التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(الَّذِينَ آمَنُوا) صفة ل (عِبادِ).

(وَكانُوا مُسْلِمِينَ) حال من واو (الَّذِينَ آمَنُوا).

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ أَنْتُمْ) : مبتدأ ، وخبره : (تُحْبَرُونَ).

(تِلْكَ الْجَنَّةُ) مبتدأ وخبر.

البلاغة :

(بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) بعد الكلمة الأخيرة ما يسمى بحذف الإيجاز ، أي أكواب من ذهب ، وحذف لدلالة ما قبله عليه.

(وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) عام بعد خاص هو قوله : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ).

المفردات اللغوية :

(الْأَخِلَّاءُ) الأحباء في الدنيا ، جمع خليل : وهو الصاحب والصديق (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي يتعادون يومئذ ، لأن مودتهم في الدنيا كانت قائمة على المعصية (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) المتحابين في الله على طاعته فإنهم أصدقاء ، لأن الصداقة إذا كانت مبنية على تقوى الله بقيت نافعة إلى الأبد.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) هذا ما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ (الَّذِينَ آمَنُوا) صفة أو نعت لكلمة (يا عِبادِ). (بِآياتِنا) القرآن (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) مخلصين ، وهذه العبارة آكد من سابقتها ، لأنها عبرت عن الإخلاص (وَأَزْواجُكُمْ) نساؤكم أو زوجاتكم المؤمنات (تُحْبَرُونَ) تسرّون وتكرمون ، يقال : حبره الله : سرّه ، والحبور يدل على ظهور أثر السرور على الوجه نضارة وحسنا.

(بِصِحافٍ) جمع صحفة : وهي كالقصعة : إناء يوضع فيه الأكل يكفي خمسة. (وَأَكْوابٍ) جمع كوب : وهو إناء لا عروة له يشرب منه الشارب (وَفِيها) في الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) تلذذا (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) بمشاهدته (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) الخلود ينبئ بمعنى الاستقرار والأمان ، فإن كل نعيم زائل إلا نعيم الجنة (أُورِثْتُمُوها) شبّه جزاء العمل بالميراث ، لأنه يخلفه ويأتي بعده (مِنْها تَأْكُلُونَ) تأكلون بعضها لكثرتها ودوام نوعها ، فكل ما يؤكل يخلف بدله.

١٨١

سبب النزول :

نزول الآية (٦٧):

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ ..) : حكى النقّاش أن هذه الآية نزلت في أميّة بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط ، كانا خليلين ، وكان عقبة يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالت قريش : قد صبأ عقبة بن أبي معيط ، فقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ، ولم تتفل في وجهه ، ففعل عقبة ذلك ، فنذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتله ، فقتله يوم بدر صبرا (١) ، وقتل أمية في المعركة ، وفيهم نزلت هذه الآية.

المناسبة :

بعد التهديد بمجيء القيامة بغتة ، ذكر الله تعالى عقيبه بعض أحوال القيامة ، ووصف هنا ألوان نعيم أهل الجنة ، ثم أتبعه ببيان أوصاف عذاب أهل النار ، فذكر هنا تعادي الأخلاء إلا المتقين ، واطمئنان المؤمنين في نعيم الجنة في سرور دائم وتمتعهم بأصناف الترف جزاء عملهم الصالح في الدنيا.

التفسير والبيان :

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي الأصدقاء في الدنيا المتحابون فيها يعادي بعضهم بعضا يوم القيامة إلا المتقين فإن صداقاتهم تستمر في الآخرة ، والمعنى : أن كل صداقة وصحابة لغير الله تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عزوجل ، فإنه دائم بدوامه ، وهذا كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٥٤] وكما قال إبراهيم عليه‌السلام لقومه :

__________________

(١) الصبر : نصب الإنسان للقتل.

١٨٢

(إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٥].

ثم وصف الله تعالى أنواع نعيم المتقين ، فقال :

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله : لا تخافوا من العقاب في الآخرة ، ولا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا ، فإن نعيم الآخرة هو الباقي ، والدنيا فانية.

روى الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن رجلين تحابا في الله ، أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب ، لجمع الله تعالى يوم القيامة بينهما ، يقول : هذا الذي أحببته فيّ».

وبعد أن نفى تعالى عنهم المخاوف والأحزان ، خصص ذلك بالمؤمنين المسلمين بقوله:

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي إن القول المتقدم ليس لجميع الناس ، بل للمؤمنين بالقرآن ، المنقادين لأحكام الله ، المخلصين له العبادة والطاعة ، أي آمنت قلوبهم ، وانقادت جوارحهم لشرع الله ، قال المعتمر بن سليمان عن أبيه : إذا كان يوم القيامة ، فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع ، فينادي مناد : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) فيرجوها الناس كلهم ، فيتبعها : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) فييأس الناس منها غير المؤمنين.

ثم بشرهم صراحة بالجنة قائلا :

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي يقال لهم : ادخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات تكرمون وتنعمون وتسعدون غاية الإكرام والسعادة.

١٨٣

وألوان النعيم هي :

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ ، وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لكم في الجنة أنواع مختلفة من المطاعم والمشارب ، يقدم فيها الطعام والشراب بآنية الذهب ، والكوب : كوز لا عروة له. ولكم فيها من ألوان الأطعمة والأشربة وغيرها من الألبسة والمسموعات كل ما تطلبه النفوس وتهواه كائنا ما كان ، وكل ما يمتع الأعين من المستلذات والمشاهد والمناظر الخلابة ، وأسماها النظر إلى وجه الله الكريم من غير حصر ولا كيف ، وأنتم فيها ماكثون على الدوام ، لا تموتون ولا تخرجون منها ، ولا تبغون عنها تحولا.

وسبب هذا الجزاء عملهم الصالح ، فقال تعالى :

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إن تلك الجنة بما فيها من ألوان النعيم صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث ، بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة.

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل أهل النار يرى منزله من الجنة حسرة ، فيكون له ، فيقول : لو أن الله هداني لكنت من المتقين ، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار ، فيقول : وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، فيكون له شكرا» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة ، وذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)». وبعد ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لإتمام النعمة ، فقال تعالى :

(لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ ، مِنْها تَأْكُلُونَ) أي لكم في الجنة غير الطعام

١٨٤

والشراب فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف ، تأكلون منها مهما اخترتم وأردتم ، كلما قطفتم ثمرة جددت لكم ثمرة أخرى.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات الأحكام التالية من أحكام يوم القيامة :

١ ـ الأصحاب والأصدقاء في الدنيا يكونون يوم القيامة أعداء ، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا إلا المتقين ، فإنهم أصدقاء متحابون في الدنيا والآخرة.

وهذا دليل على أن الخلّة أو الصحبة إذا كانت على المعصية والكفر ، صارت عداوة يوم القيامة ، أما الموحدون الذين يخالل بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى ، فإن خلتهم لا تصير عداوة.

٢ ـ عباد الله المؤمنون المطيعون المتقون آمنون في الآخرة من الخوف ، متخلصون من الحزن ، قد أزال الله عنهم الخوف والحزن كما وعدهم ، وأشعرهم بالفرح من نواح أربع هي :

أ ـ خاطبهم تعالى بنفسه من غير واسطة ، بقوله : (يا عِبادِ ..).

ب ـ وصفهم تعالى بالعبودية ، وهذا تشريف عظيم ، كما شرف محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج ، فقال : ـ (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ...) [الإسراء ١٧ / ١].

ج ـ أزال عنهم الخوف يوم القيامة بالكلية ، وهذا من أعظم النعم.

د ـ نفى عنهم الحزن عما فاتهم من نعيم الدنيا الماضية (١).

٣ ـ يكرم الله المؤمنين إكراما على سبيل المبالغة ، فيدخلهم الجنة هم

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٢٢٥.

١٨٥

وأزواجهم المؤمنات المسلمات في الدنيا ، بعد أن أمّنهم من الخوف والحزن. وهذا يعني أن حسابهم يمر على أسهل الوجوه وأحسنها.

٤ ـ تقدّم الأطعمة والأشربة لأهل الجنة فيها بآنية الذهب. أما في الدنيا فيحرم استعمال أواني الذهب والفضة ، جاء في الصحيحين عن حذيفة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تلبسوا الحرير ولا الدّيباج ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة».

وروى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» وهذان الحديثان يقتضيان التحريم ، بلا خلاف في ذلك.

والنهي عن الأكل والشرب يدل على تحريم الاستعمال والانتفاع بمختلف الأوجه ، لأنه نوع من المتاع ، فلم يجز ، ومن استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه.

أما الإناء المضبب بالذهب أو الفضة أو المشتمل على حلقة منهما ، كالمرآة ذات الحلقة الفضية ، فلا يشرب فيه ، ولا ينظر في المرآة.

وإذا لم يجز استعمال الإناء لم يجز اقتناؤه ، لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطّنبور (١).

٥ ـ في الجنة كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وأهلها باقون دائمون فيها ، روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه : «أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من خيل؟ قال : إن الله أدخلك الجنة ، فلا تشاء أن تحمل على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت.

__________________

(١) الطنبور : من آلات الطرب ، ذو عنق طويل ، وستة أوتار من نحاس.

١٨٦

وسأله رجل ، فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من إبل؟ قال : إن يدخلك الله الجنة ، يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك».

٦ ـ إن الظفر بنعيم الجنة يكون بسبب العمل الصالح في الدنيا.

٧ ـ في الجنة ألوان كثيرة من الفواكه المختلفة والثمار الطيبة كلها ، رطبها ويابسها ، سوى الطعام والشراب ، يأكل أهلها منها ، دون انقطاع ولا فناء ، وهذا تعويض لمن حرم منها في الدنيا ، وتكميل للرغبة ، وتقوية لدواعي العمل المؤدي إليها.

عذاب أهل النار وأسبابه

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

الإعراب :

(فِي عَذابِ جَهَنَّمَ ، خالِدُونَ) خبران ل (إِنَ) أو (خالِدُونَ) خبر ، والظرف متعلق به.

البلاغة :

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) التفات من الخطاب في قوله : (لَقَدْ جِئْناكُمْ) إلى الغيبة للإشعار بأن الإبرام أسوأ من كراهتهم للحق.

١٨٧

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) بين السر والنجوى طباق ، أي الخفاء والعلانية.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) ذوي الجريمة الكبرى وهم الكفار الذين هم جعلوا في مقابل المؤمنين بالآيات (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) لا يخفف عنهم ، بجعل العذاب متقطعا على فترات (مُبْلِسُونَ) آيسون من النجاة ، حزينون من شدة اليأس ، من الإبلاس وهو الحزن الناشئ من شدة اليأس ، ويصاحبه عادة سكوت.

(مالِكُ) خازن النار (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ليمتنا ، أي سل ربك أن يقضي علينا ، من قضى عليه إذا أماته (ماكِثُونَ) مقيمون في العذاب دائما ، لا خلاص لكم بموت ولا غيره (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) قال تعالى : لقد جئناكم يا أهل مكة بالحق الثابت على لسان الرسول (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) بل أحكموا تدبير أمر في كيد النبي محمد وتكذيب الحق ورده ، ولم يقتصروا على كراهيته (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) محكمون كيدنا في إهلاكهم ومجازاتهم.

(سِرَّهُمْ) حديث الخفية مع النفس أو الغير في مكان (وَنَجْواهُمْ) تناجيهم فيما بينهم وهو ما يجهرون به بينهم (بَلى) نسمع ذلك (وَرُسُلُنا) والحفظة (لَدَيْهِمْ) عندهم ، ملازمون (يَكْتُبُونَ) ذلك.

سبب النزول :

نزول الآية (٧٩):

(أَمْ أَبْرَمُوا ..) قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم في المكر به ـ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في دار الندوة.

نزول الآية (٨٠):

(أَمْ يَحْسَبُونَ ..) : أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها : قرشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقرشي ، فقال واحد منهم ، ترون الله يسمع كلامنا؟ فقال آخر : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع ، فأنزلت : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ...) الآية.

١٨٨

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا ، ليبين فضل المطيع على العاصي ، ولما ذكر تعالى الوعد ، أردفه بالوعيد ، على الترتيب المستمر في القرآن ، فبعد أن ذكر ما أعد لأهل الجنة المتقين من ألوان النعيم ، ذكر ما أعد لأهل النار الكفار من العذاب الأليم وأسبابه وهي الكفر والمعاصي ، مع إحباط مكائدهم ومؤامراتهم لرد الحق المنزل ، وإعلامهم بأن الله عليم بذلك ، والحفظة الملازمون لهم يكتبون كل ما بدر منهم من قول أو فعل ، ليكون عنصر إثبات وحجة عليهم.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي إن الذين ارتكبوا الكفر بالله في دار الدنيا هم معذبون في عذاب النار ، عذابا دائما ، مخلّدون فيه أبدا.

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) لا يخفف عنهم ذلك العذاب فترة أو لحظة ليستريحوا منه ، وهم آيسون من النجاة ومن كل خير ، حزينون أشد الحزن.

وسببه ما اقترفوا في الدنيا كما قال تعالى :

(وَما ظَلَمْناهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي ما عذبناهم بغير ذنب ، ولا زدناهم على ما يستحقونه ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بما ارتكبوا من الذنوب ، وبما عملوا من الأعمال السيئة ، حيث كفروا بالله ربهم ، وكذبوا رسله وعصوا ما جاؤوا به ، فجوزوا بذلك جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد.

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ : إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي ونادى المجرمون للتخلص مما هم فيه من العذاب الشديد : يا مالك ـ وهو خازن النار ـ

١٨٩

ليمتنا الله أو ليقبض أرواحنا ، فيريحنا مما نحن فيه من العذاب ، فأجابهم بقوله : إنكم مقيمون في العذاب ، لا خروج لكم من النار ، ولا محيد لكم عنها. قال المحققون : سمي خازن النار مالكا ، لأن الملك علقة ، والتعلق من أسباب دخول النار ، كما سمي خازن الجنة رضوانا ، لأن الرضا بحكم الله سبب كل راحة وسعادة ، وصلاح وفلاح.

وذلك كقوله تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر ٣٥ / ٣٦] وقوله سبحانه : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى ٨٧ / ١١ ـ ١٣]. وقد روي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة ، وسألوهم أن يخفف عنهم ربهم يوما واحدا من العذاب ، فردت الخزنة عليهم أسوأ رد : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ : ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا : أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ ، قالُوا : بَلى ، قالُوا فَادْعُوا ، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر ٤٠ / ٤٩ ـ ٥٠].

ثم ذكر الله تعالى سبب عقابهم قائلا :

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي لقد بينا لكم الحق ووضحناه وفسرناه ، وأرسلنا إليكم الرسل ، وأنزلنا عليهم الكتب ، فدعوكم إلى الصراط المستقيم ، فأبيتم وكذبتم وكفرتم وعاندتم ، وكان أكثركم أي كلكم كارهين للحق وأهله لا يقبلونه.

ولما ذكر الله تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفسادهم في الدنيا ، فقال بطريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة لبيان كون تدبيرهم أسوأ من كراهتهم للحق :

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي بل دبّر مشركو مكة بإحكام كيدا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة بمكة ليقتلوه أو يحبسوه أو يطردوه ، والمعنى أنهم كلما

١٩٠

أحكموا أمرا في المكر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنا نحكم أمرا في مجازاتهم ، وإنا محكمون لهم كيدا ، أي نبيّت لهم جزاء وعقابا شديدا ، كما قال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النمل ٢٧ / ٥٠] وقال سبحانه : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور ٥٢ / ٤٢] وكل من الكيد والمكر يراد به العقاب من الله تعالى ، جزاء على تحايلهم في رد الحق بالباطل ، ورد وبال ذلك عليهم ، وإحباطه ، ولهذا قال تعالى:

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي بل أيظنون أننا لا نسمع سرهم وعلانيتهم ، سواء ما يضمرونه من شر وسوء وكيد ، أو ما يتناجون به فيما بينهم علانية لحبك المؤامرة ، والتخطيط لإنفاذها؟ بلى ، نحن نسمع ذلك ونعلم به تماما ، والملائكة الحفظة أيضا يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل ، صغير أو كبير : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٧ ـ ١٨].

قال يحيى بن معاذ : من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات ، فقد جعله أهون الناظرين إليه ، وهو من علامات النفاق.

فقه الحياة أو الأحكام :

أبانت الآيات ما يأتي :

١ ـ إن جزاء الكفار الذين لم يؤمنوا بوجود الله ووحدانيته ، ولم يصدقوا بالرسل والكتب الإلهية هو نار جهنم. وقد وصفهم الله تعالى بصفة المجرمين.

٢ ـ وصف تعالى عذاب جهنم بثلاث صفات : هي أولا ـ الخلود وهو في رأي الرازي : عبارة عن طول المكث ، ولا يفيد الدوم ، وثانيا ـ عدم التخفيف من العذاب ، وثالثا ـ الإياس من الرحمة أو السكوت سكوت يأس.

١٩١

٣ ـ لا ظلم للكفار بالعذاب يوم القيامة ، ولكنهم هم الظالمون لأنفسهم بالشرك ، وإن أعظم جريمة في حق الله هي الشرك به ، لذا قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

٤ ـ يطلب الكفار من مالك خازن جهنم أن يتخلصوا من العذاب بالموت الأبدي ، وهم بالرغم من أنهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب ، طلبوا ذلك إما على سبيل التمني أو على وجه الاستغاثة ، وكلا الأمرين تعبير عن الحيرة والقلق والاضطراب ونحوها مما يفعله اليائس المتخبط في أحواله كلها ، فأجيبوا بأنهم مقيمون على الدوام في نار جهنم.

ويذكر المفسرون أن بين سؤالهم هذا وبين جوابهم ثمانين سنة ، أو ألف سنة ، أو مائة سنة ، أو أربعين سنة ، الأول قول عبد الله بن المبارك ، والثاني قول الأعمش ، والثالث قول ابن عباس ، والرابع قول عبد الله بن عمرو (١). وكل ذلك يحتاج لدليل أوثق وأثبت ، ونفوض العلم فيه إلى الله تعالى.

٥ ـ إن سبب عقاب الكفار أن الله تعالى جاءهم بالحق فلم يقبلوا ، وكلهم نافر من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن القرآن ، شديد البغض لقبول الدين الحق ، وهو الإسلام ودين الله تعالى.

٦ ـ أحبط الله كل مؤامرات الكفار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الله عاصمه من الناس ، قال مقاتل ـ كما تقدم ـ : نزلت آية (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) في تدبيرهم بالمكر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار النّدوة ، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ، ليشتركوا في قتله ، فتضعف المطالبة بدمه ، فنزلت الآية (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ١١٧

(٢) المرجع السابق : ١٦ / ١١٨.

١٩٢

٧ ـ يخطئ الناس وبخاصة الكفار حين يظنون أن الله لا يسمع سرهم ونجواهم ، والسر : ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال ، والنجوى : ما تكلموا به فيما بينهم ، فإن الله سميع بصير ، يسمع ويعلم كل شيء ، والملائكة الحفظة يكتبون عليهم تلك الأحوال ، وستكون الكتابة في سجل الأعمال يوم القيامة يحاسبون بناء عليها ، وحجة وبرهانا لإثبات معاصيهم ومنكراتهم ، وهذا تأكيد لعلم الله.

تنزيه الله سبحانه عن الولد والشريك

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

الإعراب :

(إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ إِنْ) : إما شرطية على سبيل الافتراض ، أي إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده ، على أنه لا ولد له ، أو على حد قول الرجل لصاحبه : إن كنت كاتبا فأنا حاسب ، والمعنى : لست بكاتب ، ولا أنا حاسب. أو أن تكون (إِنْ) بمعنى «ما» وتقديره : ما كان للرحمن من ولد.

١٩٣

(فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) كل من الجار والمجرور متعلق بما بعده.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَ) اللام في (لَئِنْ) لام القسم. و (لَيَقُولُنَ) حذف منه نون الرفع وواو الضمير.

(وَقِيلِهِ يا رَبِ) بالجر لكلمة (قِيلِهِ) عطفا على (السَّاعَةِ) أي وعنده علم الساعة وعلم قيله ، أو بالرفع عطفا على (عِلْمُ) في قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي وعلم قيله ، فحذف المضاف ، أو على أنه مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره : وقيله : يا رب ، مسموع ، أو بالنصب على المصدر ، أي ويقول قيله ، أو عطفا على (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) في قوله : (نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أو عطفا على معنى (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي ويعلم الساعة ويعلم قيله ، أو عطفا على المفعول المحذوف ل (يَكْتُبُونَ) في قوله : (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي يكتبون ذلك ويكتبون قيله.

(وَقُلْ : سَلامٌ سَلامٌ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي أمري سلام ، أي مسالمة منكم ، وليس من السلام بمعنى التحية.

المفردات اللغوية :

(قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي إن وجد له ولد على سبيل الفرض والتقدير ، وثبت ذلك بالدليل القاطع ، فأنا ـ أي محمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أول العابدين أي المعظمين للولد تعظيما للوالد ، لكن ثبت ألا ولد له تعالى ، فانتفت عبادته وبطلت (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ ..) أي تنزيها لله عن كونه ذا ولد وعن كل نقص (رَبِّ الْعَرْشِ) العرش أو الكرسي : مخلوق عظيم أعظم من السموات والأرض ، الله أعلم به (عَمَّا يَصِفُونَ) يقولون كذبا بنسبة الولد إليه.

(فَذَرْهُمْ) اتركهم (يَخُوضُوا) يعبثوا في باطلهم ، ويبطلوا مع المبطلين (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي يوم القيامة الذي يوعدون فيه العذاب (إِلهٌ) أي أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض (الْحَكِيمُ) في تدبير خلقه (الْعَلِيمُ) بمصالحهم ، وهما دليلان على استحقاق العبادة ، والمعنى أن الله في السماء والأرض بالألوهية والربوبية ، وليس الاستقرار.

(تَبارَكَ) تعالى وتعاظم (وَما بَيْنَهُما) كالهواء وجميع المخلوقات (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء (يَدْعُونَ) يعبدون ، وهم الكفار (مِنْ دُونِهِ) من غير الله (الشَّفاعَةَ) لأحد (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) أي قال : لا إله إلا الله. والاستثناء إما متصل ، لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيرا ، أو منقطع ، أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يتيقنون بقلوبهم مثلما شهدت به ألسنتهم ، وهم عيسى وعزير والملائكة ، فهؤلاء هم الذين يشفعون بإذن الله للمؤمنين (يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن عبادة الله.

١٩٤

(وَقِيلِهِ) معطوف على (السَّاعَةِ) أي وعنده علم الساعة وعلم قيله ، أي قيل محمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقيل والقال والمقالة والقول بمعنى واحد ، أي وقوله (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أعرض عنهم (وَقُلْ : سَلامٌ) سلام متاركة وهجران ، لا سلام تحية (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يطلعون على ما أعد لهم من عذاب ، وهذا تهديد وتوبيخ لهم أي للكفار.

المناسبة :

بعد بيان أحوال المجرمين الكفار في الآخرة ، أردفه تعالى ببيان استحالة نسبة الولد والشريك له ، وأنه المعبود بحق في السماء والأرض وأنه الحكيم في صنعه العليم بكل شيء ، وأن الله سبحانه مالك السموات والأرض ومالك كل شيء في الكون ، وأن الآلهة المعبودة من دون الله ليس لها أي نفع كالشفاعة في الآخرة ، وأن المشركين متناقضون حين يقرون بأن الخالق للكون هو الله ، ثم يعبدون معه غيره ، وأن حسابهم آت يوم القيامة الذي لا يعلم بميقاته أحد غير الله تعالى.

التفسير والبيان :

(قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي قل يا محمد : إن ثبت ببرهان صحيح لله تعالى ولد ، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته ، وأول من يعظمه كما يعظّم الرجل ولد الملك لعظم أبيه ، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى ، ويستحيل أن يكون له ولد فهو محال في ذاته ، لأنه يؤدي إلى العجز والحاجة لغيره والنقص ، والإله كامل الصفات. والجملة شرطية لفظا ومعنى ، مركبة من شرط وجزاء ، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا ، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل ، بقصد المبالغة في نفي الولد ، وهو أبلغ وجوه النفي وأقواها ، كما تقول لمن يجادلك : إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقد به.

وهو مثل قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر ٣٩ / ٤] وقوله سبحانه : (لَوْ

١٩٥

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ٢١ / ٢٢] أي لو كان في السموات والأرض أكثر من إله لفسدت.

ويؤكد نفي الولد قوله تعالى :

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، رَبِّ الْعَرْشِ ، عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزيها له وتقديسا عما يقولون من الكذب بأن له ولدا ، ويفترون عليه تعالى ما لا يليق بجنابه ، أو تعالى وتنزه وتقدس خالق الأشياء عن أن يكون له ولد ، فهو مالك السموات والأرض ، ورب العرش المحيط بالكون ، وهو منزه عما يصفه به المشركون كذبا من نسبة الولد إليه.

ثم أمر الله تعالى نبيه بالإعراض عن المشركين المعاندين قائلا :

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فاتركهم أيها النبي يخوضوا في جهلهم وباطلهم وضلالهم ، ويلعبوا ويلهوا في دنياهم ، حتى يلقوا يوم القيامة الذي يوعدون به. وفي هذا تهديد ووعيد.

ويزيد الله تعالى تأكيده تنزيه نفسه عن الولد قائلا :

١ ـ (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي هو الله المعبود بحق في السماء ، والمعبود بحق في الأرض ، فلا يستحق العبادة سواه ، وهو الحكيم في تدبير خلقه ، العليم بمصالحهم. والمعنى : كما أنه تعالى ليس له ولد ، ليس له مكان يستقر فيه ، بل له الألوهية والربوبية في الكون كله ، وفي كل مكان ، ويستحيل عليه المكان ، لأنه يكون محدودا محصورا في جهة معينة ، له حجم ونهاية ، وتلك صفات الحوادث ، والله منزه عنها ، فلا يحده زمان ومكان ، والحكمة البالغة والعلم الواسع يتنافيان مع إثبات الولد لله.

ثم أبطل الله تعالى قول الكفرة : إن الأصنام تنفعهم ، فقال :

١٩٦

٢ ـ (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تعاظم وتعالى وزادت خيراته وبركاته الله مالك السموات ومالك الأرض ، وما بينهما من الفضاء والهواء وأنواع الحيوان والإنسان وخالق كل شيء ، وهو المختص بعلم الوقت الذي تقوم فيه الساعة ، وإليه مرجع ومصير الخلائق كلها ، فيجازي كل إنسان بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وهذه صفات تتنافى كلها أيضا مع إثبات ولد لله ، لأنه تعالى غير محتاج لمعونة أحد من خلقه ، كما أن له السلطان المطلق في الحساب والجزاء في عالم القيامة ، ولما نفى الله تعالى الولد أتبعه بنفي الشركاء ، فقال مؤكدا عدم نفع الأصنام :

٣ ـ (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ، إِلَّا (١) مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولا تملك ـ ولا تقدر ـ الأصنام وكل معبود مدعو من دون الله الشفاعة عند الله كما يزعم عبادها أنهم يشفعون لهم ، لكن من آمن وشهد بالحق على بصيرة ويقين بأن الله واحد لا شريك له ، فإن شفاعته مقبولة عند الله بإذن الله. فقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) معناه : وهم على علم وبصيرة بما شهدوا به. وهذا دليل على أن إيمان المقلّد وشهادته غير معتبرين.

ثم أبان الله تعالى تناقض المشركين قائلا :

٤ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي وتا لله لئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره عمن خلقهم؟ لأجابوا بأنه الله ، فهم يعترفون بأنه الخالق للأشياء ، جميعها ، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا ، ولا يقدر على شيء ، فكيف يصرفون عن العبادة الحقه عبادة الله إلى عبادة غيره ، مع هذا الاعتراف؟ إنهم في هذا التناقض في غاية الجهل والسفاهة وسخافة

__________________

(١) استثناء منقطع بمعنى لكن ، ويجوز أن يكون متصلا كما بينا.

١٩٧

العقل ، وهذا مدعاة للعجب من إشراكهم ، والغرض من الآية : التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ، ثم يجعلون له أندادا.

ثم أعلن الله تعالى علمه بشكوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إعراض قومه قائلا :

٥ ـ (وَقِيلِهِ : يا رَبِّ ، إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي ويعلم الله تعالى علم الساعة وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكواه إلى ربه من قومه الذين كذبوه : يا ربّ ، إن هؤلاء القوم الذين أرسلتني إليهم قوم لا يؤمنون ولا يصدقون بك ولا برسالتي إليهم ، كما أخبر تعالى في آية أخرى : (وَقالَ الرَّسُولُ : يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٣٠].

ثم أمر الله تعالى نبيه بالإعراض عنهم ونبذهم لإشراكهم قائلا :

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ : سَلامٌ ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي اصفح عن المشركين صفح المغاضب لا الموافق المجامل ، وأعرض عما يقولون وما يرمونك به من السحر والكهانة ، واصبر على دعوتهم إلى أن يأتي أمر الله ، وقل : أمري معكم مسالمة ومتاركة إلى حين ، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد من الله لهم ، ووعد ضمني بنصر الإسلام والمسلمين عليهم ، وقد أنجز الله وعده ، فأيد رسوله والمؤمنين ، وهزم أركان الشرك والمشركين ، وطهر جزيرة العرب من فلولهم وآثارهم ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وانتشر الإسلام ـ ولله الحمد ـ في المشارق والمغارب.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات البيّنات إلى ما يأتي :

١ ـ إن إنكار وجود الولد لله تعالى ليس عنادا ولا منازعة ، وإنما بدلالة الأدلّة القاطعة على نفي وجود الولد ، فالعبرة للدّليل ، وقد أثبت الدّليل القاطع

١٩٨

عدم وجود الولد لله تعالى ، لأن صفة الألوهية تقتضي الكمال والقدرة والحكمة والعلم ، واتّخاذ الولد دليل العجز والنقص.

وهذا مأخوذ من معنى الآية الأولى : (قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ..) أي لو كان له ولد كنت أول من عبده ، على افتراض أن له ولدا ثابتا بالبرهان ، ولكن لا ينبغي ذلك ، ولم يقم دليل عليه.

٢ ـ نزّه الله نفسه ربّ السموات والأرض عن كلّ ما يقتضي الحدوث ، وأمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتّنزيه عما يقوله المشركون من الكذب.

٣ ـ أمر الله نبيّه أيضا أن يترك المشركين يخوضون في باطلهم ، ويلعبون في دنياهم ، حتى يأتيهم إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة.

٤ ـ كذب الله المشركين بقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ..) في أن لله شريكا وولدا ، فهو وحده المستحق للعبادة في السماء والأرض.

قال الرّازي : هذه الآية من أدلّ الدّلائل على أنه تعالى غير مستقرّ في السماء ، لأنه تعالى بيّن بهذه الآية أن نسبته إلى السماء بالألوهية كنسبته إلى الأرض ، فلما كان إلها للأرض ، مع أنه غير مستقرّ فيها ، فكذلك يجب أن يكون إلها للسماء ، مع أنه لا يكون مستقرّا فيها (١).

٥ ـ الله تعالى مصدر الخير والبركة ، وهو صاحب العظمة ، مالك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات والموجودات والعناصر ، وهو العالم بوقت قيام القيامة ، وإليه مصير الخلق للحساب والجزاء. وقوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) بعد بيان كمال قدرته : هو التّنبيه على أن من كان كامل الذّات والعلم والقدرة ، امتنع عليه اتّخاذ ولد كعيسى موصوف بالعجز وعدم الاطّلاع على أحوال العالم.

__________________

(١) تفسير الرّازي : ٢٧ / ٢٣٢

١٩٩

٦ ـ نفى الله تعالى الولد إليه ، ثم نفى الشّركاء بقوله : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ..) أي لا يملك عيسى وعزير والملائكة وغيرهم من الأصنام الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وآمن على علم وبصيرة ، وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.

٧ ـ دلّ قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) على أمرين :

الأول ـ أنّ الشفاعة بالحقّ غير نافعة إلا مع العلم ، وأن التّقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة.

الثاني ـ أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها ، كما روى البيهقي والحاكم وابن عدي عن ابن عباس ـ وهو ضعيف ـ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد ، وإلا فدع».

٨ ـ المشركون قوم متناقضون كما ثبت في أول السورة وآخرها ، فلما اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو الله تعالى ، فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة أجسام خسيسة وأصنام جامدة لا تضرّ ولا تنفع؟ الواقع أنهم يكذبون على الله حين يقولون : إن الله أمرنا بعبادة الأصنام.

ودلّ قوله تعالى : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) على أن إفكهم ليس منهم بل من غيرهم.

٩ ـ شكا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه إلى ربّه بأنّهم لا يؤمنون بالله وحده لا شريك له ، ولا برسالته ولا بالقرآن المنزل عليه. وهذه الشكوى صدرت منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن ضجر منهم ، وعرف إصرارهم على الكفر. وهذا قريب مما حكى الله عن نوح أنه قال : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) [نوح ٧١ / ٢١].

٢٠٠