التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

بعضنا ويولد بعض. (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت. (إِنْ هُوَ) أي ما الرسول. (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما يدعيه من الرسالة. (بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين بالبعث بعد الموت.

(رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم وانتقم لي منهم. (بِما كَذَّبُونِ) بسبب تكذيبهم إياي. (عَمَّا قَلِيلٍ) أي بعد زمان قليل. (لَيُصْبِحُنَ) ليصيرن. (نادِمِينَ) على كفرهم وتكذيبهم. (الصَّيْحَةُ) : الصوت الشديد ، وهي صيحة العذاب والهلاك ، وهي صيحة جبريل ، صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا. (بِالْحَقِ) بالوجه الثابت الذي لا دافع له. (غُثاءً) شبههم في دمارهم بغثاء السيل ، وهو ما يحمله من الورق والعيدان اليابسة ، وأصل الغثاء : نبت يبس ، أي صيرناهم مثله في اليبس. (فَبُعْداً) من الرحمة وهلاكا. (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) المكذبين.

المناسبة :

هذه هي القصة الثانية في هذه السورة ، وهي قصة هود عليه‌السلام ، في قول ابن عباسرضي‌الله‌عنهما وأكثر المفسرين ؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف حكاية لقول هود : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء.

وقال بعضهم : المراد بهم صالح وثمود ؛ لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة ، والعقاب المذكور هنا هو الصيحة ، فالقصة هي قصة صالح عليه‌السلام.

التفسير والبيان :

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ... تَتَّقُونَ) أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح الهلكى قوما آخرين ، هم عاد قوم هود عليه‌السلام ، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم ، وقيل : المراد ثمود ، لقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ). فأرسل الله تعالى فيهم رسولا منهم ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، فكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشرا مثلهم ، فقال لهم : أفلا تتقون وتخافون عقاب الله بعبادتكم غيره من وثن أو صنم ، فإن العبادة لا تنبغي إلا له ، ولا يستحقها غيره؟!

٤١

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ... تَشْرَبُونَ) أي قال أشراف قومه المتصفون بصفات ثلاث هي شر الصفات :

أولها ـ الكفر بالخالق وجحود وحدانية.

ثانيها ـ الكفر بيوم القيامة والتكذيب بالبعث والجزاء والحساب ، والمعاد الجثماني.

ثالثها ـ الانغماس في الحياة الدنيا التي أنعم الله بها عليهم ، حتى بطروا وجحدوا النعمة ، وقالوا : ما هود الذي يدعي أنه رسول إلا بشر عادي مثلكم في الصفات والحال ، لا ميزة له عليكم ، فهو يأكل من طعامكم ، ويشرب من شرابكم الذي تشربون منه ، فكيف يدعي الفضل عليكم ، ويزعم الرسالة من الله إليكم؟

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ ، إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي وأقسموا لئن أظهرتم الطاعة لبشر مثلكم ، واتبعتموه ، إنكم حينئذ تخسرون عقولكم ، وتغبنون في آرائكم ، وتضيعون مجدكم بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم. وبشرية الرسول هي الشبهة الأولى لإنكار هؤلاء القوم. ثم ذكروا شبهة ثانية وهي الطعن في صحة الحشر والنشر ، والطعن في نبوته القائمة على إثبات ذلك ، فقالوا :

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي أيعدكم أنكم تخرجون وتبعثون من قبوركم أحياء بعد موتكم وصيرورتكم ترابا وعظاما بالية؟! ثم قرنوا بالإنكار استبعادهم الشديد وقوع ما يدعيه بقولهم :

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي بعد بعد ما توعدون به أيها القوم من حدوث البعث الجثماني وعودة الحياة مرة أخرى ، للحساب والجزاء. ثم أكدوا إنكار البعث بقولهم :

٤٢

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ، نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي ما الحياة إلا واحدة وهي حياة الدنيا ، فالبعض يموت ، والبعض يحيا ، وأنه لا إعادة ولا حشر ولا بعث. وبعد أن طعنوا في صحة الحشر ، بنوا عليه الطعن في نبوة هود ، فقالوا :

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي ما هود الذي يدعي النبوة ويثبت البعث إلا مجرد رجل اختلق الكذب على الله ، فيما جاءكم به من الرسالة والإنذار والإخبار بالمعاد ، وما نحن له بمصدقين فيما يدّعي ويزعم.

ولم يجب الله تعالى عما أوردوه من الشبهتين المتقدمتين ، أما كون الرسول بشرا فهو أدعى وألزم للمؤانسة ، وتيسر الأخذ عنه ، ومناقشته ، وتكوين القناعة من أمثالهم عقلا وفكرا ومحاكمة ، فليست القضية مجرد إلزام بالقول. وأما استبعاد الحشر فلضعف عقولهم ، وقصور ميزانهم ؛ لأن العاقل يدرك أنه سبحانه لما كان قادرا على كل الممكنات ، عالما بكل المعلومات ، وجب أن يكون قادرا على الحشر والنشر ، ولأن الإعادة أمر ضروري لإقامة صرح العدالة بين الناس ، فلو لا الإعادة لكان تسليط القوي على الضعيف في الدنيا ظلما ، ولا رادع له ، ولا عقاب عليه ، وهو غير لائق بالحكيم ، لذا قال تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه ٢٠ / ١٥].

ولما يئس هود من إيمان قومه بقولهم : (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) فزع إلى ربه :

(قالَ : رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي رب انصرني على قومي نصرا مؤزرا بسبب تكذيبهم إياي في دعوتي لهم إلى الإيمان بك وتوحيدك وإثبات لقائك.

فأجاب الله دعاءه :

٤٣

(قالَ : عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي قال تعالى مجيبا دعاءه : ليصيرن قومك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا ، وذلك حين ظهور علامات الهلاك لهم ، فيحصل منهم الحسرة والندامة على ترك قبول دعوتك لهم إلى الإيمان بالله والتوحيد ، وعلى مخالفتك وتكذيبك ومعاندتهم إياك.

ثم كان الجزاء والعذاب ، فقال تعالى :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي أهلكوا وماتوا بصيحة جبريل الرهيبة بهم ، وهي صوت شديد مرعب أدى إلى الصعقة والموت ، فأصبحوا بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم صرعى هلكى ، كغثاء السيل : وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه ، قال ابن كثير : والظاهر أنه اجتمعت عليهم الصيحة ، مع الريح الصرصر العاصفة القوية الباردة.

(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي بعدا من الرحمة وهلاكا ، وسحقا وتدميرا للقوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وطغيانهم وعصيان رسولهم ، كقوله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٧٦].

وفي هذا غاية المهانة والذلة لهم ، وإظهار قدرة الله عليهم ، وإنذار السامعين أمثالهم من تكذيب رسولهم بأن يصيبهم من العذاب مثل ما أصابهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

العبرة واضحة من هذه القصة ، فهي إنذار مخالفي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيان عاقبة الكافرين الظالمين الذين ينكرون وحدانية الله ، ولا يصدقون بيوم القيامة ، ويعاندون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وواضح من الآيات أن هودا عليه‌السلام أمر قومه بعبادة الله وحده لا شريك له ؛ إذ لا يستحق العبادة سواه ، وحذرهم من الكفر ، وخوفهم من عقاب الله وعذابه.

٤٤

أما القوم فكانوا أغبياء إذ صدقوا رؤساءهم وزعماءهم الذين كفروا بربهم وكذبوا بالبعث ولقاء الله ، وانغمسوا في نعم الحياة المادية التي أنعم الله بها عليهم ، وصدوهم عن الإيمان ، معتمدين على شبهتين :

الأولى ـ بشرية الرسل وعدم تميزهم عن سائر البشر بميزة تقتضي اتباعهم.

الثانية ـ إنكار البعث والحشر والنشر والحساب والجزاء.

ورتبوا على ذلك إنكار نبوة هود عليه‌السلام ، وبالغوا في إنكار البعث ، وأعلنوا كبقية الماديين الملحدين أن الحياة في الدنيا هي الحياة الوحيدة ، أو لا حياة إلا هذه الحياة ، وأن البشر سلسلة يموت بعضهم ، ويحيا بعضهم ، وأن رسولهم هود رجل مفتر كذاب فيما يدعيه من الرسالة وما يزعمه من البعث والجزاء.

وكانت النتيجة الحتمية المطابقة للعدل هي هلاك القوم وتدميرهم بصيحة جبريل عليه‌السلام مع الريح الصرصر العاتية ، صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها ، فماتوا عن آخرهم ، وجعلوا هلكى هامدين كغثاء السيل : وهو ما يحمله من بالي الشجر من الأعشاب والقصب مما يبس وتفتّت ، فبعدا أي هلاكا لهم ، وبعدا لهم عن رحمة الله ، بظلمهم وكفرهم وعنادهم وطغيانهم.

القصة الثالثة ـ قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم‌السلام

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

٤٥

الإعراب :

(وَما يَسْتَأْخِرُونَ) لم يقل : تستأخر ، مثل : تسبق ، وإنما ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى.

(تَتْرا) في موضع نصب على الحال من (الرسل) أي أرسلنا رسلنا متواترين. و (تَتْرا) أصلها وترى من المواترة ، فأبدل من الواو تاء ، كتراث وتهمة وتخمة ، ويقرأ بتنوين وغير تنوين ، فمن قرأ بالتنوين جعل ألفها للإلحاق بجعفر ، وألف الإلحاق قليلة في المصادر ، فجعلها بعضهم بدلا عن التنوين. ومن لم ينون ، جعل ألفها للتأنيث كالدّعوى والعدوى ، وهو ممنوع من الصرف للتأنيث ولزومه.

المفردات اللغوية :

(قُرُوناً) قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) بأن تموت قبله. (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) عنه.

(تَتْرا) متواترين ، واحدا بعد واحد ، من الوتر وهو الفرد ، والألف للتأنيث ؛ لأن الرسل جماعة ، أي جعلناهم متتابعين ، بين كل اثنين زمان طويل. (أَرْسَلْنا رَسُولُها) هذا مثل قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) [المائدة ٥ / ٣٢] وقوله : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) [الأعراف ٧ / ١٠١] فمرة يضيف الرسل إليه تعالى ، ومرة إلى أممهم ؛ لأن الإضافة تكون بالملابسة ، والرسول ملابس المرسل ، والمرسل إليهم جميعا ، وأضاف الرسول عند الإرسال إلى المرسل في قوله : (أَرْسَلْنا) وعند المجيء إلى المرسل إليهم في قوله : (رَسُولُها) لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى ، والمجيء الذي هو منتهاه إلى القوم.

(فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك. (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لم يبق منهم إلا حكايات يسمر بها ، أي جعلناهم أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. والأحاديث : اسم جمع للحديث في رأي الزمخشري ، أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا وتعجبا ، كالأضحوكة والألعوبة والأعجوبة ، وهو المراد هنا. والجمهور على أن الأحاديث في غير هذا الموضع جمع حديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع.

المناسبة :

هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة ، وهي مجموع قصص ذات هدف واحد ، والله تعالى يقص القصص في القرآن تارة مفصلة ، كالقصتين السابقتين ،

٤٦

وأخرى مجملة كما هنا ، والمراد بهذه القصص قصة لوط وصالح وشعيب وأيوب ويوسف عليهم‌السلام.

التفسير والبيان :

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) أي ثم أوجدنا من بعد هلاك قوم عاد أمما وخلائق وأقواما آخرين ، كقوم صالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف وغيرهم عليهم‌السلام ، ليقوموا مقام من تقدمهم في عمارة الدنيا.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها ، وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي ما تتقدم أمة مهلكة من تلك الأمم وقتها المقدّر لهلاكها أبدا ، أو المؤقت لعذابها إن لم يؤمنوا ، ولا يتأخرون عنه. والمعنى أن وقت الهلاك محدد لا يتقدم ولا يتأخر ، فلا تتعجلوا العذاب ، فكل شيء عنده تعالى بمقدار ، وهذا مرتبط بأجل الإنسان ، كما قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل ١٦ / ٦١].

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي ثم بعثنا رسلا آخرين في كل أمة ، يتبع بعضهم بعضا ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل ١٦ / ٣٦].

(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) أي كلما جاء الرسول أمة بتكليفهم بالشرائع والأحكام كذبه جمهورهم وأكثرهم ، سالكين في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة ، كقوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [يس ٣٦ / ٣٠].

(فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي بالهلاك ، والمعنى : أتبعنا بعضهم بالهلاك إثر

٤٧

بعض ، حين كذبوا رسلهم ، كقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء ١٧ / ١٧].

(وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي وجعلناهم أخبارا وأحاديث للناس ، جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به ، يتحدثون بها تلهيا وتعجبا ، كقوله تعالى : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ ٣٤ / ١٩].

(فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي هلاكا وتدميرا وبعدا عن رحمة الله لقوم لا يصدقون به ولا برسوله. وهذا وارد على سبيل الدعاء ، والذم ، والتوبيخ ، والوعيد الشديد لكل كافر. وهو دليل على أنهم كما أهلكوا عاجلا ، فهلاكهم بالتعذيب آجلا على التأبيد مترقب.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات واضحة الدلالة على المقصود منها ، وهي أن أجل الهلاك والعذاب محدد بميقات معين ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر. وأن رحمة الله وحكمته وعدله اقتضت إرسال الرسل في كل الأمم (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء ٤ / ١٦٥].

ولكن أكثر الناس وجمهورهم يكذبون الرسل ويخالفونهم فيما جاؤوا به ، فتكون النتيجة إهلاك بعضهم إثر بعض ، وجعلهم أحدوثة (وهي ما يتحدث به) يقص الناس أخبارهم في مجالس السمر ، لأنها مدعاة للتعجب.

ثم ختمت الآيات بالإنذار والوعيد الشديد بالهلاك والدمار لكل قوم لا يصدقون بوجود الله وتوحيده وإرسال رسله ، فإن الكافرين كما أهلكوا في الدنيا ، يكون هلاكهم بالتعذيب في الآخرة أمرا منتظرا مؤكدا حصوله.

٤٨

القصة الرابعة ـ قصة موسى وهارون عليهما‌السلام

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩))

البلاغة :

(عالِينَ) ، (الْمُهْلَكِينَ) سجع لطيف.

المفردات اللغوية :

(بِآياتِنا) بالآيات التسع كاليد والعصا ، وهي المذكورة في سورة الأعراف (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجة بينة واضحة ملزمة للخصم ، والمراد بالسلطان المبين : إما الآيات أنفسها ، أي هي آيات وحجة بينة ، وإما العصا لأنها كانت أمّ الآيات وأولاها ، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية ، وتلقفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر ، بضربها بها ، وكونها حارسا ، وشمعة ، وشجرة خضراء مثمرة ، ودلوا ، ورشاء ، فجعلت كأنها ليست بعض الآيات ، لخصائصها ومزاياها وفضلها ، فلذلك عطف عليها ، كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة ٢ / ٩٨] عطفا على الملائكة ، مع أنهما منهم.

ومثل وغير : يوصف بهما الاثنان والجمع ، والمذكر والمؤنث ، كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [النساء ٤ / ١٤٠] (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق ٦٥ / ١٢]. ويقال أيضا : هما مثلاه ، وهم أمثاله ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) [الأعراف ٧ / ١٩٤].

(فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بالله وبالآيات ، والمتابعة (عالِينَ) متكبرين قاهرين بني إسرائيل بالظلم (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ (١) مِثْلِنا) ثنّى البشر ؛ لأنه يطلق للواحد ، كقوله تعالى:

__________________

(١) لفظ البشر يطلق على الواحد والجمع ، كما قال تعالى في إطلاقه على الواحد : فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم ١٩ / ١٧] أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ [المؤمنون ٢٣ / ٤٧]. ومثال إطلاقه على الجمع ـ

٤٩

(بَشَراً سَوِيًّا) [مريم ١٩ / ١٧] كما يطلق للجمع ، كقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم ١٩ / ٢٦] ولم يثنّ المثل ؛ لأنه في حكم المصدر ، فيوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث.

(وَقَوْمُهُما) يعني بني إسرائيل (عابِدُونَ) خادمون مطيعون ، خاضعون منقادون (مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق في البحر الأحمر (الْكِتابَ) التوراة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) لعل بني إسرائيل يهتدون إلى المعارف والأحكام. ولا يجوز عود الضمير إلى فرعون وقومه ؛ لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم.

المناسبة :

هذه هي القصة الرابعة في هذه السورة ، ويلاحظ فيها وحدة الموضوع والهدف وشبهة إنكار النبوة ، فموضوعها : وصف حال المتكبرين السادة الأشراف الملأ من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف ، وفرعون وملئه ، وتكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالحق وبالبينات والمعجزات الواضحات الدالة على صدقهم. والهدف : هو العبرة والعظة حتى لا يستبد الكفار بآرائهم ، ويمعنوا في العناد والكفر ، فيستحقوا مثل عقاب من تقدمهم.

وأما شبهة إنكار النبوة من المنكرين في هذه القصص فهي واحدة وهي وحدة البشرية أو قياس حال الأنبياء على أحوالهم ، لما بينهم من المماثلة في الحقيقة ، وهي شبهة زائفة باطلة ؛ لأن النفوس البشرية ، وإن اشتركت في أصل القوى والإدراك ، فإنها متباينة فيهما ، فالناس يتفاوتون في طاقات المواهب والأفكار والمدارك ، وفي الاستعدادات الفطرية ، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : (قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الكهف ١٨ / ١١٠].

التفسير والبيان :

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ .. قَوْماً عالِينَ) أي ثم أرسلنا بعد الرسل

__________________

ـ قوله تعالى : فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم ١٩ / ٢٦] وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر ٧٤ / ٣١]

٥٠

المتقدمين موسى وأخاه هارون إلى فرعون وأشراف قومه وأتباعهم من الأقباط بالآيات والحجج الدامغة والبراهين القاطعة ، ولكن هؤلاء القوم استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما ؛ لكونهما بشرين ، كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر ، وكانوا قوما متكبرين ، كما قال تعالى: (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، فَقُلْ : هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات ٧٩ / ١٧ ـ ١٩] وقال سبحانه : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص ٢٨ / ٤].

والآيات كما قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما هي الآيات التسع وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، وانفلاق البحر ، والسنون ، ونقص الثمرات.

ودلت الآية على أن النبوة كانت مشتركة بين موسى وهارون ، وكذلك كانت المعجزات واحدة ، فمعجزات موسى عليه‌السلام هي معجزات هارون عليه‌السلام.

وكانت صفة فرعون وقومه أمرين : أحدهما ـ الاستكبار والأنفة ، والثاني ـ أنهم كانوا قوما عالين ، أي رفيعي الحال في أمور الدنيا أو في الكثرة والقوة ، أي على جانب من الحضارة والعلم ، والعز والسلطان ، بدليل الواقع التاريخي.

وكانت شبهتهم هي قولهم : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ، وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ)؟ أي قال فرعون وملؤه (أشراف قومه) : كيف ننقاد لأمر موسى وأخيه هارون ، وقومهما بنو إسرائيل خدمنا وعبيدنا المنقادون لأوامرنا؟!

أي أن الرسالة تتنافى مع البشرية ، وأن قوم موسى وهارون أتباع أذلة لفرعون وقومه ، وهكذا شأن الماديين لا يؤمنون بالقوى المعنوية ، ويقيسون عزة النبوة وتبليغ الوحي عن الله على الرياسة أو الزعامة الدنيوية المعتمدة على الجاه والمال.

٥١

وهذا المعنى ذاته شبيه بما قالته قريش : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١]. ولم يتنبهوا إلى أن معيار الاصطفاء للنبوة أو الرسالة إنما هو السمو في الفضائل والصفات التي ينعم الله بها عليهم ويؤهلهم لتلقي الوحي وتبليغه إلى البشر. وكان مآل غطرسة فرعون وقومه أمرين : التكذيب بنبوة موسى ، وإنزال التوراة على موسى ، أما الأول فهو قوله تعالى :

(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي كذب فرعون وقومه موسى وهارون ، فأهلكهم الله بالغرق في يوم واحد أجمعين في بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك المستكبرين المتقدمين من الأمم بتكذيبهم رسلهم.

وأما الثاني فهو قوله سبحانه :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لقد أنزلنا على موسى التوراة المشتملة على الأحكام والأوامر والنواهي ، بعد إغراق فرعون وقومه ، رجاء أن يهتدي بها بنو إسرائيل إلى الحق ، بامتثال ما فيها من المعارف والأحكام ، وذلك كقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص ٢٨ / ٤٣].

قال ابن كثير : وبعد أن أنزل الله التوراة ، لم يهلك أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

في قصة موسى وهارون مع فرعون عبرة بالغة وعظة مؤثرة ، فلقد بعث الله

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٤٥

٥٢

تعالى موسى وأخاه هارون إلى فرعون وقومه ، مؤيدين بالمعجزات والأدلة الواضحة القاطعة الدالة على صدقهما ، فدعواه وملأه إلى الإقرار بوجود الله وتوحيده ، فاستكبروا وتعالوا عن اتباعهما والانقياد لدعوتهما ، لكونهما بشرين.

فكان حصاد التكذيب أمرين : إهلاك فرعون وقومه بالغرق في يوم واحد أجمعين في البحر الأحمر ، وإنزال التوراة على موسى في الطور ، فيها هدى ونور ، وتشريع وأحكام ، وخص موسى بالذكر هنا ؛ لأن هارون كان خليفة في قومه ، وإيتاء التوراة كان لكليهما ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٨].

القصة الخامسة ـ قصة عيسى وأمه مريم عليهما‌السلام

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))

البلاغة :

(مَعِينٍ) مع فواصل الآيات السابقة ، (عالِينَ) ، (الْمُهْلَكِينَ) سجع مستحسن.

المفردات اللغوية :

(ابْنَ مَرْيَمَ) عيسى عليه‌السلام (آيَةً) حجة وبرهانا على قدرة الله تعالى ، ولم يقل : آيتين ؛ لأن الآية فيهما واحدة ، وهي ولادتها إياه من غير مسيس رجل (وَآوَيْناهُما) جعلنا مأواهما ومنزلهما (إِلى رَبْوَةٍ) هي المكان المرتفع من الأرض ، وهو أرض بيت المقدس أو فلسطين أو الرملة ، أو دمشق ، فإن قراها على الرّبى (ذاتِ قَرارٍ) أي ذات استقرار فيها ، يستقر عليها ساكنوها ؛ لأجل ما فيها من الثمار والزروع (وَمَعِينٍ) ماء جار ظاهر للناس.

٥٣

المناسبة :

سبق إيراد قصة عيسى وأمه مفصلة في سورتي آل عمران ومريم ، ووردت هنا بإيجاز يقتضيه المقام ، وهو الاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى على ما يشاء ، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى ، وانتهى بذلك عصر المعجزات لانتهاء النبوة.

التفسير والبيان :

وجعلنا عيسى وأمه آية للناس دالة على قدرتنا ؛ إذ خلقناه من غير أب. وقد جعلهما الله تعالى آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير رجل ، لاشتراكهما في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة. وهو دليل على القدرة الإلهية القادرة على كل شيء ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٩١].

وجعلنا مأواهما في مكان مرتفع من الأرض ، صالح لاستقرار السكان ، ذي ثمار وزروع وخصب ، وماء جار ظاهر للعيون لا ينضب ، وهو ـ كما قال قتادة ـ بيت المقدس ، وهو الظاهر ، وقيل : هو الرملة من فلسطين ، كما روي عن أبي هريرة ، وقال مقاتل والضحاك : هي غوطة دمشق ؛ إذ هي ذات الثمار والمياه.

قال ابن كثير : وأقرب الأقوال في ذلك : ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) قال : المعين : الماء الجاري ، وهو النهر الذي قال الله تعالى عنه : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم ١٩ / ٢٤] وكذا قال قتادة والضحاك : إلى ربوة ذات قرار ومعين : هو بيت المقدس ، فهذا ـ والله أعلم ـ هو الأظهر ؛ لأنه المذكور في الآية الأخرى ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وهذا أولى ما يفسر به ، ثم الأحاديث الصحيحة ، ثم الآثار (١)

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٤٦

٥٤

فقه الحياة أو الأحكام :

إن خلق عيسى عليه‌السلام من غير أب هو معجزة ، وآية دالة على عظمة القدرة الإلهية.

وهو إعداد له ليكون نبيا ، وقد ظهرت علائم نبوته بالنطق وهو في المهد طفل رضيع.

ومقتضى الإعداد للنبوة أن يكفله الله ويحميه ، وينعم عليه بالنعم التي تعينه على تحمل أعباء النبوة ، ومن تلك النعم الوفيرة : الإيواء في مكان صحي ، ومنزل مريح ، محاط بالخيرات من كل جوانبه ، يفيض بالثمار والزروع والمياه الغزيرة المتدفقة ، لتوفير سبل الحياة الكريمة.

وسبب الإيواء أن مريم أم عيسى فرت بابنها عيسى إلى الربوة ، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة. وقد ذهب بهما ابن عمها يوسف النجار ، ثم رجعت إلى أهلها ، بعد أن مات ملكهم.

مبادئ التشريع في الحياة

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

٥٥

الإعراب :

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : (إِنَ) بالكسر على الابتداء والاستئناف. وتقرأ بالفتح على النصب أو الجر ، فالنصب بتقدير حذف حرف الجر ، أي وبأن هذه ، أو بفعل مقدر تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم. والجر : بالعطف على (ما) في قوله : (بِما تَعْمَلُونَ). و (أُمَّةً) : منصوب على الحال ، أي هذه أمتكم مجتمعة ، ويقرأ بالرفع : إما بدل من (أُمَّتُكُمْ) التي هي خبر (إِنَ) ، وإما خبر بعد خبر ، وإما خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هي أمة واحدة.

(زُبُراً) حال من فاعل (فَتَقَطَّعُوا).

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما أَنَّما) : بمعنى الذي في موضع نصب ؛ لأنها اسم (أن) وخبرها (نُسارِعُ لَهُمْ) به ، فحذف (به) وهو حذف وقع في الصلة وفي الخبر.

البلاغة :

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) استعارة ، شبه ما هم فيه من الجهالة والضلالة بالماء الذي يغمر الإنسان برمته.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ) استفهام إنكاري.

(نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) حذف (به) أي نسارع لهم به في الخيرات ، وحذف لطول الكلام.

(فَاتَّقُونِ فَرِحُونَ حِينٍ بَنِينَ) سجع مقبول لا تكلف فيه.

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) نداء وخطاب لجميع الأنبياء ، ولكن ليس دفعة واحدة ؛ لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة ، بل على معنى أن كلّا منهم خوطب به في زمانه ، فيشمل الخطاب عيسى عليه‌السلام ، للتنبيه على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة ، وإنما إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم ، وللاحتجاج على الرهبانية في رفض الطيبات. (الطَّيِّباتِ) ما يستطاب ويستلذ من المباحات في المآكل والفواكه. (وَاعْمَلُوا صالِحاً) من فرض ونفل. (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فأجازيكم عليه.

(وَإِنَّ هذِهِ) ملة الإسلام. (أُمَّتُكُمْ) ملتكم ودينكم وشريعتكم أيها المخاطبون ، يجب ان تكونوا عليها. (فَاتَّقُونِ) فاحذرون. (فَتَقَطَّعُوا) أي الأتباع أي قطعوا ومزقوا. (أَمْرَهُمْ) دينهم. (زُبُراً) قطعا وأحزابا متخالفين ، كاليهود والنصارى وغيرهم ، جمع زبور. (حِزْبٍ) جماعة وأمة. (بِما لَدَيْهِمْ) عندهم من الدين. (فَرِحُونَ) مسرورون ، معجبون ، معتقدون أنهم

٥٦

على الحق. (فَذَرْهُمْ) اترك كفار مكة ، ودعهم. (فِي غَمْرَتِهِمْ) في ضلالتهم وجهالتهم ، شبهها بالماء الذي يغمر القامة ؛ لأنهم مغمورون فيها. (حَتَّى حِينٍ) إلى حين موتهم أو قتلهم. (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) أن ما نعطيهم ونجعله مددا لهم. (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) في الدنيا.

(نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) نعجل لهم به ، وهو خبر أن ، والراجع ضمير محذوف ، والمعنى : أيحسبون أن الذي نمدهم به نسارع لهم به فيما فيه خيرهم وإكرامهم. (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أن ذلك استدراج لهم ، وإنما هم كالبهائم ، لا فطنة عندهم ولا شعور ليتأملوا ، فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج ، لا مسارعة في الخير.

المناسبة :

بعد بيان قصص بعض الأنبياء المتقدمين ، أوصى الله تعالى بجملة من المبادئ في الحياة هي الأكل من الحلال ، والعمل بصالح الأعمال ، وإدراك أن الملة واحدة وأن الدين الحق واحد ، ولكن الأمم فرقت دينها شيعا ، وهم في حيرة وعمى يظنون أن إفاضة النعم عليهم ، لرضا الله عليهم ، ولكنها في الحقيقة استدراج ، لا مسارعة في الخيرات.

التفسير والبيان :

١ ـ (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) هذا أمر من الله تعالى عباده المرسلين عليهم‌السلام بالأكل من الحلال ، والقيام بصالح الأعمال ، شكرا للنعمة. وهذا دليل على أن الحلال عون على العمل الصالح وسابق عليه ، ثم ذكر تعالى علة هذا الأمر ، فقال : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي إني مطلع على جميع أعمالكم ، لا يخفى علي شيء منها ، وأنا مجازيكم عليها.

ومن أمثلة الحلال أن عيسى عليه‌السلام كان يأكل من غزل أمه ، وأن داود عليه‌السلام كان يأكل من كسب يده ، كما ثبت في الصحيح ، فيعمل الدروع المسردة (أي ذات الحلق من الحديد) بيده معجزة له وأمرا خارقا للعادة ، وفي

٥٧

صحيح مسلم : «وما من نبي إلا رعى الغنم ، قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال : نعم ، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».

أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ، وَاعْمَلُوا صالِحاً ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة ٢ / ١٧٢] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذّي بالحرام ، يمدّ يديه إلى السماء ، يا ربّ ، يا ربّ ، فأنى يستجاب له».

وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد بن أوسرضي‌الله‌عنها أنها بعثت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدح لبن حين فطره ، وهو صائم ، فرد إليها رسولها وقال : من أين لك هذا؟ فقالت : من شاة لي ، ثم ردّه وقال : ومن أين هذه الشاة؟ فقالت : اشتريتها بمالي ، فأخذه ، فلما كان من الغد جاءته وقالت : يا رسول الله ، لم رددته؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت الرّسل ألا يأكلوا إلا طيبا ، ولا يعملوا إلا صالحا».

٢ ـ (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) أي وإن دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد ، وملة واحدة ، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا يدل على أن الأديان متحدة في أصولها المتعلقة بتوحيد الله ومعرفته. أما اختلاف الفروع من شرائع وأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال ، فلا بأس به ولا يسمى اختلافا في الدين.

ومرجع أعمال الأنبياء جميعا إلى الله تعالى ، فأنا ربكم المتفرد بالربوبية ، فاحذروا عقابي ، ولا تخالفوا أمري ، أي والحال أني أنا ربكم.

٥٨

٣ ـ (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي إن أتباع الأنبياء فرقوا أمر دينهم وقطعوه ومزقوه ، وجعلوه قطعا ، وصاروا فرقا وأحزابا وجماعات ، كل حزب يفرحون بما هم فيه من الضلال ، ويعجبون بما هم عليه ، معتقدين أنه الحق الصراح ، ويحسبون أنهم مهتدون.

وهذا ذم واضح للتفرق والتشتت ، وتوبيخ ووعيد ، لذا قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا :

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أي دعهم واتركهم في جهالتهم وضلالهم إلى حين موتهم أو قتلهم ورؤيتهم مقدمات العذاب وبوادره ، كما قال تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق ٨٦ / ١٧] ، وقال سبحانه : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر ١٥ / ٣].

٤ ـ (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد ، لكرامتهم علينا ، ومعزتهم عندنا؟ كلا ، ليس الأمر كما يزعمون في قولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ ٣٤ / ٣٥].

لقد أخطئوا في ذلك ، وخاب رجاؤهم ، بل إنما نفعل ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء لهم ، لهذا قال تعالى : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يحسون أنما نفعل ذلك بهم استدراجا وأخذا بأيديهم إلى العذاب إذا لم يتوبوا ، كما قال تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة ٩ / ٥٥] ، وقال سبحانه : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران ٣ / ١٧٨] ، وقال عزوجل : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم ٦٨ / ٤٤ ـ ٤٥].

قال قتادة في قوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ ..) الآية : مكر والله

٥٩

بالقوم في أموالهم وأولادهم ، يا ابن آدم ، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ ، ولا يعطي الدّين إلا من أحب ، فمن أعطاه الله الدّين فقد أحبّه ، والذي نفس محمد بيده ، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه ، قالوا : وما بوائقه يا رسول الله؟ قال : غشمه وظلمه ، ولا يكسب عبد مالا من حرام ، فينفق منه ، فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به ، فيقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ، ولكن يمحو السيء بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن الأنبياء كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة ، فكذلك هم متفقون على التوحيد ، وعلى اتقاء معصية الله تعالى.

والدين الذي لا خلاف فيه : معرفة ذات الله تعالى وصفاته ، أي إثبات وجود الله وتوحيده ، أما الاختلاف في الشرائع والأحكام العملية الفرعية ، فلا يسمى اختلافا في الدين.

٢ ـ سوّى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام ، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). وإذا كان هذا مع الأنبياء ، فما ظنّ كل الناس بأنفسهم؟!

٦٠