التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرّف فيهما بما يريد ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع.

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إنه تعالى يخلق ما يشاء من الخلق والأولاد ، فيرزق من يشاء البنات فقط ، ويرزق من يشاء البنين فقط ، ويعطي من يشاء من الناس الصنفين معا الذّكر والأنثى ، فالتّزويج هنا : الجمع بين البنين والبنات ، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له ، لأن الملك ملكه ، ويمنح على وفق الحكمة والمصلحة ، فإنه سبحانه عليم بمن يستحق كلّ صنف أو قسما من هذه الأقسام ، بليغ عظيم القدرة على ما يريد من تفاوت الناس في ذلك ، على حسب الحكمة والعلم. يقال : رجل عقيم ، وامرأة عقيم.

وإنما قدّم الله تعالى أولا الإناث اهتماما وعناية من الله بهنّ بسبب ضعفهنّ ، وردّا على العرب في النّفور من الأنثى ، والفرح بالذّكور. وعبّر عن الإناث بالتّنكير وعن الذّكور بالتّعريف ، للتّنبيه على كون الذّكر أفضل من الأنثى. وقال في إعطاء الإناث وحدهنّ ، وفي إعطاء الذّكور بلفظ الهبة : (يَهَبُ) وقال في إعطاء الصّنفين معا : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) للدلالة على الاقتران ، أي أنه تعالى يقرن الإناث والذّكور فيجعلهم أزواجا ، وكل شيئين يقرن أحدهما بالآخر فهما زوجان.

وأما التّعبير بالعقم فللدلالة على قدرة الله في منع الولد مع توافر الأسباب الظاهرة.

وأكثر المفسّرين على أن هذا الحكم عام في حقّ كلّ الناس ، إذ لا معنى

١٠١

للتّخصيص ، ولأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء كيف شاء وأراد ، لكنهم ذكروا أمثلة لكل حالة ، لتكون سلوة المكروب والمحزون ، فمثال الحالة الأولى : لوط وشعيب عليهما‌السلام لم يكن لهما إلا البنات فكان للوط بنتان ، ومثال الحالة الثانية : إبراهيم عليه‌السلام لم يكن له إلا الذّكور وهم ثمانية ، ومثال الحالة الثالثة : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له من البنين أربعة : القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم ، ومن البنات أربعة : زينب ورقيّة وأم كلثوم وفاطمة ، وكلهم من خديجة رضي‌الله‌عنها ما عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية ، ومثال الحالة الرابعة : عيسى ويحيى عليهما‌السلام. قال واثلة بن الأسقع : إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذّكر ، وذلك أن الله تعالى قال : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) فبدأ بالإناث.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ على البشر كافة إجابة ما دعاهم الله إليه من الإيمان به والطاعة ، قبل مفاجأتهم بيوم القيامة الذي لا يردّه أحد بعد ما حكم الله به ، وجعله أجلا ووقتا معلوما لديه ، ولا منجا ينجي أحدا من العذاب ، ولا ناصر ينصر.

٢ ـ إن أعرض الناس عن الإيمان ، فليس الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم موكّلا بهم يستطيع إكراههم على الإيمان ، ولا حافظا لأعمالهم حتى يحاسبهم عليها ، إنما عليه التبليغ فقط.

٣ ـ طبع الإنسان الكافر عجيب غريب ، يفرح ويبطر عند الرحمة والرخاء والصحة والمتعة ، ويجحد النعمة عند البلاء والشدّة بسبب ما اقترف من الذّنوب ، فيعدد المصائب وينسى النّعم.

١٠٢

٤ ـ إن الله تعالى مالك السموات والأرض وما فيهما ، يفعل ويتصرّف في ملكه ما يشاء بمقتضى علم تام دقيق ، وحكمة بالغة ، فيهب الإناث فقط لمن يريد ، والذّكور فقط لمن يريد ، والذّكور والإناث معا لمن يريد ، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له.

جاء في الحديث الصحيح : «إذا سبق ماء الرّجل ماء المرأة أذكرا ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرّجل آنثا» وفي لفظ آخر : «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله».

أما الخنثى ففيه الذّكورة والأنوثة ، ويغلّب إحداهما بعمل جراحي ، وفي الماضي من حيث يبول ، روى ابن عباس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن مولود له قبل وذكر ، من أين يورّث؟ قال : «من حيث يبول» واقتصر النّص القرآني على الغالب في الموجودات ، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول عن غير العقيم.

أنواع الوحي

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

١٠٣

الإعراب :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) : اسم كان ، و (لِبَشَرٍ) : خبرها ، و (إِلَّا وَحْياً) : منصوب على المصدر في موضع الحال من اسمه تعالى (اللهُ) ، و (مِنْ) متعلّقة بمقدر ، أي إلا موحيا أو مكلّما من وراء حجاب. (أَوْ يُرْسِلَ) معطوف بالنّصب على معنى قوله : (إِلَّا وَحْياً) تقديره : أو أن يرسل رسولا ، لأن (كانَ) مع الفعل في تأويل المصدر ، فيكون عطف مصدر على مصدر ، ويقرأ بالرفع : (أَوْ يُرْسِلَ) على الاستئناف تقديره : أهو يرسل رسولا.

(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) النّفي على الفعل (تَدْرِي) عن العمل ، وكان ما بعده سادّا مسدّ المفعولين.

(صِراطِ اللهِ) بدل من الأوّل.

البلاغة :

(حَكِيمٌ مُسْتَقِيمٍ) وغير ذلك من مقاطع السورة : فيها ما يسمى توافق الفواصل.

المفردات اللغوية :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ) وما صحّ وما استقام له. (إِلَّا وَحْياً) الوحي : كلام خفي يدرك بسرعة ، أو إلقاء شيء في القلب بإلهام في اليقظة أو في المنام. وهو يشمل المشافة به كما في حديث المعراج ، وما وعد به في حديث الرؤية ، والمهتوف به كما حدث لموسى عليه‌السلام في الطّور وطوى (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) بأن يسمعه كلامه ولا يراه كما وقع لموسى عليه‌السلام ، فالآية دليل على جواز رؤية الله في الآخرة ، لا على امتناعها. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) أي إلا أن يرسل رسولا ملكا كجبرئيل عليه‌السلام. (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) يوحي الرّسول إلى المرسل إليه بأن يكلّمه ، بإذن الله ، ما يشاء الله. (إِنَّهُ عَلِيٌ) عن صفات المخلوقين. (حَكِيمٌ) يفعل ما تقتضيه حكمته ، فيكلّم تارة بوسيط وتارة بغير وسيط ، إما عيانا ، وإما من وراء حجاب.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) أي مثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل. (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد.

(رُوحاً) ما أوحى به ، وهو القرآن كالرّوح ، وسمّي الوحي روحا ، لأن القلوب تحيا به. (مِنْ أَمْرِنا) أي من بعض أمرنا الذي نوحيه إليك. (ما كُنْتَ تَدْرِي) تعرف قبل الوحي إليك. (مَا الْكِتابُ) القرآن. (وَلَا الْإِيمانُ) ولا حقيقة الإيمان الصحيح المشتمل على الشرائع والأحكام

١٠٤

الموحى بها. (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) الرّوح أو الكتاب أو الإيمان. (لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تدعو بالوحي إليك إلى الإسلام. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا. (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ترجع الأمور ، من غير وسائط ، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين.

سبب النزول :

نزول الآية (٥١):

(وَما كانَ لِبَشَرٍ ..) سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيّا ، كما كلّمه موسى؟ فنزلت ، وقال : لم ينظر موسى إلى الله تعالى.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى دلائل كمال قدرته وعلمه وحكمته ونعمته مما هو محسوس ، أتبعه ببيان أنواع وحيه وكلامه إلى أنبيائه من النّعم الروحية ، التي اختصّ بها الأنبياء والرّسل من سائر الناس. وأوضح أن الوحي إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن المشتمل على الشرائع التي تصلح البشر وتهديهم إلى الحق هو مثل الوحي إلى الأنبياء السابقين. وهذا الختام للسورة مشابه لما بدئت به ، لينسجم البدء والختام.

التفسير والبيان :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي ما صحّ لبشر تكليم الله إلا بوحي يوحى ، أو بسماع كلام من وراء ستار ، أو بواسطة ملك. وقد نفى الله تعالى تكليم أحد من البشر إلا بأحد ثلاثة أوجه تحدث في الدنيا.

١٠٥

الأول ـ الوحي : وهو الإلهام والقذف بمعان تلقى في القلب يقظة في الغالب ، أو في المنام ، كرؤيا إبراهيم الخليل عليه‌السلام ذبح ولده. وقد يطلق الوحي على الإلهام المجرد ، كما أوحى إلى أم موسى.

الثاني ـ سماع كلام من وراء حجاب : بأن يسمعه النّبي من غير واسطة متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يرى ، كما كلّم موسى عليه‌السلام ربّه ، وسمّاه الله وحيا بقوله : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) [طه ٢٠ / ١٣]. وكان موسى قد سأل الرؤية بعد التكليم ، فحجب عنها.

الثالث ـ إرسال رسول : وهو إرسال رسول من الملائكة إما جبريل أو غيره فيوحي ذلك الملك إلى الرّسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه ، كما كان جبرئيل عليه‌السلام وغيره من الملائكة ينزلون على الأنبياء عليهم‌السلام.

إن الله عليّ عن صفات المخلوقين وصفات النّقص ، يفعل ما تقتضيه حكمته حكيم في كل أحكامه ، فيجعل الوحي معتمدا على وسيط ، أو بغير وسيط.

وهذه الأنواع الثلاثة يتيقن النّبي في كلّ منها أن الله تبارك وتعالى هو مصدر الوحي ، دون أي شكّ ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن روح القدس نفث في روعي (١) أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتّقوا الله ، وأجملوا في الطلب».

وقد جاء في السّنّة بيان أنواع الوحي إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روى البخاري في صحيحة عن عائشة رضي‌الله‌عنها ـ كما تقدّم ـ «أن الحارث بن هشام رضي‌الله‌عنه ، سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحي؟ فقال

__________________

(١) الرّوع ـ بالضّم : القلب والعقل. والرّوع ـ بالفتح : الفزع.

١٠٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشدّه عليّ ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا ، فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» أي يسيل عرقا.

ثم ذكر تعالى تشابه الوحي بين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الأنبياء السابقين ، فقال :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي مثلما أوحينا إلى سائر الأنبياء ، أوحينا إليك هذا القرآن ، الذي هو من أمر الله ، وهو روح ، لأنه يهتدى به ، ففيه حياة سعيدة بعد موت الكفر ، وكان نزوله حدّا فاصلا بين عهدين ، استيقظ به العرب والمسلمون من رقدتهم ، وصنعوا حضارة سامقة ومجدا.

(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي ما كنت أيها النّبي قبل إنزال الوحي عليك تعرف ما القرآن ، ولا معنى الإيمان ، ولا تفاصيل الشرائع ، ولا تهتدي إلى معالمها الصحيحة ، وخصّ الإيمان ، لأنه رأس الشريعة.

ولكن جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ضياء ونورا نهدي به من نشاء هدايته ، وتخرجه من ظلمات الجهالة والضلال إلى الهداية والمعرفة ، ونرشده إلى الدين الحق ، كما قال تعالى : (قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) [فصّلت ٤١ / ٤٠] ، وقال سبحانه : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء ١٧ / ٨٢] ، وقال عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس ١٠ / ٥٧].

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ

١٠٧

وَما فِي الْأَرْضِ) أي وإنك يا محمد لتهدي بذلك النوع إلى المنهج السليم ، والحق القويم ، الذي هو شرع الله الذي أمر به ، وطريق الله الذي له ملك السموات والأرض ، وربّهما المتصرف فيهما ، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه. وفي إضافة الصراط إلى اسم الجلالة تعظيم له وتفخيم لشأنه.

(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي ألا أيها الخلائق ترجع الأمور كلها يوم القيامة إلى الله تعالى ، لا إلى غيره ، فيحكم فيها بقضائه العدل. وهذا وعد للمتّقين المهتدين ، ووعيد للظالمين الكافرين.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ إن مظاهر الوحي إلى الأنبياء والرّسل منحصرة في ثلاثة أنواع هي :

الأول ـ الإلهام المباشر والإلقاء في القلب معاني ذات دلالة عامة وصبغة تشريعية ، تستقر في النفس.

الثاني ـ إسماع الله كلامه للنّبي من غير واسطة.

الثالث ـ إرسال رسول من الملائكة لتبليغ الرسالة ، كإرسال جبريل عليه‌السلام.

٢ ـ فهم المعتزلة من حصر الوحي بهذه الأنواع أن رؤية الله غير جائزة في الآخرة ، إذ لو صحّت رؤية الله تعالى ، لصحّ من الله تعالى أن يتكلّم مع العبد حالما يراه العبد ، فيكون ذلك قسما رابعا زائدا ، وقد نفاه الله تعالى بقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ ..) إلا على هذه الأوجه الثلاثة.

والجواب أن في الآية قيدا : هو ما كان لبشر أن يكلّمه الله في الدنيا إلا على

١٠٨

هذه الأقسام الثلاثة ، وزيادة هذا القيد مفهومة من السياق ، ويجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآية وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة ، مثل قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣].

٣ ـ احتجّ بهذه الآية : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) الإمام مالك والنّخعي على أن من حلف ألا يكلّم رجلا ، فأرسل إليه رسولا ، أنه حانث ، لأن المرسل قد سمّي مكلّما للمرسل إليه ، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب. قال ابن عبد البرّ : ومن حلف ألا يكلّم رجلا فسلّم عليه عامدا أو ساهيا ، أو سلّم على جماعة هو فيهم ، فقد حنث في ذلك كله عند مالك. وإن أرسل إليه رسولا أو سلّم عليه في الصلاة ، لم يحنث.

٤ ـ الصحيح عند أهل الحق أن الملك عند ما يبلّغ الوحي إلى الرسول ، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي.

والملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة.

ولا يسمى كلام الله مع إبليس من غير واسطة وحيا من الله تعالى إليه.

٥ ـ حقيقة الوحي واحدة بالنسبة لجميع الأنبياء ، ومظاهرها وأنواعها متعددة ، ذكرت الآية منها هنا ثلاثة فقط.

٦ ـ ظاهر الآية : (ما كُنْتَ تَدْرِي ..) يدلّ على أنه لم يكن النّبي قبل الإيحاء متّصفا بالإيمان ، والصّواب أن الأنبياء معصومون قبل النّبوة من الجهل بالله وصفاته والتّشكك في شيء من ذلك ، وقد تعاضدت الأخبار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ، ونشأتهم على التوحيد والإيمان. وإنما المراد بالإيمان هنا : الشرائع والأحكام المعتمدة على الوحي الإلهي ، فقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة ٢ / ١٤٣].

١٠٩

والآية دليل على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن قبل النّبوة متعبّدا بشرع ما. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بدّ أن يكون على دين ، ولكن عين الدّين غير معلومة عندنا. وهذا وإن كان جائزا عقلا ، لكن ليس عليه دليل قاطع.

قال القرطبي : والذي يقطع به أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته ، ومخاطبا بكلّ شريعته ، بل شريعته مستقبلة بنفسها ، مفتتحة من عند الله الحاكم جلّ وعزّ. وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مؤمنا بالله عزوجل ، ولا سجد لصنم ، ولا أشرك بالله ، ولا زنى ، ولا شرب الخمر ، ولا شهد السامر (١) ، ولا حضر حلف المطيّبين (٢) ، بل نزهه الله وصانه عن ذلك (٣).

ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضر حلف الفضول ، فقال : «شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت».

٧ ـ لم يكن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة عالما بالقرآن ، فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب ، ولا بالإيمان ، أي شرائع الإيمان ومعالمه ، لا أصل الإيمان فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مؤمنا بالله عزوجل من حين نشأ إلى حين بلوغه ، كما تقدّم.

٨ ـ إن القرآن العظيم الذي أوحى الله به إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو نور وهداية ، يدعو ويرشد إلى دين قويم لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام. والمقصود بالهداية : الدعوة إلى الدّين الحقّ وإيضاح الأدلّة.

__________________

(١) السامر : الموضع الذي يجتمعون فيه للسّمر.

(٢) حلف المطيبين : حدث حينما اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية ، وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه ، وتحالفوا على التّناصر والأخذ من المظلوم للظالم ، فسمّوا المطيبين.

(٣) تفسير القرطبي : ١٦ / ٥٩.

١١٠

والله الذي أنزله له جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وعبدا وخلقا وإليه مصير الخلائق جميعهم. وهذا وعيد بالبعث والجزاء ، ووعد بالثواب للمؤمنين الصالحين ، وتنبيه إلى أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض ، والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله ، والإفادة بأنه تعالى يجازي كلّ إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

٩ ـ دلّ قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على أنه كما أن القرآن يهدي ، فكذلك الرسول يهدي ، أي يرشد.

١١١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الزخرف

مكيّة ، وهي تسع وثمانون آية.

تسميتها :

سميت (سورة الزخرف) لاشتمالها على وصف بعض مظاهر الحياة الدنيا ومتاعها الفاني وهو الزخرف ، أي الذهب أو الزينة المزوقة ومقارنته بنعيم الآخرة الخالد في قوله تعالى: (... وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ، وَزُخْرُفاً ، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [٣٤ ـ ٣٥].

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حم من وجهين :

الأول ـ تشابه مطلع هذه السورة مع مطلع وخاتمة السورة المتقدمة في وصف القرآن الكريم ، وبيان مصدره : وهو الوحي الإلهي.

الثاني ـ التشابه في إيراد الأدلة القاطعة على وجود الله عزوجل ووحدانيته ، ووصف أحوال الآخرة ومخاوفها وأهوال النار التي يتعرض لها الكفار ، ومقارنته بنعيم الجنة وإعداده للمؤمنين المتقين.

مشتملاتها :

موضوع هذه السورة كسائر السور المكية يتعلق بغرس أصول العقيدة

١١٢

الإسلامية في النفوس ، وهي : الإيمان بالله عزوجل وحده لا شريك له ، والرسالة والنبوة والوحي ، والبعث والجزاء.

بدأت السورة ببيان مصدر القرآن العظيم وهو الوحي الإلهي وتأكيد عربيته ومصداقيته ، وجعله معجزة الإسلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخالدة إلى يوم القيامة ، وكونه أداة إنذار قريش وقبائل العرب الذين أسرفوا في متع الدنيا ، وكذبوا رسولهم كتكذيب من سبقهم من الأمم.

ثم أبانت بنحو قاطع أدلة وجود الله عزوجل وقدرته ووحدانيته من خلق السموات ، والأرض وتذليلها وتمهيدها وإيجاد طرقها ، وإنزال الغيث النافع عليها ، وخلق أصناف (أزواج) الأشياء والفلك (السفن) والأنعام لأهلها ، واعتراف المشركين صراحة بأن الخالق هو الله عزوجل.

ولكنهم لوثوا ذلك الاعتراف بالوثنية والخرافة ، فعبدوا الأصنام والأوثان ، وزعموا أن الملائكة بنات الله ، ولم يجدوا مسوغا لتدينهم الفاسد إلا تقليد الآباء والأجداد ، فصححت لهم آي القرآن انحرافهم ، ونعت جهلهم وسفههم بتلك العبادة الباطلة ، والزعم الذي لا دليل عليه ، وحذرتهم من إنزال مثل العقاب الذي أهلك به الله أمثالهم من الأمم الغابرة.

وأوردت قصص بعض الأنبياء من أولي العزم كإبراهيم الخليل وموسى وعيسى عليهم‌السلام ليعتبروا بها ويتعظوا بأحداثها ونتائجها. وأردفت قصة إبراهيم بتفنيد شبهة المشركين حول رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث اقترحوا إنزالها على أحد رجلين عظيمين من أهل الجاه والثراء في مكة والطائف ، لا على يتيم فقير ، فرد الله عليهم بأن ميزان الاصطفاء للنبوة هو مقومات أدبية خلقية إنسانية ، لا مادية رخيصة ، فالدنيا لا تساوي شيئا عند الله تعالى ، وأنه خشية أن يكون الناس أمة واحدة على ملة الكفر ، لمنحها بجميع زخارفها وأمتعتها الكفار ، ومنعها المؤمنين.

١١٣

وحذرتهم عقب ذلك من الإعراض عن ذكر الله ، ورغّبتهم في النعيم الأبدي في الآخرة ، وامتنّت عليهم بأن القرآن شرف لنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهم على السواء : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) [٤٤].

ثم ختمت السورة ببيان وصف نعيم الجنة الذي لا مثيل له ، والمخصّص للمؤمنين بآيات الله المسلمين المنقادين لربهم ، وإيضاح أهوال القيامة وشدائد الأشقياء أهل النار حيث يتقلّبون في عذاب جهنم ، وإفلاسهم من شفاعة الأصنام والآلهة المزعومة ، وإعلان اليأس من إيمان هؤلاء المشركين والإعراض عنهم ، فسوف يعلمون ما يلقونه من العذاب.

القرآن كلام الله بلغة العرب وعقاب المستهزئين بالأنبياء

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))

الإعراب :

(جَعَلْناهُ قُرْآناً) بمعنى صيرناه معدى إلى مفعولين ، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد ، و (قُرْآناً) حال.

١١٤

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) : خبران ل «إن» و (فِي أُمِّ الْكِتابِ) متعلق ب «علي» أو حال منه ، و (لَدَيْنا) بدل من (أُمِّ الْكِتابِ) أو حال من (الْكِتابِ).

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ .. صَفْحاً) : منصوب على المصدر ، لأن معنى (أَفَنَضْرِبُ) أفنصفح. و (أَنْ كُنْتُمْ) بالفتح بتقدير لأن كنتم ، وقرئ بالكسر : «إن» على أنها شرطية. وفاء (أَفَنَضْرِبُ) للعطف على محذوف ، أي أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صفحا.

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أَشَدَّ) : مفعول به ، أو حال ، و (بَطْشاً) : تمييز.

البلاغة :

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ...) استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ ، يعني أنا لا نترك هذا التذكير والإنذار بسبب كونكم مسرفين.

المفردات اللغوية :

(حم) هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة الأحكام المبينة في السورة (وَالْكِتابِ) أي أقسم بالقرآن على أنه مجعول قرآنا عربيا (الْمُبِينِ) الموضح لطريق الهدى والشرائع والأحكام (إِنَّا جَعَلْناهُ) أوجدنا القرآن ـ (الْكِتابِ) ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلغة العرب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي تفهموا معانيه أيها العرب.

(وَإِنَّهُ) مثبت ، معطوف على (إِنَّا فِي أُمِّ الْكِتابِ) اللوح المحفوظ ، فإنه أصل الكتب السماوية (لَدَيْنا) عندنا (لَعَلِيٌ) رفيع الشأن لكونه معجزا من بينهما ، مهيمنا على الكتب قبله (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة ، أو محكم لا ينسخه غيره.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) أي أنهملكم ونترككم فنمسك عنكم القرآن إمساكا ، فلا تؤمرون ولا تنهون لأجل ما. أو أننحي عنكم القرآن ، وتنحيته عنهم إعراض ، يقال : ضربت وأضربت عنه : تركته ، و (الذِّكْرَ) : القرآن ، و (صَفْحاً) : إعراضا. والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب بلغتهم ليفهموه.

(أَنْ كُنْتُمْ) أي لأن كنتم (قَوْماً مُسْرِفِينَ) متجاوزين الحد في الإسراف ، مشركين بالله ، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض عنهم ، أي لا نترككم لكونكم مشركين (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ما أتاهم نبي إلا استهزءوا به ، وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن استهزاء قومه.

١١٥

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أشد من قومك قوة (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي سبق وسلف في آيات الله بيان قصتهم العجيبة وإهلاكهم ، فكذلك يكون قومك مثلهم ، والآية وعد للرسول ، ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.

الغاية والهدف من الآيات :

يريد الله تعالى أن يؤكد كون القرآن بلغة العرب ، مما يقتضي إيمان العرب قاطبة به ، فهم أقدر الناس على فهمه وإدراك معانيه ، ويؤكد أيضا أن القرآن كلام الله ومن عنده ، فهو محفوظ مصون في اللوح المحفوظ ، وليس من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تزعمون ، وأن الإعراض عنه لا يكون سببا لترك تذكيرهم به ، فضلا من الله ونعمة ورحمة ، وليعتبروا بمصائر أمثالهم من الأمم التي أهلكها الله.

التفسير والبيان :

(حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) تقدم بيان المراد من (حم). ثم يقسم الله بالقرآن نفسه البيّن الواضح الجلي المعاني والألفاظ ، المبين طريق الهدى وكل ما يحتاج إليه الناس في الدنيا والآخرة.

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلنا هذا القرآن بلسان العرب أو اللغة العربية التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس ، وقد جعلناه بلغة العرب فصيحا واضحا ، لتفهموه أيها العرب ، وتتدبروا معانيه ، كما جاء في آية أخرى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٥].

والآية جواب القسم ، وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه وكونهما من واد واحد. ولعل : للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالما بعواقب الأمور ، فكان المراد هاهنا كما ذكر الرازي وغيره : أنزلناه قرآنا عربيا لكي تعقلوا معناه ، وتحيطوا بفحواه.

هذا في الأرض ، وأما في السماء فقال تعالى :

١١٦

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي وإن هذا القرآن في اللوح المحفوظ عندنا رفيع القدر ، عالي الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك (١) ، عظيم الشرف والمكانة ، ذو حكمة بالغة ، ومحكم النظم لا يوجد فيه لبس واختلاف ولا تناقض ، كما قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الواقعة ٥٦ / ٧٧ ـ ٨٠] وقال سبحانه : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس ٨٠ / ١١ ـ ١٦] (٢).

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)؟ أي أنترككم دون إنذار ، ونطوي عنكم القرآن طيا دون تذكير ، ولا وعظ ولا أمر ولا نهي ، لأنكم قوم منهمكون في الإسراف ، مصرّون على الشرك؟ لا نفعل ذلك لطفا ورحمة منا بكم ، فلا نترك دعوتكم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن ، وإن كنتم مسرفين معرضين عنه ، بل نأمر به ليهتدي المهتدون في قدر الله وعلمه ، وتقوم الحجة على الأشقياء (٣).

ثمّ سلّى الله رسوله عما يلقاه من صدود قومه ، فقال :

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ كَمْ) : هنا خبرية ، أي ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة ، فكذبوهم ، كما قال تعالى :

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وما أتاهم من نبي ولا رسول إلا كانوا به يكذبون ويسخرون ، كتكذيب قومك واستهزائهم بك.

__________________

(١) غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري : ٢٥ / ٤٣

(٢) وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف ، تشبها بالملائكة الأطهار ، لتعظيمه.

(٣) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٢٢.

١١٧

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي فدمرنا وأهلكنا قوما أشد قوة من هؤلاء القوم المكذبين لك يا محمد ، وقد سلف في القرآن ذكرهم أكثر من مرة وعرفت سنة الله فيهم ، وإذا علمتم ما آل إليه أمرهم بسبب تكذيب الرسل ، فاحذروا الوقوع في مثل مصائرهم.

فالمثل : سنتهم أو عقوبتهم كقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [غافر ٤٠ / ٨٢].

أو المثل : عبرتهم ، أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم ، كقوله تعالى : (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٦] وقوله سبحانه : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [غافر ٤٠ / ٨٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية :

١ ـ القرآن الكريم أنزله الله بلسان العرب ، لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه ، وجميع ما في القرآن عربي مادة ومعنى ، لفظا ونظما ، فقد أقسم الله سبحانه بالقرآن أنه جعله عربيا ، وأنه جعله مبيّنا ، فهو المبيّن للذين أنزل إليهم ، لأنّه بلغتهم ولسانهم ، ولأنه الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة ، وأبان فيه أحكامه وفرائضه.

٢ ـ ليس إنزال القرآن باللغة العربية دليلا على أنه خاص بالعرب دون العجم ، لأن نصوصه قاطعة الدلالة على عالمية الإسلام للناس كافة ، كما هو معروف في مواضع متقدمة ، لذا كان تفسير ابن زيد لقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : لعلكم تتفكرون هو الأولى ، لأنه على هذا التأويل يكون خطابا عاما للعرب

١١٨

والعجم. أما على تفسير ابن عيسى : لعلكم تفهمون أحكامه ومعانيه ، فيكون خاصا للعرب دون العجم (١).

والظاهر إرادة كلا المعنيين ولا يلزم التخصيص بالعرب ، لأن عموم الرسالة الإسلامية من المبادئ الكبرى المعروفة.

وقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يدل ـ كما ذكر الرازي ـ على أن القرآن كله معلوم ، وليس فيه شيء مبهم مجهول ، خلافا لمن يقول : بعضه معلوم ، وبعضه مجهول (٢).

٣ ـ وصف الله تعالى القرآن في السماء بأنه في اللوح المحفوظ لقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج ٨٥ / ٢١ ـ ٢٢] ، ثم وصف اللوح المحفوظ بأربع صفات هي :

الأولى ـ أنه (أُمِّ الْكِتابِ) وأصل كل شيء : أمه ، أي أن القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ.

الثانية ـ وأنه لدى الله بقوله (لَدَيْنا). وإنما خصه الله بهذا التشريف لكونه الكتاب المشتمل على جميع ما يقع في ملك الله وملكوته.

الثالثة ـ كونه عليا ، أي كونه عاليا عن وجوه الفساد والبطلان.

الرابعة ـ كونه حكيما ، أي محكما في وجوه البلاغة والفصاحة ، وذو حكمة بالغة. ويرى مفسرون آخرون أن هذه الصفات كلها صفات القرآن.

وهذا على تفسير أم الكتاب باللوح المحفوظ ، وفي تفسير آخر أنه الآيات المحكمات لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٦١.

(٢) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٩٣.

١١٩

أُمُّ الْكِتابِ) [آل عمران ٣ / ٧] والمعنى : أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.

٤ ـ إن اختيار المشركين دين الشرك لا يمنع من تذكيرهم ، ووعظهم ، وأمرهم ، ونهيهم ، لطفا من الله ورحمة بهم ، وقطعا لحجتهم بعدم البيان والتكليف.

٥ ـ إن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء ، فلا داعي أيها الرسول وأتباعه للتأذي من أقوام ، بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء ، لأن المصيبة إذا عمّت خفّت.

٦ ـ إن عدد الأنبياء في البشر كثير ، فما أكثر ما أرسل الله من الأنبياء ، ولكن الله تعالى أهلك أقوامهم الذين كذبوهم واستهزءوا بهم ، بالرغم من أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. ومضى مثلهم في الأمم الغابرة. والمثل : العقوبة أو السنّة أو الوصف والخبر ، أي سلفت عقوبتهم ، أو صفة الأولين بأنهم أهلكوا على كفرهم ، أو مضت سنة الله فيهم.

فإذا سلك كفار مكة وغيرهم في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم ، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم ، فقد ضرب الله لهم مثلهم ، كما قال : (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) [الفرقان ٢٥ / ٣٩] (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) [إبراهيم ١٤ / ٤٥].

١٢٠