التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

تطلعوا إلى ما لا يحل لكم الاطلاع عليه ، ولا تفاجئوا الساكنين الوادعين ، فتحرجوهم أو تزعجوهم ، فيحدث الاشمئزاز ، والتضايق ، والكراهية.

فلا بد إذن من الاستئذان قبل الدخول والسلام خارج الباب لمعرفة الداخل ، وكان السلام هو المألوف في الماضي حيث لم تكن أبواب الدور محكمة الإغلاق والستر بنحو كاف كاليوم ؛ إذ لم يكن للدور حينئذ ستور.

والاستئناس : الاستعلام (طلب العلم) والاستكشاف ، من آنس الشيء : إذا أبصره ظاهرا مكشوفا ، فمن أراد دخول بيت غيره عليه أن يستأنس ، أي يتعرف من أهله ما يريدون من الإذن له بالدخول وعدمه ، فهو بمعنى الاستئذان ، بدليل قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور ٢٤ / ٥٩]. وكان ابن عباس على الأصح فيما روي عنه يفسر الاستئناس بالاستئذان ، ولا يحصل الاستئناس إلا بعد حصول الإذن بعد الاستئذان.

ويكون الاستئذان ندبا ثلاث مرات ، فإن أذن للزائر وإلا انصرف ، كما ثبت في الصحيح لدى مالك وأحمد والشيخين وأبي داود عن أبي موسى وأبي سعيد معا أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا ، فلم يؤذن له انصرف ، ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له ، فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك قال : ما أرجعك؟ قال : إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي ، وإني سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا ، فلم يؤذن له فلينصرف» الحديث.

وظاهر الآية أنه لا بد قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا ، إلا أن الأول مطلوب على سبيل الوجوب ، والثاني على سبيل الندب كما هو حكم السلام في كل موضع. لكن الواجب في الاستئذان هو مرة واحدة ، وأما الثلاث فهو مندوب ، كما تقدم.

٢٠١

والظاهر أن الاستئذان متقدم على السلام ؛ لأن الأصل في الترتيب الذّكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي ، وبه قال بعض العلماء ، والجمهور على تقديم السلام على الاستئذان ، بدليل ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي‌الله‌عنه : «السلام قبل الكلام» وما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال : لا يؤذن له حتى يسلم ، وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد البر عن ابن عباس قال : استأذن عمر رضي‌الله‌عنه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «السلام على رسول الله ، السلام عليكم ، أيدخل عمر؟».

والسلام يكون أيضا ثلاثا كما أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال : «السلام عليك ورحمة الله» فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سلم ثلاثا ، ورد عليه سعد ثلاثا.

والحكمة من الاستئذان والسلام تحاشي الاطلاع على العورات ، بدليل ما رواه أبو داود عن هزيل قال : جاء رجل (قال عثمان : سعد) فوقف على باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأذن ، فقام على الباب ، ـ قال عثمان : مستقبل الباب ـ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هكذا عنك ـ أو هكذا ـ فإنما الاستئذان من النظر» وفي الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن ، فخذفته بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح».

والمراد من هذين الحديثين أن من أدب الاستئذان ألا يستقبل المستأذن الباب بوجهه ، وإنما يجعله عن يمينه أو شماله ، وألا ينظر إلى داخل البيت ، روي أن أبا سعيد الخدري استأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مستقبل الباب ، فقال عليه الصلاة والسلام : «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب» وذلك سواء أكان الباب مغلقا أم مفتوحا ؛ فإن الطارق قد يقع نظره عند الفتح له على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.

٢٠٢

والاستئذان واجب ولو كان الطارق أعمى ؛ لأن من عورات البيوت ما يدرك بالسمع ، وقد يتأذى أهل البيت بدخول الأعمى ، وأما الحديث المتقدم : «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» فهو بحسب الغالب المعتاد.

ولا فرق في وجوب الاستئذان بين الرجال والنساء ، والمحارم وغير المحارم ؛ لأن الحكم عام ، ولو كان الزائر والدا أو ولدا ، قال رجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار ـ : أأستأذن يا رسول الله على أمي؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» قال : ليس لها خادم غيري ، أأستأذن عليها كلما دخلت عليها؟ قال : «أتحب أن تراها عريانة؟» قال : لا ، قال : «فاستأذن عليها». وأخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن مسعود قال : «عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم». وروى الطبري عن طاوس قال : «ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم» وعلى هذا يكون الاستئذان على المحارم واجبا وتركه غير جائز ، واستدل ابن عباس عن ذلك بقوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ولم يفرق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم محرم.

وقوله تعالى : (بُيُوتاً) نكرة في سياق النهي فتفيد العموم الشامل للبيوت المسكونة وغير المسكونة ، لكن الآية التالية : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) يقتضي حمل الآية الأولى على المسكونة فقط ، ويصير المعنى : أيها المخاطبون لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا.

ثم ذكر تعالى حكمة الأمر بالاستئذان والسلام فقال :

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يعني الاستئذان والسلام خير وأفضل للطرفين : المستأذن وأهل البيت ، من الدخول بغتة ، ومن تحية الجاهلية ، فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال : حييتم صباحا ، وحييتم مساء ،

٢٠٣

ودخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) متعلق بمحذوف ، أي أنزل عليكم أو أرشدكم ربكم لتتذكروا وتتعظوا ، وتعملوا بما هو أصلح لكم.

وكلمة (خَيْرٌ) هنا أفعل تفضيل ، وكلمة «لعل» للتعليل ، والحكم المعلل بها مفهوم مما سبق ، أي أرشدكم الله إلى ذلك الأدب وبيّنه لكم ، ليكون متذكرا منكم دائما ، فتعملوا بموجبه.

ثم ذكر تعالى حكم حالة أخرى هي حالة فراغ البيوت من أهلها فقال : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ، فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي إن لم تجدوا في بيوت غيركم أحدا يأذن لكم ، فلا تدخلوها حتى يأذن لكم صاحب الدار ، فلا يحل الدخول في هذه الحالة ؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، ولأن للبيوت حرمة ، وفيها خبيئات لا يريد أحد الاطلاع عليها ، فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط ، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة. وإذن الصبي والخادم لا يبيح الدخول في البيوت الخالية من أصحابها ، فإن كان صاحب الدار موجودا فيها ، اعتبر إذن الصبي والخادم إذا كان رسولا من صاحب الدار ، وإلا لم يجز الدخول.

وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) المدار فيه على ظن الطارق ، فإن كان يظن أنه ليس بها أحد ، فلا يحل له أن يدخلها.

لكن يستثني بداهة وشرعا حالة الضرورة ، كمداهمة البيت لحرق أو غرق أو مقاومة منكر أو منع جريمة ونحو ذلك.

(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ : ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي إن طلب منكم صاحب البيت الرجوع ، فارجعوا ؛ فإن الرجوع هو خير لكم وأطهر في الدين والدنيا ، ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان ، والوقوف على

٢٠٤

الأبواب ، أو القعود أمامها بعد أن تردوا ، ففي ذلك ذل ومهانة وعيب ، وإحراج لصاحب البيت.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي أن الله عليم بنياتكم وأقوالكم وأفعالكم ، فيجازيكم عليها. وهذا وعيد لمن يخالف ما أرشد الله إليه ، فإن القصد من هذا الإخبار هنا تقرير الجزاء على هذه الأعمال.

ثم بيّن الله تعالى حكم البيوت غير المسكونة ، فقال :

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ، فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي لا إثم ولا حرج عليكم من الدخول إلى بيوت لا تستعمل للسكنى الخاصة ، كالفنادق وحوانيت التجار والحمامات العامة ونحوها من الأماكن العامة ، إذا كان لكم فيها مصلحة أو انتفاع كالمبيت فيها ، وإيواء الأمتعة ، والمعاملة بيعا وشراء وغيرهما ، والاغتسال ، ونحو ذلك.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي إن الله تعالى عليم بما تظهرونه من استئذان عند الدخول ، وما تضمرونه من قصد سيء من حب الاطلاع على عورات الناس. وهذا وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون البيوت للاطلاع على عوراتها ، وهو شبيه بالوعيد الذي ختمت به الآية السابقة.

وهذه الآية الكريمة أخص من سابقتها ، ومخصصة لعموم الآية المتقدمة المانعة مطلقا من دخول بيوت الآخرين ، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد ، إذا كان للداخل متاع فيها ، بغير إذن ، كالبيت المستقل المعد للضيف بعد الإذن له فيه أول مرة ، ولم يكن مجرد غرفة ضمن غرف أخرى.

٢٠٥

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ تحريم دخول بيت الآخرين من غير استئذان وجوبا ، وسلام وتحية ندبا ، ويكون السلام قبل الاستئذان ، كما دلت السنة.

والسنة في الاستئذان كما تقدم أن يكون ثلاث مرات لا يزاد عليها. وصورة الاستئذان أن يقول الشخص رجلا كان أو امرأة ، بصيرا أو أعمى : السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن له دخل ، وإن أمر بالرجوع انصرف ، وإن لم يجبه أحد استأذن ثلاثا ثم ينصرف من بعد الثلاث.

قال مالك : الاستئذان ثلاث ، لا أحب أن يزيد أحد عليها ، إلا من علم أنه لم يسمع ، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع.

وقال المالكية : إنما خص الاستئذان بثلاث ؛ لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا ، سمع وفهم ، ولذلك كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه ، وإذا سلم على قوم ، سلم عليهم ثلاثا ، وإذا كان الغالب هذا ؛ فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ، ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن ، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه ، فينبغي للمستأذن أن ينصرف ؛ لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل ، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به ؛ كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه ، فخرج مستعجلا فقال : «لعلنا أعجلناك ..» الحديث.

أما اليوم حيث اتخذ الناس الأبواب والأجراس ، فصار الاستئذان بقرع الباب أو بدق الجرس ، فإن طلب من الطارق التعريف بنفسه وجب عليه ذلك ، منعا من الإزعاج والتخويف أو الإحراج والمضايقة.

٢٠٦

ولا يستقبل المستأذن الباب بوجهه ، وإنما يقف يمينا وشمالا ، بحيث إذا فتح الباب لا يقع النظر فجأة على ما يكره صاحب البيت.

وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع ، ولا يعنف في ذلك ، فقد روى أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : كانت أبواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقرع بالأظافير (١).

ودليل التعريف بشخص الداخل ما روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد اللهرضي‌الله‌عنهما قال : استأذنت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من هذا»؟ فقلت : أنا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أنا» كأنه كره ذلك ؛ لأن قوله : «أنا» لا يحصل بها تعريف ، وإنما أن يذكر اسمه ، كما فعل عمر وأبو موسى رضي‌الله‌عنهما.

ولكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة ، وكان الناس في الماضي يسلمون ، ثم تركوا السلام لاتخاذ الأبواب التامة الستر ، المحكمة الإغلاق. وهذا في بيت الآخرين.

أما في بيت الإنسان الخاص ، فلا حاجة فيه للإذن إن كان فيه الأهل (الزوجة). والسنة السلام إذا دخل. قال قتادة : إذا دخلت على بيتك فسلم على أهلك ، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه مع الأهل أمك أو أختك ، فقال العلماء : تنحنح واضرب برجلك حتى تنتبها لدخولك ؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها ، وأما الأم والأخت فقد تكونان على حالة لا تحب أن تراهما فيه.

وإذا دخل بيت نفسه وليس فيه أحد ، يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، كما قال قتادة. والملائكة ترد عليه.

وإذا رأى أهل الدار أحدا يطلع عليهم من ثقب الباب ، فطعن أحدهم عينه

__________________

(١) ذكره أبو بكر علي بن ثابت الخطيب في جامعه.

٢٠٧

فقلعها ، فقال الشافعي وأحمد : لا شيء عليه ، لما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ، ففقئوا عينه ، فقد هدرت عينه» وعبارة مسلم : «من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم ، حلّ لهم أن يفقؤوا عينه». وروى سهل بن سعد رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمن اطلع في إحدى حجراته ، وكانت في يده مدرى يحك بها رأسه : «لو كنت أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك».

وقال أبو حنيفة ومالك : إن فقأ عينه فعليه الضمان من قصاص أو أرش (تعويض أو دية) لعموم قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) [المائدة ٥ / ٤٥]. ثم إن الاعتداء جناية ، يستوجب الأرش أو القصاص. أما الأحاديث السابقة فهي منسوخة ، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل ١٦ / ١٢٦]. ويحتمل أن يكون ذلك على وجه الوعيد لا على وجه الحتم ، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر ، وهو يريد شيئا آخر ؛ كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال : «قم فاقطع لسانه» وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا ، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يراد بفقء العين أن يعمل به عملا حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره.

٢ ـ تحريم الدخول إلى بيت الآخرين إذا لم يوجد فيه صاحبه حتى يؤذن له ، وهذا مستفاد من الآية : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها ، التقدير : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا ، فإن أذن لكم فادخلوا ، وإلا فارجعوا ، فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم ، فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا.

٢٠٨

ولا فرق في وجوب الاستئذان وتحريم الدخول بغير إذن بين أن يكون الباب مغلقا أو مفتوحا.

ويجوز الإذن من الصغير والكبير ، وقد كان أنس بن مالك يستأذن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي‌الله‌عنهم.

٣ ـ قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد لأهل التجسس على البيوت ، وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز.

٤ ـ إباحة الدخول في البيوت غير المسكونة والأماكن العامة كالفنادق والحوانيت والحمامات العامة ونحوها ، إذا كان الدخول لمصلحة أو حق انتفاع كالمبيت والمعاملة والاغتسال وإيداع الأمتعة ونحو ذلك.

وعلى هذا تكون آية (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ..) لرفع حكم الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد ؛ لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل الاطلاع على الحرمات ، فإذا زالت العلة زال الحكم.

الحكم السابع

حكم النظر والحجاب

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ

٢٠٩

آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

الإعراب :

(يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ يَغُضُّوا) مجزوم بجواب قل ، و (مِنْ) هنا لبيان الجنس. وقال الزمخشري : للتبعيض. وزعم الأخفش أنها زائدة ، أي قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم ، والأكثرون على خلافه ؛ لأن من لا تزاد في حال الإيجاب ، وإنما تزاد حال النفي.

(غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ غَيْرِ) بالجر : صفة ل (التَّابِعِينَ) أو بدل منهم ؛ لأنه ليس بمعرفة صحيحة ؛ لأنه ليس بمعهود. وقرئ بالنصب غير على الحال أو الاستثناء. قال مكي رحمه‌الله تعالى : ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه ، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.

البلاغة :

(يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) فيه إيجاز بالحذف ، أي عما حرّم الله ، لا عن كل شيء.

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) مجاز مرسل ، والمراد مواقع الزينة ، من إطلاق الحال وإرادة المحل ، مبالغة في الأمر بالتستر والتصون.

المفردات اللغوية :

(يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي يكفّوا البصر عما لا يحل لهم النظر إليه. (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عما لا يحل لهم فعله بها. وسبب التفرقة بين غض البصر بذكر (مِنْ) وبين حفظ الفروج دون ذكر من : أن غض البصر فيه توسع ؛ إذ يجوز النظر إلى المحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة ، وإلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها ، وقدميها في إحدى الروايتين ، وأما أمر الفروج فمضيق ، كما ذكر

٢١٠

في الكشاف ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه ، وحظر الجماع إلا ما استثني منه ، أي فالأصل في الفروج الحظر ، وفي النظر الإباحة. وتقديم الغض على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنى.

(أَزْكى) خير وأطهر. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) بالأبصار والفروج ، فيجازيهم عليه. (يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال. (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) بالتستر أو التحفظ عن الزنى ، أي بحفظ فروجهن عما لا يحل لهن فعله بها. (يُبْدِينَ) يظهرن. (زِينَتَهُنَ) كالحلي والثياب والأصباغ ، أو لا يظهرن مواضع الزينة لمن لا يحل أن تبدي له. (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم ، فإن في سترها حرجا. وقيل : المراد هو الوجه والكفان ، فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين ؛ لأنها ليست بعورة ، والوجه الثاني يحرم ؛ لأنه مظنة الفتنة. قال البيضاوي : والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر ، فإن كل بدن الحرة عورة ، لا يحل لغير الزوج والمحرم القريب النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة والتعليم والمعاملة وتحمل الشهادة.

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالخمار : وهو ما تغطي به المرأة رأسها ، والجيوب : جمع جيب : وهو فتحة في أعلى الجلباب (أو الثوب) يبدو منها بعض الصدر. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي الخفية ، أو مواضع الزينة ، وهي ما عدا الوجه والكفين ، وكرر ذلك لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له. (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أزواجهن ، جمع بعل : أي زوج ، فإنهم هم المقصودون بالزينة ، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدن الزوجة ، حتى الفرج مع الكراهة. (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ ..) إلى قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) رفعا للحرج بسبب كثرة المعاشرة والمخالطة والمداخلة ، وقلة توقع الفتنة من قبلهم ، لما في الطباع من النفرة عن مماسة الأقارب ، فيجوز لهم نظره إلا ما بين السرة والركبة ، فيحرم نظره لغير الأزواج. وخرج بقوله : (نِسائِهِنَ) الكافرات ، فلا يجوز في رأي الجمهور للمسلمات الكشف أمامهن ؛ لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال. وأجاز الحنابلة ذلك ؛ لأن المراد جنس النساء أو كلهن. وما ملكت أيمانهن : هم العبيد والجواري (الإماء).

(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ الْإِرْبَةِ) الحاجة إلى النساء ، أي غير أولي الحاجة إلى النساء ، وهم الشيوخ الهرمى الذين لا يحدث لهم انتشار ذكر ، وقيل : البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ، ولا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وفي المجبوب والخصي خلاف. (أَوِ الطِّفْلِ) الأطفال ، لعدم تمييزهم. (لَمْ يَظْهَرُوا) لم يطلعوا على عورات النساء للجماع ، ولم يعرفوا ذلك ؛ لعدم بلوغهم حد الشهوة أو لصغرهم ، فيجوز الإبداء لهم ما عدا ما بين السرة والركبة. و (الطِّفْلِ) جنس وضع موضع الجمع ، اكتفاء بدلالة الوصف ، أو أنه يطلق على الواحد والجمع.

٢١١

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) أي الخلخال الذي يتقعقع فإن ذلك يلفت النظر ويورث الميل عند الرجال ، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة ، وأدل على المنع من رفع الصوت. (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) مما وقع لكم من النظر الممنوع. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي بسعادة الدارين ، وتنجون من الإثم لقبول التوبة منه ، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : بلغنا عن جابر بن عبد الله ، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها ، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات ، فيبدو ما في أرجلهن ، تعني الخلاخل ، وتبدو صدورهن وذوائبهن ، فقالت أسماء : ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ). وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلا مرّ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق من طرقات المدينة ، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه ، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به ، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه ، فقال : والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره أمري ، فأتاه فقص عليه قصته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا عقوبة ذنبك» وأنزل الله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) الآية.

وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت برتين (١) من فضة ، واتخذت جزعا (سلسلة خرز) فمرت على قوم ، فضربت برجلها ، فوقع الخلخال على الجزع ، فصوّت ، فأنزل الله (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) الآية.

__________________

(١) برتين من فضة : مفرد برة ، والبرة : الخلخال ، وكل حلقة من سوار وقرط.

٢١٢

المناسبة :

الآية واضحة الاتصال بما قبلها ، فإن الدخول إلى البيوت مظنة الاطلاع على العورات ، لذا أمر المؤمنون والمؤمنات بغض البصر بصورة حكم عام يشمل المستأذن للدخول إلى البيوت وغيره ، فيجب على المستأذن التحلي به عند الاستئذان والدخول ، منعا من انتهاك الحرمات المنهي عنها ، كما يجب على النساء عدم إبداء الزينة لأحد إلا للمحارم ، لما في ذلك من الفتنة الداعية إلى الوقوع في الحرام ، كالنظر الذي هو أيضا بريد الزنى ، فالجامع بين حكم النظر والحجاب سد الذرائع إلى الفساد.

التفسير والبيان :

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي قل يا محمد لعبادنا المؤمنين : كفّوا أبصاركم عما حرم الله عليكم ، فلا تنظروا إلا إلى ما أباح لكم النظر إليه. والتعبير بالمؤمنين : إشارة إلى أن من شأن المؤمنين أن يسارعوا إلى امتثال الأوامر. وليس المراد بغض البصر إغماض العين وإطباق أجفانها ، بل المراد جعلها خافضة الطرف من الحياء ، و (مِنْ) للتبعيض أي يغضوا بعض أبصارهم ، فلا يحملقوا بأعينهم في محرم ، ويكون المراد حينئذ توبيخ من يكثر التأمل في المحرم ، كما حدث في سبب النزول الذي أخرجه ابن مردويه ، وللتفرقة في الأمر بين غض البصر وحفظ الفروج ، فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما استثني ، وأما النظر فالأصل فيه الإباحة إلا ما استثني كما بينا.

فإن وقع البصر على محرّم من غير قصد ، وجب إغضاء الطرف وصرف النظر عنه سريعا؛ لما رواه مسلم في صحيحة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي‌الله‌عنه قال : «سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نظر

٢١٣

الفجأة ، فأمرني أن أصرف بصري». وروى أبو داود عن بريدة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «يا علي لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى ، وليس لك الآخرة».

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والجلوس على الطرقات ، قالوا : يا رسول الله ، لا بدّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أبيتم فأعطوا الطريق حقّه ، قالوا : وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال : غضّ البصر ، وكفّ الأذى ، وردّ السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر».

وسبب الأمر بغض البصر هو سدّ الذرائع إلى الفساد ، ومنع الوصول إلى الإثم والذنب ، فإن النظر بريد الزنى ، وقال بعض السلف : النظر سهم سمّ إلى القلب ، ولذلك جمع الله في الآية بين الأمر بحفظ الفروج ، والأمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى المحظور الأصلي وهو الزنى ، فقال :

(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي من ارتكاب الفاحشة كالزنى واللواط ومن نظر أحد إليها ، كما روى أحمد وأصحاب السنن : «احفظ عورتك إلا من زوجتك ، أو ما ملكت يمينك». وقال تعالى مبينا حكمة الأمر بالحكمين :

(ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي إن غض البصر وحفظ الفرج خير وأطهر لقلوبهم ، وأنقى لدينهم ، كما قيل : من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته ، أو في قلبه. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ، ثم يغض بصره ، إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها» وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم ، من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه». وأزكى الذي هو أفعل التفضيل للمبالغة في أن

٢١٤

غض البصر وحفظ الفرج يطهران النفوس من دنس الرذائل. والمفاضلة على سبيل الفرض والتقدير ، أو باعتبار ظنهم أن في النظر نفعا.

(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي إن الله عليم علما تاما بكل ما يصدر عنهم من أفعال ، لا تخفى عليه خافية ، وهذا تهديد ووعيد ، كما قال تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر ٤٠ / ١٩] فهو يعلم استراق النظر وسائر الحواس ، والخبرة : العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء.

أخرج البخاري في صحيحة تعليقا ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كتب على ابن آدم حظّه من الزنى ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العينين النظر ، وزنى اللسان النطق ، وزنى الأذنين الاستماع ، وزنى اليدين البطش ، وزنى الرّجلين الخطا ، والنفس تمنّي وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه».

وخلافا لما عليه غالب الخطابات التشريعية من دخول النساء في الحكم بخطاب الرجال تغليبا ، أمر الله تعالى المؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج كما أمر الرجال ، تأكيدا للمأمور به ، وبيان بعض الأحكام التي تخصهن وهي النهي عن إبداء الزينة ، والحجاب ، والامتناع عن كل ما يلفت النظر إلى زينتهن ، فقال تعالى :

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) أي وقل أيها الرسول أيضا للنساء المؤمنات : اغضضن أبصاركن عما حرم الله عليكن من النظر إلى غير أزواجكن ، واحفظن فروجكن عن الزنى ونحوه كالسحاق ، فلا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا ، في رأي كثير من العلماء ، بدليل ما رواه أبو داود والترمذي عن أم سلمة : «أنها كانت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم ، فدخل عليه ، وذلك بعد ما

٢١٥

أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله ، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو عمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه؟». وفي الموطأ عن عائشة أنها احتجبت عن أعمى ، فقيل لها : إنه لا ينظر إليك ، قالت : لكنني أنظر إليه.

وأجاز جماعة آخرون من العلماء نظر النساء إلى الرجال الأجانب بغير شهوة فيما عدا ما بين السرة والركبة ، بدليل ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل ينظر إلى الحبشة ، وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد ، وعائشة أم المؤمنينتنظر إليهم من ورائه ، وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت. وهذا الرأي أيسر في عصرنا.

وأصحاب الرأي الثاني وهو جواز النظر بغير شهوة يحملون الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب ، وكذلك احتجاب عائشة رضي‌الله‌عنها من الأعمى كان ورعا منها ، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار متنقبات ، حتى لا يراهن أحد من الرجال ، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء ، فكان ذلك دليلا على المغايرة في الحكم بين الرجال والنساء.

ثم ذكر الله تعالى الأحكام الخاصة بالنساء وهي ما يلي :

١ ـ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب حين التحلي بها وهي كل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها ، فيكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه بالأولى ، أو لا يظهرن مواضع الزينة بإطلاق الزينة وإرادة مواقعها ، بدليل قوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) والثاني هو الأولى ؛ لأن الزينة نفسها ليست مقصودة بالنهي ، وعلى كل حال هناك تلازم بين الزينة وموضعها ، والغاية هي النهي عن أجزاء الجسد التي تكون

٢١٦

محلا للزينة ، كالصدر والأذن والعنق والساعد والعضد والساق.

وأما ما ظهر منها فهو الوجه والكفان والخاتم ، كما نقل عن ابن عباس وجماعة ، وهو المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عائشة رضي‌الله‌عنها : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : «يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض ، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا» وأشار إلى وجهه وكفيه. وهو حديث مرسل.

وبناء عليه قال الحنفية والمالكية ، والشافعي في قول له : إن الوجه والكفين ليسا بعورة ، فيكون المراد بقوله : (ما ظَهَرَ مِنْها) ما جرت العادة بظهوره.

وروي عن أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه : أن القدمين ليستا من العورة أيضا ؛ لأن الحرج في سترهما أشد منه في ستر الكفين ، لا سيما أهل الريف. وعن أبي يوسف : أن الذراعين ليستا بعورة ، لما في سترهما من الحرج.

وذهب الإمام أحمد ، والشافعي في أصح قوليه إلى أن بدن الحرة كله عورة ، للأحاديث المتقدمة في نظر الفجأة ، وتحريم متابعة النظر ، ولما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه ، فطفق الفضل ينظر إلى امرأة وضيئة خثعمية حين سألته ، فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذقن الفضل ، فحول وجهه عن النظر إليها. ويكون المراد بقوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) ما ظهر بنفسه من غير قصد.

والراجح فقها وشرعا أن الوجه والكفين ليسا بعورة إذا لم تحصل فتنة ، فإن خيفت الفتنة وحصلت المضايقة وكثر الفساق وجب ستر الوجه. وأما أدلة الفريق الثاني فمحمولة على الورع والاحتياط ومخافة الفتنة والاسترسال في مزالق الشيطان.

٢١٧

ويجوز شرعا استثناء وللضرورة النظر إلى الأجنبية كحال الخطوبة والشهادة والقضاء والمعاملة والمعالجة والتعليم ، ففي كل هذه الأحوال يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط ، ويجوز للطبيب إذا لم توجد طبيبة النظر إلى موضع العلة أو الداء للعلاج.

٢ ـ (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) أي ليسدلن ويرخين أغطية الرؤوس على أعلى أجزاء الصدر لستر الشعور والأعناق والصدور. والضرب هنا : السدل والإلقاء والإرخاء ، والخمر : جمع خمار : وهو ما تغطي به المرأة رأسها ، والجيوب : جمع جيب : وهو فتحة في أعلى الثوب يبدو منها بعض النحر.

وهذا أمر إرشاد لستر بعض مواضع الزينة الباطنة عند النساء ، روى البخاري عن عائشةرضي‌الله‌عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) شققن مروطهن (أزرهن) فاختمرن بها.

٣ ـ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) أي لا يظهرن زينتهن الخفية إلا لأزواجهن فهم المقصودون بالمتعة والنظر ، أو آباء النساء والأجداد ، أو آباء الأزواج أو أبناء النساء أو أبناء الأزواج أو الإخوة والأخوات وبني الإخوة أو بني الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم ، فكل هؤلاء محارم يجوز للمرأة أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير تبرج ، وهؤلاء هم الأقارب من النسب وهم خمسة أنواع ، وفيهم نوعان من الأقارب لأجل المصاهرة وهما آباء الأزواج وأبناء الأزواج ، ولكن لم تذكر الآية من المحارم النسبية الأعمام والأخوال ؛ لأن العمومة والخؤولة بمنزلة الأبوة. كذلك لم تذكر المحارم من الرضاع ولكن نصت السنة عليهم فيما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

٢١٨

(أَوْ نِسائِهِنَّ ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) هؤلاء بقية الأنواع الذين يجوز للمرأة إظهار الزينة فيما عدا ما بين السرة والركبة ، وهم النساء ، والمماليك ، والتابعون غير أولي الحاجة إلى النساء وهم الأجراء والأتباع الذين لا شهوة عندهم إلى النساء ، كالخصيان والمجبوبين والمعتوهين ، والأطفال الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن لصغرهم وعدم اطلاعهم على القضايا الجنسية.

لكن وقع خلاف بين العلماء في النساء والمماليك والتابعين والأطفال ، أما النساء : فقال الجمهور : المراد النساء المسلمات أي نسائهن في الدين ، دون نساء أهل الذمة ، فلا يجوز للمسلمة إظهار شيء من جسمها ما عدا الوجه والكفين أمام المرأة الكافرة ، لئلا تصفها لزوجها أو غيره ، فهي كالرجل الأجنبي بالنسبة لها.

أما المسلمة فتعلم أن ذلك حرام ، فتنزجر عنه ، أخرج الشيخان في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها ، كأنه ينظر إليها».

روى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي‌الله‌عنه : «أما بعد ، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك ، فانه من قبلك ، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها».

وقال جماعة منهم الحنابلة : إن المراد بهن عموم النساء المسلمات والكافرات ، فتكون الإضافة في قوله تعالى : (أَوْ نِسائِهِنَ) للمشاكلة والمشابهة أي من جنسهن ، وتكون عورة المرأة بالنسبة للمرأة مطلقا ما بين السرة والركبة فقط.

وأما ما ملكت أيمانهن : فقال الأكثرون : يشمل الرجال والنساء ، فيجوز أن

٢١٩

تظهر المرأة على رقيقها من الرجال والنساء ما عدا ما بين السرة والركبة ؛ لما رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تلقى قال : «إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغلامك».

وذهبت طائفة إلى أن ذلك مخصوص بالإماء فقط ؛ لأن العبد رجل كالحر الأجنبي في التحريم.

وأما التابعون غير أولي الإربة أي الحاجة إلى النساء : فهم الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم من غير أن تكون لهم حاجة في النساء ولا ميل إليهن ، واختلف العلماء في المراد بهم فقيل : إنه الشيخ الفاني الذي فنيت شهوته ، أو الأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئا ، أو المجبوب ، أو الخصي أو الممسوح أو خادم القوم للعيش أو المخنث. والمعتمد أن المراد به : كل من ليس له حاجة إلى النساء ، وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب ، أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخنّث ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ينعت امرأة يقول : إذا أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا ، لا يدخلن عليكن» فأخرجه من المنزل.

وأما الأطفال الذين لم يطلعوا على عورات النساء : فهم الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن ، ولم يظهر عندهم الميل الجنسي القوي لصغر سنهم ، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء ، أما المراهق أو القريب من المراهقة قبل البلوغ الذي يحكي ما يرى ، ويفرّق بين الشوهاء والحسناء ، فلا يمكّن من الدخول على النساء ، بدليل وجوب استئذان الطفل عند

٢٢٠