التفسير المنير - ج ٢٥

الدكتور وهبة الزحيلي

من مصنوعات الله تعالى وصفاته

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

الإعراب :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) اللام : لام القسم و (لَيَقُولُنَ) حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين.

(ما تَرْكَبُونَ) حذف العائد اختصارا ، أي تركبونه ، وإنما قال (تَرْكَبُونَ) مع أنه يقال : ركبوا الأنعام ، وركبوا في الفلك ، لأنه غلب المتعدي بغير واسطة ، لقوّته على المتعدي بواسطة ، فقيل : تركبونه.

(عَلى ظُهُورِهِ) جمع الظهر مراعاة لمعنى (ما) وذكّر الضمير نظرا للفظ (ما).

البلاغة :

(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) تشبيه بليغ ، أي كالمهد وهو الفراش ، حذفت منه الأداة ووجه الشبه.

(فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) استعارة تبعية ، شبّه الأرض قبل نزول المطر بالميت ، ثم أنشرها الله ، أي أحياها بالمطر.

(كَذلِكَ تُخْرَجُونَ تَرْكَبُونَ لَمُنْقَلِبُونَ) سجع غير متكلف.

١٢١

المفردات اللغوية :

(خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) هذا مقول المشركين ، أي خلقهن ذو العزة والعلم (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) استئناف من الله تعالى ، المهد : الفراش ، كالمهد للصبي ، فتستقرون فيها (سُبُلاً) : طرقا ، جمع سبيل ، أي طريق (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكي تهتدوا إلى مقاصدكم أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.

(بِقَدَرٍ) بمقدار أو تقدير ينفع ولا يضر ، بحسب الحاجة ، ولم يجعله طوفانا (فَأَنْشَرْنا) أحيينا (بَلْدَةً مَيْتاً) خالية من النبات ، وتذكير كلمة «ميت» لأن البلدة بمعنى البلد والمكان (كَذلِكَ) مثل ذلك الإنشار (الإحياء) (تُخْرَجُونَ) من قبوركم أحياء.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أصناف المخلوقات (الْفُلْكِ) السفن (وَالْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) لتستقروا على ظهور ما تركبون (سَخَّرَ) ذلل (مُقْرِنِينَ) مطيقين ، مأخوذ من أقرن الشيء : إذا أطاقه ، وأصله : وجده قرينه (لَمُنْقَلِبُونَ) راجعون ، فالنقلة العظمى هي الانقلاب إلى الله تعالى ، لتجازى كل نفس بما كسبت.

المناسبة :

هذه الآيات تذكير للمشركين المسرفين في أعمالهم وإعراضهم عن القرآن بأنهم يقرون بوجود الخالق ، وتذكير لهم أيضا بنعم الله ومصنوعاته وصفاته التي عدّد منها هنا ثماني صفات ، ثم أردفها بتعليم عباده ذكر الله في قلوبهم وعلى ألسنتهم ، فعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) ـ إلى قوله ـ (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ).

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات كما أشرت ثماني صفات له وهي :

١ ـ ٣ : كونه خالقا للسموات والأرض ، العزيز ، العليم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ : خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي تالله لئن سألت

١٢٢

أيها النبي هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره من قومك : من الذي خلق السموات والأرض؟ لأجابوا واعترفوا بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له ، وهو العزيز ، أي الغالب القوي ، إشارة إلى كمال القدرة ، العليم ، أي الواسع العلم ، إشارة إلى كمال العلم.

وكمال القدرة والعلم دليل على أن الموصوف به قادر على خلق جميع الممكنات. ومع هذا فهم يعبدون مع الله إلها آخر من الأصنام والأنداد.

٤ ـ الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي إنه تعالى الذي جعل لكم الأرض ممهدة كالفراش والبساط ، صالحة للإقامة والاستقرار عليها ، فمع أنها تدور وتتحرك ، فهي ثابتة أرساها الله بالجبال ، لئلا تميد وتضطرب.

٥ ـ وخلق فيها الطرق : (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي وأوجد فيها الطرق والمسالك بين الجبال والأودية ، لتهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم ، وتنتقلوا إلى أرجاء البلاد ، للمتاجرة وطلب الرزق والسياحة وغير ذلك.

٦ ـ منزل الغيث النافع وباعث الناس : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ، فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي والله هو الذي أنزل المطر من السماء بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة للزروع والثمار والشرب ، ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم ، لئلا يحدث الطوفان والغرق وهدم المنازل وتلف المزارع ، ولا دون الحاجة ، حتى لا يكفي النبات والزرع والناس.

فأحيينا بذلك الماء البلاد الميتة المقفرة التي لا نبات فيها ، فلما جاءها الماء ، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. وكما أحيينا الأرض بعد موتها نحيي الأجساد يوم المعاد بعد موتها ، وتبعثون من قبوركم أحياء.

١٢٣

ونحو الآية قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، كَذلِكَ النُّشُورُ) [فاطر ٣٥ / ٩].

وظاهر الآية هنا يقتضي أن الماء ينزل من السماء ، والواقع أنه ينزل من السحاب ، وسمي نازلا من السماء ، لأن كل ما سماك أو علاك فهو سماء. وقوله : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) كما يدل على قدرة الله وحكمته ، فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة ، ووجه التشبيه أنه يجعلهم أحياء بعد الإماتة ، كهذه الأرض التي أحييت بالنبات الأخضر والثمر اليانع بعد ما كانت ميتة.

٧ ـ كونه خالقا أصناف الأشياء : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي والله هو الذي خلق الأصناف كلها من نبات وزرع وشجر وثمر ، وإنسان وحيوان وغير ذلك مما نعلمه وما لا نعلمه.

٨ ـ خالق وسيلة الركوب من الفلك والأنعام : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي والله الذي خلق لكم بالإلهام والتعليم وسيلة الركوب في البحر وهي السفن ، وأوجد واسطة الركوب في البر من الأنعام وهي الإبل ، إذ المعهود أنه لا يركب من الأنعام إلا هي ، والله هو الذي ذلّلها لكم وسخّرها ويسّرها لركوب ظهورها ، وكذا لأكل لحومها وشرب ألبانها والانتفاع بأوبارها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة : «بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له : لم أخلق لهذا ، إنما خلقت للحرث ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر» (١).

ولا تقتصر وسائل الركوب على السفن والإبل ، فهناك آية أخرى تشمل الدواب والسيارات والقطارات والطائرات ونحوها من وسائل المواصلات الحديثة ، وهي قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٨].

__________________

(١) ولم يكونا حاضرين حينئذ.

١٢٤

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، وَتَقُولُوا : سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي لتستقروا ولتستعلوا متمكنين مرتفقين على ظهور هذا الجنس من المخلوقات وهو ما تركبونه من الفلك والأنعام ، ثم تذكروا مع التعظيم في قلوبكم وألسنتكم نعمة الله التي أنعم بها عليكم من تسخير المراكب في البحر والبر ، فتعرفوا أن الله تعالى خلق وجه البحر صالحا للأبحار والرياح قوة دافعة ، وعلّم الإنسان كيفية صنع السفينة على نحو يتمكن فيها من الأبحار عليها إلى أي مكان شاء وأراد.

وتقولوا إذا استويتم وركبتم على المركوب. (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي تنزيها لله ، عن كل عجز ونقص لا يليق ، الذي ذلل لنا هذا المركب ، وما كنا مطيقين لتسخيره لو لا أن سخره الله لنا.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي وإنا لصائرون راجعون إليه بعد مماتنا ، فيجازي كل نفس بما عملت من خير أو شر. ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك والأنعام عرضة لخطر الهلاك ، فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت وأن يعتقد أنه هالك لا محالة ، وأنه راجع إلى الله تعالى.

أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا ركب راحلته ، كبّر ثلاثا ، ثم قال : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ثم يقول : اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هوّن علينا السفر ، واطو لنا البعيد ، اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا ، وأخلفنا في أهلنا». وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رجع إلى أهله قال : «آيبون تائبون إن شاء الله عابدون ، لربنا حامدون».

١٢٥

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يلي :

١ ـ إذا سئل المشركون عمن خلق السموات والأرض لأجابوا بأن الخالق هو الله القوي الغالب الكامل العلم ، فأقروا له بالخلق والإيجاد ، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم.

٢ ـ الله تعالى كامل القدرة فهو سبحانه الذي مهد لنا الأرض وجعلها صالحة للعيش

عليها بسلام واستقرار ، وأوجد فيها المعايش والطرق لنسلكها إلى حيث أردنا ، ولنهتدي بها في الأسفار ، ونستدل بمقدوراته على قدرته.

٣ ـ الله تعالى لطيف بعباده رحيم بهم ، فهو جل وعز ينزل المطر النافع بقدر الحاجة ومقتضى الحكمة ، فلا يجعله طوفانا مغرقا ، ولا قليلا قاصرا عن الحاجة ، حتى يكون معاشا صالحا للأنفس والأنعام ، فينبت به الزرع والشجر ، ويخرج به الغلال والثمار.

ومن قدر على إحياء الأرض بعد جدبها ، قدر على بعث المخلوقات من القبور.

٤ ـ الله تعالى جميل يحب الجمال ، فهو الذي نوّع الأشياء كلها ، وأوجد فيها الأصناف المختلفة ، وأبدع مباهج الحياة ، وجعل فيها الحيوية والحركة بالانتقال في أرجاء الأرض بوسائط الركوب المتنوعة برا وبحرا وجوا.

٥ ـ قال القرطبي : علّمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب ، وعرّفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه‌السلام ما نقول إذا ركبنا السفن ، وهي قوله تعالى : (وَقالَ : ارْكَبُوا فِيها ، بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ

١٢٦

رَحِيمٌ) [هود ١١ / ٤١] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت (١) أو طاح من ظهرها فهلك ، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا (٢) ..

والخلاصة : هناك أذكار ثلاثة ما ينبغي لعبد أن يدع قولها ، وليس بواجب ذكرها في اللسان ، وهي دعاء السفر في البحر : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ودعاء السفر في البر : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ..) ودعاء دخول المنازل : (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)(٣).

عبادة المشركين الملائكة

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ

__________________

(١) تقحم الفرس براكبه : ألقاه على وجهه.

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ٦٧.

(٣) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٩٨ وما بعدها.

١٢٧

فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

الإعراب :

(مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي من رجال عباده ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ وَجْهُهُ) : إما اسم (ظَلَ) أو بدل من ضمير مقدر فيها مرفوع ، لأنه اسمها. و (مُسْوَدًّا) : خبرها ، (وَهُوَ كَظِيمٌ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال.

(أَمِ اتَّخَذَ .. أَمِ) : بمعنى بل والهمزة ، وتقديره : بل أأتخذ مما يخلق بنات ، ولا يجوز أن يكون بمعنى «بل» بغير همزة ، لأنه يؤدي التقدير إلى الكفر ، وهو : بل اتخذ بنات.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ) : إما في موضع نصب بتقدير فعل ، أي أجعلتم من ينشأ ، أو في موضع رفع ، لأنه مبتدأ ، وخبره محذوف أي كائن ، وهو قول الفراء.

البلاغة :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) تأكيد بإن واللام وصيغة المبالغة على وزن فعول وفعيل.

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أسلوب تهكمي يراد به التوبيخ ، والتقريع ، وبين لفظ «البنات» و «البنين» طباق.

المفردات اللغوية :

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي جعل المشركون بعد ذلك الاعتراف بأن الله هو الخالق ، من عباده ولدا ، حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، باعتبار أن الولد جزء من أبيه ، والملائكة من عباد الله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ) قائل ما تقدم (لَكَفُورٌ مُبِينٌ) بالغ الكفر وظاهر الكفر.

١٢٨

(أَمِ اتَّخَذَ) بل أأتخذ ، والهمزة ، في (أَمِ) همزة الإنكار والتعجب ، أو القول مقدر أي أتقولون : اتخذ (وَأَصْفاكُمْ) خصكم واختاركم ، وهذا لازم من قولكم السابق (ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي جعل له شبها بنسبة البنات إليه ، لأن الولد يشبه الوالد (ظَلَ) صار (مُسْوَدًّا) متغيرا لما يعتريه من الكآبة ، وقرئ : مسود ومسواد ، على أن في (ظَلَ) ضمير المبشر ، و (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) : جملة واقعة موقع الخبر (كَظِيمٌ) ممتلئ غما وغيظا.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) أي أو يجعلون لله من يتربى في الزينة؟ والهمزة همزة الإنكار ، وواو العطف يعطف جملة : يجعلون لله .. إلخ (الْخِصامِ) الجدل والنقاش (غَيْرُ مُبِينٍ) غير مظهر الحجة لضعفه عنها وعجزه عن الجدل بالأنوثة. وفيه دلالة على فساد ما قالوه.

(أَشَهِدُوا) أحضروا خلق الله إياهم ، فشاهدوهم إناثا؟ (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) بأنهم إناث (وَيُسْئَلُونَ) عنها في الآخرة ، فيعاقبون على شهادة الزور ، وهو وعيد (وَقالُوا : لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) ما عبدنا الملائكة ، فعبادتنا إياهم بمشيئته ، فهو راض بها ، أي إنهم استدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها ، وذلك باطل ، لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض ، مأمورا كان أو منهيا ، حسنا كان أو غيره ، ولذلك حكم عليهم بالجهل بقوله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لمقولهم من الرضا بعبادتهم أدنى علم بمراد الله (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا يكذبون فيه ويحدسون ، فيعاقبون عليه.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي هل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن ينطق بصحة ما قالوه ، ويقرر عبادة غير الله؟ (مُسْتَمْسِكُونَ) متمسكون بذلك الكتاب ، والمعنى : لم يقع ذلك.

(مُتْرَفُوها) منعموها وأهل الترف فيها (عَلى أُمَّةٍ) ملة أو طريقة ومذهب (مُقْتَدُونَ) متبعون ، قال البيضاوي : هذه الآية تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى ..)؟ أي قال لهم النذير نبيهم : أتتبعون ذلك ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ وهذا حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير (قالُوا : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قال الأقوام للنذير : إنا كافرون بما أرسلت به أنت ومن قبلك. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) قال الله : فانتقمنا من المكذبين للرسل قبلك (عاقِبَةُ) مصير ونهاية ، فلا تكترث بتكذيبهم.

بسبب النزول :

نزول الآية (١٩):

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ ..) : أخرج ابن المنذر عن قتادة قال : قال ناس من

١٢٩

المنافقين : إن الله صاهر الجن ، فخرجت من بينهم الملائكة ، فنزل فيهم : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ..).

نزول الآية (٢٢):

(بَلْ قالُوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا ...) حكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش ، أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا ، يعزّي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المناسبة :

بعد بيان اعتراف المشركين بأن الله خالق السموات والأرض ، ذكر الله تعالى ما يناقض ذلك وهو ادعاؤهم أن الملائكة بنات الله ، فلم يقتصروا أن جعلوا لله ولدا ، وإنما جعلوه من الإناث ومن الملائكة ، فرد تعالى عليهم بأجوبة ثلاثة : نفرتهم من الإناث ، وضعف الإناث ، وجهلهم بحقيقة الملائكة.

ثم ذكر تعالى شبهة أخرى للمشركين : وهي أن عبادة الملائكة بمشيئة الله ، ورد عليهم بأن المشيئة ترجيح بعض الأشياء على بعض ، ولا دلالة فيها على الرضا والغضب أو الحسن والقبح ، فهم جهلة كاذبون ، وليس لهم دليل نقلي صحيح يعتمدون عليه إلا محض التقليد للآباء والأجداد ، دون برهان معقول ، وشأنهم في الكفر شأن من سبقهم من الأمم التي كذبت الرسل. فانتقم الله منهم وأهلكهم.

التفسير والبيان :

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي إن المشركين بالرغم من اعترافهم بألوهية الله وكونه خالق السموات والأرض ، أثبتوا له ولدا ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، باعتبار أن الولد جزء من أبيه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والحاكم عن المسور : «فاطمة بضعة مني» إن الإنسان جحود نعم ربه جحودا

١٣٠

بيّنا ، يقابل وضوح النعمة ، فيكون الجحود من أبين الكذب. والآية متصلة بقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ..).

وهذا من جهلهم بالله وصفاته ، واستخفافهم بالملائكة حيث نسبوا إليهم الأنوثة ، ونسبوهم إلى الله نسبة تقتضي نسبة الأضعف من نوعي الإنسان ، فالله ليس كمثله شيء ، فلا يشبهه أحد من خلقه ، ونسبة الولد له تقتضي جعله مشابها للحوادث ، فلا يصلح إلها ، ولأن هذا الادعاء للجزء يجعل الله مركبا من أجزاء فهو حادث.

ثم أنكر تعالى عليهم أشد الإنكار ، فقال :

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ)؟ أي وإذا نسبتم الولد إلى الله ، : لزم منه أن الله اتخذ ولدا له من أضعف الجنسين ، واختار لكم الأفضل ، وهذا يعني أنه جعل لنفسه المفضول من الصنفين ، ولكن الفاضل منهما ، فكيف يصح هذا مع أنه تعالى هو الخالق؟ وهذا كقوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم ٥٣ / ٢١ ـ ٢٢] أي جائرة.

ومعنى قوله : (أَمِ اتَّخَذَ ...) بل أأتخذ؟ الهمزة للإنكار تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم حيث جعلوا ذلك الجزء أضعف الجزأين ، وهو الإناث دون الذكور.

ثم ذكر الله تعالى تتمة الإنكار والتوبيخ والتعجيب ، فقال :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) أي وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين بما جعل لله مشابها ، وهو الأنثى ، أنف من ذلك واغتم ، وعلته الكآبة من سوء ما بشّر به ، فصار وجهه متغيرا ، وأضحى ممتلئا غيظا ، شديد الحزن ، كثير الكرب ، فكيف تأنفون أنتم من البنت ، وتنسبونها إلى الله عزوجل؟!.

١٣١

وللآية شبيه تام هي قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ...) الآية [النحل ١٦ / ٥٨ ـ ٥٩].

ثم أكد الله تعالى الإنكار ، فقال :

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ ، وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي أو يجعل للرحمن من الولد من صفته أنه يتربى في الزينة والنعمة ، وإذا احتاج إلى مخاصمة غيره لا يقدر على الجدال وإقامة الحجة؟ فلا بيان عنده ، ولا يأتي ببرهان يدفع ما يجادل به خصمه ، لنقصان عقله وضعف رأيه.

والآية دليل على رقة المرأة وغلبة عاطفتها عليها ، وميلها إلى التزين والنعومة ، وعلى أن التحلي بالذهب والحرير مباح للنساء ، وأنه حرام على الرجال ، لأنه تعالى جعل ذلك عنوانا على الضعف والنقصان ، وإنما زينة الرجل : الصبر على طاعة الله ، والتزين بزينة التقوى ، كما قال الرازي.

ومن مفتريات المشركين عدا ما ذكر من نسبة الإناث إلى الله : زعمهم أن الملائكة إناث ، كما قال تعالى :

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي حكموا بأن الملائكة إناث ، وهذا مترتب على قولهم السابق : الملائكة بنات الله.

فأنكر الله عليهم ورد مقالهم بقوله :

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)؟ (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ، وَيُسْئَلُونَ) أي هل حضروا وشاهدوا خلق الله إياهم حتى يشهدوا بأنهم إناث ، كما قال تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً ، وَهُمْ شاهِدُونَ)؟ [الصافات ٣٧ / ١٥٠] ستكتب شهادتهم بذلك في ديوان أعمالهم ، لنجازيهم على ذلك ، ويسألون عنها يوم القيامة ، فهي شهادة

١٣٢

زور. وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد بالعذاب ، ودليل على أن الادعاء من غير برهان وإثبات جريمة.

واستدلّ بهذه الآية : (هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ) من قال بتفضيل الملائكة على البشر.

ثم أورد الله تعالى شبهة أخرى للمشركين ، ولونا آخر من ألوان افتراءاتهم ، فقال :

(وَقالُوا : لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي قال الكفار : لو أراد الله ما عبدنا هذه الملائكة ، فإنه قادر على أن يحول بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله ، ويريدون بذلك القول أن الله راض عن عبادتهم للأصنام. وهو احتجاج بالقدر ، وكلمة حق يراد بها باطل ، لأن المشيئة لا تستلزم الأمر ، إذ هي ترجيح بعض الممكنات على بعض بحسب علمه ، والله يأمر بالخير والإيمان ، ونحن لا نعلم مشيئته أو إرادته إلا بعد وقوع الفعل منا.

وقد جمعوا في هذا القول بين أنواع كثيرة من الخطأ والكفر كما ذكر ابن كثير :

١ ـ جعلهم لله تعالى ولدا ، تقدّس وتنزّه عن ذلك.

٢ ـ دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين ، إذ زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى.

٣ ـ عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عزوجل ، بل بمجرد الأهواء وتقليد الأسلاف ، وتخبّط الجاهلية.

٤ ـ احتجاجهم بتقدير الله ذلك ، وتقديرهم على طريقتهم قدرا ، وهذا جهل شديد ، فإن الله منذ أن بعث الرّسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده

١٣٣

لا شريك له ، وينهى عن عبادة سواه (١) ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النّحل ١٦ / ٣٦] ، وقال عزوجل : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزّخرف ٤٣ / ٤٥].

ونحو الآية : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا). [الأنعام ٦ / ١٤٨] ، (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس ٣٦ / ٤٧].

فردّ الله تعالى عليهم بقوله :

(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ليس لهم أي علم أو دليل بصحة ما قالوه واحتجّوا به ، وما هم إلّا يكذبون فيما قالوا ، ويتقولون ، فإن الله يأمر بالحق والإيمان والخير ، ولا يرضى لعباده الكفر والفحشاء. والآية دليل على جهلهم الفاضح ، وكذبهم وافترائهم الباطل.

ثم أبطل الله تعالى قولهم بالدليل النقلي قائلا :

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بما يدّعون ، مكتوبا فيه : اعبدوا غير الله؟ فهم يتمسكون بذلك الكتاب ، ويحتجون به ، أي ليس الأمر كذلك ، كقوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم ٣٠ / ٣٥] أي لم يكن ذلك أصلا.

ثم ذكر الله تعالى : أنه لا حجّة لهم إلا التّقليد ، فقال :

(بَلْ قالُوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) بل إنهم

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٢٥.

١٣٤

قالوا : لقد وجدنا آباءنا على طريقة ساروا عليها في عبادتهم الأصنام ، وإنا سائرون على منهجهم مهتدون بهديهم. وهذا اعتراف صريح منهم بأنه ليس لهم مستند ولا حجّة عقلية ولا نقلية على الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد واتّباعهم في الضّلالة. وقولهم : (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ) ـ أي وراءهم ـ (مُهْتَدُونَ) مجرد دعوى منهم بلا دليل.

ثم أبان الله تعالى تشابه الأمم في الكفر والتّقليد والمقالة ، فقال :

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي إن مقال هؤلاء قد سبقهم إليه أشباههم من الأمم السالفة المكذّبة للرّسل ، فمثل تلك المقالة قال المترفون المنعّمون ـ وهم الرؤساء والزّعماء والجبابرة ـ من كل أمّة لرسولهم المرسل إليهم للإنذار من عذاب الله : إنّا وجدنا آباءنا على ملّة ودين ، وإنّا على طريقتهم سائرون متبعون.

وخصص المترفين تنبيها على أن التّنعم هو سبب المعارضة وإهمال النّظر وترك التفكّر في مضمون الرّسالة الإلهية.

ونحو الآية قوله تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذّاريات ٥١ / ٥٢ ـ ٥٣].

وإنما قال أولا : (مُهْتَدُونَ) لادعاء الهداية كآبائهم ، ثم قال ثانيا : (مُقْتَدُونَ) حكاية عن قوم تابعوا آباءهم في فعلهم ، دون ادّعاء الهداية ، والمعنى تقريبا واحدا.

وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتنبيه على أنّ التّقليد في الاعتقاد والعبادة ضلال قديم.

١٣٥

ثم ذكر تعالى جواب الرّسل لأقوامهم عن التّقليد ، قائلا :

(قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي قال لهم رسولهم : أتتبعون آباءكم ، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟!

فأجابوه معلنين كفرهم صراحة ، في قوله تعالى :

(قالُوا : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا : لا نعمل برسالتك ، ولا سمع لك ولا طاعة ، وإنا كافرون جاحدون بما أرسلتم به ، ومستمرون ثابتون على دين الآباء والأسلاف. والمراد أنهم لو علموا وتيقّنوا صحة ما جئتهم به أيها الرّسول ، لما انقادوا لذلك ، لسوء قصدهم ، ومكابرتهم للحقّ وأهله. وقوله : (بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) يعني بكل ما أرسل به الرّسل ، فالخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولفظه لفظ الجمع ، لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه.

وما بعد الإصرار على الكسر إلا النّقمة والإهلاك ، فقال تعالى :

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فانتقمنا من الأمم المكذّبة للرّسل بأنواع من العذاب ، كعذاب قوم نوح وعاد وثمود ، فانظر أيها المخاطب كيف كان مصير أمر المكذبين من تلك الأمم كيف بادوا وهلكوا ، وإن آثارهم موجودة ، وعبرة للنّاظر المعتبر. وهذا وعيد وتهديد لأهل مكة ، وسلوة للرّسول ، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بشأن قومه من رسالته.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي :

١ ـ للمشركين افتراءات كثيرة ، منها هنا : نسبة البنات إلى الله تعالى ، فقالوا : الملائكة بنات الله ، فجعلوهم جزءا له وبعضا ، كما يكون الولد بضعة من والده وجزء له. وقد عجّب الله المؤمنين من جهلهم ، إذ أقرّوا بأن خالق السموات

١٣٦

والأرض هو الله ، ثم جعلوا له شريكا أو ولدا ، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به ، لأن هذا من صفات النّقص ، كما أبان القرطبي.

ومن افتراءاتهم المذكورة في سورة أخرى : جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم (الأوثان) وبعضها لله تعالى ، كما حكى تعالى عنهم قائلا : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ، فَقالُوا : هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ، وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ ، فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الأنعام ٦ / ١٣٦].

٢ ـ ومن افتراءاتهم أنهم جعلوا له من الأولاد الأقل والأضعف وهو البنات.

٣ ـ وبّخهم الله تعالى على افتراءهم ذاكرا أنه كيف يتّخذ البنات ـ كما زعموا أن الملائكة بنات الله ـ واختصّهم وأخلصهم بالبنين؟!

٤ ـ لم يعقل المشركون ما افتروه على الله في نسبتهم البنات له ، فإنهم لا يرضونه لأنفسهم ، فإنه إذا بشّر الواحد منهم بولادة بنت له ، اسودّ وجهه غمّا وكدرا ، وأنف من نسبة البنت له ، وأضحى حزينا مكروبا ، فكيف ينسب إلى الله ما هو نافر منه؟!

ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله ، فقد جعل الملائكة شبها لله ، لأن الولد من جنس الوالد وشبهه ، ومن اسودّ وجهه مما ينسب إليه مما لا يرضى ، أولى من أن يسودّ وجهه بنسبة ذلك إلى من هو أجلّ منه ، فكيف إلى الله عزوجل؟!

٥ ـ وكيف يصح أن يجعل الله له من لا همّ له إلا الحلي والزّينة ، وإذا خوصم لا يقدر على الدّفاع عن نفسه؟

١٣٧

وفي هذه الآية دلالة ـ كما تقدّم ـ على إباحة الحلي للنّساء ، وتحريمه على الرجال ، وهو حكم مجمع عليه ثابت بأخبار كثيرة.

٦ ـ أوضح الله تعالى كذب المشركين وجهلهم في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه ، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث ، وهم بنات الله ، وحكمهم من غير دليل بأنهم إناث ، فكيف تجرؤوا حتى حكموا بأنهم إناث ، ولم يحضروا حالة خلقهم؟!

إن شهادتهم الباطلة هذه مكتوبة عليهم في ديوان أعمالهم ، ويسألون عنها في الآخرة.

٧ ـ ومن شبه المشركين المفتراة احتجاجهم بالقدر الإلهي ، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية : لو شاء الرّحمن على زعمكم أيها المؤمنون ما عبدنا هذه الملائكة ، والله أمرنا بهذا أو رضي لنا ذلك ، ولهذا لم يعاجلنا بالعقوبة. وهذه كلمة حقّ أريد بها باطل ، فإن كل شيء بإرادة الله ، وعلمه نافذ لا محالة ، لكن الإرادة أو المشيئة لا تقتضي الأمر والرّضا وليس الأمر والإرادة متطابقين ، ولا نعلم مراد الله ، فكان علينا العمل بأمره ونهيه ، وليس لقولهم : الملائكة بنات الله أي دليل علمي ، وما هم إلّا يحدسون ويكذبون ، فلا عذر لهم في عبادة غير الله عزوجل. وقوله : (هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ) يفيد حصر العبودية في الملائكة ، وذلك يدلّ على الفضل والشّرف ، مما يوجب كونهم أفضل من غيرهم.

٨ ـ كذلك ليس لهم دليل نقلي على زعمهم ، ولا كتاب لديهم بما ادّعوه قبل هذا القرآن.

٩ ـ لا دليل للمشركين على شركهم إلا التّقليد الأعمى لآبائهم وأسلافهم ، وهم لما عجزوا عن الدّليل لم يجدوا بدّا من الاعتماد على تقليد الآباء ، قائلين بأنهم وحدوهم على تلك الملّة أو الطّريقة والمذهب ، فقلّدوهم واهتدوا بهديهم.

١٣٨

وهذا دليل على إبطال التّقليد في العقائد والأصول ، لأن الله ذمّهم على تقليد آبائهم ، وتركهم النّظر فيما دعاهم إليه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٠ ـ إن مقالتهم تلك تشبه مقالة من سبقهم من الأمم المكذبة لرسلها ، فإنّ أهل التّرف والرؤساء فيهم اقتدوا بالآباء والأجداد دون دليل.

١١ ـ إنهم مصرّون على الشرك والتّقليد الأعمى ، حتى ولو جاءهم رسول الله من عند الله بأهدى وأرشد من ذلك الدّين الباطل.

١٢ ـ إن المنتظر أمام هذا الإصرار على الكفر ما ذكره تعالى وهو الانتقام الشديد من الكافرين ، وتدميرهم وإهلاكهم ، وآثارهم ظاهرة للعيان ، عبرة للمعتبر ، فيا أهل مكة وأمثالكم انظروا في مصيركم المرتقب.

الرّد على تقليد الآباء ، واختيار الأنبياء وبيان حال الدنيا

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا

١٣٩

يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

الإعراب :

(مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي من إحدى القريتين ، فحذف المضاف ، وأراد ب (الْقَرْيَتَيْنِ) : مكة والطائف.

(لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً لِبُيُوتِهِمْ) : بدل من (لِمَنْ) بإعادة الجار ، بدل الاشتمال ، وقرئ «سقفا» و «سقفا» فسقف : جمع سقف ، نحو رهن ورهن. وسقف : واحد ناب مناب الجمع.

(وَزُخْرُفاً) إما منصوب بفعل مقدر ، أي وجعلنا لهم زخرفا ، أو معطوف على موضع قوله تعالى : (مِنْ فِضَّةٍ). (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ إِنْ) : مخففة من الثقيلة ، واسمها : إما (كُلُ) إلا أنه لما خففت نقصت عن شبه الفعل ، فلم تعمل وارتفع ما بعدها بالابتداء على الأصل ، وإما بتقدير الهاء أي إنه كل ذلك ، فحذف اسمها وهو الهاء وخففت ، فارتفع (كُلُ) بالابتداء ، وجملة (كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ ..) من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر (إِنْ). وهذا التقدير ضعيف لتأخير اللام في الخبر. و (لَمَّا) بمعنى إلا ، ويصح أن تكون (إِنْ) نافية بمعنى ما. ويقرأ «لما» بالتخفيف ، فتكون ما : زائدة أو موصولة وصدر الصلة محذوف.

البلاغة :

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ كَلِمَةً) : مجاز مرسل ، والمراد بال (كَلِمَةً) : الجملة التي قالها ، وهي : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) واذكر يا محمد وقت قول إبراهيم هذا ، ليروا كيف تبرّأ من التقليد ، وتمسّك بالدّليل. (لِأَبِيهِ) آزر. (بَراءٌ) بريء من عبادتكم أو معبوديكم ، وهو مصدر نعت به ، فيستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث ، وقرئ «بريء» و «برآء» ككريم وكرماء. (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) خلقني ، وهو استثناء منقطع ، أي لكن الذي فطرني ، أو متّصل على أن

١٤٠