التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

١٠ ـ أمر الله نبيّه بالصّفح عن المشركين صفح الغاضب النّاقم لا الرّاضى بفعلهم ، وبالمتاركة حتى حين ، فسوف يعلمون ما ينتظرهم من العذاب في الدنيا والآخرة ، وهذا تهديد للمشركين ، ولا حاجة كما ذكر الرّازي إلى القول بأن هذه الآية منسوخة بآية السّيف ، لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة ، فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ ، وأما التّكرار فيكون بدليل آخر ، كما أن اللفظ قد يتقيّد بقرينة العرف.

٢٠١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الدخان

مكيّة ، وهي تسع وخمسون آية.

تسميتها :

سمّيت (سورة الدّخان) لما فيها من تهديد المشركين في الماضي بالجدب والقحط الذي يجعل الجائع كأنه يرى في الفضاء دخانا من شدة الجوع ، وتهديد الأجيال المقبلة بظهور الدّخان في السماء مدة أربعين يوما والذي يعدّ أمارة من أمارات السّاعة.

مناسبتها لما قبلها :

تتجلّى مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حاميم من وجوه ثلاثة :

١ ـ افتتاح كلتا السّورتين بالقسم بالقرآن العظيم تنويها به ، في قوله تعالى : (حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ).

٢ ـ تشابه خاتمة السّورة المتقدّمة ومطلع هذه السّورة ، حيث ختمت سورة الزّخرف بالتّهديد والوعيد في قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [٨٣] فذكر يوما غير معيّن ولا موصوفا ، ثم أبان وصفه في سورة الدّخان في القسم الأول منها حيث أنذر تعالى المشركين في قوله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [١٠].

٣ ـ حكاية ما قاله النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقومه وما قاله أخوه موسى عليه‌السلام لقوم

٢٠٢

فرعون ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السّورة المتقدّمة : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) [٨٨] ، ثم قال الله له : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ : سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [٨٩] ، وحكى الله عن موسى في هذه السّورة : (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) [٢٢] ، وقال موسى : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) [٢٠ ـ ٢١] ، والتّشابه واضح في الموقفين.

ما اشتملت عليه السّورة :

موضوع سورة الدّخان المكيّة كسائر موضوعات السّور المكيّة وسور آل حاميم السّبع ، وهو بيان أصول العقيدة الإسلاميّة : التوحيد ، والنّبوة والرّسالة ، والبعث.

بدئت السورة ببيان تاريخ بدء إنزال القرآن في ليلة القدر من رمضان ، رحمة من الله بعباده ، وأن منزله هو مالك الكون كله والمخلوقات جميعها ، وأنه هو الإله الحقّ الواحد الذي لا شريك له ، غير أن المشركين في شكّ وارتياب من أمر القرآن.

ثم أعدتهم بالعذاب الشديد ، وبالدّخان المخيف الذي ينذرهم بأسوأ العواقب ، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا.

وأردفت ما سبق بعظتهم بقصة فرعون وقومه مع موسى عليه‌السلام ، حيث نجّى الله المؤمنين ، وأغرق الكافرين في البحر.

ثم وصفت مشركي مكة بأنهم قوم منكرون للبعث في قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ، وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) [٣٥] ، وهدّدتهم بالإهلاك كما أهلك المجرمين الأشدّاء من قبلهم ، مثل قوم تبّع الحميري ، مع إيراد الدّليل على قدرة الله عزوجل على كلّ شيء.

٢٠٣

ثمّ وصفت لهم أهوال يوم القيامة وما فيه من الحساب والعقاب وطعام الزّقوم في نار جهنم وغير ذلك مما يرهب ويرعب ، ويثير المخاوف الشّديدة في النّفوس.

وختمت السّورة بنعت وبيان مصير الأبرار ومصير الفجّار ، لترغيب الفريق الأول وتبشيره بالعاقبة الحميدة ، وترهيب الفريق الثاني وإنذاره بالنّكال والعذاب الشّديد.

فضلها :

ذكر المفسّرون أحاديث في فضل سورة الدّخان ، لكنها لا تخلو من ضعف (١) ، منها ما رواه الدّارميّ في مسنده عن أبي رافع قال : «من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة ، أصبح مغفورا له ، وزوّج من الحور العين» ورواه الثّعلبي مرفوعا عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له» وفي لفظ آخر للتّرمذي : «من قرأ حم الدّخان في ليلة ، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ، وعن أبي أمامة قال : سمعت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ حم الدّخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، بنى الله له بيتا في الجنة».

إنزال القرآن في ليلة القدر المباركة وصفات منزله

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

__________________

(١) وهكذا أغلب الأحاديث الواردة في فضائل السّور ضعيفة لا يصح الاعتماد عليها ، لذا استبعدت ذكر هذه الأحاديث ، وأوردت بعضها هنا للتّنبيه والبيان.

٢٠٤

(٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

الإعراب :

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أَمْراً) : إما منصوب على الحال بمعنى آمرين ، أو منصوب على المصدريّة ، أو منصوب بفعل مقدّر ، أي أعني أمرا ، وهو قول أبي العباس المبرّد.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ رَحْمَةً) : إما منصوب على أنه مفعول لأجله ، أي للرّحمة ، وحذف مفعول (مُرْسِلِينَ) ، أو لأنه مفعول (مُرْسِلِينَ) والمراد بالرّحمة حينئذ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٧] ، أو منصوب على البدل من قوله : (أَمْراً) ، أو منصوب على المصدر ، أو منصوب على الحال ، وهو قول أبي الحسن الأخفش.

(رَبِّ السَّماواتِ) بالجرّ : بدل من (رَبِّكَ) ، وبالرّفع : خبر آخر ، أو صفة ، أو استئناف على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ربّ السموات.

البلاغة :

(حَكِيمٍ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من صيغ المبالغة على وزن فعيل.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) بينهما طباق.

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) حثّ وتحريض على الإيمان والتفكّر والتّبصر.

المفردات اللغوية :

(حم) الحروف المقطعة للدلالة على إعجاز القرآن ، والتّنبيه على خطورة ما يلقى من أحكام في هذه السّورة ، كما تقدّم. (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) هذا قسم بالقرآن ، أي والقرآن ذي البيان الواضح لكل حاجات الإنسان في الدّين والدنيا.

(لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي ليلة القدر ، ابتدئ فيها إنزال القرآن ، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ ، وبركتها لأن نزول القرآن سبب للمنافع الدّينية والدّنيوية. (مُنْذِرِينَ) مخوّفين به ، وهو استئناف يتبيّن فيه المقتضي للإنزال.

٢٠٥

(فِيها) في ليلة القدر. (يُفْرَقُ) يفصّل ويبيّن. (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) محكم لا لبس فيه ، من الأمور المحكمة التّشريعية ، والأرزاق والآجال وغيرها على مدار السّنة إلى تلك الليلة. (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا ، وهو مزيد تفخيم للأمر. (مُرْسِلِينَ) الرّسل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قبله عليهم‌السلام. (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) رأفة بالمرسل إليهم. (السَّمِيعُ) لأقوالهم. (الْعَلِيمُ) بأفعالهم وأحوالهم ، وهو وما بعده بيان أنّ الرّبوبية لا تحقّ إلا لمن هذه صفاته ، مما ينفي ربوبية غيره. (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم وفي أنه تعالى ربّ السموات والأرض ، أو كنتم تطلبون اليقين وتريدونه.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا خالق سواه. (يُحْيِي وَيُمِيتُ) كما تشاهدون. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) من البعث ، وهو ردّ لكونهم موقنين. (يَلْعَبُونَ) يعبثون استهزاء بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لذلك قال : اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف».

التفسير والبيان :

(حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أقسم الله سبحانه بالقرآن العظيم الذي هو الكتاب الموضّح لكلّ ما يحتاجه الإنسان من أمور الدّين والدّنيا ، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخيرات التي هي ليلة القدر ، كما جاء مبيّنا في آية أخرى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر ٩٧ / ١] ، من ليالي شهر رمضان الذي نزل فيه القرآن ، كما قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة ٢ / ١٨٥] ، أي أنه بدئ بإنزاله في ليلة القدر من ليالي رمضان ، واستمرّ نزوله منجّما ثلاثا وعشرين سنة ، أو أنزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا.

إنّا كنّا بهذا القرآن منذرين الناس من العذاب الأليم في الآخرة إذا اقترفوا الشّرك والمعاصي ، ومعلّمين النّاس ما ينفعهم ويضرّهم شرعا لتقوم حجّة الله على عباده.

٢٠٦

قال ابن كثير : ومن قال : إنها ليلة النّصف من شعبان ـ كما روي عن عكرمة ـ فقد أبعد النّجعة ـ أي الطلب ـ فإن نصّ القرآن أنها في رمضان (١) وقال القرطبي بعد حكاية قول عكرمة : إنها ليلة النّصف من شعبان : والأول ـ أي الرأي القائل بأنها ليلة القدر ـ أصح ، لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(٢).

وسبب بدء نزوله في ليلة القدر ما قال تعالى :

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي في ليلة القدر يفصّل ويبيّن الأمر المحكم ، فيكتب فيها ما يكون في السّنة من الآجال والأرزاق ، من خير وشرّ ، وحياة وموت ، وغير ذلك ، أو ما يكون من أمور محكمة لا تبديل فيها ولا تغيير ، بتشريع الأحكام الصالحة لهداية البشر في الدنيا ، والسعادة في الآخرة ، فالحكيم : معناه ذو الحكمة. وإنما أنزل القرآن في هذه الليلة خصوصا ، لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية ، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة.

والغاية من إنزال القرآن ما قال سبحانه :

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي أنزل الله القرآن من لدنه متضمنا وحيه وشرعه ، وقد فعلنا ذلك الإنذار ، وأرسلنا الرسول وجميع الأنبياء إلى الناس لتلاوة آيات الله البيّنات ، رحمة ورأفة منا بهم ، لبيان ما ينفعهم وما يضرّهم ، ولئلا يكون للناس حجّة بعد إرسال الرّسل ، فرسالة الرّسل هي الرّحمة المهداة الدّائمة إلى البشر ، وتتمثل الآن بالثّابت القطعي النّزول منها ، وهو القرآن ورسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أبو حيان في تفسير (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ). لما ذكر إنزال القرآن ذكر المرسل ، أي مرسلين

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٣٧

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٢٦

٢٠٧

الأنبياء بالكتب للعباد ، فالجملة المؤكّدة مستأنفة ، وقيل : يجوز أن يكون بدلا من : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)(١).

وإنما فعل الله ذلك ، لأنه السّميع لأقوال البشر ، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم ، فأرسل الرّحمة إليهم رعاية لحاجتهم.

والدّليل على السّمع والعلم وإنزال القرآن ما قاله تعالى :

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن الله السّميع العليم الذي أنزل القرآن هو ربّ السموات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات ، وخالقها ومالكها وما فيها ، إن كنتم تريدون معرفة ذلك عن يقين تام لا شكّ فيه ، قال أبو مسلم : معنى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه ، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا.

ثم ذكر الله تعالى صفات أخرى هي الوحدانية والقدرة فقال :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي بعد إثبات الرّبوبية لله أثبت الوحدانية ، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره ، وأثبت القدرة فهو المحيي والمميت ، يحيي ما يشاء ، ويميت ما يشاء ، ثم أكّد الرّبوبية على البشر بالذّات ، فهو ربّكم أيها المخاطبون وربّ آبائكم وأجدادكم الأولين ، ومدبّر شؤونهم ، فهو المستحق للعبادة ، دون غيره من الآلهة المزعومة ، ثم ذكر حقيقة المشركين ، فقال :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) أي بل هؤلاء المشركون في شكّ من أمر البعث والتّوحيد والإقرار الذي صدر منهم بأن الله هو خالقهم ، وهم في الواقع عابثون لا هون لاعبون ، لا جدّية عندهم في الاعتقاد الصحيح ، والسّلوك المطابق له.

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٣.

٢٠٨

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

أولا ـ عظّم الله تعالى القرآن في هذه الآيات بأمور هي :

١ ـ أقسم به ، والله لا يقسم إلا بشيء عظيم ، ولله أن يقسم بما يشاء على ما يشاء في أي وقت يشاء.

٢ ـ أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. قال قتادة وابن زيد : أنزل الله القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزّة في سماء الدنيا ، ثم أنزله الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة. ذكر الطبري عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لستّ ليال منه ، والزّبور لاثنتي عشرة مضت ، والإنجيل لثمان عشرة منه ، والفرقان لأربع وعشرين مضت.

٣ ـ وصف الله القرآن بكونه كتابا مبينا.

٤ ـ وصف الله ليلة إنزال القرآن بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم ، قال ابن عباس وغيره : يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق. وقال ابن عمر : إلا الشّقاء والسّعادة ، فإنهما لا يتغيّران.

٥ ـ الغاية من القرآن إنذار البشر وتخويفهم العذاب ليصلح حالهم في الدنيا.

٦ ـ إن إنزال القرآن كان بأمر الله ومن عنده.

٧ ـ كان إنزاله رحمة من الله بعباده.

٨ ـ كان إنزاله محققا لمصالح الناس وحاجاتهم ، لأن الله هو السّميع العليم ،

٢٠٩

ربّ السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما ، وهو الواحد القهّار ، يحيي الأموات ويميت الأحياء ، فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شيء ، ومالك الناس عند نزول القرآن ومالك من تقدّم منهم ومالك من سيوجد إلى يوم القيامة ، فما على الناس إلا اتّقاء تكذيب النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا ينزل بهم العذاب.

ثانيا ـ أظهر الله تعالى حقيقة اعتقاد المشركين مبيّنا أنهم ليسوا في الواقع على يقين فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار في قولهم : إن الله خالقهم ، وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم ولا حجة ولا برهان ، فهم في شكّ بيّن ، وإن توهّموا أنهم مؤمنون ، فهم يلعبون في دينهم على وفق أهوائهم من غير حجّة.

تهديد المشركين بالعذاب

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

الإعراب :

(إِنَّا مُؤْمِنُونَ) الجملة حالية.

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى الذِّكْرى) : مبتدأ ، و (أَنَّى لَهُمُ) : خبره.

(يَوْمَ نَبْطِشُ ... يَوْمَ) : منصوب على الظرف ، والعامل فيه : إما فعل مقدر ، يدلّ عليه (مُنْتَقِمُونَ) أي ننتقم يوم نبطش ، ولا يجوز تعلّقه بقوله : (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) لأن ما بعد (إن) لا يعمل فيما قبلها ، أو يكون العامل فيه (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ ..).

٢١٠

المفردات اللغوية :

(فَارْتَقِبْ) انتظر. (بِدُخانٍ مُبِينٍ) بيّن واضح ، والمراد من الدّخان : يوم الشدّة والمجاعة في الماضي ، فإن الجائع يرى ما فوقه إلى السّماء ظلاما من شدّة الجوع ، وضعف البصر ، كهيئة الدّخان ، وفي المستقبل يمكن تفسير الدّخان بالغبار الذّري الذي يهدّد البشرية بالموت ويعقبه ظلام. (يَغْشَى النَّاسَ) يحيط بهم من كلّ جانب ، وهو صفة للدّخان. (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يقولون : هذا عذاب مؤلم ، ويقولون : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ) مصدّقون بك وبنبيّك ، وهذا وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى)؟ أي من أين لهم ، وكيف يتذكرون في هذه الحال؟ المعنى : لا ينفعهم الإيمان عند نزول العذاب. (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) بيّن الرّسالة ، بيّن لهم بالآيات والمعجزات ما يوجب الإيمان والتّذكّر. (مُعَلَّمٌ) أي يعلمه غيره القرآن ، قالوا : يعلمه غلام رومي لبعض ثقيف.

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) نكشف العذاب بدعاء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه دعا ، فرفع القحط. (قَلِيلاً) كشفا قليلا أو زمنا قليلا ، وهو ما بقي من أعمارهم. (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إلى الكفر ، فعادوا إليه بعد كشف العذاب.

(نَبْطِشُ) نأخذ بقوة وشدة ، والبطش : الأخذ الشديد ، والبأس. (الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) يوم القيامة أو يوم بدر. (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ننتقم منهم بسبب كفرهم.

سبب النّزول :

نزول الآية (١٠):

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) : أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : إن قريشا لما استعصوا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا عليهم بسنين كسنيّ يوسف ، فأصابهم قحط ، حتى أكلوا العظام ، فجعل الرّجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدّخان من الجهد ، فأنزل الله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، استسق الله لمضر ، فإنها قد هلكت ، فاستسقى ، فسقوا ، فنزلت.

٢١١

نزول الآيتين (١٥ ـ ١٦):

(إِنَّكُمْ عائِدُونَ ، يَوْمَ نَبْطِشُ ...) أخرج البخاري في تتمة الرواية السابقة : فلما أصابتهم الرّفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فانتقم الله منهم يوم بدر.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى المشركين بأنهم في شكّ من التّوحيد والبعث وقدرة الله ، ذكر تعالى أوصاف يوم العذاب الذي سيحلّ بهم في الدّنيا والآخرة ، تهديدا لهم ، وتسلية لرسوله ، وأنه لا يؤمل اتّعاظهم بالرغم من تهديدهم وإظهار المعجزات والبيّنات على يد رسول الله ، ووصفهم له بأنه معلّم مجنون.

التفسير والبيان :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) هذا توعّد من الله وتهديد للمشركين ، يقول الله فيه لنبيّه : فانتظر اليوم الذي تأتي فيه السماء بهيئة كالدّخان الواضح المنتشر في الفضاء ، وهذا الدّخان بالنسبة للماضي هو ما أصاب قريشا من الجدب والقحط مدة سبع سنين ، بدعاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى كان الرجل يرى من شدّة الجوع ما بين السماء والأرض دخانا ، لضعف البصر وزيغانه ، كما تقدّم في بيان سبب النّزول عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه ، أو هو غبار الحرب يوم بدر.

وأما بالنسبة للمستقبل فهو أمارة وعلامة من أشراط الساعة ، يمكث في الأرض أربعين يوما ، حيث يظهر في الفضاء غبار ذري أو غيره كالدّخان ، يجعل الجو مظلما ، وهذا ما أكّده العلماء في نهاية العالم ، حيث تضعف الطاقة الشمسية. وصفة ذلك الدّخان العموم والشمول ، كما قال تعالى :

٢١٢

(يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يشمل الناس ويحيط بهم من كل جانب ، فيقولون : هذا عذاب أليم جدا ، أو يقول الله لهم ذلك توبيخا وتقريعا.

وحينئذ يستغيث الناس بالله قائلين :

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي يقولون : يا ربّنا اكشف عنّا عذابك ، إنّا مصدّقون بالله ورسوله ، أو إن كشفت عنّا هذا العذاب أسلمنا وآمنا ، والمراد بالعذاب في الماضي الجوع الذي كان بسببه رؤية ما يشبه الدّخان. روي أن المشركين أتوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : «إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا».

وأما في المستقبل فهو عذاب أشدّ يحدث قبيل الساعة ، ويكون من أشراطها وعلاماتها.

وهذا كقوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٧] ، وقوله جلّ وعلا : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا : رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم ١٤ / ٤٤].

ثم نفى الله صدقهم في الوعد بالإيمان قائلا :

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى ، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ، وَقالُوا : مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي من أين وكيف لهم التّذكر والاتّعاظ والوفاء بالوعد بالإيمان بعد كشف العذاب؟ وكان قد جاءهم رسول مبين أدلّة الإيمان ، ظاهر الآيات والمعجزات ، ثم أعرض هؤلاء الكفار عنه ، وقالوا عنه : إنما يعلمه القرآن بشر ، وقالوا أيضا : إنه مجنون لا عقل له ، وهذا يدلّ على أنّ الآيات نزلت في قريش ،

٢١٣

أي كيف يتذكر هؤلاء وأنّى لهم الذّكرى؟ وقد سبق ما حدث منهم من الإعراض عن رسول الله وعن القرآن وهديه ، وافتروا على الرّسول بأن معلمه غلام رومي وأنه مجنون.

وهذا كقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى)؟ [الفجر ٨٩ / ٢٣].

ثم أعلن الله تعالى عودتهم صراحة إلى الكفر ، فقال :

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً ، إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي إنا سنرفع عنكم العذاب زمانا قليلا ، وسنؤخّره قليلا بعد توافر أسبابه ، وهذا كالحكم الصادر بالعقوبة مع وقف التّنفيذ ، فإنكم راجعون إلى ما كنتم عليه من الشّرك والكفر والعناد ، وقد رجعوا فعلا.

وهذا كقوله تعالى في قوم يونس : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس ١٠ / ٩٨].

وتأخير العذاب إلى يوم القيامة كما قال تعالى :

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي إنكم مؤجلون إلى عذاب شديد هو عذاب النار في يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي يكون فيه البأس الأكبر والأخذ الأشد ، وفيه ننتقم أشدّ الانتقام ، أي نعاقب هؤلاء الكفار.

وقيل كما روي عن ابن مسعود : إنه يوم بدر ، لما عادوا إلى التّكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم ، انتقم الله منهم بوقعة بدر ، قال ابن مسعود : البطشة الكبرى : يوم بدر.

والظاهر كما رجّح ابن جرير الطبري وابن كثير أن ذلك يوم القيامة ، وبه قال الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه.

٢١٤

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ هدد الله المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، وطالب نبيّه بأن ينتظر وجود العذاب بهؤلاء الكفار ، أما في الدنيا فيتعرّضون لظلمة في أبصارهم من شدة الجوع ، لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا عليهم بقوله : «اللهم اجعل سنيّهم كسنيّ يوسف» ارتفع المطر وأصابت قريشا شدة المجاعة ، حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف ، فكان الرجل ، لما به من الجوع يرى ما بينه وبين السماء كالدّخان ، كما قال ابن عباس وغيره.

وأما في الآخرة فينتقم الله منهم يوم البطشة الكبرى ـ يوم القيامة ـ ويدخلهم النار.

ثم إن من علامات القيامة ظهور دخان في العالم ، أي ظلمة بسبب ضعف الطاقة الشمسية في ذلك الوقت ، وذلك يوم عسير وشديد على الكافرين ، وأما المؤمنون فينجيهم من بأس ذلك اليوم ، ويحميهم من شدته.

روى أبو سعيد الخدري مرفوعا : «أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة ، يأخذ المؤمن منه كالزّكمة (الزّكام) وينفخ الكافر حتى يخرج من كلّ مسمع منه». وعن حذيفة أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوّل الآيات : الدّخان ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين ، تسوق الناس إلى المحشر» وأبين : اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها.

٢ ـ شأن الكافر وطبيعته اللجوء إلى الله وقت الشّدة والمحنة ، ثم العودة إلى الكفر بعد الفرج وكشف الضّرّ. وهذا ما حدث لمشركي مكة ، فقد روي : أن قريشا أتوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا ، ثم نقضوا هذا القول.

٢١٥

٣ ـ الله سبحانه عليم بما يحدث من الكفار ، ولكن اقتضت رحمته أن يشمل عباده جميعا باللطف المرة تلو المرة ، لعلهم أن يصلحوا أحوالهم ، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، لأنه يمهل ولا يهمل.

وهذا معروف عن قريش ، فمن أين لهم التّذكر والاتّعاظ والاعتبار عند حلول العذاب؟ وقد جاءهم رسول من أنفسهم يبين لهم الحق ، ثم أعرضوا عنه ، بل إنهم اتّهموه زورا وبهتانا بأنه يعلّمه بشر وهو غلام رومي لبعض ثقيف ، أو تعلّمه الكهنة والشياطين ، ثم هو مجنون وليس برسول : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف ١٨ / ٥].

٤ ـ مع كلّ هذا ومع علم الله الشامل بما سيكون ، وعد أن يكشف عن قريش ذلك العذاب في زمان قليل ، ليعلم أنهم لا يفون بقولهم ، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه ، كما قال ابن مسعود ، فلما كشف عنهم باستسقاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ، عادوا إلى تكذيبه.

ومن قال : إن الدّخان منتظر قرب القيامة قال : أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية وآية ، من آيات قيام الساعة ، ثم من أصرّ على كفره استمرّ عليه.

ومن قال : هذا في القيامة قال : أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتم إلى الكفر.

٥ ـ إن يوم القيامة يوم رهيب ، فهو يوم البطشة الإلهية الكبرى ، ويوم الانتقام من الظالمين والمشركين والكافرين ، وذلك بعذاب جهنم.

والخلاصة : تضمّنت الآيات تحليلا دقيقا لطبائع الكفار ، ونبّهت إلى أنهم لا يوفون بعهدهم ، وأنهم في حال العجز يتضرّعون إلى الله تعالى ، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر وتقليد الأسلاف ، وأخبرت عن تهديدات متكررة ، وتقريعات وتوبيخات متوالية بقصد الرّدع والزّجر وتدارك الأمر قبل فوات الأوان.

٢١٦

ضرورة الاعتبار بقوم فرعون وإنجاء بني إسرائيل

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

الإعراب :

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ أَنْ) : في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، أي وجاءهم رسول بأن أدوا ، و (عِبادَ اللهِ) : إما منصوب ب (أَدُّوا) أو منصوب على النداء المضاف ، ومفعول (أَدُّوا) محذوف ، تقديره : أدوا إليّ أمركم يا عباد الله. و (أَنْ) : مفسرة لأن (جاءَهُمْ) تتضمن معنى القول ، لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله ، أو هي المخففة من الثقيلة ، ومعناه : وجاءهم بأن الشأن والحديث : أدّوا إلي.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) : في موضع نصب بالعطف على (أَنْ) الأولى.

(أَنْ تَرْجُمُونِ) في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، أي : من أن ترجمون.

٢١٧

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ ...) بفتح (أَنَ) : في موضع نصب ب (فَدَعا) ومن قرأ بالكسر فعلى تقدير : (قال) أي (فقال : إن هؤلاء).

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً رَهْواً) : حال ، أي ساكنا ، حتى يدخلوا فيه من غير نفرة عنه.

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها) الكاف : إما في موضع رفع ، خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر كذلك ، وإما في موضع نصب على الوصف لمصدر محذوف ، تقديره : يفعل فعلا كذلك بمن يريد إهلاكه. (وَأَوْرَثْناها) : عطف على الفعل المقدر ، أو على (تركوا).

(مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ، مِنْ فِرْعَوْنَ) : (مِنْ) : إما بدل من (الْعَذابِ الْمُهِينِ) وتقديره : من عذاب فرعون ، فحذف المضاف ، أو حال من (الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي كائنا من فرعون ، فلا يكون فيه حذف مضاف.

(مِنَ الْمُسْرِفِينَ) خبر ثان أو حال من ضمير (عالِياً).

البلاغة :

(فَتَنَّا) استعارة تبعية ، حيث شبه الابتلاء والاختبار بالفتنة.

(فَأَسْرِ بِعِبادِي) إيجاز بحذف كلام ، أي وقلنا له : فأسر.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) استعارة تمثيلية ، أي لم تحزن على هلاكهم السماء والأرض ، وهذا أسلوب عربي يقال للتحقير والتهكم بحالهم.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) رثاء وتفجع وإظهار الأسى والحسرة للعبرة والعظة للأحياء.

المفردات اللغوية :

(فَتَنَّا) بلونا واختبرنا وامتحنا. (قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) امتحناهم بإرسال موسى عليه‌السلام إليهم ، أو بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم ، وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم. (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) على الله تعالى ، أو على المؤمنين ، أو في نفسه فهو جامع لخصال الخير والأفعال الحميدة ، وهو موسى عليه‌السلام. (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) بأن أدوا إلي حق الله من الإيمان وقبول الدعوة ، اي أظهروا إيمانكم لي يا عباد الله ، أو أطلقوا معي بني إسرائيل وأرسلوهم. (رَسُولٌ أَمِينٌ) مؤتمن على ما أرسلت به ، غير متهم ، لدلالة المعجزات على صدقه ، أو لائتمان الله على وحيه ورسالته ، وهو علة الأمر.

٢١٨

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) لا تتكبروا على الله بترك طاعته ، والاستهانة بوحيه ورسوله. (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي ببرهان بيّن واضح على رسالتي ، وهو علة النهي. (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي التجأت إليه وتوكلت عليه أن ترجموني بالحجارة ، أو تؤذوني ضربا أو شتما ، أو تقتلوني. (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) تصدقوني. (فَاعْتَزِلُونِ) فكونوا بمعزل مني ، واتركوا أذاي ، ولا تتعرضوا لي بسوء ، فإن ذلك ليس جزاء من دعاكم إلى الفلاح.

(أَنَّ هؤُلاءِ) بأن هؤلاء. (مُجْرِمُونَ) مشركون ، وهو تعريض بسبب الدعاء عليهم. (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أي فقال : أسر ببني إسرائيل ، أي سر بهم ليلا ، وقرئ بوصل الهمزة من (سرى). (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده. (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) ساكنا منفرجا مفتوحا كما هو على هيئته بعد تجاوزه ، ولا تضربه بعصاك ، ولا تغير منه شيئا ، حتى يدخل فيه القبط شعب فرعون. (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي لأنهم غارقون.

(جَنَّاتٍ) بساتين. (وَعُيُونٍ) ينابيع جارية. (مَقامٍ كَرِيمٍ) مجالس ومنازل حسنة. (وَنَعْمَةٍ) من النعم ، أي تنعم وحسن ومتعة ونضرة ، والنّعمة : ما ينعم به على الإنسان ، من الإنعام. (فاكِهِينَ) متنعمين أصحاب فاكهة ، وقرئ «فكهين» أي أشرين بطرين مستهزئين. (كَذلِكَ) أي الأمر كذلك ، أو مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. (وَأَوْرَثْناها) أي ورثنا أموالهم. (قَوْماً آخَرِينَ) بني إسرائيل.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم ، تقول العرب إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس ، وفي حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله :

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك ، نجوم الليل والقمرا

أي يا نجوم الليل والقمر.

وقالت الخارجية :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

قال الزمخشري : وذلك على سبيل التمثيل والتخييل ، مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمراد لا أسف على فرعون وقومه ، بخلاف المؤمنين يبكي عليهم بموتهم مصلاهم من الأرض ، ومصعد عملهم من السماء. (مُنْظَرِينَ) ممهلين ومؤخرين التوبة إلى وقت آخر.

(مِنَ الْعَذابِ) من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستخدامه نساءهم. (مِنْ

٢١٩

فِرْعَوْنَ) إما على حذف مضاف ، أي عذاب فرعون أو حال من العذاب كما تقدم. (عالِياً) متكبرا جبارا. (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين الحد في الشر والفساد ، وهو خبر ثان أي كان متكبرا مسرفا ، أو حال من ضمير (عالِياً) أي كان رفيع الطبقة من بينهم.

(اخْتَرْناهُمْ) اخترنا بني إسرائيل واصطفيناهم. (عَلى عِلْمٍ) منا بحالهم أي عالمين باستحقاقهم ذلك. (عَلَى الْعالَمِينَ) اخترناهم على عالمي زمانهم. (الْآياتِ) المعجزات ، كفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى. (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) اختبار ظاهر.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى إصرار مشركي مكة على كفرهم ، بيّن أن كثيرا من المتقدمين كانوا أمثالهم في تكذيب الرسل ، وفي طليعتهم قوم فرعون ، الذين كذبوا رسولهم موسى عليه‌السلام ، فنصره الله عليهم ، وأغرقهم ، وجعلهم عبرة للمعتبر.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي لقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون ، وهم قبط مصر ، أرسل الله إليهم رسولا كريما جامعا لخصال الخير والأفعال المحمودة ، وهو موسى عليه‌السلام ، وهو كريم على الله ، وكريم في قومه.

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي وجاءهم رسول بأن أرسلوا معي عباد الله وهم بنو إسرائيل ، وأطلقوهم من العذاب ، فإني رسول من الله مؤتمن على الرسالة غير متهم ، وهذا كقوله عزوجل : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَلا تُعَذِّبْهُمْ ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه ٢٠ / ٤٧].

ويجوز أيضا أن يكون قوله : (عِبادَ اللهِ) نداء لهم ، والتقدير : أدوا إلي يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان ، وقبول دعوتي ، واتباع سبيلي. وعلل

٢٢٠