التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

٤ ـ (كَذلِكَ ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي هذا العطاء ، مع تزويجهم أو قرنهم بالزوجات الحسان الحور البيض الواسعات الأعين ، اللاتي (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن ٥٥ / ٥٦ ، ٥٨]. أكثر المفسرين على أنه لا عقود زواج بالحور ، وأن المراد : قرناهم بهم.

٥ ـ (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي يطلبون في الجنة ما شاؤوا من أنواع الثمار أو الفاكهة ، وهم آمنون من انقطاعها وامتناعها ، بل يحضر إليهم كلما أرادوا ، وآمنون من الأوجاع والأسقام ، ومن الموت والتعب والشيطان.

وهذا دليل على أنه اجتمعت لهم أنواع اللذة والشهوة المادية والمعنوية ، بهذه الأنواع الخمسة من النعيم في المسكن والملبس والمأكل والزواج والأنس والأمان ، وتلك أعلى أصناف الخيرات والراحات.

ثم بيّن الله تعالى أن حياتهم دائمة ، فقال :

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ، وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي لا يموتون في الآخرة أبدا ، ولا يذوقون طعم الموت بعدئذ ، لكن الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا قد ذاقوها وانتهى أمرها ، وحماهم الله من عذاب النار ، ونجاهم منه ، وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم. قال الزمخشري : هذا من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل ، فإنهم يذوقونها. وقيل : الاستثناء منقطع ، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها.

ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، ثم يذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت». وأخرج مسلم وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي‌الله‌عنهما قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال لأهل

٢٤١

الجنة : إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا».

وأخرج أبو بكر بن أبي داود السّجستاني عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ، ولا يبأس ، ويحيا فيها ، فلا يموت ، ولا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه».

وأخرج أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : «سئل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أينام أهل الجنة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : النوم أخو الموت ، وأهل الجنة لا ينامون».

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي تفضل الله عليهم وأعطاهم ذلك عطاء فضلا منه وإحسانا إليهم ، أو لأجل إسباغ الفضل منه ، ذلك هو الفوز الأكبر الذي لا يعلوه فوز.

ثبت في الصحيح عند مسلم عن جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اعملوا وسددوا وقاربوا ، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ فقال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».

وبعد أن بيّن الله تعالى دلائل قدرته ، وأوضح الوعد والوعيد ، ووصف القرآن في أول السورة بكونه كتابا مبينا (أي كثير البيان والفائدة) ذكر تعالى في خاتمة السورة ما يؤكد ذلك ، فقال :

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إنما يسرنا هذا القرآن وأنزلناه سهلا واضحا بينا جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها ، والذي هو لسانهم ولغتهم ، وجعلناه ميسرا للفهم ، كي يفهمه قومك يا محمد ، فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه ، والمعنى : إن ذلك الكتاب المبين الكثير الفائدة إنما

٢٤٢

أنزلناه عربيا بلغتك ليتذكروا ويتعظوا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر ٥٤ / ٢٢].

وبالرغم من هذا الوضوح والبيان ، كفر بعضهم وعاند وخالف ، فسلّى الله رسوله ووعده بالنصر ، وتوعد من كذبه بالهلاك ، فقال :

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي انتظر أيها النبي ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم وما يحل بهم إن استمروا على الكفر ، فإنهم منتظرون ما يحل وما ينزل بك من موت أو غيره ، وسيعلمون لمن يكون النصر والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقال سبحانه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر ٤٠ / ٥١ ـ ٥٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ يفيض الله على عباده المتقين الأبرار في الجنة أنواع النعم الحسية والمعنوية ، ذكر منها هنا خمسة أنواع تشمل المساكن ، والملابس ، والتقابل في الجلسات واستئناس البعض بالبعض ، والأزواج ، والمآكل الدائمة. قال مجاهد : إنما سميت الحور حورا لأنهن يحار الطرف في حسنهنّ وبياضهن وصفاء لونهنّ.

وهل الحور العين أفضل أو نساء الآدميات؟ اختلفوا في ذلك ، فقال حبّان بن أبي جبلة ـ فيما ذكره ابن المبارك ـ : إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضّلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وروى ابن المبارك مرفوعا : إن «الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف».

٢٤٣

وقال آخرون : إن الحور العين أفضل ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه فيما رواه مسلم عن عوف بن مالك : «وأبدله أهلا خيرا من أهله».

وأما مهورهن فروى أبو هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مهور الحور العين قبضات التمر ، وفلق الخبز» وعن أبي قرصافة : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين» وذكر الثعلبي عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كنس المساجد مهور الحور العين».

٢ ـ إن تلك النعم في الجنان لها صفة الدوام والاستمرار ، دون أن يطرأ عليها انقطاع ، ولا ينشأ عنها أذى أو مكروه.

٣ ـ أهل الجنة وأهل النار في خلود دائم ، فكل منهم خالد إما في النعيم وإما في العذاب الأليم ، ولا يطرأ عليهم موت ، لكن الموتة الأولى في الدنيا قد ذاقوها. قال المحققون : إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس ، وفرحها بمعرفة الله وبمحبته ، فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة ، وفي الآخرة أيضا في الجنة ، فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى.

واكتفى الله تعالى هنا ببشارة أهل الجنة بالخلود مع أن أهل النار يشاركونهم فيه ، للدلالة على أن دوام الحياة مقرون مع ما ذكر سابقا من حصول الخيرات والسعادات.

٤ ـ أكرم الله المتقين بألوان النعيم ، وحفظهم من عذاب الجحيم ، تفضلا منه عليهم ، وتلك هي السعادة ، والربح العظيم ، والنجاة العظيمة ، والفوز الأكبر الذي لا مثيل له على الإطلاق. ودل قوله : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق ، لوصفه بأنه فضل من الله ، وكونه فوزا عظيما ، أي إن المنحة الإلهية أفضل من الأجر والأجرة.

٢٤٤

٥ ـ إنما أنزل الله القرآن الكريم بلغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولغة قومه العرب ، وسهله عليهم وعلى كل من يقرؤه ولو من غير العرب ، ليتعظوا وينزجروا. وهذا في ختام السورة حث على اتباع القرآن ، ودليل على أنه تعالى أراد من كل الناس الإيمان والمعرفة ، وأنه ما أراد من أحد الكفر.

٦ ـ هدد الله تعالى المخالفين المكذبين للقرآن ورسول الله بالهلاك والدمار ، ووعد نبيه بالنصر عليهم ، وسلاه عن مكابدته المشاق معهم ، وأمره بانتظار ما وعده به من النصر عليهم ، فإنهم منتظرون له الموت والهلاك.

٢٤٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الجاثية

مكيّة ، وهي سبع وثلاثون آية.

تسميتها :

سميت (سورة الجاثية) أخذا من الآية المذكورة فيها : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٢٨] أي كل أمة باركة على الرّكب لشدة الأهوال التي يشاهدها الناس يوم القيامة ، انتظارا للحساب ، قبل قسمة الخلائق فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين :

١ ـ ابتدأت هذه السورة بالكلام عن تنزيل القرآن من الله تعالى ، والذي هو مكمّل لما ختمت به السورة المتقدمة من جعل القرآن بلغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولغة قومه العرب ، فهو عربي اللسان نصا وفحوى ، ومعنى وأسلوبا ، وفي ذلك حث على اتباعه والإيمان به.

٢ ـ تشابه السورتين في الغايات الكبرى التي يستهدفها القرآن : وهي إثبات وحدانية الله من خلال بيان أدلة القدرة الإلهية في خلق السموات والأرض ، ومناقشة المشركين في عقائدهم الفاسدة ، وضرب الأمثال من مصائر الأمم الغابرة التي أهلكها الله لتكذيبهم الرسل.

٢٤٦

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية ، وبخاصة آل حم السور السبعة ، وهو تأصيل عقيدة الإسلام الأساسية وإثبات عناصرها وأركانها الثلاثة : وهي الإيمان بالله تعالى وتوحيده ، والاعتقاد بنزول القرآن من عند الله ، وبنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته ، والتصديق باليوم الآخر والحساب والبعث والجزاء.

ابتدأت السورة ببيان مصدر القرآن الكريم وهو الله تعالى ، وإثبات وجود الخالق ووحدانيته بخلق السموات والأرض ، وخلق البشر والدواب ، وتعاقب الليل والنهار ، وإنزال المطر سبب الحياة ، وتسخير الرياح.

ثم هددت وأوعدت كل من كذّب بآيات الله ، واستكبر عنها ، واتخذها هزوا بعذاب جهنم.

وأخبرت عن نعم الله العظمى وأولها كون القرآن هدى للناس ، ثم تسخير البحر لجريان السفن فيه والاتجار بين الأقطار ، وتسخير جميع ما في الكون لعباد الله تعالى.

وأردفت ذلك بمبادئ خلقية واجتماعية إنسانية سلمية هي عفو المؤمنين وترفعهم عن زلات الكافرين ، فالعمل الصالح أو الفاسد يعود أثره على صاحبه ، وتذكير بني إسرائيل بما امتن الله عليهم من نعم روحية ومادية هي التوراة ، والحكمة والفقه وفصل الخصومات بين الناس ، والنبوة ، ورزق الطيبات ، والتفضيل على العالمين في عصرهم ، والإتيان بالبينات وهي الآيات والمعجزات ، وأمر الرسول بعدم إطاعة المشركين واتباع أهوائهم ، والتعجب من حالهم ، وتجرؤهم على إنكار البعث ، واتخاذهم الهوى إلها ومعبودا.

وفي مقابل ذلك بيان استقلال الشريعة الإسلامية وإثبات ذاتيتها ، وأمر الرسول والمؤمنين باتباعها وحدها دون ما عداها ، والاعتزاز والثقة بالله الذي يمدّ

٢٤٧

نبيه بالعون وأنه ولي المتقين ، والتزام منهج الله وهدايته ورحمته وهو القرآن العظيم ، ومعرفة قانون الله وعدله وحكمته في التفرقة بين المؤمنين الأبرار والمجرمين الأشرار ، وبين المتبصرين بآيات الله ، ومن أغلق على نفسه منافذ الهداية ، فحجب السمع والبصر والقلب عن نور الله.

ثم رد الله تعالى على المشركين منكري البعث بأن الله هو المحيي والمميت وجامع الناس ليوم القيامة ، فهو صاحب القدرة العجيبة ومالك السموات والأرض ، والمتفرد بالسلطان الأعظم في الآخرة ذات الأهوال الرهيبة في العرض والحساب وشهادة صحف الأعمال على أصحابها.

وختمت السورة ببيان الجزاء الحق العادل ، وقسمة الناس فريقين : فريق الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وفريق النار الذين كفروا بالله ورسوله ، واقترفوا السيئات والمعاصي ، وهزئوا بآيات الله ، واغتروا بالحياة الدنيا.

وذلك كله يستوجب الحمد لله رب السموات ورب الأرض رب العالمين ، وله وحده الكبرياء في السموات والأرض ، وهو العزيز الحكيم.

سبب نزولها :

ذكر المهدوي والنحاس عن ابن عباس : أنها نزلت في عمر رضي‌الله‌عنه ، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة فأراد أن يبطش به ، فأنزل الله عزوجل : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [١٤] ثم نسخت بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥]. فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف. وهي سبع وثلاثون آية.

٢٤٨

مصدر القرآن وإثبات الخالق ووحدانيته

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

الإعراب :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ تَنْزِيلُ) : مبتدأ ، وخبره (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ ..).

(آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (آيات) بالضم : مرفوع بالابتداء ، (وَفِي خَلْقِكُمْ) : خبره ، أو بالعطف على موضع إن واسمها وخبرها ، أو مرفوع بالظرف. ومن قرأ بالكسر : جعله منصوبا بالعطف على لفظ اسم (إِنَ) ، أو بالعطف بالجر على (السَّماواتِ) أو منصوب على البدل من (آياتٌ) الأولى. وكذا قوله (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) يقرأ بالكسر وبالضم بالأوجه السابقة.

(نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) متعلق ب «نتلو» و (نَتْلُوها) : حال ، عاملها معنى الإشارة.

البلاغة :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ) فيها تأكيد ب (إِنَ) واللام للرد على المخاطبين منكري وحدانية الله.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أي مطر ، مجاز مرسل علاقته المسببية ، لأن المطر النازل من السماء هو سبب الرزق والنبات ، أما الرزق فلا ينزل من السماء.

٢٤٩

المفردات اللغوية :

(حم) هذه الحروف للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى أهمية ما يتلى بعدها (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) أي تنزيل القرآن من الله تعالى (الْعَزِيزِ) القوي الغالب في ملكه (الْحَكِيمِ) في صنعه ، لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة للعباد.

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن في خلق السموات والأرض ، بدليل قوله (وَفِي خَلْقِكُمْ لَآياتٍ) لدلائل دالة على قدرة الله ووحدانيته تعالى (لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم الذين ينتفعون بهذه الدلائل (وَفِي خَلْقِكُمْ) أي في خلق كل واحد منكم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة إلى أن يصبح إنسانا (وَما يَبُثُ) أي وخلق ما ينشر ويفرق في الأرض (مِنْ دابَّةٍ) هي ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم (يُوقِنُونَ) يصدقون عن يقين وإذعان بقدرة الله على البعث وغيره.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وفي تعاقبهما (مِنْ رِزْقٍ) مطر يكون سبب الرزق (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) تقليبها وتحويلها جنوبا وشمالا ، حارة وباردة (يَعْقِلُونَ) يفكرون ويتدبرون الدليل ، فيؤمنون (تِلْكَ) الآيات المذكورة (آياتُ اللهِ) حججه ودلائله الدالة على وحدانيته (نَتْلُوها) نقصها (بِالْحَقِ) أي متلازمة ملتبسة بالحق الواضح الذي لا غموض فيه ولا التباس (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) أي بعد حديث الله وهو القرآن ، وتقديم اسم الله للمبالغة والتعظيم ، كقول الله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر ٣٩ / ٢٣] (وَآياتِهِ) حججه (يُؤْمِنُونَ) يصدقون ، وهم كفار مكة ، وقرئ «تؤمنون».

قال الصاوي على الجلالين : ذكر الله سبحانه وتعالى من الدلائل ستة في ثلاث آيات ، ختم الأولى ب (لِلْمُؤْمِنِينَ) والثانية ب (يُوقِنُونَ) والثالثة ب (يَعْقِلُونَ) ووجه التغاير بينها في التعبير : أن الإنسان إذا تأمل في السموات والأرض ، وأنه لا بد لهما من صانع آمن ، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إيمانا فأيقن ، وإذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه. وهذا مأخوذ من كلام الزمخشري (١).

وقال البيضاوي : لعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور.

التفسير والبيان :

(حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ حم) : تقدم شرحها

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١١٢

٢٥٠

إن هذا القرآن منزل من عند الله القوي الغالب الذي لا يقهر ، الحكيم في كل شيء بتدبيره ووضعه في المكان المناسب له ، وتحقيقه المصلحة لعباده. ويقتضي إثبات هاتين الصفتين لله عزوجل : كونه قادرا على جميع الممكنات ، عالما بجميع المعلومات ، غنيا عن كل الحاجات ، فلا يصدر منه العبث والباطل.

ثم ذكر الله تعالى ما تقتضيه العزة والحكمة ، فقال :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن في خلق السموات وخلق الأرض لدلائل قاطعة على وجوده ووحدانيته وقدرته العظيمة ، وهذا دليل من الكون ، ثم ذكر تعالى دليلا من الأنفس ، فقال :

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي وإن في خلقكم دون وجود سابق ، ومروركم في أطوار مختلفة من الخلق ، من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، إلى أن يصير الواحد منكم إنسانا كامل الذات والصفات البشرية ، وفي خلق ما يفرق وينشر من دابة في نواحي الأرض المختلفة ، وأقاليمها المتفاوتة حرارة وبرودة واعتدالا ، وأراضيها الرطبة والجافة ، وأنواع حيواناتها الإنسية والوحشية ، البرية والبحرية والجوية ، آيات ودلائل أخرى شديدة الوضوح ، تدل على قدرة الصانع العظيم وحكمته ، التي يعتبر بها أهل اليقين ، الذين آمنوا ثم قبلوا الحق ، ثم ازدادوا إيمانا وأذعنوا ورسخ الإيمان في قلوبهم كالجبال الثوابت ، فأيقنوا يقينا تاما لا يخالطه أي شك.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي وإن في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما ، وتفاوتهما في الطول والقصر ، والحرارة والبرودة ، والضياء والظلمة ، وفيما أنزل الله من السحاب من مطر يكون سببا لرزق العباد وإحياء الأرض بإخراج النبات ، وفي تقليب الرياح وتغييرها من

٢٥١

جهة إلى جهة ، ومن حال إلى حال ، مرة من الجنوب ومرة من الشمال ، وتارة تكون حارّة ، وتارة تكون باردة ، وأحيانا نافعة ، وأحيانا ضارة ، كل ذلك أيضا لأدلة عظيمة وحجج باهرة دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته ، التي ينتفع بها عادة أهل العقول الراجحة ، المتأملون بها ، الفاهمون لحقائقها ، ولا ينتفع بها أهل الجهل والعناد.

وهكذا يترقى المتأملون في تلك الآيات من إثبات أصل الإيمان في قلوبهم ، إلى اليقين ، إلى اكتمال العقل والنظر ، وهو ترقّ من حال إلى ما هو أعلى منها ، وهذه سمة المؤمنين الكمّل الذين استخدموا طاقاتهم الفكرية والنظرية للوصول إلى أسمى الغايات وأمثل الحالات.

وهذه الآيات شبيهة بقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ، وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة ٢ / ١٦٤].

ثم أوجز الله تعالى العبرة من تلك الآيات بقوله :

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) أي هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه وبيناته نتلوها عليك أيها النبي متضمنة الحق المبين ، ونحن محقون صادقون فيما ننزله عليك من القرآن المتلو ، ليستفيد منها البشر قاطبة ، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ، ولا ينقادون لها ، فبأي حديث أو كلام بعد حديث الله وكلامه وآياته وهو القرآن يؤمنون ويصدقون؟! وعبّر ب (تِلْكَ) إشارة إلى علو مرتبة الآيات.

والخلاصة : من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث بعده.

٢٥٢

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كون مصدر القرآن الكريم هو الله عزوجل ، وليس له أي مصدر آخر سواه.

٢ ـ إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته بأدلة ستة في ثلاث آيات :

الدليل الأول من الكون ـ خلق السموات والأرض فهو يدل على وجود الإله ـ كما ذكر الرازي من ستة وجوه (١) :

أولا ـ أنها أجسام حادثة ، وكل حادث له محدث.

ثانيا ـ أنها مركبة من أجزاء متماثلة في مواضع متفاوتة عمقا وسطحا ، مما يدل على أن وقوع كل جزء في موضعه لا بد له من مرجح ومخصص.

ثالثا ـ أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في ماهيتها الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة ، واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية ، وذلك لا بد له من مرجح.

رابعا ـ أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل ، وبياض المشتري ، وحمرة المريخ ، والضوء الباهر للشمس ، ودرية الزهرة ، وصفرة عطارد ، ونور القمر ومحوه ، واختلافها في تلك الصفات دليل على أن الإله القادر المختار هو الذي خصص كل واحد منها بصفته المعينة.

خامسا ـ أن كل فلك مختص بحركة إلى جهة معينة ، ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء ، وذلك دليل على مخصص فاعل مختار وهو الله وحده.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨

٢٥٣

سادسا ـ أن كل فلك مختص بمهمة معينة ، فلا بد من مخصص فاعل مختار. الدليل الثاني والثالث من الأنفس ـ وهما خلق الإنسان والدواب بتركيب عضوي عجيب ، وخواص وطاقات مادية ومعنوية مذهلة ، يدلنا ذلك على أن هناك خالقا مبدعا لتلك الأنفس وهو الله تعالى.

الدليل الرابع والخامس والسادس من الظواهر الكونية ـ وهي تعاقب الليل والنهار بنحو دائم وتفاوتهما ، وإنزال الأمطار والثلوج لإحياء الأرض بالنبات وتغذية الينابيع والأنهار ، وتقليب الرياح وتغييرها ، كل ذلك دليل واضح على وجود الله القادر القاهر ، الحكيم الصنع ، البديع الخلق والإتقان.

٣ ـ هذه آيات الله ، أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته ، أنزلها الله في قرآنه بيانا متلوا إلى يوم القيامة ، مشتملا على الحق الذي لا ريب فيه ، والصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه ، فإذا لم يؤمن الناس بها ، ولم يصدقوا بالقرآن وآياته البينات ، فلن يجدوا سواها طريقا للإيمان وتصحيح العقيدة.

ولقد قال الله تعالى في هذه الآيات عبارات ثلاثا أولها (يُؤْمِنُونَ) وثانيها (يُوقِنُونَ) وثالثها (يَعْقِلُونَ) والمقصود بها كما قال الرازي : إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين ، فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين ، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.

أو أن الآيات النفسية تحتاج إلى الإيقان ، لقربها من الإنسان ، وأما الآيات الخارجية الفلكية فيكفي فيها التصديق لبعدها عن الإنسان ، وأما العلوية فتحتاج إلى النظر والاستدلال.

٢٥٤

وهذا دليل قاطع على أن القرآن اشتمل على أصول العقيدة والإيمان ودلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة ، كما اشتمل في مواضع أخرى على الأحكام الفقهية الجزئية في العبادات ، والمعاملات ، وأحكام الأسرة ، والدولة ، والأخلاق ، والاجتماع ، والسياسة ، والحكم ، وغير ذلك.

وعيد المكذبين بآيات الله وجزاؤهم

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))

الإعراب :

(لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أَلِيمٌ) بالرفع : صفة (عَذابٌ) ويقرأ بالجر : صفة (رِجْزٍ).

البلاغة :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) من صيغ المبالغة على وزن فعّال وفعيل.

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أسلوب تهكمي ، لأن استعمال البشارة التي تكون عادة بالخير في الشر تهكم.

(يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) تشبيه مرسل ، أي كأنه لم يسمع آيات القرآن.

(هذا هُدىً) وصف القرآن بالمصدر الذي هو هدى للمبالغة ، كأنه لوضوح حجته عين الهدى.

٢٥٥

المفردات اللغوية :

(وَيْلٌ) كلمة عذاب (أَفَّاكٍ) كذاب ، أي كثير الكذب والإفك (أَثِيمٍ) كثير الإثم والمعصية (آياتِ اللهِ) القرآن (ثُمَّ يُصِرُّ) على كفره ، والإصرار على الشيء : ملازمته (مُسْتَكْبِراً) متكبرا متعاظما عن الإيمان بالآيات ، و (ثُمَ) لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات.

(كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كأنه لم يسمعها ، فخففت وحذف ضمير الشأن ، والجملة في موقع الحال ، أي يصرّ مثل غير السامع (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) على إصراره ، والبشارة للتهكم (مِنْ آياتِنا) القرآن (اتَّخَذَها هُزُواً) أي مهزوءا بها (أُولئِكَ) أي الأفاكون (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ذو إهانة ، أي عذاب مخز مذل.

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي أمامهم وقدامهم ، لأنهم متوجهون إليها ، أو من خلفهم ، لأنه بعد آجالهم (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ) لا يدفع عنهم (ما كَسَبُوا) من المال والأولاد والفعال (شَيْئاً) من عذاب الله (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (أَوْلِياءَ) نصراء وأعوان (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يتحملونه.

(هذا هُدىً) أي هذا القرآن هاد من الضلالة (لَهُمْ عَذابٌ) لهم حظ من العذاب (مِنْ رِجْزٍ) الرجز : أشد العذاب (أَلِيمٌ) موجع.

سبب النزول :

نزول الآية (٨):

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) : نزلت في النضر بن الحارث الذي كان يشتري أحاديث الأعاجم ، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة في كل من صد عن الدين وتكبر عن هديه.

المناسبة :

بعد بيان الآيات للكفار ، وبيان أنهم إن لم يؤمنوا بها مع ظهورها ، فلا يؤمنوا بعدها بشيء ، أتبعه تعالى بوعيد عظيم بالعذاب الشديد لكل من كذب بتلك الآيات ، ثم أصر على كفره بها ، ثم ذكر أن جزاءهم جهنم ، دون أن تنفعهم أصنامهم شيئا ، وأن القرآن العظيم هو الهدى فقط من الضلالة.

٢٥٦

التفسير والبيان :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي الهلاك وأشد العذاب لكل كذاب بآيات الله ، كثير الإثم والمعاصي ، ولهذا الأفاك حالتان :

الأولى ـ الإصرار والاستكبار : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي إن هذا الأفاك إذا سمع آيات القرآن تتلى على مسامعه ، وفيها الدلالة الواضحة على وحدانية الله وقدرته ، ووعده ووعيده ، بقي مصرا على كفره ، وأقام على ما كان عليه إقامة بقوة وشدة ، ولم يتعظ بما يسمع من كلام الله ، وتكبر وتعاظم عن الإيمان بالآيات ، معجبا بنفسه ، وكأنه لم يسمعها ، مشبها حاله بحال غير السامع في عدم الالتفات إليها ، فأخبره بأن له عند الله عذابا شديد الإيلام ، جزاء إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات.

والتعبير عن هذا الخبر المحزن بالبشرى تهكم شديد واحتقار لهم.

ونظير الآية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام ٦ / ١].

الحال الثانية ـ الاستهزاء بالآيات : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي وإذا علم هذا الأفاك من آيات الله شيئا ، اتخذ ذلك الشيء هزوا ، أي موضوعا للسخرية والتندر مما حوته من المعاني ، أولئك الأفاكون الذين سبقت صفاتهم لهم عذاب موصوف بالإهانة والذل والخزي بسبب إصرارهم واستكبارهم عن سماع آيات الله واتخاذها موضوع استهزاء واستهانة بالقرآن. والعذاب المهين : هو المشتمل على الإذلال والفضيحة.

روي ـ كما تقدم ـ أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) دعا بتمر وزبد وقال لأصحابه : تزقموا من هذا ، ما يعدكم محمد إلا

٢٥٧

شهدا ـ عسلا ـ وحين سمع قوله تعالى (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار قال : إن كانوا تسعة عشر ، فأنا ألقاهم وحدي.

ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب المهين ، فقال :

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً ، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إن أمام أولئك الأفاكين جهنم يوم القيامة ، لأنهم متوجهون إليها مثل قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) [إبراهيم ١٤ / ١٦] أي من أمامه ، أو إن وراء تعززهم بالدنيا وتكبرهم عن الحق جهنم ، فإنها خلفهم وستدركهم ، ولا يدفع شيئا من العذاب عنهم ما كسبوا في الدنيا من الأولاد والأموال : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [آل عمران ٣ / ١٠ ، ١١٦] ، ولا ينفعهم أي نفع ، ولا تنفعهم أيضا الأصنام التي اتخذوها آلهة يعبدونها من دون الله ، يرجون منها النفع ، ودفع الضرر ، ولهم عذاب عظيم دائم مؤلم في جهنم التي هي من ورائهم. وكل ما توارى عنك فهو وراء ، تقدّم أو تأخر ، كما ذكر في غرائب القرآن.

وسبب التفرقة بين قوله (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وقوله (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أن الوصف الأول يدل على حصول الإهانة مع العذاب ، والوصف الثاني يدل على كونه بالغا أقصى المراتب في كونه ضررا.

ثم وصف الله تعالى القرآن بقوله :

(هذا هُدىً ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي هذا القرآن والآيات المتقدمة في هذه السورة هي هادية إلى الحق ، ومرشدة إلى الصواب ، وموجهة إلى النور من الظلمة والضلال ، والذين كفروا بآيات الله القرآنية لهم أشد العذاب يوم القيامة.

فقوله (هذا هُدىً) أي كامل في كونه هدى ، والرجز : أشد العذاب

٢٥٨

لقوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) [البقرة ٢ / ٥٩] وقوله سبحانه : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) [الأعراف ٧ / ١٣٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ توعد الله تعالى بوعيد شديد كل من ترك الاستدلال بآيات الله بالرغم من وضوحها التام ، ثم كفر بها وكذب بما جاءت به ، وتمادى في كفره ، متعظما في نفسه عن الانقياد لها ، وجحد بها استكبارا وعنادا.

والآية عامة في مثل هؤلاء ، وإن كان سبب نزولها الخاص هو النضر بن الحارث ، أو الحارث بن كلدة ، أو أبو جهل وأصحابه.

٢ ـ يتضمن الوعيد أيضا حال كل من استهزأ بآيات الله ، وتحدى قدرة الله ، فوصف الزقوم بأنه الزبد والتمر ، وقال في خزنة جهنم : إن كانوا تسعة عشر ، فأنا ألقاهم وحدي.

٣ ـ وصف الله تعالى نوع عذاب هؤلاء (لأفاكين الكذابين الآثمين الكفرة المعاندين بأوصاف أربعة هي : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ).

٤ ـ احتاط الله تعالى لحرمة كتابه القرآن ، فلم يعرضه للاستهانة والاستهزاء به ، ولهذا روى مسلم في صحيحة عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، مخافة أن يناله العدو».

٥ ـ لن يغني ولن يفيد هؤلاء الكافرين في تخليصهم من ذلك العذاب كل

٢٥٩

ما كسبوه في الدنيا من المال والولد ، ولا الأصنام التي اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله.

٦ ـ القرآن الكريم هدى للبشرية من الضلالة ، ثم أكد تعالى وعيده للذين جحدوا دلائله بأن لهم عذابا هو أشد العذاب.

والخلاصة : إن الله تعالى جعل مؤيدات جزائية صارمة وشديدة لكل من كفر بالقرآن ، ولم يتفكر بآيات الله ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته ، وذلك إنذار دائم شديد التأثير لكل من حاد عن منهج القرآن وعقيدة الإسلام.

من نعم الله تعالى على عباده

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

الإعراب :

(مِنْهُ) متعلق بحال ، أي كائنة منه تعالى.

(يَغْفِرُوا) مجزوم ، لأن تقديره : قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا ، وحقيقة جزمه بتقدير حرف شرط مقدر.

٢٦٠