التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا القضاء السابق من ربّك بتأخير العقوبة والحساب إلى يوم المعاد ، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا ، بسبب ما اقترفوا من آثام عظام.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن لجيل المتأخّر من أهل الكتاب الذين توارثوا التوراة والإنجيل عمن سبقهم لفي شكّ من كتابهم ودينهم وإيمانهم ، وهو شكّ مقلق موقع في الرّيب بشدة ، لأنّهم لم يتّبعوا الحق ، وإنّما قلّدوا رؤساء الدّين المتأخرين الذين صوّروا لهم الدّين بصورة مغايرة لحقيقته الأولى ، واتّبعوا الآباء والأسلاف بلا دليل ولا برهان ، وهم في حيرة من أمرهم ، ولذلك لم يؤمنوا برسالة خاتم الأنبياء ، وأصبحوا مكذّبين القرآن ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي صدّق كتابهم في أصله الأوّل.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن الرّسالات السماوية متحدة في أصولها ، وإن اختلفت في فروعها.

٢ ـ شرع الله لأمة الإسلام ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام ، من توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وباليوم الآخر ، وغيرها من أصول العقيدة والعبادة والأخلاق.

أما أحكام الشرائع التي هي متبدلة متغيرة بحسب أحوال الأمم ومصالح الأقوام ، فهي مختلفة متفاوتة ، وهذا أمر حسن يتناسب مع الأحوال والبيئات والظروف ، فالمشرع كامل العلم والحكمة ، والإسلام دين قديم أجمع عليه الرّسل ، والشرائع قسمان : منها ما لا نسخ فيه ، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان ، كحسن الصدق والعدل والإحسان ، وقبح الكذب والظلم والإيذاء ، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان. والشرع حريص على القسم الأول باعتباره الجوهر أكثر من حرصه على القسم الثاني.

٤١

٣ ـ إن الأديان قائمة على توحيد الله ، فلا تلتقي مع الشرك والمشركين ، وإنما ترفض الشرك والوثنية ، وتقبّح عقائد المشركين ، لذا كان يشقّ على المشركين سماع كلمة التوحيد ـ شهادة أن لا إله إلا الله.

٤ ـ يستخلص الله لدينه من رجع إليه ، ويهدي إليه من وجد فيه الخير.

٥ ـ لم تتفرّق الأمم في أديانها إلا بعد علمهم بالحقّ والحقيقة ، وآثروا الفرقة والاختلاف على الوحدة والجماعة للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا ، فما على المسلمين إلا أن يحذروا الفرقة والتّشتت ويحرصوا على الجماعة والوحدة ، وينبذوا الخلافات والعصبيات المذهبية الضّارة.

٦ ـ اقتضت الحكمة الإلهية تأخير العذاب إلى يوم القيامة ، وتأخير الفصل بين المختلفين إلى يوم المعاد والحساب.

٧ ـ إن الذين توارثوا التوراة والإنجيل لفي شكّ من كتبهم ومما أوصى به الأنبياء.

الأمر بالدعوة والاستقامة على المتفق عليه ودحض حجة المجادلين فيه

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ

٤٢

لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))

الإعراب :

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ .. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ الَّذِينَ) : مبتدأ ، و (حُجَّتُهُمْ): مبتدأ ثان ، و (داحِضَةٌ) : خبره ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.

(أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) متعلق ب (أَنْزَلَ).

(لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ذكّر (قَرِيبٌ) من أربعة وجوه : ذكّره على النّسب ، أي ذات قرب ، مثل (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) [الأعراف ٧ / ٥٦] أي ذات قرب ، أو لأن التقدير : لعل وقت الساعة قريب ، أو حملا على المعنى ، لأن الساعة بمعنى البعث ، أو للفرق بينه وبين قرابة النسب. وقال الكسائي : (قَرِيبٌ) نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعنى ولفظ واحد.

و (لَعَلَ) علق فعل (يُدْرِيكَ) عن العمل ، وسدّ ما بعده مسدّ المفعولين.

البلاغة :

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) بينهما طباق السلب.

المفردات اللغوية :

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ) اللام في موضع إلى ، أي فلذلك الائتلاف والاتّفاق على الملّة الحنيفية ادع الناس يا محمد ، واستقم عليه وداوم واثبت. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) في تركه. (آمَنْتُ) صدقت. (لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في الحكم والقضاء دون حيف ولا ميل لجانب : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فيجازي كلّا بعمله. (لا حُجَّةَ) لا احتجاج ولا خصومة ، إذ الحق قد ظهر. (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة لفصل القضاء. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) المرجع.

(يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) يخاصمون في دينه. (اسْتُجِيبَ لَهُ) استجاب الناس لدينه ، ودخلوا فيه لظهور حجته ومعجزاته. (داحِضَةٌ) زائفة باطلة. (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) بمعاندتهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) على كفرهم.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) القرآن أو جنس الكتاب. (وَالْمِيزانَ) العدل والمساواة بين الناس. (وَما يُدْرِيكَ) يعلمك. (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) لعل إتيانها قريب. (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) يتساءلون استهزاء : متى تأتي؟ وظنّا منهم أنها غير آتية. (مُشْفِقُونَ مِنْها) خائفون منها مع العناية والاهتمام ، والفعل (أشفق) إذا عدّي بمن كما هنا فالخوف أظهر ، وإذا عدّي

٤٣

بعلى ، مثل : أشفقت على اليتيم ، فالعناية أظهر. (الْحَقُ) الأمر المحقق الكائن حتما. (يُمارُونَ) يجادلون. (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق ، فإن البعث أشبه الغيبيات إلى المحسوس ، فمن لم يهتد إليه لتوافر الدواعي على الاعتقاد به ، فهو أبعد عن الاهتداء إلى غيره.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) يتلطّف بهم جميعا ، سواء البرّ منهم والفاجر ، حيث رزقهم ولم يهلكهم بمعاصيهم. (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) من يريد ، كما يشاء ويريد. (الْقَوِيُ) الباهر القدرة. (الْعَزِيزُ) المنيع الذي لا يغلب.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ ..) : أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين. قد دخل الناس في دين الله أفواجا ، فاخرجوا من بين أظهرنا ، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) الآية.

وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية قال : هم اليهود والنصارى قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبيّنا قبل نبيّكم ، ونحن خير منكم.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى وحدة الدّين في أصوله الأولى ، أمر نبيّه بالدعوة إلى الاتفاق على الملّة الحنيفيّة ، والاستقامة عليها والثبات على أحكامها ، وأنهى المحاجّة والمخصومة بين المؤمنين والمشركين لوضوح الحجّة ، ثم ذكر أن الذين يخاصمون في الدّين بعد الاستجابة إليه ، حجّتهم زائفة باطلة ، وأردفه استعجال المشركين استهزاء وإنكارا بيوم القيامة ، وإيمان المؤمنين به حتما واستعدادهم له ، وأن المماراة والشكّ فيه ضلال واضح ، لكثرة الأدلّة على وقوعه.

٤٤

التفسير والبيان :

اشتملت الآية الأولى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ ..) على عشرة أوامر ونواه ، كلّ منها مستقل بذاته ، ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنّها أيضا عشرة موضوعات. والأمر بهذه الأوامر والنهي عن هذه النواهي ، وإن وجه إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهي له ولأمته.

١ ـ ٢ : (فَلِذلِكَ فَادْعُ ، وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي ادع أيها الرسول إلى ذلك الأمر المتفق عليه ، واثبت وداوم واستمر على عبادة الله وتبليغ الرسالة ، كما أمرت من ربّك ، فيكون قوله : (فَلِذلِكَ) أي إلى ذلك ، وتكون اللام بمعنى إلى ، كقوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة ٩٩ / ٥].

ويصحّ أن يكون المراد باللام التعليل ، أي فلأجل ذلك التّفرق والشّك المذكورين ، ولأجل تلك الاختلافات المتشعبة في الدين ، ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفية القديمة ، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله ، فتكون اللام على بابها للتعليل ، والمعنى : فمن أجل ذلك المتقدّم ذكره فادع واستقم.

أو فلأجل ما شرعه الله من الدّين الواحد ، فادع إلى الله وإلى توحيده ، واستقم على ما دعوت إليه ، واستمر على تبليغ الرسالة كما أمرت بذلك.

٣ ـ (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء المشركين فيما اختلقوه وافتروه من عبادة الأوثان ، ولا تتبع أيضا أهواء الذين أورثوا الكتاب فيما وقعوا فيه من شكوك وحيرة وتحريف وتبديل.

٤ ـ (وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي وقل أيها الرسول : صدّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله ، من

٤٥

التوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم وموسى ، لا نفرّق بين أحد منهم ، فلست من الذين آمنوا ببعض الكتب ، وكفروا ببعض ، وهذا تعريض بأهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين حصل منهم ذلك.

٥ ـ (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي وأمرني الله بأن أعدل بينكم في الحكم والقضاء إذا ترافعتم إلي ، ولا أحيف عليكم بزيادة أو نقص.

٦ ـ (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي الله هو المعبود بحقّ ، لا إله غيره ، فنحن نقرّ بذلك اختيارا ، فهو إلهنا وإلهكم ، وخالقنا وخالقكم.

٧ ـ (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي إن ثواب أعمالنا وعقابها خاص بنا ، ولكم ثواب أعمالكم وعقابها ، فهو خاص بكم ، ونحن برآء منكم ومن أعمالكم ، كما قال تعالى : (قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ ٣٤ / ٢٥] ، وقال سبحانه : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس ١٠ / ٤١].

٨ ـ (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة بيننا وبينكم ولا احتجاج ، لأن الحقّ قد ظهر ووضح كالشمس.

٩ ـ ١٠ : (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي الله يجمع بيننا في المحشر يوم القيامة ، فيقضي بيننا بالحق في خلافتنا ، كما قال تعالى : (قُلْ : يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سبأ ٣٤ / ٢٦]. وإليه وحده سبحانه المرجع والمآب يوم الحساب والقيامة ، فيجازي كل نفس بما كسبت. قيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة ، وقد سألا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش ، على أن يعطيه الوليد نصف ماله ، ويزوجه شيبة بابنته.

٤٦

ثم بيّن الله تعالى بطلان حجة المجادلين في دين الله ، فقال :

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ، ودخلوا فيه ، حجّتهم باطلة عند ربّهم ، أي لا ثبات لها ، كالشيء الذي يزلّ عن موضعه ، وعليهم غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل ، ولهم عذاب شديد يوم القيامة. وسميت دعاويهم الزائفة وأباطيلهم حجّة ودليلا ، مجاراة لهم على زعمهم.

قال مجاهد : وهؤلاء قوم توهّموا أن الجاهلية تعود ، فجادلوا الذين استجابوا للإسلام ، لعلهم يردّونهم إلى الجاهلية.

وقال قتادة : هم اليهود والنصارى ، ومحاجّتهم قولهم : نبيّنا قبل نبيّكم ، وكتابنا قبل كتابكم. والظاهر هذا الرأي ، روي أن اليهود قالوا للمؤمنين : ألستم تقولون : إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى وحقيّة التوراة معلومة بالاتّفاق ، ونبوّة محمد ليست متّفقا عليها ، فوجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى ، فدحض تعالى هذه الحجة ، لأن الإيمان بموسى عليه‌السلام إنما وجب لظهور المعجزات على يديه ، للدلالة على صدقه ، وقد ظهرت المعجزات على يدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجب الإقرار بنبوّته.

ثم ردّ تعالى عليهم بقوله :

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) أي لقد أنزل الله جميع الكتب المنزلة على الرّسل إنزالا مشتملا على الحقّ مقترنا به ، وعلى أنواع الدلائل والبيّنات ، وأنزل الميزان في كتبه المنزلة ، أي العدل والتسوية والإنصاف ، ليحكم به بين البشر ، وسمي العدل ميزانا ، لأن الميزان آلة الإنصاف والتّسوية بين الناس

٤٧

في بيعهم وشرائهم ، كقوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد ٥٧ / ٢٥].

وبعد تقرير هذه الدلائل خوّف الله تعالى المنكرين بعذاب القيامة ، فقال :

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي وما يعلمك أيها الرسول والمخاطب أن مجيء الساعة عسى أن يكون قريبا حصوله. وفي هذا ترغيب باتباع شرع الله ، وترهيب من القيامة ، وطلب الاستعداد لها.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) أي يتعجّل بقدوم الساعة الذين لا يصدّقون بها ، قائلين استهزاء وإنكارا وتكذيبا وعنادا : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي والمؤمنون خائفون وجلون من وقوعها ، ويعلمون أنها كائنة لا محالة ، فهم عاملون من أجلها ، مستعدون لها ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٦٠].

ثبت في حديث متواتر أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصورت جهوري ، وهو في بعض أسفاره ، فناداه ، فقال : يا محمد ، فقال له نحوا من صوته : «هاؤم» ، فقال له : متى الساعة؟ فقال له : «ويحك إنها كائنة ، فما أعددت لها؟» فقال : حبّ الله ورسوله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت مع من أحببت» أو «المرء مع من أحب».

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ألا أيها السامع ، إن الذين يجادلون في وجود القيامة ، ويخاصمون فيها مخاصمة شكّ وريبة ، لفي جهل بيّن. وانحراف شديد عن الحقّ ، ولو تفكّروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء

٤٨

قادر على الإعادة ، ومن خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧].

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ ، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي إن الله تعالى كثير اللطف بعباده ، بالغ الرأفة بهم ، فيوصل إليهم أعظم المنافع ومنها إنزال الكتاب المقترن بالحقّ ، ويدفع عنهم أعظم المضار والبلايا ومنها تأخير العذاب عن الخلق ، كما في الآيات المتقدمة ، ومن ألطافه ومنافعه أنه يرزق جميع عباده ، البرّ منهم والفاجر ، يرزق من يشاء منهم كيف يشاء ، فيوسع على هذا ، ويضيق على هذا ، وهو العظيم القوة ، الباهر القدرة ، الذي يغلب كل شيء ، ولا يغلبه شيء ، فلا يعجزه شيء.

ونحو الآية في الإمداد بالأرزاق قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود ١١ / ٦] ، ونظائر أخرى كثيرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعده كل مؤمن مأمور بالدعوة إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصّاهم به ، وإلى القرآن المتضمن تلك الشرائع ، وهو مأمور أيضا بالاستقامة والثبات على تبليغ الرسالة والعمل بها ، ومنهي عن اتّباع الأهواء والحظوظ النفسية وعدم الاهتمام بخلاف من خالف.

وهو مأمور كذلك بالعدل في الأحكام كما أمر الله ، وبإعلان أن الله ربّ الناس جميعا ، لا ربّ المسلمين وحدهم ، ولا ربّ فئات أخرى وحدها ، وأن كل

٤٩

واحد مخصوص بعمل نفسه ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، فلنا ديننا ولكم دينكم ، ولا خصومة بيننا وبينكم ، لأن البراهين قد ظهرت ، والحجج قد قامت ، فلم يبق إلا العناد ، وبعد العناد لا حجّة ولا جدال.

والله سيجمع جميع الخلائق إليه يوم القيامة ، وإليه المرجع ، فهو يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ، ويجازي كلّا بما كان عليه.

٢ ـ إن المشركين واليهود والنصارى الذين يجادلون في دين الله ، بعد انتشاره في الآفاق أو المشارق والمغارب ، حجتهم باطلة زائفة لاثبات لها ، وعليهم غضب من الله في الدنيا ، ولهم عذاب شديد دائم في الآخرة.

٣ ـ إن الله تعالى هو منزّل القرآن وسائر الكتب المنزلة مقترنة بالحق والصدق ، ومنزل في كتبه العدل ، وسمي العدل ميزانا ، لأن الميزان ـ كما تقدم ـ آلة الإنصاف والعدل.

٤ ـ وردت في القرآن آيات كثيرة للترغيب والترهيب تدلّ على قرب يوم القيامة وتحقق وقوعها حتما لا محالة.

٥ ـ إن شاء الكفار دائما ومعهم الملاحدة والماديون والطبيعيون ينكرون وقوع القيامة استهزاء وكفرا وعنادا وتكذيبا بها ، ظنّا منهم أنها غير آتية ، أو إيهاما للضّعفة أنها لا تكون.

وعقيدة المؤمن : الإيمان الجازم بمجيء القيامة ، فهي الحقّ الذي لا شكّ فيه ، وهم دائما يعملون لها ويستعدون من أجلها ، خوفا من أهوالها ، وحساب الله الشديد فيها.

وإن الذين يشكون ويخاصمون في قيام الساعة لفي ضلال بعيد عن الحق

٥٠

والفكر الصحيح ، إذ لو تفكّروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب ، ثم من نطفة ، إلى أن صاروا رجالا ، قادر على أن يبعثهم.

٦ ـ إن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده ، ينعم عليهم جميعا ، ويرزق المؤمن والكافر ، والبرّ والفاجر كيف يشاء ، ويحرم من يشاء ، وهو البالغ القوة ، القاهر الذي لا يغلب.

حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين

وقبول التوبة

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

٥١

الإعراب :

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَ) بالكسر : على الابتداء ، ويقرأ بالفتح بالعطف على كلمة (الْفَصْلِ) وتقديره : ولو لا كلمة الفصل وأن الظالمين.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ ...) حال من الظالمين ، لأن (تَرَى) من رؤية العين ، لا من رؤية القلب.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) بحذف الباء والهاء ، أي : ذلك الذي يبشر الله به عباده ، ثم حذف الباء والهاء تخفيفا. و (ذلِكَ) بمبتدإ ، وخبره اسم موصول ، والعائد عليه محذوف ، أي يبشر الله به عباده كما ذكره.

(قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ ... الْمَوَدَّةَ) : منصوب على الاستثناء من غير الجنس.

(وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ... يَمْحُ) : ليس معطوفا على (يَخْتِمْ) المجزوم ، وإنما هو مستأنف مرفوع ، وإنما حذفت الواو منه ، كما حذفت في (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق ٩٦ / ١٨] و (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) [الإسراء ١٧ / ١١] وإن كان في موضع رفع ، لأن محو الله الباطل واجب ، وليس معلقا بشرط.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ) : منصوب على أنه مفعول به ، أي ويجيب الله الذين آمنوا ، أو على تقدير حذف حرف الجر ، أي ويستجيب للذين آمنوا ، فحذفت اللام ، فاتصل الفعل به. وقال أبو حيان : والظاهر أن (الَّذِينَ) فاعل يستجيب الذي هو بمعنى يجيب.

البلاغة :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) استعارة تمثيلية ، شبه العمل للآخرة بالزارع يزرع الزرع ليجني منه الثمرة. وبين الآخرة والدنيا طباق.

(وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) بينهما مقابلة.

المفردات اللغوية :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ) بعمله. (حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي ثوابها ، والأصل في الحرث : إلقاء البذر في الأرض ، وقد يطلق على الثمر ، شبه ثمرة العمل ونتيجته بثمرة المزروع ، وهذا يتضمن تشبيه الأعمال بالبذور. (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) نضاعف له الحسنة إلى عشر أمثالها وأكثر. (حَرْثَ

٥٢

الدُّنْيا) لذاتها وطيباتها. (نُؤْتِهِ مِنْها) بلا مضاعفة ما قسم له ، أي نعطه شيئا منها على ما قسمنا له. (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) من حظ.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي بل لكفار مكة وأمثالهم شركاء في الكفر ، وهم الشياطين ، وأم : أي بل ألهم شركاء؟ والهمزة للتقرير والتقريع ، فهو استفهام تقرير وتوبيخ. (شَرَعُوا لَهُمْ) شرع الشركاء بالتزيين للكفار. (مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي من النظام الفاسد كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فقط. (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء ليوم القيامة. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الكافرين والمؤمنين بتعذيب الأوائل في الدنيا. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

(تَرَى الظَّالِمِينَ) في يوم القيامة. (مُشْفِقِينَ) خائفين. (مِمَّا كَسَبُوا) في الدنيا من السيئات أن يجازوا عليها. (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي والجزاء واقع بهم يوم القيامة ، لا محالة. (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) في أطيب بقاعها وأنزهها. (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي إن ما يشتهونه ثابت عند ربهم. (ذلِكَ) جزاء المؤمنين. (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) هو الفضل الإلهي العظيم الذي يصغر أمامه أي فضل في الدنيا.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ ..) ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به ، فحذف الجارّ ، ثم العائد ، والبشارة : الإخبار بحصول ما يسرّ في المستقبل. (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لا أطلب على التبليغ أو البشارة نفعا منكم وخصصه العرف بالنفع المالي. (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) استثناء منقطع ، أي لكن أسألكم أن تودّوا قرابتي منكم ، فإن له في كل بطن من قريش قرابة ، أو لكن أسألكم المودّة حال كونها في القربى ، أي إلا المودة ثابتة في ذوي القربى أو في حق القرابة ، روي بسند ضعيف أنها لما نزلت قيل : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء؟ قال : علي وفاطمة وابناهما. فالقربى هنا : قرابة الرحم ، كأنه قال : اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) يكتسب طاعة ، سيما حب آل الرسول. (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) نضاعف له الثواب في الحسنة. (غَفُورٌ) للذنوب. (شَكُورٌ) كثير الشكر للقليل ولمن أطاع بإيفاء الثواب والتفضل عليه بالزيادة.

(أَمْ يَقُولُونَ) أي بل أيقولون. (افْتَرى) ادعى محمد النبوة أو القرآن. (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) يطبع عليه بالخاتم حتى تجترئ على الافتراء ، والمراد استبعاد الافتراء على مثله ، فإنما الذي يجترئ عليه ما كان مختوما على قلبه جاهلا بربه ، أو المراد : يربط عليه بالصبر ، فلا يشق عليك أذاهم بهذا القول وغيره. (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) يزيله ، وهو استئناف لنفي الافتراء عما يقوله النبي. (وَيُحِقُّ الْحَقَ) يثبته. (بِكَلِماتِهِ) هي حججه وبراهينه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بما في القلوب.

٥٣

(يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) يثيب عليها وهو تعريض لهم بالتوبة. (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) صغيرها وكبيرها لمن يشاء. (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فيجازي عن يقين وحكمة.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٣):

(قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ ..) قال قتادة : قال المشركون : لعلّ محمدا فيما يتعاطاه يطلب أجرا ، فنزلت هذه الآية ، ليحثهم على مودّته ومودّة أقربائه. قال الثعلبي : وهذا أشبه بالآية ، لأن السورة مكية.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى كونه لطيفا بعباده ، كثير الإحسان إليهم ، رغّب في فعل الخير ، والاحتراز عن القبائح بالعمل للآخرة ، وأوضح قانون العمل للآخرة والدنيا ، ثم أردفه ببيان سبب الضلالة عند المشركين ، واستحقاقهم العذاب العاجل على الشرك بالله وإنكار البعث ، لو لا تأخيره في الحكم الأزلي السابق إلى الآخرة ، وإخبارهم بوقوع عذاب الآخرة ، وحصول الثواب في رياض الجنة للمؤمنين.

ثم عظّم تعالى حال الثواب ، وأمر رسوله بأن يخبر قومه بأنه لا يطلب منهم على تبليغ الرسالة نفعا عاجلا ، وإنما يطلب منهم صلة الرحم والقرابة التي هي شأن قريش ، وهذا دليل النبوة. ثم رد عليهم قولهم بأن القرآن مفترى : بأنه لا يفتري الكذب على الله إلا من كان مختوما على قلبه ، فلو كان محمد مفتريا لكشف الله باطله. ثم رغبهم في التوبة ، ووعد تعالى بإجابة دعاء المؤمنين الصالحين ، وأوعد الكافرين بشديد العقاب.

٥٤

التفسير والبيان :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة ، نقويه ونغنيه ، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، إلى ما شاء الله.

(وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي ومن كان سعيه للحصول على شيء من شؤون الدنيا ، وطلب لذائذها وطيباتها ، وإهمال شؤون الآخرة ، نعطه ما قضت به مشيئتنا ، وقسمناه له في قضائنا ، ولكن ليس له في الآخرة حظ ، لأنه لم يعمل للآخرة ، فلا نصيب له فيها.

وهذه الآية بإطلاقها مقيدة بآية الإسراء : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ ، وَسَعى لَها سَعْيَها ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٨ ـ ١٩].

أخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه وغيرهما عن أبيّ بن كعب رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بشّر هذه الأمة بالسّناء والرفعة ، والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة من نصيب».

وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الآية ، ثم قال : يقول الله : ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ، ولم أسدّ فقرك».

ولما ذكر تعالى ما شرع للناس ، وهو (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية ، أخذ ينكر ما شرع غيره وهو سبب ضلال المشركين ، فقال :

٥٥

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي بل إن المشركين لهم أعوان من الشياطين شرعوا ما لم يشرعه الله ، فلم يتبعوا ما شرع الله لك يا محمد من الدين القويم ، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس ، كتحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار ونحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة التي اخترعوها في الجاهلية ، من التحليل والتحريم والعبادات والأموال. فالشركاء : هم شياطين الجن والإنس ، وضمير (شَرَعُوا) عائد على الشركاء ، وضمير (لَهُمْ) عائد على الكفار المعاصرين للرسول.

ثبت في الصحيح لدى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة يجرّ قصبه ـ أي أمعاءه ـ في النار» لأنه أول من سيب السوائب ، وسنّ للعرب عبادة الأصنام ، وكان أحد ملوك خزاعة ، لذا قال تعالى :

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ولو لا الحكم والقضاء السابق من الله تعالى بتأخير العذاب في هذه الأمة إلى يوم القيامة ، لقضي بين المؤمنين والمشركين ، وعجلت العقوبة في الدنيا لأئمة الشرك ، وإن للظالمين العذاب المؤلم الشديد الموجع في جهنم ، وبئس المصير.

وتأخير العذاب بموجب قوله تعالى : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر ٥٤ / ٤٦].

ثم ذكر تعالى أحوال الجزاء الأخروي لكل من الظالمين والمؤمنين ، فقال :

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا ، وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي ترى رأي العين أو تبصر الكفار (لمقابلته بالمؤمنين) خائفين وجلين يوم القيامة مما عملوا من

٥٦

السيئات في الدنيا ، وجزاء ما كسبوا واقع بهم نازل عليهم لا محالة ، سواء خافوا أو لم يخافوا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي والذين صدقوا بالله ورسوله ، وأطاعوا ربهم فيما أمر به ونهى عنه ، هم في رياضى الجنة وأطيبها وأنزهها ، ولهم ما يشتهون عند ربهم من أصناف النعم وأنواع الملذات ، ذلك الجزاء الممنوح لهم الذي لا يوصف ولا تعرف حقيقته هو الفضل الذي يفوق كل فضل في الدنيا ، وهو النعمة التامة الشاملة. وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) العندية عندية المكانة والتشريف ، لا عندية المكان.

ثم أخبر تعالى عن حتمية وقوع هذا الجزاء ، فقال :

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي إن هذا الجزاء في روضات الجنات والنعيم الشامل حاصل لهم ، كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به ، وتلك البشارة لهؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه. فقوله (ذلِكَ) إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة.

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يظهر ترفعه وسموه عن أعراض الدنيا ومنافعها ، فقال:

(قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي قل أيها الرسول لقومك : لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا مكافأة ولا نفعا ماديا ، ولكن أطلب تقدير صلة الرحم والقرابة التي بيني وبينكم ، وإكرام آل بيتي وقرابتي ، فتكفّوا شركم عني ، وتذروني أبلّغ رسالات ربي. فقوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ) استثناء منقطع ، لأن المودة ليست أجرا.

٥٧

أخرج أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم» والحق العمل في هذا برواية البخاري «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة».

وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا إلا أن توادوا الله تعالى ، وأن تقرّبوا إليه بطاعته». وهذا قول للحسن البصري ، وهو تفسير ثان للمودة في القربى ، أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. والظاهر لدى جماعة هو التفسير الأول ، وأن مودة قرابته داخلة في الآية ، والتقدير : إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها ، قال أبو حيان : وهو حسن ، وفيه تكثير.

قال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعته ، فقال : «صلوني كما كنتم تفعلون».

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته بغدير خم : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض» وفسرت العترة في رواية الترمذي عن جابر فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عترتي أهل بيتي».

ثم رغّبهم الله تعالى في الإحسان والإيمان ، فقال :

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ، نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي ومن يعمل حسنة ، نزد له فيها حسنا ، أي أجرا وثوابا ، إن الله يغفر الكثير من السيئات ، ويكثّر القليل من الحسنات ، ويضاعف ويشكر المحسن. ونحو الآية قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء ٤ / ٤٠].

ثم وبخهم على افترائهم على الرسول ، فقال :

٥٨

(أَمْ يَقُولُونَ : افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي بل أيقولون : افترى محمد على الله كذبا بدعوى النبوة ونزول القرآن عليه ، وهذا أقبح من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم ، أي أنه تعالى أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال ، ثم استفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة ، فمثله لا ينسب إليه الكذب على الله ، مع اعترافكم له قبل ذلك بالصدق والأمانة.

ثم أكد ذلك فرد الله عليهم مستبعدا الافتراء من مثل محمد الرسول ، فقال :

(فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ، وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لو افتريت على الله كذبا ، لطبع على قلبك إن شاء ، وسلبك ما آتاك من القرآن ، فلا يجرأ على مثل هذا إلا من كان مثلهم قد ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم ، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا يجرأ على ذلك ، وهذا هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لم يفتر على الله كذبا ، فأيده الله.

وهذا كقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة ٦٩ / ٤٤ ـ ٤٧].

وقال أبو السعود : والآية استشهاد على بطلان ما قالوا ببيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعا ، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه ، ولم ينطق بحرف من حروفه (١).

ثم أكد الله تعالى ذلك بإبطال الباطل وإحقاق الحق ، فالله سبحانه وتعالى لا يدع الباطل يستمر ، فلو كان ما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطلا لمحاه ، كما جرت به عادته في المفترين ، وإنما يثبّت الحق ، أي الإسلام ، فيبينه بما أنزل من القرآن ،

__________________

(١) تفسير أبي السعود : ٥ / ٣٤.

٥٩

وبما أيّد به نبيه من المعجزات والحجج والبراهين ، إنه تعالى واسع العلم بما في قلوب العباد.

ثم فتح تعالى أمامهم باب الأمل والتوبة ، فقال :

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي إن الله عزوجل يقبل في المستقبل من عباده المذنبين توبتهم عما عملوا من المعاصي ، ويعفو عن السيئات في الماضي ، ويعلم الذي تفعلونه من خير أو شر ، فيجازي كلا بما يستحق من الثواب والعقاب.

ونحو الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ، يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء ٤ / ١١٠] وثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة ، فاضطجع في ظلها ، قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك ، إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ـ أخطأ من شدة الفرح».

وأكد قبول التوبة بقبول الدعاء ، فقال تعالى :

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ويستجيب الله للذين آمنوا ، وأطاعوا ربهم ، ويعطيهم ما طلبوه منه ، ويزيدهم على ما طلبوه منه ، أو على ما يستحقونه من الثواب ، تفضلا منه ونعمة.

أو يجيب الله الذين آمنوا إذا دعوه ، أو يجيب الذين آمنوا لربهم ، مثل (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال ٨ / ٢٤] فيكون المراد بقوله :

٦٠