التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

دخول البيوت ، في أوقات ثلاثة ، بيّنها الله تعالى بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ..) الآية [النور ٢٤ / ٥٩].

وقال جماعة آخرون : لا يحرم على المرأة إبداء زينتها للطفل إلا إذا كان فيه تشوق إلى النساء ، سواء أكان مراهقا أم غير مراهق ، والإباحة هنا أوسع مما قرره أصحاب الرأي الأول.

ثم نهى الله تعالى عما يكون وسيلة أو ذريعة إلى الفتنة فقال :

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) أي لا يجوز للمرأة أن تدق برجليها في مشيتها ، ليعلم الناس صوت خلاخلها ؛ لأنه مظنة الفتنة والفساد ، ولفت الأنظار ، وإثارة مشاعر الشهوة ، وإساءة الظن بأنها من أهل الفسوق ، فإسماع صوت الزينة كإبدائها وأشد ، والغرض التستر.

وهذا يشمل كل ما يؤدي إلى الفتنة والفساد كتحريك الأيدي بالأساور ، وتحريك الجلاجل (المقصات) في الشعر ، والتعطر والتطيب والزخرفة عند الخروج من البيت ، فيشم الرجال طيبها ، ويفتتنون بزخارفها ؛ روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت ، فمرّت بالمجلس ، فهي كذا وكذا» يعني زانية. وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل من الجنابة». واللام في قوله : (لِيُعْلَمَ) لام العاقبة أو الصيرورة ، فهي منهية عن الضرب بالأرجل أمام الرجال الأجانب مطلقا ، سواء قصدت إعلامهم أم لم تقصد ، فإن عاقبة الضرب بالأرجل ذات الخلاخل ، ومثلها (الأحذية الحالية ذات الكعاب العالية) أن يعلم الناس ما يخفين من الزينة ، فتقع الفتنة بها.

٢٢١

واستدل الحنفية بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة ، فإنها إذا كانت منهية عن فعل يسمع له صوت خلخالها ، فهي منهية عن رفع صوتها بالطريق الأولى.

والظاهر أن صوت المرأة ليس بعورة إن أمنت الفتنة ، بدليل أن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كن يروين الأخبار للرجال الأجانب.

(وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي ارجعوا إلى طاعة الله والإنابة إليه أيها المؤمنون جميعا ، وافعلوا ما أمركم به من هذه الصفات والأخلاق الحميدة ، واتركوا ما نهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج والدخول إلى بيوت الآخرين بلا استئذان وما كان عليه الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة ، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. وخوطبوا بصفة الإيمان للتنبيه على أن الإيمان الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على الامتثال وعلى التوبة والاستغفار من الهفوات والزلات ، فإن التوبة سبب الفلاح والفوز بالسعادة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ وجوب غض البصر من الرجال والنساء عما لا يحل من جميع المحرّمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله ؛ لأن البصر مفتاح الوقوع في المنكرات ، وشغل القلب بالهواجس ، وتحريك النفس بالوساوس ، وبريد السقوط في الفتنة أو الزنى ، ومنشأ الفساد والفجور.

٢ ـ وجوب حفظ الفروج أي سترها عن أن يراها من لا يحل ، وحفظها من التلوث بالفاحشة كالزنى واللواط ، واللمس والمفاخذة والسحاق.

٣ ـ تحريم الدخول إلى الحمام بغير مئزر ، قال ابن عمر : أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمّام في خلوة ، أي في وقت لا يوجد فيه الناس أو قلة الناس.

٢٢٢

وذكر الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا بيتا يقال له الحمّام ، قيل : يا رسول الله ، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار ، فقال : إن كنتم لا بد فاعلين فأدخلوه مستترين».

٤ ـ إن غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين ، وأبعد من دنس الذنوب ، والله مطّلع عالم بأفعال العباد ونيات القلوب وهمسات الألسن ، واستراق السمع والبصر ، وبكل شيء ، لا تخفى عليه خافية ، ويجازي على ذلك كله.

٥ ـ العورات أربعة أقسام :

أ ـ عورة الرجل مع الرجل : يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا ما بين السرة والركبة ، وهما ليستا بعورة ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله : الركبة عورة. وقال مالك : الفخذ ليست بعورة أي في الصلاة لا في النظر ، والدليل على أنها عورة ما روي عن حذيفة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ به في المسجد ، وهو كاشف عن فخذه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الحاكم عن محمد بن عبد الله بن جحش : غطّ فخذك ، فإن الفخذ عورة» وقال لعلي رضي‌الله‌عنه فيما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن علي : «لا تبرز فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت». أما الأمرد فلا يحل النظر إليه.

ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل ، وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش ؛ لما روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد».

وتكره المعانقة وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة لما روى أنس قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال : «لا» ، قال : أيلتزمه ويقبّله؟ قال : «لا» ، قال : أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال : «نعم».

٢٢٣

ب ـ وعورة المرأة مع المرأة : كعورة الرجل مع الرجل ، لها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة ، وعند خوف الفتنة لا يجوز ، ولا تجوز المضاجعة. والأصح أن المرأة الذمية (غير المسلمة) لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة ؛ لأنها أجنبية في الدين ، والله تعالى يقول : (أَوْ نِسائِهِنَ) وليست الذمية من نسائنا.

ج ـ وعورة المرأة مع الرجل : إن كانت أجنبية عنه فجميع بدنها عورة ، ولا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين ؛ لحاجتها لذلك في البيع والشراء. ولا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض ، وإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره ، للآية : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ). وأجاز أبو حنيفة النظر مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة. ولا يجوز أن يكرر النظر إليها ، للحديث المتقدم : «يا علي لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى ، وليست لك الآخرة».

ويجوز النظر للخطبة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه ابن حبان والطبراني عن أبي حميد الساعدي : «إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها ، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته ، وإن كانت لا تعلم» ويجوز النظر عند البيع ليعرفها عند الحاجة ، وكذلك يجوز عند تحمل الشهادة النظر إلى الوجه ؛ لأن المعرفة تحصل به. أما النظر للشهوة فهو محظور ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد والطبراني عن ابن مسعود : «العينان تزنيان».

كذلك يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمرأة للمعالجة ، ويجوز للختّان أن ينظر إلى فرج المختون ؛ لأنه موضع ضرورة ، ويجوز تعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنى ، وإلى فرج المرأة لتحمل شهادة الولادة ، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. ويصح النظر لبدن المرأة للإنقاذ من غرق أو حرق وتخليصها منه.

٢٢٤

وأما إذا كانت المرأة ذات محرم من الرجل بنسب أو رضاع أو مصاهرة فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وقال جماعة منهم أبو حنيفة : بل عورتها معه : ما لا يبدو عند المهنة.

وأما إذا كانت المرأة زوجة : فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها ، حتى إلى فرجها ، غير أنه يكره النظر إلى الفرج.

د ـ وعورة الرجل مع المرأة : إن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل : جمع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه ، والأول أصح بخلاف المرأة في حق الرجل ؛ لأن بدن المرأة في ذاته عورة ، بدليل أنه لا تصح صلاتها مكشوفة البدن ، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ، ولا تكرار النظر إلى وجهه ، للحديث السابق : «احتجبا منه» أي عن ابن أم مكتوم ، وإن كان أعمى.

وإن كان زوجا فلها أن تنظر إلى جميع بدنه ، غير أنه يكره النظر إلى الفرج ، كما يكره له أيضا.

ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال ، وله ما يستر عورته ؛ لأنه روي أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنه ، فقال فيما رواه البخاري والترمذي وابن ماجه : «الله أحق أن يستحيي منه» وقال فيما أخرجه الترمذي عن ابن عمر : «إياكم والتعري ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط ، وحين يفضي الرجل إلى أهله» (١).

٦ ـ أمر الله تعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين إلا الوجه والكفين حذرا من الافتتان ، والزينة نوعان : ظاهر وباطن ، أما الظاهر فمباح لكل الناس من المحارم والأجانب. وأما الباطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سمّاهم الله تعالى في هذه الآية.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٣ / ٢٠٢ ـ ٢٠٤

٢٢٥

أما السّوار : فقالت عائشة : هو من الزينة الظاهرة ؛ لأنه في اليدين. وقال مجاهد : هو من الزينة الباطنة ؛ لأنه خارج عن الكفين ، وإنما يكون في الذراع. وأما الخضاب فهو ـ في رأي ابن العربي ـ من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.

٧ ـ يجب على المرأة ستر شعرها وعنقها ومقدم صدرها ، لقوله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) والخمار : ما تغطي به المرأة رأسها. روى البخاري عن عائشة قالت : رحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزل : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) شققن أزرهن فاختمرن بها.

٨ ـ استثنى الله تعالى من الرجال الذين لا يجوز للمرأة إبداء زينتها لهم المحارم ومن في حكمهم وهم الأزواج ، وآباءهن وكذا الأجداد ، سواء من جهة الأب أو الأم ، وأبناء الأزواج ذكورا وإناثا ، والإخوة الأشقاء أو لأب أو لأم ، وأبناء الإخوة كذلك. ويلحق بهم الأعمام والأخوال ، وهؤلاء هم الأقارب من جهة النسب ، ومثلهم الأقارب من جهة الرضاع ، وجميع هؤلاء يسمون المحارم.

ومن الاستثناء : النساء والمماليك العبيد والإماء المسلمات والكتابيات ، في رأي الأكثرين ، وقيل : الإماء فقط ، والتابعون غير أولي الإربة وهم المسنون الضّعفة أو البله ، أو العنّين أو الممسوح ، وهم في المعنى متقاربون ، والأطفال الذين لم يفهموا شيئا عن عورات النساء ، ولم يظهر فيهم الميل الجنسي لصغر سنهم.

٩ ـ يحرم على المرأة فعل ما شأنه الإيقاع في الفتنة والفساد والتبرج والتعرض للرجال ، كالضرب بالنعال ، والتعطر والتزين عند الخروج من البيت. فإن ضربت المرأة بنعلها فرحا بحليها فهو مكروه كما ذكر القرطبي.

١٠ ـ التوبة على المؤمنين والمؤمنات واجبة وفرض متعين بلا خلاف بين

٢٢٦

الأمة ، فإن كل إنسان محتاج إلى التوبة ؛ لأنه لا يخلو من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى ، فلا تترك التوبة في كل حال ، ويلزم تجديد التوبة كلما تذكر الإنسان ذنبه ؛ لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه. أخرج أحمد والبخاري والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أيها الناس ، توبوا إلى الله ، فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة».

وشروط التوبة أربعة : الإقلاع عن الذنب ، والندم على ما مضى ، والعزم على ألا يعود إليه ، ورد الحقوق إلى أهلها.

الحكم الثامن والتاسع والعاشر

زواج الأحرار ومكاتبة الأرقاء والإكراه على الزنى

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

٢٢٧

الإعراب :

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ الَّذِينَ) مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : فيما يتلى عليكم الذين يبتغون الكتاب. أو (فَكاتِبُوهُمْ) هو الخبر ، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط.

المفردات اللغوية :

(الْأَيامى) جمع أيّم : وهي من الحرائر كل من ليس لها زوج ، بكرا كانت أو ثيبا ، وكل من ليس له زوج من الأحرار (وَالصَّالِحِينَ) للزواج والقيام بحقوقه (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) عباد : جمع عبد ، وإماء : جمع أمة وهي الرقيقة (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي غني ذو سعة لا تنفذ نعمته إذ لا تنتهي قدرته (عَلِيمٌ) بخلقه يبسط الرزق ويقدر على مقتضى حكمته.

(لْيَسْتَعْفِفِ) ليجتهد في العفة (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) لا يتمكنون من مؤن النكاح وأسبابه المالية من مهر ونفقة ، ويجوز أن يراد بالنكاح : ما ينكح به (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يوسع عليهم من فضله ، فيجدون ما يتزوجون به (الْكِتابَ) المكاتبة : وهي أن يقول السيد لمملوكه : كاتبتك على كذا من الأقساط ، فإن أديتها فأنت حر ، فهي عقد بين المالك وعبده على أن يؤدي مالا لسيده ، فيعتق ، أو هي إعتاق المملوك بعد أداء شيء من المال مقسطا (فَكاتِبُوهُمْ) الأمر فيه للندب عند أكثر العلماء (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي أمانة وقدرة على الكسب والاحتراف لأداء مال الكتابة ، وقيل : صلاحا في الدين (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للسادة بإعطاء المكاتبين شيئا من المال للاستعانة به في أداء ما التزموه لكم ، أو حط شيء من مال الكتابة ، وهو للوجوب عند الأكثر ، ويكفي أقل ما يتمول. وقيل : ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا. وقيل : أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهما من الزكاة ، ويحل للمولى السيد وإن كان غنيا ؛ لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري.

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) لا تكرهوا إماءكم على الزنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعففا عنه ، وهذا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه ، وإن جعل شرطا للنهي بقوله : (وَلا تُكْرِهُوا) فلا مفهوم للشرط ، أي لا يلزم من عدم إرادة التحصن جواز الإكراه ، فهو حرام مطلقا. نزلت في عبد الله بن أبي كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفور لهن رحيم بهن ، والإكراه لا ينافي المؤاخذة ، فلا يقال : إن المكرهة غير آثمة ، فلا حاجة إلى المغفرة ، ولذا حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص عند جماعة كالشافعية. (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لتطلبوا بالإكراه الكسب.

٢٢٨

(مُبَيِّناتٍ) مفصّلات ما تحتاجون إلى بيانه من الأحكام والحدود والآداب. وعلى قراءة فتح الباء يكون المعنى : مبيّن فيها ما ذكر (وَمَثَلاً) أي قصة عجيبة وهي قصة عائشة ويوسف ومريم (مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي ومثلا من أمثال من قبلكم ، أي من جنس أمثالهم وأخبارهم العجيبة ، كقصة يوسف ومريم (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي عظة يوعظ بها المتقون ، وتخصيصهم بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون بالعظة.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٣):

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ) : أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحو يطب بن عبد العزّى يقال له : صبيح ، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه ، فأبى عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وكاتبه حو يطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين دينارا فأداها ، وقتل يوم حنين في الحرب.

نزول آية : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) :

أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي‌الله‌عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان : مسيكة وأميمة ، فكان يكرههما على الزنى ، فشكتا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية.

وقال مقاتل : كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن ، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار : معاذة ، ومسيكة ، وأميمة ، وعمرة ، وأروى ، وقتيلة ، يكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب ، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار ، وجاءت أخرى بدونه ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، فقالتا : والله لا نفعل ، قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنى ، فأتتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكتا إليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

٢٢٩

المناسبة :

بعد أن نهى الله تعالى عما لا يحل مما يفضي إلى السفاح أو الزنى المؤدي إلى اختلاط الأنساب كغض البصر وحفظ الفروج ، أعقبه ببيان طريق الحل وهو الزواج الحافظ للأنساب وبقاء النوع الإنساني وترابط الأسرة ودوام الألفة وحسن تربية الأولاد ، فقال : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) والخطاب للأولياء والسادة.

التفسير والبيان :

موضوع الآيات بيان طائفة من الأحكام والأوامر ، أولها الأمر بالتزويج.

الحكم الثامن ـ ما يتعلق بالزواج :

قال الله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي زوجوا أيها الأولياء والسادة أو أيتها الأمة جميعا بالتعاون وإزالة العوائق من لا زوج له من الرجال والنساء الأحرار والحرائر ، ومن فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم وقدرة على القيام بحقوق الزوجية وساعدوهم على الزواج بالإمداد بالمال ، وعدم الإعاقة من التزويج ، وتسهيل الوسائل المؤدية إليه. والصحيح أن الخطاب للأولياء ، وقيل : للأزواج.

وظاهر الأمر في رأي الجمهور للندب والاستحباب والاستحسان ؛ لأنه كان في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء ، ولم ينكر أحد عليهم ، ولأنه ليس للولي إجبار الأيم الثيب لو أبت التزوج ، ولاتفاق العلماء على أنه لا يجبر السيد على تزويج عبده وأمته.

وذهبت طائفة من العلماء كالرازي إلى أن ظاهر الأمر هنا للوجوب على كل من قدر عليه ، لخبر الصحيحين عن ابن مسعود : «يا معشر الشباب من استطاع

٢٣٠

منكم الباءة ـ مؤن الزواج ـ فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء». ولما جاء في السنن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما رواه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار : «تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم». ورتبوا على القول بالوجوب ألا يجوز النكاح إلا بولي.

والمراد بالصلاح : معناه الشرعي وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه. وقيل : المراد به المعنى اللغوي وهو أهلية النكاح والقيام بحقوقه. والعباد كالعبيد : جمع عبد وهو الذكر من الأرقاء. والإماء جمع أمة ، وهي الأنثى الرقيقة. وقوله (وَالصَّالِحِينَ) بتغليب الذكور على الإناث ، واعتبر الصلاح في جانب الأرقاء دون الأيامى الأحرار والحرائر ؛ لأنه عنصر مشجع على التغاضي من قبل السيد عن منافع العبيد والإماء ، فلا يدفعهم إلى التزويج إلا استقامة هؤلاء المماليك وصلاحهم أو ظن قيامهم بحقوق الزوجية.

واستدل الإمام الشافعي رحمه‌الله بظاهر قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) على جواز تزويج الولي البكر البالغة بدون رضاها ؛ لأن الخطاب في الآية للأولياء ، فهم المأمورون بالتزويج لمن لهم الولاية عليهم ، سواء كانت المولية كبيرة أم صغيرة ، وسواء رضيت أم لم ترض. ولو لا وجود أدلة أخرى من السنة على أنه لا يزوج الولي الثيب الكبيرة بغير رضاها ، لكان حكمها حكم البكر الكبيرة ، لعموم الآية. لكن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس : «البكر تستأمر في نفسها ، وإذنها صماتها» يدل على وجوب استئذانها واعتبار رضاها ، فكان ذلك مخصصا للآية.

واستدل الشافعية بالآية على أن المرأة لا تلي عقد الزواج ؛ لأن المأمور بتزويجها وليها ، لكن الأولى حمل الخطاب في الآية على أنه خطاب للناس جميعا بندبهم إلى المساعدة في التزويج ، فيؤخذ حكم مباشرة العقد من غير هذه الآية.

واستدل بعض الحنفية بظاهر الآية : (وَأَنْكِحُوا) على أنه يجوز للحر أن

٢٣١

يتزوج بالأمة ، ولو كان مستطيعا مهر الحرة. ورد الشافعية بأن قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) ـ مهرا ـ (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) [النساء ٤ / ٢٥] أخص من هذه الآية ، والخاص مقدم على العام. كما أن العلماء أجمعوا على أن عموم الأيامى في الآية (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) مقيد بشروط : ألا تكون المرأة محرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة كالجمع بين الأختين ونحوهما كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت.

واستدل العلماء بقوله تعالى : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ) على أمرين :

الأول ـ أنه يجوز للمولى أن يزوج عبده وأمته بدون رضاهما.

والثاني ـ أنه لا يجوز للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن السيد ، منعا من تفويت استعمال حقه ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد : «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه ، فهو زان».

ثم أزال الله تعالى التعلل بعدم وجدان المال فقال :

(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) هذا وعد بالغنى للمتزوج ، فلا تنظروا إلى مشكلة الفقر ، سواء فقر الخاطب أو المخطوبة ، ففي فضل الله ما يغنيهم ، والله غني ذو سعة ، لا تنفد خزائنه ، ولا حد لقدرته ، عليم بأحوال خلقه ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على وفق الحكمة والمصلحة. روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله». وقال ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح. إلا أن إغناء المتزوج مشروط بالمشيئة ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التوبة ٩ / ٢٨] وقوله هنا : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي يعلم المصلحة فيعطي بالحكمة.

٢٣٢

وضمير (إِنْ يَكُونُوا) راجع إلى الأيامى من الأحرار والحرائر والصالحين من العبيد والإماء ، فيكون المراد من الإغناء التوسعة ودفع الحاجة. وقيل : إنه يرجع إلى الأيامى الأحرار والحرائر فقط ؛ لأن المراد بالإغناء في قوله تعالى : (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) هو تمليك ما يحصل به الغنى ، والأرقاء لا يملكون.

واستدل بعض العلماء بالآية على عدم جواز فسخ الزواج بالعجز عن النفقة ؛ لأن الله تعالى لم يجعل الفقر مانعا من التزويج في ابتداء الأمر ، فلا يمنع استدامة الزواج بالأولى. وعلى كل حال فإن المقصود بالآية أنه يندب ألا يرد الخاطب الفقير ثقة بما عند الله ، كذلك يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر.

ويفهم من الآية أنه يندب للفقير أن يتزوج ولو لم يجد مؤن الزواج ؛ لأنه إذا ندب الولي إلى تزويج الفقير ، ندب الفقير نفسه إلى الزواج.

وبعد الأمر بتزويج الحرائر والإماء أغنياء أو فقراء ، وضع القرآن العلاج لحال العاجز عن وسائل الزواج ، ولم يجد أحدا يزوجه ، فقال تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من نفقات الزواج ، ويكون المراد بالنكاح حقيقته الشرعية ، وبالوجدان التمكن منه ، ويجوز أن يراد بالنكاح هنا ما ينكح به ، كركاب الذي هو اسم آلة لما يركب به. والمراد بالآية توجيه العاجزين عما يتزوجون به أن يجتهدوا في التزام جانب العفة عن إتيان ما حرم الله عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم الله من سعته ، ويرزقهم ما به يتزوجون ، فالتعفف عن الحرام واجب المؤمن ، وفي الآية وعد كريم من الله بالتفضل عليهم بالغنى ، فلا ييأسوا ولا يقلقوا.

جاء في الحديث الصحيح المتقدم : «يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه

٢٣٣

بالصوم ، فإنه له وجاء» والباءة : مؤن الزواج من مهر ونفقة وغيرها.

واستدل بعض العلماء بالآية على أنه يندب ترك الزواج لمن لا يملك أهبته مع التوقان ، وحينئذ يكون هناك تعارض مع الآية السابقة التي تندب إلى الزواج ، فقال الشافعية : هذه الآية مخصصة للآية السابقة ، أي أن تلك الآية في الفقراء الذين يملكون أهبة الزواج ، وهذه الآية في الفقراء العاجزين عن أهبة الزواج. ويرى الحنفية تأويل هذه الآية ، وأن النكاح أي المنكوحة ككتاب بمعنى مكتوب ، ويكون الأمر بالاستعفاف هنا محمولا على من لم يجد زوجة له ، وحينئذ لا تعارض بين الآيتين ، لكن قوله تعالى : (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يجعل هذا التأويل بعيدا.

الحكم التاسع ـ مكاتبة الأرقاء :

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم المكاتبة على أداء مال معين في مدة معينة ، فاعقدوا معهم عقد الكتابة إذا كانوا من أهل الصلاح والتقوى ، والأمانة ، والقدرة على الكسب وأداء المال المشروط لسيده. وقد فسر الخير بتفسيرات قيل : إنه الأمانة والقدرة على الكسب ، وهو تفسير ابن عباس والشافعي. وقيل : إنه الحرفة ، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في المراسيل والبيهقي في السنن : «إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كلّا على الناس» ، وقيل : إنه المال ، وهو مروي عن علي وجماعة ، وقيل : إنه الصلاح والإيمان وهو تفسير الحسن البصري ، وهذا يقتضي ألا يكاتب غير المسلم ، وفيه تشدد.

والجمهور على أن الأمر في قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) للإرشاد والندب والاستحباب ، لا أمر تحتم وإيجاب ، بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» وكما لا يجب عليه بيعه

٢٣٤

ممن يعتقه في الكفارة ولا يجبر ، لا تجب عليه الكتابة ولا يجبر عليها ، فالعقود كلها تقوم على التراضي.

وقال داود الظاهري وجماعة من التابعين : الأمر للوجوب ، لما رواه البخاري تعليقا وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال : سألني سيرين المكاتبة ، فأبيت عليه ، فأتى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فأقبل علي بالدّرّة ، وتلا قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) فكاتبه.

ويجوز عملا بظاهر إطلاق الآية (فَكاتِبُوهُمْ) أن يكون البدل حالا أو مؤجلا بقسط واحد أو أكثر ، وهو مذهب الحنفية وأصحاب مالك. ومنع الشافعية الكتابة على بدل حال ؛ لأن الكتابة تشعر بالتنجيم (التقسيط) ولأن المكاتب عاجز عن الأداء في الحال ، فيرد إلى الرق ، ولا يحصل مقصود الكتابة. كذلك منعوا الكتابة على أقل من نجمين (قسطين) لأنه عقد إرفاق وتعاون ، ومن تمام الإرفاق التنجيم. وهذا خلاف ظاهر الآية.

والكتابة مشروطة في الآية بظن الخير في المكاتب ، فإن لم يعلم فيه الخير ، لم تجب ولم تندب ، بل ربما تكون الكتابة محرمة ، كما إذا علمنا أن المكاتب يكتسب بطريق الفسق ، أو الموت جوعا. كما تحرم الصدقة والقرض لمن يصرفهما في محرّم.

(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي أعطوهم أيها السادة شيئا من مال الكتابة كالربع أو الثلث أو السبع أو العشر ، وكل ذلك مروي عن التابعين ، أو أقل متمول كما قال الشافعي. وحط شيء من مال الكتابة أولى من الإيتاء ؛ لأنه المأثور عن الصحابة. والإيتاء عند الجمهور مندوب للمساعدة والخلاص ، وذهب الشافعي إلى أن الإيتاء واجب ، وفي معناه الحط ، عملا بظاهر الآية.

وقال جماعة من العلماء : إن الأمر متوجه إلى الناس كافة من سهم الزكاة في قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) أي في تحرير الرقاب ، وهو مذهب الحنفية ،

٢٣٥

والأمر حينئذ للوجوب. ويؤيده الحديث المتقدم عن أبي هريرة : «ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله». قال ابن كثير : والقول الأول أشهر ، أي جعل الخطاب للسادة ، لا لجماعة المسلمين ؛ لأن الخطاب في الزكاة فرض متعين ، والآية هنا تضيف على الزكاة مطلبا آخر على السادة.

الحكم العاشر ـ الإكراه على البغاء :

نهى الله تعالى المؤمنين عن جمع المال من طرق حرام فقال : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لا تجبروا إماءكم على الزنى ، سواء أردن التعفف عنه أو لا ، طلبا لعروض الدنيا المادية من مال وولد وغيرهما. وقوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) شرط لحدوث الإكراه وقيد لبيان الواقع الذي بسببه نزلت الآية ، بدليل ما أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى ليأخذوا أجورهن ، فنهوا عن ذلك في الإسلام ونزلت الآية ، وكذلك بينا في سبب النزول أن عبد الله بن أبي كان له جوار يكرههن على الزنى كسبا للمال.

فالتقييد بقيدي إرادة التحصن وابتغاء عرض الحياة الدنيا لا مفهوم له ، ويحرم الإكراه مطلقا سواء وجد هذان القيدان أم لا ، وإنما جاء ذلك بقصد النص على عادة أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة ، أرسلها تزني ، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت ، فنص على ذلك للتشنيع ، ثم إن قيد إرادة التحصن شرط في تصور الإكراه وتحققه وليس شرطا للنهي ، لكن في الحقيقة ذكر الإكراه مغن عن هذا القيد ، فيتصور بإكراه غير التي تريد الزنى ، ثم حدث الإجماع على تحريم الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن أو إرادة التحصن والتعفف.

والتعبير بإن في قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) بدل «إذا» للإشعار

٢٣٦

بوجوب الانتهاء عن الإكراه في حال التردد والشك بإرادة التحصن ، فيكون تحريم الإكراه عند تحقق الوقوع أشد وأقبح وأولى.

(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ومن يحدث منه الإجبار على البغاء للإماء فإن الله غفور لهن ، رحيم بهن من بعد إكراههن. وهذا يشعر أنه ولو حدث الزنى بالإكراه فهو ذنب وإثم ، بدليل المغفرة ، ولأن مثل هذا الفعل لا يخلو من مطاوعة.

وواضح أن المغفرة عائدة إلى المكرهات ، وهو رأي أكثر العلماء ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : «من بعد إكراههن لهن غفور رحيم». وقال بعضهم : المغفرة عائدة إلى المكرهين بشرط التوبة ، وهو فتح باب الأمل أمامهم ، وهو تأويل ضعيف بعيد لأن فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى ، والحال حال تهويل وتشنيع على من أقدم على الإكراه.

وبعد تفصيل هذه الأحكام وبيانها ذكر الله تعالى فضائل هذه السورة ، أو وصف القرآن بصفات ثلاث هي :

١ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي أنزلنا في هذه السورة وغيرها آيات مفصّلات الأحكام والحدود والشرائع التي أنتم بحاجة إليها.

٢ ـ (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وأنزلنا أيضا قصة عجيبة من مثل أخبار الأمم المتقدمة وهي قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف ومريم عليهما‌السلام. فقوله : (وَمَثَلاً) أي ومثلا من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم ، يعني قصة عائشة رضي‌الله‌عنها كقصة يوسف ومريم عليهما‌السلام.

٣ ـ (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي وأنزلنا مواعظ وزواجر لمن اتقى الله وخاف

٢٣٧

عذابه ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور ٢٤ / ٢] وقوله عزوجل : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) [النور ٢٤ / ١٢].

أي أن هذه الأوصاف إما لما في هذه السورة من أحكام ومواعظ وأمثال ، وإما لجميع ما في القرآن من الآيات البينات والأمثال والمواعظ ، والأول رأي الزمخشري ، والثاني رأي الرازي وابن كثير.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات أحكاما رئيسة كبري ثلاثة هي ما يتعلق بالزواج ، ومكاتبة الأرقاء ، والإكراه على الزنى.

١ ـ أما ما يتعلق بالزواج : فقد ذكر الله تعالى حكم زواج القادرين على تكاليفه ، والعاجزين عن أهبته.

أ ـ فإن كان الشخص قادرا على الزواج صحيا وماليا ، فالله تعالى يأمر الأولياء بالتزويج ، تحقيقا للعفة والستر والصلاح ، فإن الزواج طريق التعفف. والصحيح أن الخطاب للأولياء ، لذا قال أكثر العلماء : في الآية دليل على أن المرأة ليس لها أن تزوج نفسها بغير ولي.

وقال أبو حنيفة : إذا زوجت المرأة نفسها ثيبا كانت أو بكرا بغير ولي من كفء لها جاز.

وحكم الزواج يختلف باختلاف حال الإنسان من خوف الوقوع في الزنى ومن عدم صبره ، ومن قوته على الصبر وزوال خشية الزنى ، فإن خاف الهلاك في الدّين أو الدنيا أو فيهما فالزواج حتم فرض ، وإن لم يخش شيئا وكانت الحال معتدلة ، فقال الشافعي : الزواج مباح ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : هو مستحب. دليل الرأي الأول : أن الزواج قضاء لذة ، فكان مباحا كالأكل

٢٣٨

والشرب ، ودليل الرأي الثاني الحديث الصحيح المتفق عليه بين الشيخين وأحمد عن أنس : «من رغب عن سنتي فليس مني».

ونهى الحق تعالى عن الامتناع عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة ، ووعد بالغنى للمتزوجين الطالبين رضا الله والاعتصام من معاصيه ، في قوله : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). فإن وجد متزوج لا يستغني ، فلا يخل بمعنى الآية ، إذ لا يلزم من هذا دوام الغنى واستمراره ، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد ، فالمال غاد ورائح ، أو أن الغنى مرتبط بمشيئة الله تعالى ، ويكون معنى الآية : يغنيهم الله من فضله إن شاء ؛ كقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد ١٣ / ٢٦].

وهذه الآية : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) دليل على تزويج الفقير ، ولا يقول : كيف أتزوج وليس لي مال ؛ فإن رزقه على الله. وقد زوّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد ، وليس لها بعد ذلك فسخ الزواج بالإعسار ؛ لأنها دخلت عليه. وليس في الآية دلالة على منع التفريق بسبب الإعسار بعد أن تزوجت المرأة موسرا ، وإنما يفرّق بينهما ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النساء ٤ / ١٣٠]. كل ما في الأمر أن الآية وعد بالإغناء لمن تزوج فقيرا.

ب ـ وأما إن كان الشخص عاجزا عن تكاليف الزواج ، فالله يأمره بالاجتهاد في التعفف ، فقال : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ ...) الخطاب لمن يملك أمر نفسه ، لا لمن زمامه بيد غيره ، فإنه يقوده إلى ما يراه ، كالمحجور عليه. والاستعفاف : طلب أن يكون عفيفا ، والله يأمر بهذه الآية كل من تعذّر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه أن يستعفف.

ولما كان أغلب الموانع عن الزواج عدم المال وعد تعالى بالإغناء من فضله ،

٢٣٩

فيرزقه ما يتزوج به ، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق ، أو تزول عنه شهوة النساء.

وقوله تعالى : (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي طول (مؤن) نكاح ، فحذف المضاف. أو يراد به ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة ، كاللّحاف : اسم لما يلتحف به ، واللباس اسم لما يلبس ، فعلى هذا لا حذف في الآية.

وعلى هذا من تاقت نفسه إلى الزواج إن وجد التكاليف المالية فالمستحب له أن يتزوج ، وإن لم يجدها فعليه بالاستعفاف ، فإن أمكن ولو بالصوم ، فإن الصوم له وجاء ، كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى.

٢ ـ وأما مكاتبة الأرقاء من عبيد وإماء فهي أمر مستحب شرعا ؛ لأن الشرع يتشوف إلى تحرير الأنفس البشرية ، وإذا تحرر الإنسان ملك نفسه ، واستقل واكتسب وتزوج إذا أراد ، فيكون الزواج أعف له. والكتابة : عقد بين السيد وعبده ، وهي في الشرع : أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجّما عليه (مقسطا) فإذا أدّاه فهو حرّ.

وتطلب الكتابة إن علم السيد في المكاتب خيرا ، أي دينا وصدقا وصلاحا ، ووفاء بالمعاملة ، وأمانة وقدرة على الاكتساب ، وإلا لم تطلب. واختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له ، فكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق ، ورخص فيه مالك وأبو حنيفة والشافعي.

وتكون الكتابة بقليل المال وكثيره ، وعلى أنجم (أقساط) ولا خلاف في ذلك بين العلماء. وقال الشافعي : لا بدّ فيها من أجل ، وأقلها ثلاثة أنجم ، وقال الجمهور : تجوز ولو على نجم (قسط) واحد. ولا تجوز حالّة البتة عند الشافعي وتجوز عند الحنفية وأصحاب مالك.

٢٤٠