما) نشر وفرّق ، وهو معطوف على السموات أو على كلمة (خَلْقُ) أي وخلق ما بث (دابَّةٍ) كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم (جَمْعِهِمْ) للحشر والحساب ، وفي الضمير : تغليب العاقل على غيره (إِذا يَشاءُ) في أي وقت يشاء (قَدِيرٌ) متمكن منه. وإذا : تدخل على الماضي وعلى المضارع.

(مُصِيبَةٍ) بلية وشدة (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) فبسبب معاصيكم ، وعبر بالأيدي ، لأن أكثر الأفعال تزاول بها (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من الذنوب ، فلا يعاقب عليه ، وهو تعالى أكرم من أن يثنّي الجزاء في الآخرة. أما ما يصيب غير المذنبين فلرفع درجاتهم وتعريضهم للأجر العظيم في الآخرة.

(وَما أَنْتُمْ) أيها البشر (بِمُعْجِزِينَ) فائتين الله هربا في الأرض ، أي بجاعلين الله تعالى عاجزا بالهرب منه (دُونِ اللهِ) غيره (وَلِيٍ) يحرسكم (نَصِيرٍ) يدفع عذاب الله عنكم الجواري السفن الجارية ، جمع جارية : وهي السفينة التي تجري على الماء : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ١١] (كَالْأَعْلامِ) كالجبال في العظم ، جمع علم : وهو الجبل.

(يُسْكِنِ الرِّيحَ) يجعلها ساكنة لا تتحرك ، وقرئ «الرياح». (رَواكِدَ) ثوابت سواكن (صَبَّارٍ) كثير الصبر (شَكُورٍ) كثير الشكر ، وهما صفتان للمؤمن الكامل ، لأن الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ، والمؤمن يصبر في الشدة ، ويشكر في الرخاء (يُوبِقْهُنَ) يهلكهن أو يغرقهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة والمراد : إهلاك أهلها ، لقوله : (بِما كَسَبُوا)

٦٨

اقترفوا من الذنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي يتجاوز عن الكثيرين وينجيهم من الهلاك بالعفو عنهم.

(وَيَعْلَمَ) عطف على علة مقدرة ، مثل ليغرقهم وينتقم منهم ويعلم (مَحِيصٍ) مهرب من العذاب ، وجملة النفي (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) سدت مسد مفعولي (يَعْلَمَ) والنفي يعلّق الفعل عن العمل ، كما تقدم.

(فَما أُوتِيتُمْ) أيها الناس المؤمنون وغيرهم ، وآتاه الشيء : أعطاه إياه (مِنْ شَيْءٍ) من أمتعة الدنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فهو مجرد متاع مؤقت تتمتعون به فيها ، ثم يزول. والمتاع : ما ينتفع به ويتمتع من أثاث وغيره (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب الأخروي (خَيْرٌ وَأَبْقى) لخلوص نفعه ودوامه (يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون إليه أمورهم بعد اتخاذ الأسباب.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٧):

(وَلَوْ بَسَطَ) : أخرج الحاكم وصححه عن علي قال : نزلت هذه الآية في أصحاب الصّفّة : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) وذلك أنهم قالوا : لو أن لنا ، فتمنوا الدنيا والغنى. وقال خبّاب بن الأرتّ : فينا نزلت هذه الآية ـ أي في أهل الصفّة ـ وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ، فتمنيناها.

نزول الآية (٣٦):

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : عن علي رضي‌الله‌عنه : تصدّق أبو بكر رضي‌الله‌عنه بماله كله ، فلامه جمع ، فنزلت. جاء في الحديث : أنه أنفق ثمانين ألفا.

المناسبة :

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : عن علي رضي‌الله‌عنه : تصدّق أبو بكر رضي‌الله‌عنه بماله كله ، فلامه جمع ، فنزلت. جاء في الحديث : أنه أنفق ثمانين ألفا.

المناسبة :

بعد أن قال الله تعالى في الآية السابقة : إنه يجيب دعاء المؤمنين ، ذكر هنا أنه لا يعطيهم من الأرزاق إلا بقدر وحكمة ، حسبما يعلم من مصلحتهم ، وإلا

٦٩

فإنهم يبغون ويقدمون على المعاصي. ولو احتاجوا أمدهم بالرزق ، لأنه المتولي أمورهم بإحسانه ، المستحق الحمد على نعمه.

ثم أقام الله تعالى الأدلة على ألوهيته بخلق السموات والأرض وما فيهما ، ثم جمعهم للحساب في الآخرة. ثم أوضح أن المصائب والأحوال المكروهة كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والفقر ونحوها تكون عقوبات على الذنوب لمن يرتكبها ، أو من باب الامتحان في التكليف ، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء.

ثم ذكر تعالى دليلا آخر على ألوهيته وهو إجراء السفن العظيمة على وجه البحر ، وتأثير الرياح فيها إما بالتسيير وإما بالإغراق.

والخلاصة : بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من دلائل وحدانيته ، ذكر بعدها العالم الأكبر وهو السموات والأرض ، ثم العالم الأصغر ، وهو الحيوان ، ثم أتبعه بذكر المعاد وذكر السفن الجارية في البحر ، لما فيها من عظيم دلائل القدرة.

التفسير والبيان :

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي لو وسع الله على عباده رزقهم ، وأعطاهم فوق حاجتهم من الرزق ، لحملهم ذلك على البغي والطغيان ، وعصوا في الأرض ، وبطروا النعمة ، وتكبروا ، وطلبوا ما ليس لهم طلبه مثل قارون وفرعون ، ولكنه تعالى ينزل من الرزق لعباده بتقدير معين ، على حسب مشيئته ، وما تقتضيه حكمته البالغة ، ويختار لهم مما فيه صلاحهم ، فيغني من يستحق الغنى ، ويفقر من يستحق الفقر ، إنه بعباده خبير بأحوالهم ، بصير بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه ، كما جاء في الحديث القدسي عن انس : «إن من

٧٠

عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».

قال قتادة : كان يقال : خير العيش ما لا يهليك ولا يطغيك.

ثم ذكر الله تعالى أنه لو احتاج الناس إلى الخير أمدهم به ، فقال :

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي وهو سبحانه الذي ينزل المطر من بعد إياس الناس في وقت حاجتهم وفقرهم إليه ، والمطر أنفع أنواع الرزق ، وأكثرها فائدة ونفعا ، ويعم الوجود كله برحمته ، ويفيض على أهل ذلك القطر أو الناحية فيضه ، وهو المتولي لأمور عباده بالإحسان إليهم ، وجلب النفع لهم ، ودفع الشر عنهم ، وهو المستحق للحمد منهم على إنعامه.

ونظير الآية في إنزال المطر بعد اليأس قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) [الروم ٣٠ / ٤٩].

قال قتادة : ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : يا أمير المؤمنين ، قحط المطر ، وقنط الناس ، فقال عمر : مطرتم ، ثم قرأ الآية : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).

ثم ذكر تعالى الأدلة على ألوهيته ، فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه : خلق السموات والأرض على هذا النحو البديع ، وخلق ما نشر وفرق فيهما ، أي في السموات والأرض مما يدب ويتحرك ، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم

٧١

وطباعهم. وربما يكون في الكواكب الأخرى أحياء ، فتدل الآية عليهم.

وقيل : أراد ما بث في الأرض دون السماء ، لأن المراد من (فِيهِما) في أحدهما ، كما جاء في آية أخرى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) [لقمان ٣١ / ١٠].

(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) وهو على جمع سائر الخلائق من السموات والأرض في صعيد واحد ، وحشرهم يوم القيامة ، إذا أراد ، قادر كل القدرة ، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل الحق.

والمقصود بالآية أنه تعالى خلق الكائنات الحية متفرقة ، لا لعجز ، ولكن لمصلحة ، فلهذا قال : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ)(١)(قَدِيرٌ) يعني الجمع للحشر والمحاسبة ، وإنما قال : (عَلى جَمْعِهِمْ) ولم يقل : على جمعها ، لأن المقصود من هذا الجمع المحاسبة ، فكأنه تعالى قال : وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير.

ثم ذكر تعالى أسباب الذنوب والآثام ، فقال :

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي ما أصابكم أيها الناس من المصائب (وهي الأحوال المكروهة) كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والزلازل ونحوها ، فإنما هي بسبب سيئات اقترفتموها ، ومعاص اقتحمتموها ، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها ، ويعفو الله عن كثير من معاصي العباد ، فلا يعاقب عليها ، وقد يكون المصاب لغير ذنب ، وإنما لزيادة الأجر ورفع الدرجة.

ونظير مقدمة الآية قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) إذا كما بينا تدخل على المضارع ، كما تدخل على الماضي ، قال تعالى : وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل ٩٢ / ١] ومنه إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ.

٧٢

طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء ٤ / ١٦٠] وقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء ٤ / ١٢٣]. ونظير آخر الآية : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر ٣٥ / ٤٥]. وورد في الحديث الصحيح عن الشيخين والموطأ عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : «والذي نفسي بيده ، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفّر الله عنه بها من خطاياه ، حتى الشوكة يشاكها» وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفّرها».

ولما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ، ولا اختلاج عرق ، ولا عثرة قدم إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر». وفي حديث آخر : «ما ينزل العقاب إلا بذنب ، ولا يرتفع إلا بتوبة». وروى الواحدي في البسيط : «ما عفا الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة ، وما عاقب عليه في الدنيا ، فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة».

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ما أنتم أيها المذنبون الكافرون بمعجزين الله حيثما كنتم ، ولا بفائتين عليه هربا في الأرض ، بل ما قضاه عليهم من المصائب ، واقع عليهم ، نازل بهم ، وليس لكم من غير الله ولي يتولى أموركم ، فيمنع عنكم ما قضاه الله ، ولا نصير ينصركم من عذاب الله.

ثم ذكر الله تعالى آيات أخرى دالة على قدرته وعظمته ، فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه إجراء السفن السائرة في البحر كالجبال.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي إن يرد الله

٧٣

إيقاف السفن التي تجري ، يجعل الرياح ساكنة ، فتصبح السفن ثوابت سواكن على ظهر البحر ، واقفة على وجه الماء لا تتحرك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في أمر السفن المذكور وجريها في البحر لدلالة عظيمة على قدرته تعالى ، لكثير الصبر على الشدائد والبلايا وعلى طاعة الله ، كثير الشكر على النعماء. وهذه جملة معترضة.

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ، وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي وإن يشأ يهلكهنّ بالغرق بما كسبوا من الذنوب ، ويعف عن كثير من ذنوبهم ، أو عن كثير منهم ، فينجيهم من الغرق ، ولو آخذهم بجميع ذنوبهم ، لأهلك كل من ركب البحر.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي لينتقم منهم ويعلم حينئذ الذين ينازعون في آيات الله مكذبين بها أنه لا مفر ولا مهرب ولا ملجأ من عذاب الله ، فإنهم مقهورون بقدرة الله وسلطانه.

وبعد بيان أدلة التوحيد حذر الله تعالى من الاغترار بالدنيا ، فقال :

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن كل ما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق والجاه والسلطان ، فإنما هو متاع قليل في الدنيا يتمتع به في زمن قصير ، ثم سرعان ما ينقضي ويذهب ، لأن الدنيا فانية زائلة لا محالة ، ويلاحظ أن الذي يمنع من قبول دلائل التوحيد إنما هو الرغبة في الدنيا ومطامعها بسبب الرياسة وطلب الجاه ، لذا حذر تعالى من الاغترار بالدنيا ، ورغّب في الآخرة ، فقال :

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي وما عند الله من ثواب الطاعات وجزاء الجنات خير من متاع الدنيا ، وأبقى وأدوم ، لأنه لا ينقطع ، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة ، فلا تقدموا الفاني على الباقي. وهو خير

٧٤

وأبقى للذين صدّقوا بالله ورسوله ، وعلى ربهم يعتمدون في كل شؤونهم ، ويفوضون إليه أمورهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن الإمداد بالرزق يخضع لحكمة الله ومشيئته ، فيعطي بقدر الحاجة ، وعلى وفق المصلحة ، فلو بسط الله الرزق لعباده ، لوقعوا في المعاصي ، وبغى بعضهم على بعض ، لأن الغنى مبطرة مأشرة ، وكفى بقارون وفرعون عبرة ، ولذا قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق ٩٦ / ٦ ـ ٧] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها».

٢ ـ قال المالكية : أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح ، وإن لم يجب على الله الاستصلاح ، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه ، قاده ذلك إلى الفساد ، فيزوي عنه الدنيا ، مصلحة له. فليس ضيق الرزق هوانا ، ولا سعة الرزق فضيلة ، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد ، ولو فعل بهم خلاف ما فعل ، لكانوا أقرب إلى الصلاح ، والأمر على الجملة مفوّض إلى مشيئته ، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى.

٣ ـ يتولى الله أمور عباده بالإحسان والإنعام ، فلو احتاجوا أغناهم بقدر الحاجة ، وأنزل عليهم المطر الذي يكون سببا لوفرة الخيرات والغلال والثمار ، وعمهم بالرحمة ، وهو سبحانه الولي المتولي شؤون عباده وناصر أوليائه المؤمنين ، والمحمود على كل لسان.

٤ ـ من دلائل وجود الله ووحدانيته وقدرته : خلق السموات والأرض

٧٥

وما فيهما من المخلوقات التي لا يعلم حصرها إلا الله تعالى ، وأنه قادر على جمعهم للحشر والحساب يوم القيامة.

ويرى بعض العلماء استدلالا بقوله تعالى : (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أنه لا يستبعد وجود مخلوقات في الكواكب والعوالم العلوية غير الملائكة ، كما تدل الدلائل الفلكية ـ وربما اكتشاف سفن الفضاء الحديثة ـ على وجود حياة في كوكب المرّيخ. وليس في هذا دلالة قطعية ، لأن في تفسير الآية وجها آخر كما تقدم.

٥ ـ المصائب في الغالب تكون بسبب الذنوب والمعاصي ، فهي عقوبات على السيئات ، وقد تكون للابتلاء كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد : «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل» والقصد من الابتلاء رفع الدرجات ، لأن الأنبياء معصومون عن الذنوب والآثام ، ويكون حصول المصيبة من باب الامتحان في التكليف ، لا من باب العقوبة ، كما في حق الأنبياء والأولياء.

والعقوبة عن الذنب في الدنيا كفارة له في الآخرة ، وهذا في حق المؤمنين ، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة.

قال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه عن آية : (وَما أَصابَكُمْ ...) : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عزوجل. وإذا كان يكفّر عني بالمصائب ، ويعفو عن كثير ، فما يبقى بعد كفارته وعفوه؟!

٦ ـ إن قدرة الله عامة شاملة لكل شيء ، ومهيمنة على كل شيء ، فلن يستطيع الكفار والمشركون أن يعجزوه أو يفوتوه هربا من سلطانه ، ولن يجدوا لهم في الآخرة وليا يتولى أمورهم ، ويتعهد مصالحهم ، ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب الله وانتقامه ، فهم في الدنيا والآخرة في قبضة القدرة الإلهية.

٧٦

٧ ـ من آيات الله تعالى أيضا على قدرته ، ونعمته على العباد ، هذه السفن السائرة في عرض البحر على سطح الماء عند هبوب الرياح ، أو ما حل محلها من الطاقة الدافعة لمحركاتها ، مما صنعه الإنسان بإلهام الله وتعليمه والتمكن من اكتشافه ، وشأن الأجسام الثقيلة الكثيفة الغرق في الماء ، لكنه تعالى جعل للماء قوة لحمل السفن ومنع الغوص ، ثم جعل الرياح سببا لسيرها ، فإذا أراد أن ترسو أسكن الريح.

والله قادر على جعل الرياح ساكنة هادئة ، فتبقى السفن سواكن على ظهر البحر ، وقادر على تعطيل آلاتها وإيقاف محركاتها بأيسر الأشياء ، وهو قادر أيضا على جعل الرياح عواصف فيوبق السفن ، أي يغرق ركابها بذنوبهم ، ويعفو عن كثير من أهلها فلا يغرقهم معها ، وحينئذ يعلم الكفار إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أو بقيت السفن رواكد أنه لا ملجأ لهم سوى الله تعالى ، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة.

إن في أمر السفن دلالات وعلامات لكل صبار على البلوى ، شكور على النعماء ، قال قطرب : نعم العبد الصبار الشكور ، الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر. وقال عون بن عبد الله : فكم من منعم عليه غير شاكر. وكم من مبتلى غير صابر.

٨ ـ لا ينبغي التفاخر بمظاهر الدنيا ، فإن كل ما فيها من ثروات وقصور ومبان وآلات ، هو متاع يستمتع به في أيام قليلة تنقضي وتذهب. وما عند الله من الثواب على الطاعة خير وأدوم للذين صدّقوا بالله ووحّدوه ، وتوكلوا على ربهم وفوضوا إليه أمورهم.

٧٧

صفات المؤمنين الكمّل أهل الجنة

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))

الإعراب :

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ .. الَّذِينَ) معطوف مجرور على «الذين» في قوله تعالى : (خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا) وكذلك أيضا قوله تعالى (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) في موضع جرّ أيضا بالعطف عليه.

(هُمْ يَغْفِرُونَ هُمْ) : إما تأكيد لضمير (غَضِبُوا) و (يَغْفِرُونَ) : جواب إذا ، وإما مبتدأ ، خبره : (يَغْفِرُونَ) والتقدير : فهم يغفرون ، فحذف الفاء في جواب الشرط.

وكذلك قوله تعالى : (هُمْ يَنْتَصِرُونَ).

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ لَمَنْ) : اسم موصول مبتدأ ، و (إِنَّ ذلِكَ) في حكم المبتدأ الثاني ، والعائد محذوف تقديره : إن ذلك الصبر منه ، وحذف للعلم به ، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره : في موضع رفع ، لأنه خبر المبتدأ الأول.

٧٨

البلاغة :

(كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) عطف البعض على الكل.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) من قبيل المشاكلة ، سمي جزاء السيئة سيئة للتشابه بينهما في الصورة.

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) معطوف مع ما بعده على (لِلَّذِينَ آمَنُوا). (كَبائِرَ الْإِثْمِ) ما رتب عليه وعيد شديد ، كشهادة الزور وعقوق الوالدين ، أو كل ما يوجب حدا ، كالقتل العمد والقذف والسرقة والزنى ونحوها (وَالْفَواحِشَ) ما فحش وعظم قبحه كالزنى والقتل ونحوهما ، جمع فاحشة ، وهو من عطف البعض على الكل (يَغْفِرُونَ) يعفون ويتجاوزون.

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أجابوا إلى ما دعاهم إليه ربهم من التوحيد والعبادة ، وأداء الفرائض وترك النواهي (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) داوموا على إقامتها (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) الشورى : مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ، أي أمرهم ذو شورى ، يتشاورون ، ولا ينفردون برأي حتى يتشاوروا وذلك من فرط تيقظهم في الأمور ، وإحكام الخطط ، والظفر بالمطلوب ، والشورى : تبادل الآراء لمعرفة الصواب منها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أعطيناهم (يُنْفِقُونَ) في طاعة الله.

(الْبَغْيُ) الظلم (يَنْتَصِرُونَ) ينتقمون ممن ظلمهم ، وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بأكمل الفضائل ، لأن الحلم على العاجز محمود ، وعلى الظالم مذموم ، منعا من الإغراء على البغي (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ) هي الفعلة التي تسيء مرتكبها وهي الفعل القبيح (سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سميت الثانية (وهي الجزاء) سيئة لمشابهتها للأولى (الجريمة) في الصورة. وهذه المماثلة في العقوبة ظاهرة في الجراحات ، فإنما يقتص فيها بمثلها. (عَفا) عن ظالمة (وَأَصْلَحَ) بالود ما بينه وبينه من عداوة (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي فثوابه على الله حتما ، وهذا وعد يدل على عظم الموعود (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) البادئين بالظلم ، فيعاقبهم.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) قابل الظالم بمثل فعله بعد أن ظلمه (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) مؤاخذة أو عتاب ومعاقبة (يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يبتدءونهم بالإضرار (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم على ظلمهم وبغيهم (وَلَمَنْ صَبَرَ) على الأذى. فلم ينتصر (وَغَفَرَ) تجاوز (إِنَّ ذلِكَ) الصبر والتجاوز (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) معزومات الأمور ، بمعنى المطلوبات شرعا أو المشكورة المندوب إليها.

٧٩

سبب النزول :

نزول الآية (٣٧):

(وَإِذا ما غَضِبُوا ..) قيل : نزلت في عمر حين شتم بمكة ، وقيل : في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله ، وحين شتم فحلم.

نزول الآية (٣٨):

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا ..) : نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان ، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.

نزول الآيات (٤١ ـ ٤٣):

ذكر الكلبي والفراء أنها نزلت أيضا في أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وقد شتمه بعض الأنصار ، فرد عليه ، ثم أمسك.

المناسبة :

بعد بيان دلائل التوحيد والقدرة الإلهية ، والتنفير من الدنيا ، رغّب تعالى في الآخرة ، فإنها خير وأبقى ، ثم بيّن أن الخيرية تحصل لمن اتصف بصفات معينة ، ذكر أولا منها صفتين وهما الإيمان بالله والتوكل عليه ، وتابع هنا إيراد الصفات الأخرى للمؤمنين وهي : اجتناب كبائر الذنوب والفواحش ، وإطاعة الله تعالى وترك نواهيه ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والتشاور في الأمور العامة والخاصة ، والشجاعة والبأس لاسترداد الحقوق المغتصبة.

التفسير والبيان :

وصف الله تعالى أهل الجنة بالإيمان بالله والتوكل عليه ، وبالصفات التالية :

٨٠