التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

«ما» تعمّ ما كانوا يعبدون وهو الله والأوثان ، كأنه قال : إنني براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني. (سَيَهْدِينِ) يرشدني إليه ، وهو مقرر لما قال مرة أخرى : (يَهْدِيَنِ) كأنه قال : فهو يهدين وسيهدين ، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال.

(وَجَعَلَها) أي وجعل إبراهيم عليه‌السلام كلمة التوحيد وهي قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) في ذريته ، فلا يزال فيهم من يوحّد الله ويدعو إلى توحيده. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحّد ، فيرجع عما كان عليه إلى دين إبراهيم أبي الأنبياء والمسلمين ، وهو يشمل أهل مكة وغيرهم.

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) أي هؤلاء المعاصرين للرسول من قريش وآباءهم ، فاغتروا بذلك وانهمكوا في الشهوات ، ولم أعاجلهم بالعقوبة. وقرئ «متعت» بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) مبالغة في تعبيرهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) القرآن ودعوة التوحيد. (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ظاهر الرسالة بماله من المعجزات ، أو مبين للتوحيد بالحجج والآيات المتضمنة الأحكام الشرعية ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) القرآن. (لَوْ لا) هلا. (مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) من إحدى القريتين : مكة والطائف. والرجلان هما : الوليد بن المغيرة من مكة ، وكان يسمى ريحانة قريش ، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف. (عَظِيمٍ) زعيم ذي جاه ومال ، فإن الرّسالة منصب خطير لا يليق إلا بعظيم ، ولم يعلموا أن معيار اختيار الأنبياء هو التّحلي بالفضائل والكمالات الأدبية ، لا بالاعتبارات الدنيوية.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكّمهم ، والرّحمة : النّبوة. (قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) جعلنا معيشتهم مقسومة فيما بينهم ، فبعضهم غني ، وبعضهم فقير ، ويتفاوتون في مرتبتي الغنى والفقر. (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) جعلنا بينهم تفاوتا في الرّزق وغيره. (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ) وهو الغني. (بَعْضاً) وهو الفقير. (سُخْرِيًّا) مسخرا في العمل بالأجرة ، أي يستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم ، والياء : للنسب ، وقرئ بكسر السين «سخريا». (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) أي النّبوة وما يتبعها ، أو الجنّة. (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي خشية أن يكون جميع الناس على ملّة واحدة وهي الكفر. (سُقُفاً) جمع سقف ، وقرئ : «سقفا». (وَمَعارِجَ) ومصاعد جمع معرج كمنبر ، وقرئ : «معاريج» جمع معراج. (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) يصعدون ويعلون إلى السطوح. (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً) من فضة. (وَسُرُراً) من فضة ، جمع سرير. (يَتَّكِؤُنَ) يستندون. (وَزُخْرُفاً) ذهبا أو زينة مزوقة ، والمراد به الزينة كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ

١٤١

زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) [يونس ١٠ / ٢٤] ، ومعنى الآية : لو لا خوف الكفر على المؤمنين من إعطاء الكافر ما ذكر ، لأعطيناه ذلك لاحتقار الدنيا عندنا.

(لَمَّا) بمعنى إلّا (١) ، وإن نافية ، وعلى قراءة التخفيف «لما» تكون ما زائدة. (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ما يتمتع به فيها ثم يزول. (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي نعيم الآخرة وهو الجنة عند الله ـ عندية مكانة وتشريف لا عندية مكان ـ لمن اتّقى الكفر والمعاصي.

سبب النّزول :

نزول الآيتين (٣١ ـ ٣٢).

تقدّم في سورة يونس في الآية (٢) سبب نزول الآية (لَوْ لا نُزِّلَ ..) وفيه : أخرج ابن جرير عن ابن عباس «أن العرب قالوا : وإذا كان النّبي بشرا فغير محمد كان أحق بالرّسالة : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يكون أشرف من محمد ، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف ، فأنزل الله ردّا عليهم : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)».

وروى ابن المنذر عن قتادة «أن الوليد بن المغيرة ـ وكان يسمى ريحانة قريش ـ كان يقول : لو كان ما يقوله محمد حقّا لنزل عليّ أو على أبي مسعود ، فقال الله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني النّبوة. فيضعونها حيث شاؤوا».

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى فساد اعتماد المشركين على التّقليد في العقائد والأصول ، بيّن فساده بأسلوب المشركين أنفسهم ، وهو أن إبراهيم الخليل عليه‌السلام

__________________

(١) حكى سيبويه : نشدتك الله لمّا فعلت كذا ، أي إلا فعلت كذا.

١٤٢

أبو العرب وأشرف آبائهم تبرأ من دين آبائه بالدّليل ، وحكم بأن اتّباع الدّليل أولى من متابعة الآباء ، فوجب تقليده في ترك تقليد الآباء وفي ترجيح الدّليل على التّقليد.

ثم أبان الله تعالى مفاسد اعتماد قريش على التّقليد وترك التّفكر في الحجة والدّليل ، وهي : أولا ـ اغترارهم بالمهلة والمدّ في العمر والنّعمة ، واشتغالهم بالتّنعم واتّباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد ، وثانيا ـ تكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفهم له بأنه ساحر كذاب ، وثالثا ـ قولهم بأن الرّجل الشريف وهو كثير المال ورفيع الجاه هو الأحقّ بالنّبوة من محمد الفقير اليتيم.

فردّ تعالى عليهم بأنه هو الذي قسم الأرزاق والحظوظ بين عباده ، وأن التّفاوت في شؤون الدنيا هو الأصلح لنظام المجتمع ، وأن ميزان الاصطفاء للنّبوة إنما يعتمد على القيم الأدبية والروحية والأخلاقية ، وألا قيمة للدنيا وأمتعتها وزخارفها وثرواتها ، ولو لا خوف انتشار الكفر وشموله بين العالم ، لجعل الله للكفار ثروات طائلة ، وبيوتا ذات سقف وأبواب وسرر ومصاعد من فضة ، وزينة في كل شيء ، وإنما نعيم الآخرة للمتّقين الذين يتّقون الكفر والمعاصي.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن إبراهيم الخليل إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأشرف آباء العرب عليه‌السلام بأنه تبرأ من دين الآباء بالحجة والدليل ، فقال :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ، فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي واذكر أيها الرّسول لقومك قريش المعتمدين على تقليد الآباء والأجداد في عبادة الأصنام : حين تبرأ إبراهيم عليه‌السلام مما يعبد أبوه آزر ، وقومه من الأصنام ، إلا من عبادة خالقه وخالق الناس جميعا ، والذي قال بأنه سيرشدني لدينه ، كما أرشدني في الماضي ، ويثبتني على الحق. وقوله : (إِلَّا الَّذِي

١٤٣

فَطَرَنِي) إما استثناء متّصل ، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم ، وإما منقطع ، أي لكن الذي فطرني فهو يهديني ، قال ذلك ثقة بالله ، وتنبيها لقومه أن الهداية من ربّه.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل إبراهيم عليه‌السلام كلمة التوحيد وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وخلع ما سواه من الأوثان ، جعلها دائمة في ذريته ، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم ، فلا يزال فيهم ـ ولله الحمد ـ من يوحّد الله سبحانه ، رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم كأهل مكة ، فإنهم إذا ذكروه ، تبعوه في ملّته الحنيفية ، وتأثّروا بأبوته إن كانوا يدعون تقليد الآباء. قال قتادة : «لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة».

ثمّ ندّد الله تعالى بموقف أهل مكة ووبّخهم على اغترارهم بالنّعمة وطول العمر واستمرار السّلطة والنّفوذ ، فقال :

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي بل متّعت هؤلاء المشركين من أهل مكة وآبائهم من ذريّة إبراهيم بطول العمر والسّعة في الرّزق ، وأنعمت عليهم في كفرهم ، فاغتروا بالمهلة ، وأكبّوا على الشّهوات وطاعة الشّيطان ، وشغلوا بالتّنعم عن كلمة التّوحيد ، إلى أن جاءهم الحق وهو القرآن العظيم ، والرّسول المبين الذي أوضح مبدأ التّوحيد بالبراهين الساطعة ، وشرع الله وأحكامه القاطعة ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وزاد في توبيخهم بإعراضهم عن رسالة الحقّ ـ رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال :

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ ، قالُوا : هذا سِحْرٌ ، وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي حينما جاءهم القرآن والرّسول المؤيّد بالمعجزات دليلا على صدقه ، وصفوا ما جاء به بأنه سحر وأباطيل ، وليس بوحي من عند الله ، وقالوا : إنّا بما أرسل به جاحدون مكابرة

١٤٤

وعنادا وحسدا وبغيا ، فضمّوا إلى شركهم وضلالهم تكذيب الحق ورفضه ، والاستهزاء به ، والتّصريح بالكفر برسالته وإنكار نبوته.

ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من الكفر وهو النّوع الرّابع من كفرياتهم المذكورة في هذه السورة (١) ، فقال :

(وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي وقال كفار قريش وأمثالهم : هلا أنزل القرآن على أحد رجلين عظيمين من مكة أو الطائف ، وهما الوليد بن المغيرة ومسعود بن عروة الثقفي ، فكل منهما عظيم المال والجاه ، وسيد في قومه. المعنى : أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين. وهذا اعتراض منهم على الله الذي أنزل القرآن على رسوله.

فأبطل الله تعالى هذه الشّبهة من ثلاثة وجوه :

الأول ـ (أَهُمْ)(٢)(يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)؟ (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي إن هؤلاء المشركين تجاوزوا حدودهم وأقدارهم ، فأرادوا أن يجعلوا ما لله لأنفسهم ، وليس الأمر مردودا إليهم ، بل إلى الله عزوجل ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا وأشرفهم وأطهرهم أصلا. أيجوز لهم أن يقسموا رحمة ربّك وهي النّبوة ، فيختاروا لها من يريدون؟ نحن الذين نقسم الأرزاق والحظوظ بين العباد ، ونفضل بعضهم على بعض درجات في القوة والضعف ، والعلم والجهل ، والشهرة والخمول ، والغنى والفقر ، لأنا لو سوّينا بينهم في هذه الأحوال لم يتعاونوا فيما بينهم ، ولم يتمكنوا

__________________

(١) الثلاثة المتقدمة : هي جعلهم الملائكة بنات الله ، وجعل الملائكة إناثا ، وقولهم : لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ.

(٢) الاستفهام هنا للإنكار والتّعجب.

١٤٥

من استخدام بعضهم بعضا ، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض ، وإلا فسد نظام العالم. وليس المعنى في الاستخدام أو الاستئجار أو الاستعمال على عمل شيء من الذّلّ والمهانة ، لأن حقوق العامل مصونة في الإسلام ، وعلى صاحب العمل واجبات خلقية ومادية كثيرة توجب عليه التّرفع عن الغبن والظلم والأذى والإساءة ، فإن عجزوا عن تغيير نظام الدنيا ، فكيف يعترضون على حكمنا بتخصيص النبوة والرّسالة في بعض العباد؟! والمعنى : إنكار أن الرّزق منهم ، فكيف تكون النّبوة منهم؟!

الوجه تكون النّبوة منهم؟! الوجه الثاني ـ (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي إن ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة خير مما يجمعون من الأموال وسائر متاع الدنيا ، وإذا خصّ الله بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدّين ، فهذه الرّحمة خير من أموال الدنيا كلها ، لأن عرض الدنيا زائل ، ورحمة الله وفضله باق دائم.

ثم أبان الله تعالى حقارة الدنيا ، فقال :

الوجه الثالث ـ (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ، وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ، وَزُخْرُفاً) أي ولو لا الخوف وكراهة أن يكون الناس كلهم على ملّة الكفر ، ميلا إلى الدنيا وزخرفها ، فلا يبقى في الأرض مؤمن ، لأعطينا الكفار ثروات طائلة ، وجعلنا سقف بيوتهم ، وسلالمهم ومصاعدهم التي يرتقون ويصعدون عليها ، وأبواب البيوت والسّرر التي يتكئون عليها من فضة خالصة ، وذهب وزينة ونقوش فائقة ، لهوان الدنيا عند الله تعالى.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي ليس كل ذلك إلّا شيئا يتمتع به تمتعا قليلا في الدنيا ، لأنها زائلة قصيرة الأجل ، والآخرة بما فيها من أنواع النّعيم والجنان هي لمن اتّقى الشّرك والمعاصي ، وآمن

١٤٦

بالله وحده ، وعمل بطاعته ، فإنها الباقية التي لا تفنى ، ونعيمها الدائم الذي لا يزول ، وهي لهم خاصة ، لا يشاركهم فيها أحد غيرهم.

أخرج التّرمذي ، وابن ماجه والبغوي والطّبراني عن سهل بن سعد رضي‌الله‌عنه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» ، وفي رواية : «لو كانت الدنيا ..» ، وفي رواية الطبراني «أنه لما آلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نسائه ، جاءه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فرآه على رمال حصير ، قد أثّر بجنبه ، فابتدرت عيناه بالبكاء ، وقال : يا رسول الله ، هذا كسرى وقيصر ، هما فيما هما فيه ، وأنت صفوة الله من خلقه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متكئا ، فجلس وقال : أو في شكّ أنت يا ابن الخطاب؟ ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» وفي رواية «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ لقد تبرأ إبراهيم عليه‌السلام من عبادة الأصنام ، وخرج على المألوف الفاسد بالحجة والدليل.

٢ ـ إن ترك التّقليد في العقيدة والرّجوع إلى متابعة الدّليل واجب متعيّن على كلّ إنسان في أمر الدّين ، وكذلك ترك التّقليد ، واتّباع الدّليل هو الأولى في شؤون الدنيا أيضا ، ليكون المرء على بيّنة من أمره ، إلا فيما تتطلبه ظروف القيادة الحربية ونحوها للحفاظ على الأسرار ، فيجب تنفيذ أمر القائد وطاعته ، وإن لم يعرف الدّليل.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٢٧.

١٤٧

٣ ـ جعل إبراهيم عليه‌السلام كلمة التّوحيد ومقالته السابقة : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) باقية في عقبه ، وهم ذريته ، ولده وولد ولده ، أي إنهم توارثوا البراءة من عبادة غير الله ، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب : من يأتي بعده.

٤ ـ قال ابن العربي : كان لإبراهيم في الأعقاب دعوتان مجابتان :

إحداهما ـ في قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة ٢ / ١٢٤] ، فقد قال له : نعم ، إلا من ظلم منهم ، فلا عهد له.

ثانيهما ـ قوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم ١٤ / ٣٥].

وقيل : بدل الأولى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٤] ، فكلّ أمّة تعظّمه ، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو في نوح (١).

٥ ـ وقال ابن العربي أيضا : جرى ذكر العقب هاهنا موصولا في المعنى بالحقب ، أي متّصلا مستمرا على ممرّ السنين ، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى (٢) أو التّحبيس ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أبو داود والنسائي ، عن جابر : «أيّما رجل أعمر عمرى له ولعقبه ، فإنها للذي أعطيها ، لا ترجع إلى الذي أعطاها ، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» (٣) ، أي إن الهبات والأوقاف تشمل الدرجة الأولى من الأولاد ذكورا وإناثا ، وولد الذّكور دون الإناث لغة وشرعا في الدرجة الثانية وما يليها ، وهذا مذهب المالكية.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٦٦

(٢) العمرى : تمليك الشيء مدة العمر.

(٣) أحكام القرآن ، المرجع والمكان السابق.

١٤٨

وقال جماعة كابن عبد البرّ وغيره : إن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس (الأوقاف الذّرية أو الأهلية).

٦ ـ عجبا لقريش وأمثالها متّعهم الله وآباءهم بوافر النّعم في الدنيا ، ولما جاء الحقّ وهو القرآن المشتمل على التوحيد والإسلام الذي هو أصل دين إبراهيم ، وكلمته الباقية في عقبه ، وجاءهم الرّسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كفروا به وقالوا : إنه سحر لا وحي.

٧ ـ وقالوا أيضا : هلا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من إحدى القريتين : مكة والطائف ، إما الوليد بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل من مكة ، وإما أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف ، ظانين أن النبوة لصاحب المنصب العالي والرجل الشريف وهو كثير المال ، رفيع الجاه.

وفاتهم أن معيار الاصطفاء للنّبوة إنما هو القيم الرّوحية والأدبية والنّفسية. وفاتهم أيضا أنهم يتدخلون في ولاية الله وسلطانه ومشيئته ، فيضعون النّبوة حيث شاؤوا ، وهذا افتئات على سلطان الله ، فإن مرسل الرّسل هو الذي يختارهم ، وفاتهم كذلك أن رحمة الله وفضله ونعمته في الآخرة وهي الجنة ، ونعمته في الدنيا وهي النبوة أفضل مما يجمعون من الدنيا.

٨ ـ إن الله سبحانه هو لا غيره الذي يقسم الأرزاق والحظوظ بين عباده ، بمقتضى حكمته ومشيئته ، فيفقر قوما ويغني آخرين ، فإذا لم يكن أمر الدنيا لأحد من العباد ، فكيف يفوّض أمر النّبوة إليهم؟!

٩ ـ وإن الله تعالى هو الذي يفاضل بين عباده ويفاوت بينهم في مقومات الحياة وقيمها من القوة والضعف ، والعلم والجهل ، والحذاقة والبلاهة ، والشهرة والخمول ، لأن تحقيق المساواة في هذه الأمور يؤدي إلى الإخلال بنظام العالم ،

١٤٩

ويفسد المصالح ، ويعطّل المكاسب ، فيعجز الواحد من تسخير غيره لخدمة أو عمل ، مقابل أجر عادل.

١٠ ـ ليس التّفوق المادي في الدنيا دليلا على صلاح أصحابه ، إذ لا قيمة للدنيا وثرواتها في ميزان الله ، ولو لا كراهة أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطاهم الله ما وصف من زخارف الدنيا ، لهوانها عند الله عزوجل. والخلاصة : ردّ الله تعالى على اقتراح العرب كون الرّسالة لأحد رجلين بوجوه ثلاثة : أولها ـ قوله على سبيل الإنكار : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي النّبوة فيضعوها حيث شاؤوا ، وثانيها ـ قوله: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) لأن الدنيا فانية ، ودين الله باق لا يزول. وثالثها ـ قوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) كما تقدّم تفسيرها (١).

١١ ـ استدلّ ابن العربي بقوله تعالى : (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) ، على أن السّقف لصاحب السّفل ، ولا حقّ فيه لصاحب العلو ، لأن الله تعالى جعل السّقوف للبيوت ، كما جعل الأبواب لها ، وهذا مذهب مالك رحمه‌الله تعالى.

أما السّفل فاختلفوا فيه ، فمنهم من قال : هو له ، ومنهم من قال : ليس له في باطن الأرض شيء ، والرّاجح ما بيّنه حديث الإسرائيلي الصحيح : أنّ رجلا باع من رجل دارا ، فبناها فوجد فيها جرّة من ذهب ، فجاء بها إلى البائع ، فقال : إنما اشتريت الدّار دون الجرّة ، وقال البائع : إنما بعت الدّار بما فيها ، وكلاهما تدافعها ، فقضى بينهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزوّج أحدهما ولده من بنت الآخر ، ويكون المال بينهما.

قال ابن العربي وتبعه القرطبي : والصّحيح أن العلو والسّفل له ، إلا أن

__________________

(١) غرائب القرآن للنّيسابوري : ٢٥ / ٤٩.

١٥٠

يخرج عنهما بالبيع ، فإذا باع أحدهما أحد الموضعين ، فله منه ما ينتفع به ، وباقية للمبتاع منه (١).

ثم استطرد القرطبي في بيان بعض أحكام العلو والسّفل ، نجتزئ منها ما يلي (٢) :

أ ـ ليس لصاحب السّفل أن يهدم إلا لضرورة ، ويكون هدمه أرفق لصاحب العلو ، لئلا ينهدم بانهدامه العلو.

ب ـ وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضرّ بصاحب السّفل.

ج ـ ولو انكسرت خشبة من سقف العلو أدخل مكانها خشبة ليست أثقل منها ، منعا من ضرر صاحب السّفل.

د ـ وباب الدار على صاحب السّفل.

ه ـ ولو انهدم السّفل أجبر صاحبه على بنائه ، وليس على صاحب العلو أن يبني السّفل ، فإن أبى صاحب السّفل من البناء قيل له : بع ممن يبني.

و ـ إن إصلاح السّفل على صاحبه.

ز ـ ليس لصاحب السّفل أن يحدث ما يضرّ بصاحب العلو ، فإن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب السّفل ، ولصاحب العلو منعه من الضّرر ، لحديث السفينة الذي أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما عن النعمان بن بشير : «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا ـ اقترعوا ـ على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٧٠ ، تفسير القرطبي : ١٦ / ٨٥ ـ ٨٦

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ٨٦.

١٥١

من الماء ، مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا». والعبارة الأخيرة تدلّ على جواز منع الضّرر ، وفي الحديث دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها.

١٢ ـ إن التّمتع بالدنيا قليل وعمرها قصير ، والآخرة أي الجنة لمن اتّقى وخاف. أخرج التّرمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا سجن المؤمن ، وجنّة الكافر». وقد تقدّم حديث الترمذي عن سهل بن سعد : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».

حال المعرض عن ذكر الله وتثبيت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دعوته

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

١٥٢

الإعراب :

(وَمَنْ يَعْشُ ... نُقَيِّضْ مَنْ) : شرطية ، وما بعدها فعل الشرط وجوابه.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ...) جمع الضميرين مراعاة لمعنى (مَنْ) إذ المراد جنس العاشي والشيطان المقيض له. وأما ضمير (لَهُ) فروعي فيه لفظ (مَنْ) وهكذا أعاد الضمير أولا على اللفظ ، ثم على المعنى. وضمير (لَيَصُدُّونَهُمْ) عائد على جنس الشيطان وبما أن لكل عاش شيطانا قرينا ، فجاز أن يعود الضمير مجموعا. وقال ابن عطية : ضمير (وَإِنَّهُمْ) عائد على الشيطان ، وضمير (لَيَصُدُّونَهُمْ) عائد على الكفار ، قال أبو حيان : والأولى ما ذكر أولا لتناسق الضمائر في (وَإِنَّهُمْ) وفي (لَيَصُدُّونَهُمْ) وفي (وَيَحْسَبُونَ) لمدلول واحد كأن الكلام : وفي (وَإِنَّهُمْ) وفي (لَيَصُدُّونَهُمْ) وفي (وَيَحْسَبُونَ) لمدلول واحد كأن الكلام : وإن العشاة ليصدونهم الشياطين عن سبيل الهدى والفوز. (وَيَحْسَبُونَ) أي الكفار.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ... إِذْ) بدل من اليوم.

(فَإِمَّا) فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة المؤكدة بمنزلة لام القسم في طلب النون المؤكدة.

البلاغة :

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) استعارة تمثيلية ، شبه الكفار بالصم والعمي. والهمزة : إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد استغراقهم في الضلال.

(أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) جناس الاشتقاق ، لتغير الشكل وبعض الحروف بينهما.

المفردات اللغوية :

(يَعْشُ) يتغافل ويتعام ويعرض ، لفرط اشتغاله بالمحسوسات وانهماكه في الشهوات ، وقرئ «يعش» بالفتح ، وقرئ «يعشو» على أن (مَنْ) موصولة يقال : عشي يعشى كرضي يرضى وعرج يعرج : إذا كان في بصره آفة (ذِكْرِ الرَّحْمنِ) القرآن. (نُقَيِّضْ) نهيئ ونسبب ونضم إليه شيطانا. (قَرِينٌ) رفيق ملازم لا يفارقه ، يوسوسه ويغويه دائما.

(وَإِنَّهُمْ) أي الشياطين. (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي العاشين. (عَنِ السَّبِيلِ) طريق الهدى. (وَيَحْسَبُونَ) أي الكفار. (جاءَنا) العاشي ، بقرينه يوم القيامة. (يا لَيْتَ يا)

١٥٣

للتنبيه (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي بعد ما بين المشرق والمغرب ، مغلّبا المشرق على المغرب. (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أنت ، و (الْقَرِينُ) الصاحب والصديق.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) أي العاشين تمنيكم وندمكم في القيامة : (إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ) أي تبين لكم ظلمكم بالإشراك. (أَنَّكُمْ) أي لأنكم مع قرنائكم ، بتقدير لام العلة ، وقرئ «إنكم» بالكسر (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) تشتركون مع شياطينكم في العذاب ، كما كنتم مشتركين في سببه.

(الصُّمَ) جمع أصم وهو الذي في أذنه صمم. (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في خطإ بيّن ، فهم لا يؤمنون ، وقوله : (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ) عطف على العمي ، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى.

(نَذْهَبَنَّ بِكَ) أي فإن قبضناك وأمتناك قبل تعذيبهم. (مُنْتَقِمُونَ) بعدك في الدنيا أو الآخرة. (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) أي نبصرنك ما وعدناهم به من العذاب. (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) قادرون على عذابهم.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي تمسك بالقرآن وقرئ «أوحى» أي الله تعالى. (عَلى صِراطٍ) طريق. (مُسْتَقِيمٍ) لا عوج له. (لَذِكْرٌ) لشرف عظيم به تذكر (لَكَ وَلِقَوْمِكَ) لنزوله بلغتهم. (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عنه يوم القيامة عن القيام بحقه ، بأداء التكاليف فيه من أمر ونهي. (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) أي واسأل سلالتهم وعلماء دينهم. (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) غيره. (آلِهَةً يُعْبَدُونَ) هل حكمنا بعبادة الأوثان ، وهل جاءت ملة من الملل به؟ والمراد الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد ، والدلالة على أن الأمر به قديم غير جديد.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٦):

(وَمَنْ يَعْشُ) : أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي : أن قريشا قالت : قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه ، فقيّضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله ، فأتاه ، وهو في القوم ، فقال أبو بكر : إلام تدعوني؟ قال : أدعوك إلى عبادة اللّات والعزّى ، قال أبو بكر : وما اللّات؟ قال : ربنا ، قال : وما العزّى؟ قال : بنات الله ، قال أبو بكر : فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه ، فقال طلحة لأصحابه : أجيبوا الرجل ، فسكت القوم ، فقال

١٥٤

طلحة : قم يا أبا بكر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، فأنزل الله هذه الآية : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) الآية.

سبب نزول الآية (٤١):

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ..) : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعب نفسه في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون إلا غاليا ، فنزلت الآية : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ..) الآية.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن المال متاع الدنيا ، وهو زائل ، نبّه إلى آفات المال ، لأن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله ، وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدون الناس عن طريق الهداية في الدنيا ، أما في الآخرة فيتبرأ الكافر من قرينه الشيطان. وهما في العذاب مشتركان ، والاشتراك في العذاب لا يفيد التخفيف كما كان يفيده في الدنيا.

وبعد أن وصف الله تعالى المعرضين عن ذكره بالعشا ، وصفهم أيضا بالصمم والعمى ، بسبب كونهم في ضلال مبين ، ولما بيّن تعالى أن دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تؤثر في قلوب هؤلاء ، تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بيّن أنه لا بد وأن ينتقم لأجله منهم ، إما حال حياته أو بعد وفاته ، ثم أمره ربه أن يتمسك بما أمره به ، فإنه على صراط مستقيم نافع ، هو منهج القرآن الذي فيه شرف عظيم له ولقومه ، وسوف يسألون عن القيام بحقه.

ثم أبان تعالى أن إنكار عبادة الأصنام في رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس خاصا به ، بل كل الأنبياء والرسل كانوا مجمعين على إنكاره.

التفسير والبيان :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي ومن

١٥٥

يتعام ويتغافل ويعرض عن النظر في القرآن والعمل به ، نهيئ له شيطانا يوسوس له ويغويه ، فهو له ملازم لا يفارقه ، بل يتبعه في جميع أموره ، ويطيعه في كل ما يزين له به. والعشا في العين : ضعف البصر ، والمراد هنا عشا البصيرة.

والمراد بالآية : إن من يعرف كون القرآن حقا ولكنه يتجاهل ذلك فهو في ضلال ، ومادة كل آفة وبلية الركون إلى الدنيا وأهلها ، فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر ، ثم يصير بالتدريج كالعشى ، ثم كالعمى.

والآية مثل قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [فصلت ٤١ / ٢٥]. وجاء في صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن ، وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وإن الشياطين الذين يقيّضهم الله لكل من يعشو عن ذكر الرحمن ، ليمنعونهم بالوسواس عن سبيل الحق والرشاد ، ويحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم مهتدون إلى الحق والصواب.

ثم يتبرأ الكافر في الآخرة من قرينة الشيطان ، فقال تعالى :

(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ : يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ، فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي حتى إذا وافانا الكافر يوم القيامة ، يتبرم بالشيطان الذي وكل به ، ويتبرأ منه ، ويتمنى الكافر أن بينه وبين الشيطان المقارن له من البعد ما بين المشرق والمغرب ، فبئس الصاحب الملازم للإنسان شيطانه.

وقرأ بعضهم : «حتى إذا جاءنا» أي القرين والمقارن.

ويقال لهم يوم القيامة توبيخا كما حكى تعالى :

١٥٦

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي ويقال لهم في الآخرة توبيخا وتأنيبا وتيئيسا : لن ينفعكم في هذا إذ تبين أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا اشتراككم في العذاب ، فلا يخفف عن كل منكما شيء منه ، بخلاف حال الدنيا ، فإن المصيبة فيها إذا عمت هانت. وهذا يدل على أن حصول الشركة في العذاب لا يفيد التخفيف ، كما كان يفيده في الدنيا ، لأن اشتغال كل واحد بنفسه في شدة العذاب ، يذهله عن حال الآخر ، فلا تفيد الشركة الخفة ، ولا يتمكن كل واحد من مواساة الآخر في كربه وحزنه وألمه ، فلكل قدر مشترك من العذاب.

ثم بيّن الله تعالى لرسوله أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم تسلية له ، فقال :

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أتستطيع يا محمد إسماع أهل الصمم أو هداية أهل العمى أو إرشاد من مستغرقا في ضلال واضح بيّن. وهذا بعد أن وصفهم تعالى بالعشا ، وصفهم بأوصاف ثلاثة هي : الصمم والعمى والضلال البيّن ، فهؤلاء الكفار ضعاف البصيرة ، بمنزلة الصم الذين لا يسمعون ما جئت به أيها الرسول ، وبمنزلة العمي الذين لا يبصرونه ، وهم مفرطون في الضلالة والكفر والجهالة.

وكان التناسب بينهم وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عكسيا ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبالغ في دعوتهم إلى الإيمان الحق ، وهم لا يزدادون إلا غيا وتعاميا عن بيّنات القرآن ودلائل النبوة ، إمعانا في الكفر ، وعنادا في الباطل.

ثم أعلم الله رسوله بانتقامه منهم ، فقال :

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي إنهم لا يفلتون من العقاب في العاجل أو الآجل ، فإن قبضنا روحك وأمتناك أيها الرسول قبل نزول العذاب بهم ، فنحن منتقمون منهم إما في

١٥٧

الدنيا أو في الآخرة ، وإن أبصرناك الذي وعدناهم به من العذاب قبل موتك ، فنحن قادرون أيضا عليه ، ومتى شئنا عذبناهم. وقد أقر الله عينه في حال حياته ، فقهرهم يوم بدر ، وأصبح المتحكم فيهم ، المالك لحصونهم وقلاعهم.

والتعبير بالوعد دليل على وقوعه حتما ، لأن الله لا يخلف الميعاد.

وبعد هذا الوعد بالنصر ، أمره الله بشدة التمسك بالقرآن وهديه ، فقال :

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي تمسّك أيها الرسول بالقرآن الموحى به إليك من ربك ، فإنك على طريق قويم ومنهج سليم ، مؤد إلى السعادة في الدنيا ، والنجاة في الآخرة ، وإن كذّب به من كذّب ، فذاك لا يضيرك.

ثم أبان تعالى منزلة القرآن ، فقال :

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقريش والعرب عامة ، إذ نزل بلغتهم ، وسوف تسألون عن هذا القرآن وكيف عملتم به واستجبتم له وما يلزمهم من القيام بحقه.

ونظير الآية قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء ٢١ / ١٠] أي شرفكم ، أخرج البخاري والترمذي عن معاوية رضي‌الله‌عنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن هذا الأمر في قريش ، لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم عن جابر : «الناس تبع لقريش في هذا الشأن ، مسلمهم تبع لمسلمهم ، وكافرهم تبع لكافرهم».

وهذا التنويه بمنزلة العرب يجعلهم أولى الناس باتباع القرآن والعمل بأحكامه وشرائعه ، وإن كانت الرسالة الإسلامية عامة للناس قاطبة.

١٥٨

ثم نبّه الله تعالى إلى أن الدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشرك قديم ، فقال : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي واسأل سلالات الأمم التي أرسلنا فيها الأنبياء وعلماءهم ، هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل؟ والمعنى : جميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد ، كما قال جل جلاله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦].

والمراد بهذا التنبيه على إجماع المرسلين على التوحيد ، وعلى أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس ببدع من بين الرسل في الأمر به ، وهذا يدل على وحدة الدين الحق في أصوله ، ووحدة مهمة الأنبياء عليهم‌السلام.

وسبب هذا الأمر أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك ، فأمره الله بسؤاله الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير والتأكيد ، لا لأنه كان في شك منه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات ما يلي :

١ ـ إن الإضلال من الله تعالى لا يكون إلا بعد إعراض الناس عن أوامر الله ، فمن يتعام ويتغافل عن آيات القرآن وشرائعه وأحكامه ، ويعرض عنها إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم ، نهيئ شيطانا يغويه ، جزاء على كفره ، فهو له قرين وصاحب ملازم في الدنيا ، يمنعه من الحلال ، ويبعثه على الحرام ، وينهاه عن الطاعة ، ويأمره بالمعصية ، وقرين له في الآخرة في العذاب المشترك بينهما. قال أبو سعيد الخدري : «إذا بعث الكافر زوّج بقرينه من الشياطين ، فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار».

١٥٩

٢ ـ إن مهمة الشياطين خطيرة تستوجب الحذر من وساوسهم وإغواءاتهم ، فهم يصدرون الناس عن سبيل الهدى ، حتى يخيل للكفار ويجعلهم يظنون أنهم مهتدون. وقيل : ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون ، فيطيعونهم.

٣ ـ تتجلى الحقيقة المرّة في الآخرة ، حين يتبرأ الكافر من الشيطان ، ويتمنى البعد عنه كالبعد بين المشرق والمغرب ، ويقول له : فبئس القرين أنت ، لأنه يورده النار. قال الفراء : أراد المشرق والمغرب ، فغلّب اسم أحدهما ، كما يقال : القمران للشمس والقمر ، والعمران لأبي بكر وعمر ، والبصرتان للكوفة والبصرة ، والعصران للغداة (الظهر) والعصر.

٤ ـ يقول الله للكافر يوم القيامة توبيخا : لن ينفعكم اليوم إذا أشركتم في الدنيا هذا الكلام ، وهو قول الكافر : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي لا تنفع الندامة ، فإنكم في العذاب مشتركون. أو لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب ، لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه ، ولا ينفع أهل النار التأسي كما يتأسّى أهل المصائب في الدنيا ، فيقول أحدهم : لي في البلاء والمصيبة أسوة ، فيسكّن ذلك من حزنه ، فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي شيئا لشغلهم بالعذاب.

٥ ـ سلّى الله نبيه عن حزنه وأسفه لإعراض قومه عن قبول رسالته ، وقال له : ليس لك من الأمر شيء ، فلا تستطيع هداية العشيّ الصمّ العمي الضالين ، فلا يضيق صدرك إن كفروا.

قال القرطبي في قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ..) : فيه رد على القدرية وغيرهم ، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق الله تعالى ، يضلّ من يشاء ، ويهدي من يشاء.

٦ ـ إن تعذيب المشركين آت عاجلا أم آجلا ، سواء في حال حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعد وفاته ، فالله قادر على كل شيء.

١٦٠