التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

(لِيَجْزِيَ قَوْماً) أي ليجزي الله ، وهو فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، و (قَوْماً) : مفعول به. وقرئ : «ليجزين» بفتح الياء وكسر الزاي ، و «ليجزي» بضم الياء وفتح الزاي ، و «لتجزي» بفتح التاء ، ومن قرأ «ليجزي» بالبناء للمجهول ، نصب قوما على تقدير : ليجزي الجزاء قوما ، وهذا جائز على مذهب الأخفش والكوفيين ، وغير جائز على مذهب البصريين ، لأن المصدر لا يجوز إقامته مقام الفاعل مع مفعول صحيح. وقرئ : «لنجزي» بالنون على التعظيم.

البلاغة :

(سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ..) إطناب لإظهار الامتنان.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(سَخَّرَ) هيأ وذلل (الْفُلْكُ) السفن (بِأَمْرِهِ) بإذنه (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لتطلبوا بالتجارة والغوص والصيد وغيرها (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من شمس وقمر ونجوم وماء وغيره (وَما فِي الْأَرْضِ) من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيرها ، والمراد : خلق ذلك لمنافعكم (جَمِيعاً) تأكيد (مِنْهُ) حال ، أي سخرها كائنة منه تعالى (يَتَفَكَّرُونَ) في صنائعه.

(يَغْفِرُوا) يعفوا ويصفحوا ، وقد حذف المقول لدلالة الجواب عليه ، والمعنى : قل لهم : اغفروا للكفار أذاهم لكم يغفروا (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) لا يخافون وقائعه بأعدائه ، يقال : أيام العرب ، أي وقائعهم (لِيَجْزِيَ) أي الله (قَوْماً) هم المؤمنون (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المغفرة للكفار أذاهم ، أو الإساءة.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي لها ثواب العمل ، وعليها عقابه ، والمراد : فلنفسه عمل ، وعليها أساء (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) تصيرون ، فيجازيكم على أعمالكم ، يجازي المصلح والمسيء.

٢٦١

سبب النزول :

نزول الآية (١٤):

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) : ذكر الواحدي النيسابوري والقشيري عن ابن عباس : أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب وعبد الله بن أبيّ وجماعتهما ، وذلك أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها : المريسيع ، فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء ، فأبطأ عليه ، فلما أتاه قال : ما حبسك؟ قال : غلام عمر قعد على قفّ ـ فم ـ البئر ، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه ، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمّن كلبك يأكلك ، فبلغ عمر رضي‌الله‌عنه ، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ..).

وذكر الواحدي والثعالبي عن ابن عباس وميمون بن مهران سببا آخر قال : لما نزلت هذه الآية : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال يهودي بالمدينة يقال له : فنحاص بن عازوراء : احتاج رب محمد ، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه ، فجاء جبريل عليه الإسلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن ربك يقول : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ). فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلب عمر ، فلما جاء قال : يا عمر ضع سيفك ، قال : صدقت يا رسول الله ، أشهد أنك أرسلت بالحق ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية ، فقال عمر : لا جرم ـ حقا ـ والذي بعثك بالحق ، ولا يرى الغضب في وجهي (١).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢١٥ ، غرائب القرآن للحسن بن محمد النيسابوري : ٢٥ / ٧٦

٢٦٢

المناسبة :

بعد إيراد أدلة وجود الله ووحدانيته ، أورد الله تعالى بعض نعمه الدالة أيضا على قدرته وهي تسخير السفن في البحار لحمل التجارات والركاب ، وتسخير ما في السموات والأرض ، ثم أمر المؤمنين بالعفو عن الكفار ، وأبان أن جزاء العمل الصالح والسيء يعود على نفس العامل خيرا أو شرا.

التفسير والبيان :

يذكر الله تعالى نعمه على عباده وهي :

١ ـ (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إن الله الذي ثبت لكم وجوده ووحدانيته بالأدلة السابقة هو الذي ذلل لكم البحر لجريان السفن فيه بإذنه ، والاتجار بين الأقطار ، والغوص للدرّ ، وصيد الأسماك وغير ذلك ، أي للمتاجر والمكاسب ، ولتشكروا نعم الله الحاصلة لكم بسبب هذا التسخير ، ومنافعه المجلوبة لكم من البلاد النائية.

وتسخير البحر بثلاثة أشياء : هي أولا ـ الرياح المساعدة على مسيرة السفن في الماضي وثانيا ـ قدرة تحمل الماء لآلاف الاطنان بل أكثر من خمس مائة الف طن ، وثالثا ـ وجعل الخشب طافيا على وجه الماء دون غوص فيه.

٢ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي وذلل لكم أيضا جميع ما في السموات من كواكب وغيرها ، وجميع ما في الأرض من جبال وبحار وأنهار ورياح وأمطار ومنافع أخرى فضلا منه ورحمة ، إن في ذلك التسخير لدلائل واضحة على قدرة الله وتوحيده ، لقوم يتفكرون فيها ويستدلون بها على التوحيد.

وهذا كقوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ، فَإِلَيْهِ

٢٦٣

تَجْئَرُونَ) [النحل ١٦ / ٥٣].

وبعد بيان أدلة التوحيد والقدرة الإلهية أمر الله تعالى بمحاسن الأخلاق ، فقال :

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ، لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي قل أيها النبي للمؤمنين المصدقين بالله ورسوله : اعفوا واصفحوا وتحملوا أذى هؤلاء المشركين الذين لا يخافون وقائع الله وأنواع عذابه ، ليجزي الله أولئك المؤمنين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي منها الصبر على أذى الكفار وكظم الغيظ واحتمال المكروه. وتنكير (قَوْماً) لتعظيم شأن المؤمنين المذكورين في قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا). وقوله : (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) معناه : لا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية.

ثم أوضح الله تعالى أن الإحسان والإساءة يعودان على المحسن والمسيء ، فقال (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي من عمل الأعمال الصالحة التي أمر الله بها وانتهى عما نهى عنه ، فلنفسه عمل ، ومن اقترف السيئات والمعاصي ، فعلى نفسه جنى ، ثم تعودون إلى الله يوم القيامة ، فتعرضون بأعمالكم عليه ، فيجزيكم عليها خيرها وشرها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ امتن الله تعالى على عباده بما أنعم عليهم من تسخير البحر لجريان السفن فيه بإذنه ومشيئته ، ولتحقيق المكاسب ومنافع المتاجر ، والغوص على اللؤلؤ والمرجان ، واصطياد الأسماك ، لكي يشكروه على نعمه.

٢ ـ وكذلك امتن الله تعالى على العباد بتسخير جميع ما في السموات وما في

٢٦٤

الأرض من شمس وقمر ونجوم وكواكب ، وجبال وسهول وأنهار ومعادن وزروع وأشجار ونباتات وغيرها ، ففي ذلك كله دلائل واضحة على توحيد الله وقدرته.

٣ ـ الأخلاق الحسنة تابعة للعقيدة الصالحة ، لذا بعد أن علّم تعالى عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ، علمهم محاسن الأخلاق وفضائل الأفعال ، فأمر بالعفو والصفح عن المشركين والمنافقين واليهود ، ليكون ذلك سببا لجزاء المؤمنين على ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الطيبة. والآية ليست منسوخة بناء على أنها نزلت بالمدينة ، أو في غزوة بني المصطلق.

٤ ـ إن ثواب العمل الصالح ، وعقاب العمل السيء يرجع إلى صاحبه ، فينفعه أو يضره في آخرته ، وإن جميع الخلائق عائدون إلى ربهم للحساب والجزاء ، فالعمل الصالح يعود بالنفع على فاعله ، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله ، وأنه تعالى أمر بهذا ، ونهى عن ذلك ، لحظّ العبد ، لا لنفع يرجع إليه.

وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح ، وزجر عن العمل الباطل.

نعم الدين وإنزال الشرائع

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ

٢٦٥

أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

الإعراب :

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ) مبتدأ وخبر.

البلاغة :

(فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) بين الفعلين الأول والثاني ما يسمى بطباق السلب.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي التوراة (وَالْحُكْمَ) أي والحكمة النظرية والعملية ، أو الفهم والقضاء والفصل في الخصومات بين الناس ، لأنهم كانوا ملوكا وحكاما (وَالنُّبُوَّةَ) النبوة لموسى وهارون وكثير من الأنبياء ، إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) المباحات اللذائذ كالمن والسلوى (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) عالمي زمانهم البشر ، حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.

(بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) دلائل واضحات في أمر الدين ، ومنها المعجزات (فَمَا اخْتَلَفُوا) في ذلك الأمر الديني (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) العلم بحقيقة الحال عداوة وحسدا (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ..) بالمؤاخذة والمجازاة.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ) يا محمد (عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) طريقة ومنهج من أمر الدين ، وأصل الشريعة : مورد الماء ، ثم أستعير للدين ، لأن الناس يردون فيه ما تحيا به نفوسهم (فَاتَّبِعْها) اتبع شريعتك الثابتة بالحجج (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) آراء الجهال التابعة للشهوات.

(لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ) لن يدفعوا عنك (مِنَ اللهِ) من عذابه (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين

٢٦٦

(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي إن جنس الظلم علة موالاة بعضهم بعضا ، فلا توالهم باتباع أهوائهم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) نصير المؤمنين (هذا) القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) معالم للدين يتبصرون بها وجه الفلاح في الأحكام والحدود (وَهُدىً) من الضلال (وَرَحْمَةٌ) ونعمة من الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يطلبون اليقين.

المناسبة :

بعد بيان بعض نعم الله في الدنيا على الناس جميعا فهي نعم عامة ، ذكر تعالى نعم الدين والدنيا على بني إسرائيل فهي نعم خاصة ، وبما أن نعم الدين أفضل من نعم الدنيا ، بدأ تعالى بتعداد نعمه الدينية عليهم ، وأتبعها بالنعمة العظمى على الإنسانية وهي الشريعة الإسلامية التي لم يبق في الوجود دليل آخر سواها على صحة مصدريتها من الله سبحانه ، فكانت هي البصائر والهدى والرحمة.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ...) أي تا لله لقد أعطينا بني إسرائيل نعما خاصة ، أذكر منها هنا ستا وهي :

١ ـ إنزال التوراة على موسى عليه‌السلام التي فيها هدى ونور.

٢ ـ الفهم والفقه لفصل القضاء والخصومات بين الناس ، لأنهم جمعوا بين حكم الدين وحكم الدنيا ، فجعل الملك فيهم.

٣ ـ إرسال الرسل إليهم ، كموسى وهارون عليهما‌السلام وغيرهما من الأنبياء الكثيرين.

٤ ـ إمدادهم بطيبات الرزق المباحة المستلذة من المآكل والمشارب كالمن والسلوى.

٢٦٧

٥ ـ تفضيلهم على عالمي زمانهم من الناس ، حيث كثر فيهم الأنبياء ، وجمعوا بين الملك والنبوة ، وأوتوا من المعجزات العامة المادية الباهرة ، كفلق البحر وتظليل الغمام ، والإنجاء من ظلم فرعون وجنوده ، فكانوا أرفع درجة وأعلى منقبة بين الشعوب في عصرهم.

٦ ـ إيتاؤهم الحجج والبراهين والمعجزات والأدلة القاطعة ، والأحكام والمواعظ والشرائع الواضحة في الحلال والحرام.

ومع كل هذا لم يشكروا تلك النعم ، بل اختلفوا في أمر الدين ، كما قال تعالى :

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي فما وقع الاختلاف بينهم في أمر الدين إلا بعد العلم بحقيقة الحال ، وبعد قيام الحجة عليهم ، حبا للرئاسة ، وعداوة وحسدا وعنادا ، وبغيا منهم على بعضهم بعضا.

والخلاف في الأشياء يستتبع القضاء ، لذا قال تعالى :

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن الله سيفصل بينهم بحكمه العدل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبيّن المحقّ من المبطل.

وفي هذا تحذير للأمة الإسلامية أن تختلف مثل اختلاف بني إسرائيل ، لذا قال تعالى:

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي ثم جعلناك يا محمد على طريقة ومنهاج من أمر الدين يوصلك إلى الحق ، فاتبع ما أوحي إليك من ربك ، واعمل بأحكام شريعتك المؤيدة بالأدلة الواضحة في أمتك ، ولا تتبع ما لا حجة فيه من أهواء الجهال المشركين الذين

٢٦٨

لا يعلمون توحيد الله وشرائعه لعباده ، وهم كفار قريش ومن وافقهم. قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة : ارجع إلى ملة آبائك ، وهم كانوا أفضل منك وأسنّ ، فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله : (وَلا تَتَّبِعْ) الآية ، أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقا للعذاب ، وهم لا يقدرون على دفعه عنك.

وعلة النهي عن اتباع أهوائهم هي ما قال تعالى :

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي إن هؤلاء المشركين الجهلة لن يدفعوا عنك من الله شيئا أراده بك إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعتك.

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي وإن هؤلاء الكافرين ينصر بعضهم بعضا ، فالمنافقون أولياء اليهود في الدنيا ، ولكن تناصرهم لا يفيدهم شيئا في الآخرة ، ولا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا ، والله ناصر المؤمنين الذين اتقوا الشرك والمعاصي ، فيخرجهم من الظلمات إلى النور ، أما الذين كفروا فأولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات. وهذه تفرقة واضحة بين ولاية الله للمتقين ، وولاية الظالمين لبعضهم.

ثم بيّن الله تعالى فضل القرآن الدائم الخالد ، قائلا :

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ، وَهُدىً ، وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي هذا القرآن المشتمل على شرائع الله الخالدة إلى يوم القيامة هو دلائل وبراهين للناس جميعا فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين ، وهاد إلى الجنة من عمل به ، ورحمة من الله وعذابه في الدنيا والآخرة لقوم من شأنهم الإيقان وعدم الشك بصحته وتعظيم ما فيه.

وإنما خص الموقنين بذلك ، لأنهم المنتفعون به.

٢٦٩

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت الآيات على ما يأتي :

١ ـ امتن الله تعالى على بني إسرائيل بنعم ست هي التوراة ، وفهم الكتاب أو الحكم بين الناس والقضاء في الخصومات ، وإرسال كثير من الأنبياء فيهم وهم من عهد يوسف عليه‌السلام إلى زمن عيسى عليه‌السلام ، ورزقهم من طيبات الحلال من الأقوات والثمار وأطعمة الشام ، وتفضيلهم على عالمي زمانهم ، وإيتاؤهم بيّنات الأمر ، أي دلائل الحق الواضحة ، وشرائع الحلال والحرام ، والمعجزات الداعية إلى الصدق والإيمان.

٢ ـ لم يقع الخلاف بين بني إسرائيل بإيمان بعضهم وكفر بعضهم إلا بعد قيام الحجة عليهم ، وتعريفهم بحقيقة الحال ، وإدراكهم صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوثائقهم الدينية وإخبار كتبهم وبشائرها بنبي آخر الزمان.

وكان خلافهم نابعا من الأغراض الذاتية ، كالحسد والعداوة وحب الرياسة ، لا من أجل المصلحة العامة.

وتحذيرا من هذا الخلاف توعدهم الله بقضائه الحاسم وحكمه العادل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين في الدنيا.

٣ ـ وبما أن الأمر المختلف فيه عقيدة وشريعة لا يصلح للبقاء والاستمرار ، أوصى الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته والبشرية كلها باتباع شريعة القرآن. والشريعة : ما شرع الله لعباده من أمر الدين. وتلك الشريعة منهاج واضح يؤدي إلى الحق والسعادة والنجاة في الآخرة ، لأنها تتضمن أوامر الله ونواهيه وحدوده وفرائضه الثابتة ثبوتا قطعيا لا شك فيه ، أما ما قبلها فلم يقم دليل واحد على صحة ما يتناقله أهلها منها ، أو ثبوته ثبوتا صحيحا من عند الله تعالى ، لضياع

٢٧٠

التوراة ، وكتابة الإنجيل كتابة متأخرة عن تاريخ نزوله على السيد المسيح عليه‌السلام. فإن فرض ثبوت شيء من شرائع من قبلنا ، فلا خلاف في أن الله تعالى جعل الشريعة واحدة في أصولها في التوحيد ومكارم الأخلاق ومصالح الناس ، وإنما خالف بينها في الفروع الجزئية لا في الأصول حسبما تقتضي المصلحة في علم الله تعالى.

٤ ـ قال ابن العربي المالكي الذي يرى كغيره من المالكية أن شرع من قبلنا شرع لنا : ظن بعض من يتكلم في العلم (١) أن هذه الآية : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا ، لأن الله تعالى أفراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة ، ولا ننكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته منفردان بشريعة ، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء ، هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك (٢).

٥ ـ إن القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على قلب نبيه براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام ، بمنزلة البصائر في القلوب ، كما جعل في سائر الآيات روحا وحياة ، وهو هدى من الضلالة ، ورشد وطريق يؤدي إلى الجنة ، ورحمة من العذاب في الآخرة لمن آمن واتقى.

جعلنا الله تعالى من القائمين بشرعه ، المهتدين بهديه ، المخلصين في اتباع أمره ونهيه ، الظافرين بفضل الله ورحمته في الآخرة والدنيا.

__________________

(١) وهو رد على الشافعية الذين يرون أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا لقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ولهذه الآية.

(٢) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٨٢

٢٧١

الفارق بين المحسنين والمسيئين في المحيا والممات

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

الإعراب :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ ... أَنْ) وصلتها : سدت مسد مفعول (حَسِبَ). و (سَواءً) : حال من ضمير (نَجْعَلَهُمْ) و (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) : مرفوعان بسواء ، لأنه بمعنى مستو ، ويقرأ بالرفع «سواء» على أنه خبر مقدم ، و (مَحْياهُمْ) : مبتدأ مؤخر ، و (مَماتُهُمْ) : عطف عليه. و (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) إن كانت (ما) معرفة ، كانت في موضع رفع ب (ساءَ) وإن كانت نكرة ، كانت في موضع نصب على التمييز.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ بِالْحَقِ) : في موضع نصب على الحال ، وليست باؤه للتعدية.

(أَفَرَأَيْتَ) يقدر له مفعول ثان بعد قوله (غِشاوَةً) أي لرأيت أيهتدي.

(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي من بعد هداية الله.

البلاغة :

(مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) بينهما طباق. وكذا بين (السَّيِّئاتِ) و (الصَّالِحاتِ).

المفردات اللغوية :

(أَمْ) الهمزة : همزة الإنكار ، وأم منقطعة عما قبلها ، أي أبل ، والمراد إنكار الحسبان.

٢٧٢

(اجْتَرَحُوا) اكتسبوا ومنه الجارحة : أعضاء الإنسان. (السَّيِّئاتِ) الكفر والمعاصي. (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) هذا الضمير وما قبله في (اجْتَرَحُوا) للكفار ، والمعنى : إنكار أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة ، أو ترك المؤاخذة ، كما استووا في الرزق والصحة في الحياة. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ليس الأمر كذلك ، فهم في الآخرة في العذاب على خلاف عيشهم وحالهم في الدنيا ، أي ساء حكمهم هذا ، أو بئس شيئا وحكما حكمهم هذا ، و (ما) مصدرية.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) كأنه دليل على الحكم السابق ، لأن الخلق بالحق يستدعي العدل والتفاوت بين المسيء والمحسن. (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من المعاصي والطاعات ، فلا يساوي الكافر المؤمن ، وهي عطف على (بِالْحَقِ) لأنه في معنى العلة لما سبق ، أي ليستدل بذلك على قدرته ، وليعدل ويجزي.

(أَفَرَأَيْتَ) أخبرني. (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى من عبادة الحجر ، لأنه كان يعبده ، فإذا رأى أحسن منه رفضه وعبد الآخر ، والهوى : ما تهواه نفسه. (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) خذله عالما بضلاله ، وفساد استعداده وحاله قبل خلقه. (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) طبع عليهما بالخاتم بعد كفره ، فلم يسمع الهدى والمواعظ ، ولم يتفكر في الآيات. (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ظلمة ، فلم ينظر بعين الاستبصار والاعتبار ، ولم يبصر الهدى.

(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) من بعد هداية الله وإضلاله إياه ، أي لا يهتدي. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتعظون. وقرئ «تتذكرون».

سبب النزول :

نزول الآية (٢١):

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ ..) : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي‌الله‌عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أنّا أفضل حالا منكم في الدنيا ، فأنكر الله عليهم هذا الكلام ، وبيّن أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساويا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ، ومنازل السعادات (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٢٦٦

٢٧٣

نزول الآية (٢٣):

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : أخرج ابن المنذر وابن جرير عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش تعبد الحجر حينا من الدهر ، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه ، طرحوا الأول وعبدوا الآخر ، فأنزل الله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الآية ، وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين ، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه.

نزول بقية الآية (٢٣):

(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ...) قال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ، ومعه الوليد بن المغيرة ، فتحدثا في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو جهل : والله إني لأعلم أنه صادق ، فقال له : مه ، وما دلّك على ذلك؟ قال : يا أبا عبد شمس كنا نسمّيه في صباه الصادق الأمين ، فلما تم عقله وكمل رشده نسمّيه الكذاب الخائن ، والله إني لأعلم أنه صادق ، قال : فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال : تتحدث عني بنات قريش أني اتّبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة ، واللّات والعزّى إن اتبعته أبدا ، فنزلت : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ)(١).

المناسبة :

بعد بيان الفرق بين الظالمين الكافرين وبين المتقين في الولاية ، بيّن الفرق بينهما من وجه آخر وهو الرحمة والثواب في الآخرة ، ثم ذكر تعالى دليل التفاوت بين المحسنين والمسيئين وهو خلق الكون بالحق المقتضي للعدل ، وجعل الجزاء منوطا بالكسب والعمل ، ثم أخبر تعالى عن المسيء المتبع هواه بأنه موضع تعجب ، وأنه لا سبيل إلى هدايته بعد هدايته الله تعالى.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٧٠

٢٧٤

التفسير والبيان :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بل أظن هؤلاء الذين اقترفوا الإثم والشرك والمعاصي في الدنيا ، فكفروا بالله ورسله ، وعبدوا غيره ، أن نجعلهم كالذين صدقوا بالله ورسله ، وعملوا الأعمال الصالحة من إقامة الفرائض واجتناب المحارم ، بأن نسوّي بينهم في الجزاء والثواب والرحمة في دار الدنيا والآخرة ، كلا لا يستوون ، فإن حال أهل السعادة في الآخرة غير حال أهل الشقاوة ، لقد ساء ما ظنوا ، وبئس ما حكموا أن نسوي بين الأبرار الطائعين وبين الفجار العاصين في الدنيا والآخرة. والمعنى : إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتا ، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة ، وإنهم عاشوا على المعصية ، ومات أولئك على البشرى والرحمة ومات هؤلاء على الضدّ. وقيل : معناه إنكار أن يستويا في الممات ، كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق ، بل قد يكون أحسن حالا من المؤمن ، فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة.

ونظير الآية قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢٠] وقوله سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم ٦٨ / ٣٥ ـ ٣٦] وقوله عزوجل : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨].

وهذا دليل واضح أيضا على التفرقة في مصير المؤمن الطائع والمؤمن العاصي.

أخرج الطبراني عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

٢٧٥

وبعد بيان التفاوت بين المؤمن والكافر في الآخرة والدنيا ، أقام الدليل على صحة هذا المبدأ وحكمته ، فقال تعالى :

١ ـ (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي أوجد الله وأبدع السموات والأرض بالحق المقتضي للعدل بين العباد ، فلو لم يوجد البعث والحساب والجزاء ، لما كان ذلك الخلق بالحق بل كان بالباطل ، ومن العدل : اختلاف الجزاء بين المحسن والمسيء ٢ ـ (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي خلق الله السموات والأرض بالحق ، ليدل بهما على قدرته ، ولكي تجزي كل نفس بما قدمت من عمل صالح أو سيء ، وهم أي المخلوقون لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب ، فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا ، ولم يقتص منه في الآخرة ، لما كان خلق السموات والأرض بالحق.

فيكون قوله (وَلِتُجْزى) معطوفا على قوله : (بِالْحَقِ) والتقدير : وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق ، ولتجزي كل نفس ، والمعنى أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة ، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة ، وحصل التفاوت في الجزاء والدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين.

ثم أبان الله تعالى أحوال الكفار وقبائحهم وسوء جناياتهم ، فقال :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ، وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ، وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً ، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؟ أي أخبرني عن حال ذلك الكافر الذي أطاع هواه ، وترك الهدى ، واتخذ دينه ما يهواه ، فكأنه جعل الهوى إلهه يعبده من دون الله ، فلا يهوى شيئا إلا تبعه ، دون مراعاة لما يحبه الله ويرضاه ، فهذا مما يدعو إلى العجب ، وكان الحارث بن قيس لا يهوى

٢٧٦

شيئا إلا فعله ، والعبرة بعموم لفظ الآية ، لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله.

وقد أضله الله وخذله مع علمه بالحق ، ومعرفته الهدى من الضلال ، وقيام الحجة عليه ، وطبع على سمعه ، حتى لا يسمع الوعظ ، وعلى قلبه ، حتى لا يفقه الهدى ، وجعل غطاء على بصره وبصيرته ، حتى لا يبصر الرشد ويدرك آيات الله في الكون التي تدل على وحدانية الله تعالى.

فمن يوفقه للصواب والحق من بعد إضلال الله له بسبب انحرافه واتباعه هواه ، أفلا تتذكرون تذكر اعتبار ، وتتعظون حتى تعلموا حقيقة الحال؟!

ونظير مطلع الآية قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات ٧٩ / ٤٠ ـ ٤١].

ونظير وسط الآية قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة ٢ / ٦ ـ ٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ كما أن هناك فرقا في الولاية بين المتقين والظالمين ، هناك فرق آخر بين المحسنين والمسيئين في الجزاء في الدنيا والآخرة ، فالله ولي المتقين وناصرهم في الدنيا والآخرة ، والظالمون الكافرون يوالي بعضهم بعضا في الدنيا ، وتنقطع ولاياتهم في الآخرة ، والمحسنون المؤمنون سعداء الدنيا والآخرة ، والمسيؤون الكفار أشقياء في الآخرة ، وإن تساووا في الدنيا مع المؤمنين في الصحة والرزق والكفاية ، أو كانوا أحسن حالا من المؤمنين فيها.

٢٧٧

٢ ـ لا بد من التفاوت في الجزاء والدرجات والدركات بين المحسنين والمسيئين ، عدلا من الله ، لأنه بالعدل قامت السموات والأرض ، ولكي تجزى كل نفس في الآخرة بما كسبت في الدنيا ، وهم لا يظلمون فيها بنقص ثواب أو زيادة عقاب.

٣ ـ إن اتباع أهواء النفس مذموم دائما ، قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمّه ، قال الله تعالى : (وَاتَّبَعَ هَواهُ ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) [الأعراف ٧ / ١٧٦] وقال تعالى : (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف ١٨ / ٢٨] وقال تعالى : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) [الروم ٣٠ / ٢٩] وقال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص ٢٨ / ٥٠] وقال: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [ص ٣٨ / ٢٦].

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكره النووي في كتاب الحجة للمقدسي عن عبد الله بن عمرو : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» وقال أبو أمامة رضي‌الله‌عنه : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى». وقال شدّاد بن أوس رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن شداد بن أوس : «الكيّس : من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والفاجر : من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني : «إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهوى متّبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ، وهو ضعيف : «ثلاث مهلكات ، وثلاث منجيات ، فالمهلكات : شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، والمنجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الغنى والفقر : والعدل في الرضا والغضب».

٢٧٨

٤ ـ لا يضلّ الله قوما إلا بعد أن هداهم وبعد أن أعلمهم وعلمهم ، ولا يمنع عنهم فضله ورحمته إلا بسبب جحودهم وظلمهم وكفرهم ، ولا يحجب عنهم منافذ الهداية من الاستبصار بنور البصيرة والقلب ، والنظر في أسباب الرشد ، وسماع المواعظ ليفقه الهدى إلا بعد إعراضهم وعنادهم وغيهم.

قال المفسرون : هذه الآية رد على القدرية الذين يقولون : إن الإنسان يخلق أفعال نفسه من الاعتقاد وفعل الخير وارتكاب الشر ، لأن الله تعالى صرح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره ، أي فالله هو الخالق لأفعال الإنسان ، وليس العبد خالقا لها ، وإنما هو كاسب وآخذ ومختار أيّ الطريقين من الخير أو الشر.

٥ ـ إن أسباب ضلال المضلين إما اتباع الإنسان ما تدعو إليه نفسه الأمّارة بالسوء : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) وإما تجاهل الحقائق بعد العلم بوجوه الهداية : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) وإما العناد : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) وإما إنكار البعث باعتقاد ألا حياة إلا هذه : (نَمُوتُ وَنَحْيا) [٢٤] وإنكار المبدأ قائلين : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [٢٤].

وقد أجاب الله على شبهتهم بقوله فيما يأتي من الآيات : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم على ما قالوه دليل ، وإنما ذكروا ذلك ظنا وتخمينا واستبعادا ، فلا ينبغي لعاقل أن يلتفت إلى قولهم ، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك ، وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مرارا ، وليس قولهم : (ائْتُوا بِآبائِنا) [٢٤] من الحجة في شيء ، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال ، فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال (١).

__________________

(١) غرائب القرآن : ٢٥ / ٧٨ ـ ٧٩

٢٧٩

الدهرية وإنكار البعث وأهوال القيامة

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩))

الإعراب :

(بَيِّناتٍ) حال.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ) الأول : منصوب ب (يَخْسَرُ) و (يَوْمَئِذٍ) : للتأكيد.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا كُلَ) بالرفع : مبتدأ ، وخبره : (تُدْعى إِلى كِتابِهَا) ويقرأ بالنصب على أنه بدل من (كُلَ) الأولى ، و (تُدْعى) في موضع نصب على الحال ، إن جعلت (تَرى) من رؤية العين ، أو في موضع المفعول الثاني إذا جعلته من رؤية القلب.

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ) مبتدأ وخبر ، و (يَنْطِقُ) حال من (الكتاب) أو من (ذا) ويجوز جعله خبرا ثانيا ل (ذا). ويجوز جعل (كِتابُنا) بدلا من (هذا) و (يَنْطِقُ): خبر المبتدأ.

٢٨٠