التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

الانصراف ، وتفويضه بالإذن لمن شاء ، وتعظيم مجلسه ومناداته بأدب جم وحياء وتبجيل يليق به وبرسالته.

ميزة سورة النور

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

الإعراب :

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها سُورَةٌ) : خبر مبتدأ محذوف ، و (أَنْزَلْناها) : صفة ل (سُورَةٌ) وتقديره : هذه سورة منزلة. وقرئ (سورة) بالنصب على تقدير فعل ، و (أَنْزَلْناها) : مفسر له ، وتقديره : أنزلنا سورة أنزلناها ، أو اتبعوا سورة ، أو اتل سورة. وهذا على رأي الجمهور القائلين : الابتداء بالنكرة لا يجوز ، وقال الأخفش : لا يبعد الابتداء بالنكرة فسورة : مبتدأ ، وأنزلنا : خبره.

البلاغة :

(سُورَةٌ ..) التنكير للتفخيم ، أي هذه سورة عظيمة الشأن أنزلها الله. وفيه تنبيه على الاعتناء بها ، ولا ينفي الاعتناء بما عداها.

(أَنْزَلْناها ... وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) إطناب لتأكيد العناية بها ، وهو ذكر للخاص بعد العام للاهتمام به.

المفردات اللغوية :

(سُورَةٌ) السورة : طائفة من آيات القرآن ، محددة البدء والنهاية شرعا بالتوقيف أي النقل الثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوحي الإلهي بوساطة جبريل عليه‌السلام. (أَنْزَلْناها) أعطيناها الرسول وأوحينا بها إليه ، والتعبير بالإنزال الذي هو صعود إلى نزول وإشارة إلى العلو ، للدلالة على أن هذا القرآن من عند الله المتعالي على كل شيء ، وكل من دونه نازل عنه في المرتبة ، فلا يفهم من ذلك أنه تعالى في جهة.

١٢١

(وَفَرَضْناها) الفرض : التقدير ، أو قطع الشيء الصلب ، والمراد هنا الإيجاب أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا. وقرئ (وَفَرَضْناها) بالتشديد لكثرة المفروض فيها (آياتٍ) جمع آية ، وهي العلامة ، والمراد هنا جملة من القرآن الكريم متصلة الكلام تحقق غرضا معينا. (بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تتذكرون وتتعظون وتتقون المحارم ، ولعل هنا يراد بها الإعداد والتهيئة.

التفسير والبيان :

هذه السورة أوحيناها وأعطيناها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفرضنا ما فيها من أحكام كأحكام الزنى والقذف واللعان والحلف على ترك الخير والاستئذان ، وغض البصر ، وإبداء الزينة للمحارم وغيرهم ، وإنكاح الأيامى ، واستعفاف من لم يجد نكاحا ، ومكاتبة الأرقاء ، وإكراه الفتيات على البغاء ، وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والسلام على المؤمنين.

وأنزلنا فيها دلائل واضحة ، وعلامات بينة على توحيد الله وكمال قدرته ، لتتذكروها ، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته تعالى. وتكرار (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) لكمال العناية بشأنها ، كما هي الحال في ذكر الخاص بعد العام.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن سورة النور متضمنة آيات بينات ترشد إلى النظام الأقوم والسلوك الأمثل في الأسرة والمجتمع ، يقصد بها تحقيق العفاف والصون وحماية العرض ، واتقاء المحرّمات ، وتوفير السكينة والطمأنينة القلبية البعيدة عن الشواغل والهواجس الشيطانية الداعية إلى المعصية والرذيلة.

كما أن في هذه الأحكام تذكيرا وعظة للمؤمنين ، وتربية للنفوس ، وتحقيقا للتقوى التي يستشعر بها المؤمن التقي جلال الله وعظمته ، وعلمه وقدرته ،

١٢٢

وحسابه على كل صغيرة وكبيرة ، لهذا افتتحت السورة بما ينبه على العناية بها ، والاهتمام بأحكامها وهي ما يأتي :

الحكم الأول والثاني

حد الزنى وحكم الزناة

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

الإعراب :

(الزَّانِيَةُ ..) مبتدأ ، خبره مقدم محذوف ، أي فيما يتلى عليكم الزانية والزاني. أو خبره : (فَاجْلِدُوا) والفاء زائدة ، فاء الفصيحة ، أفصحت عن جواب سائل سمع حكم الزاني ، فقال : فكيف الحكم؟ وصلح هذا الفعل أن يكون خبرا للمبتدأ ، وإن كان أمرا ، بتقدير : أقول : فاجلدوا ، أو يجعله محمولا على المعنى ، كأنه يقول : الزانية والزاني كل واحد منهما مستحق للجلد. وأل في (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) موصولة ، ونظرا لشبه كل منهما بالشرط دخلت الفاء في الخبر.

البلاغة :

(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تحريض وإغراء.

المفردات اللغوية :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أي غير المحصنين ، والزنى : مقصور في اللغة الفصحى ، وهي لغة الحجازيين ، وقد يمدّ في لغة أهل نجد ، والزنى من الرجل : وطء المرأة في قبل من غير ملك ولا شبهة ملك. والزنى من المرأة : تمكينها الرجل أن يزني بها. وإنما قدم الزانية ؛ لأن الزنى في الأغلب

١٢٣

يكون بتعرض المرأة للرجل وعرض نفسها عليه بأساليب متنوعة ، ولأن مفسدة الزنى وعاره يصيبها أكثر من الرجل ، فهي المادة الأصلية في الزنى.

(فَاجْلِدُوا) الجلد : ضرب الجلد ، وهو حكم البكر غير المحصن ، لما ثبت في السنة أن حدّ المحصن هو الرجم. والإحصان : بالحرية والبلوغ والعقل والدخول في نكاح صحيح ، وبالإسلام عند الحنفية.

(رَأْفَةٌ) شفقة وعطف. (فِي دِينِ اللهِ) في حكمه وطاعته. (وَلْيَشْهَدْ) يحضر (عَذابَهُما) الجلد. (طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الطائفة : تطلق على الواحد فأكثر ، والمراد هنا جمع يحصل به التشهير ، وأقلها ثلاثة. وحضور الطائفة : زيادة في العقاب ؛ لأن التشهير قد يؤثر أكثر مما يؤثر التعذيب.

(لا يَنْكِحُ) يتزوج ، أي أن الغالب المناسب لكل من الزانية والزاني نكاح أمثاله ، فإن التشابه علة الألفة والتضام ، والمخالفة سبب النفرة. وقدم الزاني هنا ؛ لأن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة في الزواج بالنساء ؛ لأن الرجل أصل فيه لأنه الراغب والطالب. (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي حرم نكاح الزواني على المؤمنين الأخيار ؛ لأنه تشبه بالفساق ، وتعرض للتهمة ، وتسبب لسوء المقالة ، والطعن في النسب ، وغير ذلك من المفاسد ، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة.

سبب النزول :

نزول الآية (٣):

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) : أخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها أم مهزول (أو أم مهدون) وكانت تسافح ، فأراد رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتزوجها ، فأنزل الله : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد ، يحمل من الأنبار إلى مكة حتى يأتيهم ، وكانت امرأة بمكة صديقة له يقال لها عناق ، فاستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينكحها ، فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ

١٢٤

مُشْرِكَةً) الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا مرثد : «الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة» الآية ، فلا تنكحها.

وقال المفسرون : الآية إما أنها نزلت في مرثد بن أبي مرثد المذكور ، وإما في جماعة من فقراء المهاجرين استأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء اللائي كن بالمدينة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية.

وظاهر الآية تحريم العفيفة على الزاني ، والزانية على العفيف.

التفسير والبيان :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) : هذه الآية شروع في بيان الأحكام التي أشير إليها في الآية السابقة : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) ، وهي تبين حد الزناة.

والمعنى أن عقوبة الزانية والزاني الحرين البالغين العاقلين البكرين غير المحصنين بالزواج هي الجلد لكل منهما مائة جلدة. والحكمة في البدء في حد الزنى بالمرأة وفي حد السرقة بالرجل ؛ لأن دواعي الزنى تحدث غالبا من المرأة ، وعاره عليها أشد ، وأثره فيها أدوم ، وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال ، وهم عليها أجرأ من النساء وأخطر ، فقدموا عليهن.

وظاهر الآية أن حد الزناة مطلقا هو الجلد مائة ، لكن ثبت في السنة القطعية المتواترة التفريق بين حد المحصن وغير المحصن ، أما حد المحصن فهو الرجم بالحجارة حتى الموت ، بالسنة القولية والفعلية ؛ أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه ، المفارق للجماعة». وأخرج أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه ، ومالك في الموطإ وأحمد في مسنده عن أبي هريرة

١٢٥

وزيد بن خالد الجهني أن أعرابيين أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أحدهما : يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا ـ أجيرا ـ على هذا ، فزنى بامرأته ، فافتديت ابني منه بمئة شاة ووليدة ـ أمة ـ فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا : الرجم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى : الوليدة والغنم ردّ عليك ، وعلى ابنك مائة جلدة ، وتغريب عام ، واغد يا أنيس ـ رجل من أسلم ـ إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها ، فاعترفت ، فرجمها.

وروى جماعة من الصحابة في الصحاح وغيرها بالنقل المتواتر أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف بالزنى أمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المسجد أربع مرات ، فأمر الرسول برجمه.

وروى مسلم وأحمد وأبو داود عن بريدة أن امرأة من بني غامد أقرت بالزنى ، فرجمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن وضعت.

وأنكر الخوارج مشروعية حد الرجم ؛ لأنه لا يتنصف ، فلا يصح أن يكون حدا للمحصنات من الحرائر ، والله تعالى جعل حد الإماء نصف حد المحصنات الحرائر في قوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ ، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء ٤ / ٢٥] ، ولأن الرجم لم يذكر في القرآن في حد الزنى ، ولأن آية الجلد عامة لكل الزناة ، فلا تخصص بخبر الواحد المروي في حد الرجم.

ورد الجمهور على تلك الأدلة بأن التنصيف وارد في الجلد ، فبقي ما عداه وهو الرجم على عمومه ، وبأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح ، فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول آية الجلد ، وأما تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فهو جائز عندنا ، بل إن أحاديث الرجم ثابتة بالتواتر المعنوي ، والآحاد في تفاصيل الصور والخصوصيات.

١٢٦

وشروط الإحصان : البلوغ والعقل والحرية والدخول في زواج صحيح ، وأضاف أبو حنيفة ومالك شرط الإسلام ، فلا يرجم الذمي ، ورد عليهما بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر برجم يهوديين.

وأما حد غير المحسن وهو البكر : فليس الجلد مائة جلدة فقط ، وإنما يضم إليه تغريب (نفي) سنة ، بدليل ما ثبت في السنة ، ومنها قصة العسيف المتقدمة : «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» ومنها ما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري والنسائي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرّجم» إلا أن جلد الثيب لم يستقر عليه التشريع المعمول به في السنة النبوية ، وأصبح المطبق هو الرجم فقط ، كما تقدم. والقول بالتغريب هو رأي الجمهور ، وقال أبو حنيفة : ليس التغريب من الحد ، وإنما هو تعزير مفوض إلى رأي الإمام وحكمه. وما يزال الظاهرية يقولون بوجوب جلد الثيب ورجمه ، أخذا بحديث عبادة السابق.

وعموم قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يشمل المسلم والكافر ، غير أن الحربي لا يحد حد الزنى ؛ لأنه لم يلتزم أحكامنا ، وأما الذمي فيجلد في رأي الجمهور ، وروي عن مالك رحمه‌الله أن الذمي لا يجلد إذا زنى.

(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) أي لا يحملنكم العطف والشفقة على ترك حد الزناة ، فهو حكم الله تعالى ، ولا يجوز تعطيل حدود الله ، والواجب التزام النص ، والغيرة على حرمات الله ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي‌الله‌عنها : «والذي نفسي بيده ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي فأقيموا الحدود على من زنى ،

١٢٧

وشددوا عليه الضرب غير المبرح ليرتدع هو وأمثاله ، إن كنتم تصدقون بالله وبالآخرة التي يجري فيها الحساب والجزاء. وهذا ترغيب شديد وحض أكيد وإلهاب على تطبيق وتنفيذ حدود الله. وفي ذكر اليوم الآخر تذكير للمؤمنين بما فيه من العقاب تأثرا بعاطفة اللين في استيفاء الحد ، جاء في الحديث : «يؤتى بوال نقص من الحد سوطا ، فيقال له : لم فعلت ذلك؟ فيقول : يا ربّ رحمة بعبادك فيقول له : أنت أرحم بهم مني! فيؤمر به في النار».

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولتكن إقامة الحد علانية ، أمام فئة من المسلمين ، زيادة في التنكيل للزانيين ، فإنهما إذا جلدا بحضرة الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، وأكثر تقريعا وتوبيخا وتأنيبا لهما.

والطائفة : أقلها واحد ، وقيل : اثنان فأكثر ، وقيل : ثلاثة نفر فصاعدا ، وقيل : أربعة نفر فصاعدا ؛ لأنه لا يكفي في شهادة الزنى إلا أربعة فأكثر ، وقيل : خمسة ، وقيل : عشرة فصاعدا.

وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي نفر من المسلمين ، ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا. وهذا أولى الآراء في تقديري.

ويثبت الزنى بأحد أمور ثلاثة :

١ ـ الإقرار أو الاعتراف : وهذا هو الواقع فعلا في عهود الإسلام.

٢ ـ البينة أو الشهادة : أي شهادة أربعة رجال أحرار عدول مسلمين على التلبس بالزنى فعلا ، ورؤية ذلك بالعين المجردة ، وهذا نادر جدا لم يحصل إلا قليلا.

٣ ـ الحبل عند المرأة بلا زوج معروف لها.

١٢٨

وحكمة حد الزنى :

الحفاظ على الأعراض والحقوق ، ومنع اختلاط الأنساب ، وتحقيق العفاف والصون ، وطهر المجتمع ، والحيلولة دون ظهور اللقطاء في الشوارع ، وانتشار الأمراض الجنسية الخطيرة ، كالزّهري والسيلان ، وتكريم المرأة نفسها ، وعدم إهدار مستقبلها.

روي عن حذيفة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا معشر الناس اتقوا الزنى ، فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أما التي في الدنيا : فيذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأما التي في الآخرة : فسخط الله سبحانه وتعالى ، وسوء الحساب ، وعذاب النار».

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ..) الآية : هذا خبر خرج مخرج الغالب فلا يقصد به التحريم الاصطلاحي ، وإنما التنزه والابتعاد والترفع ، والمعنى : أن الشأن في الزاني الفاسق الفاجر ألا يرغب إلا في نكاح أمثاله من النساء الزانيات الفاسقات ، فهو عادة لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة ، وإنما يميل إلى الزواج بالفاسقة الخبيثة أو المشركة مثلها التي لا تهتم عادة لحرمة العرض ، ولا تأبه بشأن التعفف.

وكذلك الشأن في الزانية الخبيثة لا يرغب فيها غالبا إلا زان خبيث مثلها أو مشرك لا يتعفف عادة.

وبدئ بالزاني هنا ، وبالزانية في الآية السابقة ؛ لأن هذه الآية تتحدث عن النكاح وإبداء الرغبة فيه بالخطبة ، والعادة أن ذلك يكون من الرجل ، لا من المرأة ، أما أكثر دواعي الزنى فتكون من المرأة فبدئ بها كما بينا ، فهي المادة في الزنى ، وأما في النكاح فالرجل هو الأصل ؛ لأنه الراغب والطالب عادة.

١٢٩

وليس معنى الجملتين في الآية هنا واحدا ، فإن الجملة الأولى تصف الزاني بأنه لا يرغب في العفيفات المؤمنات ، وإنما يميل إلى الزانية والمشركة ، والجملة الثانية تصف الزانية بأنه لا يرغب فيها المؤمنون الأعفاء ، وإنما يميل إليها الفجار والمشركون ، فكان المعنى مختلفا إذ لا يلزم عقلا من كون الزاني لا يرغب إلا في مثله أن الزانية لا يرغب فيها غير أمثالها ، وكانت الآية موضحة وجود التلاؤم والانسجام والتفاهم والاقتران من كلا الطرفين : الرجل والمرأة. وقد سمعنا كثيرا اليوم أن الممثلين والممثّلات ونحوهم من أهل الفن لا يتزوج الواحد منهم أو الواحدة إلا بمحترف فنا مماثلا ؛ لأن عنصر الغيرة في زعمهم يجب أن يرتفع ، ليستمر الفريقان في عملهما ، وإلا تعرض الزواج للهدم والفسخ والزوال ، فكما لا يألف العفيف ولا يقبل غير العفائف ، كذلك لا تقبل العفيفة الشريفة بحال إسفاف زوجها وتبذّله ، واختراقه حدود الصون والعفة ، ولربما كانت المرأة أشد غيظا وغضبا وتحرقا من الرجل في هذا ، وقد يكون العكس ، والمعول عليه وجود الدين والخلق والإحساس المرهف وتوافر الغيرة الدينية على الحرمات والأعراض ، والبعد عن جعل العلاقة بين الرجل والمرأة مجرد علاقة مادية شهوانية ، كما هو الشائع اليوم لدى الماديين الملحدين الذين رفعوا مسألة العرض من قاموس الأخلاق والقيم ، سواء في الشرق أو الغرب.

(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي حرّم التزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال الفجار على المؤمنين الأتقياء ، والمراد بالتحريم التنزه والتعفف مبالغة في التنفير ؛ لأنه تشبّه بالفسّاق ، وتعرض للتهمة ، وتسبب لسوء المقالة ، والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد.

وهذا رأي الجمهور كأبي بكر وعمر وجماعة من التابعين وفقهاء الأمصار جميعا ، فيجوز نكاح الزانية ، والزنى لا يوجب تحريمها على الزوج ، ولا يوجب الفرقة بينهما ، ويؤيدهم ما أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة

١٣٠

قالت : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رجل زنى بامرأة ، وأراد أن يتزوجها ، فقال : أوله سفاح ، وآخره نكاح ، والحرام لا يحرم الحلال». وما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن امرأتي لا تمنع يد لامس! قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : غرّبها ، قال : أخاف أن تتبعها نفسي ، قال : فاستمتع بها. وهو دليل على جواز نكاح الزانية ، وعلى أن الزوجة إذا زنت لا ينفسخ نكاحها.

وقوله : «لا تمنع يد لامس» معناه الزانية ، وأنها مطاوعة من راودها ، لا ترد يده. وقوله : «غرّبها» أي أبعدها بالطلاق ، وهذا دليل آخر على جواز نكاح الفاجرة. وقوله : «فاستمتع بها» أن لا تمسكها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها ، والاستمتاع بالشيء : الانتفاع به إلى مدة ، ومنه سمي نكاح المتعة ، ومنه آية : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) [غافر ٤٠ / ٣٩].

وأما حكم الحرمة في الآية فمخصوص بالسبب الذي ورد فيه ، أو منسوخ بقوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور ٢٤ / ٣٢] فإنه يتناول المسافحات.

وقال جماعة من السلف (علي وعائشة والبراء ، وابن مسعود في رواية عنه): إن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره لا يحل له أن يتزوجها ، وقال علي : إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته ؛ وكذلك هي إذا زنت. ودليلهم أن الحرمة في الآية على ظاهرها ، والخبر في قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ ..) بمعنى النهي ، وأحاديث منها ما رواه أبو داود عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة ديّوث» ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاقّ لوالديه ، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال ، والدّيّوث ، وثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنّان بما أعطى».

١٣١

وذهب الإمام أحمد رحمه‌الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك ، حتى تستتاب ، فإن تابت ، صح العقد عليها ، وإلا فلا ، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة ؛ لقوله تعالى : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وهذه الآية كقوله تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [النساء ٤ / ٢٥] وقوله سبحانه : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) [المائدة ٥ / ٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على الأحكام التالية :

١ ـ تحريم الزنى : الزنى من الكبائر ؛ لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَلا يَزْنُونَ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٨]. ولأن الله سبحانه أوجب الحد فيه وهو مائة جلدة ، وشرع فيه الرجم. ونهى المؤمنين عن الرأفة ، وأمر بإشهاد الطائفة المؤمنة للتشهير ، ولحديث حذيفة المتقدم : «يا معشر الناس ، اتقوا الزنى ، فإن فيه ست خصال ..»

والزنى : وطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها ، أو هو إيلاج (إدخال) فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا. فإذا كان ذلك وجب الحد.

أما اللواط : فحكمه عند الشافعي في الأصح ومالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد حكم الزنى ، فيكون اللائط زانيا ، فيدخل في عموم الآية ، ويحد حد الزنى عند الشافعي بدليل ما روى البيهقي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

١٣٢

«إذا أتى الرجل الرجل ، فهما زانيان» وحده عند المالكية والحنابلة : الرجم ، ويرى بعض الحنابلة أن الحد في اللواط القتل ، إما برميه من شاهق ، وإما بهدم حائط عليه ، وإما برميه بالحجارة.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه يعزر اللوطي فقط ، ولا يحد ؛ إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب ، ولا يترتب عليه غالبا حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط ، وليس هو زنى ، ولا يتعلق به المهر ، فلا يتعلق به الحد ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباح قتل المسلم بإحدى ثلاث : زنى المحصن ، وقتل النفس بغير حق ، والردة. ولم يذكر فاعل اللواط ؛ لأنه لا يسمى زانيا ، ولم يثبت عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قضى في اللواط بشيء.

واتفق الفقهاء على أن السحاق والاستمناء باليد يشرع فيه التعزير والتأديب والتوبيخ.

وأما إتيان البهائم : فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على تعزير فاعله بما يراه الحاكم رادعا له ؛ لأن الطبع السليم يأبى ذلك ، وفي سنن النسائي عن ابن عباس : «ليس على الذي يأتي البهيمة حد» وهذا موقوف له حكم المرفوع.

وأما إتيان الميتة : ففيه عند الجمهور غير المالكية التعزير ؛ لأن هذا ينفر الطبع منه ، فلا يحتاج إلى حد زاجر ، وإنما يكفي فيه التأديب.

وأوجب المالكية فيه الحد ؛ لأنه وطء في فرج آدمية ، فأشبه وطء المرأة الحية. والخلاصة : أن كل فعل من هذه الأفعال حرام منكر ، يجب اجتنابه.

٢ ـ وجوب الحد في الزنى : وهذا هو الذي استقر عليه التشريع ، وكانت عقوبته في مبدأ الإسلام حبس المرأة ، وتعيير الرجل وإيذاءه بالقول : لقوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ، حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ، أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَ

١٣٣

سَبِيلاً. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النساء ٤ / ١٥ ـ ١٦].

ثم نسخ ذلك ، بدليل ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامترضي‌الله‌عنه من الحديث المتقدم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خذوا عني ، فقد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيّب بالثيب جلد مائة والرجم».

وحد الزنى نوعان : حد الثيب (المتزوج) وحد البكر (غير المتزوج).

أ ـ أما حد الثيب : فهو باتفاق جماهير العلماء الرجم فقط ، للأحاديث المتقدمة القولية والفعلية الدالة على مشروعيته ، والتي بلغت مبلغ التواتر ، فيخصص بها عموم القرآن ، كما أنه في رأي الجمهور يخصص القرآن بخبر الواحد.

وفي رأي الظاهرية وإسحاق وأحمد في رواية عنه : الجلد والرجم ، عملا بظاهر حديث عبادة المتقدم.

ويرى الخوارج أن حد الثيب هو جلد مائة فقط ، وأما الرجم فهو غير مشروع ، للأدلة السابقة الثلاثة ، والتي أجيب عنها.

واتفق الفقهاء على أن حد الثيب من الأرقاء هو الجلد فقط كحد البكر ، وأنه لا رجم في الأرقاء.

ب ـ وأما حد البكر : فهو في رأي الحنفية الجلد مائة فقط ، دون تغريب ، عملا بصريح الآية ، ولا يزاد عليها شيء بخبر الواحد ، وأما التغريب فهو مفوض إلى رأي الإمام حسبما يرى من المصلحة في ذلك.

وهو في رأي الجمهور : الجلد مائة ونفي عام ، فيغرب في رأي الشافعية والحنابلة إلى بلد آخر بعيد عن بلده بمقدار مسافة القصر (٨٩ كم) لحديث عبادة

١٣٤

المتقدم : «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام». ويسجن الرجل عند المالكية في البلد التي غرب إليها. ولا تغرب المرأة باتفاق هؤلاء خشية الزنى بها مرة أخرى.

وأما الذمي المحصن : فحده في رأي الحنفية والمالكية الجلد لا الرجم ، لما رواه إسحاق بن راهويه عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أشرك بالله فليس بمحصن» وهذا قول يرجح على الفعل الثابت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رجم يهوديين ، وبالقياس على إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع ، فيكون إحصان الرجم مثله ، لكمال النعمة في الحالين.

وحده في رأي الشافعي وأحمد وأبي يوسف : الرجم إذا ترافع إلينا ؛ لما ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بيهوديين زنيا ، فأمر برجمهما ، ولأن الكافر كالمسلم يحتاج إذا زنى إلى الردع ، ولأن الكفار الذميين ملتزمون بأحكام شريعتنا. أما حديث «من أشرك بالله فليس بمحصن» فلا ينطبق على الذمي ؛ لأنه في مصطلحنا لا يسمى مشركا. وأما القياس على حد القذف وأنه لا حد على من قذف كافرا فهو قياس مع الفارق ؛ لأن الشرع أوجب هذا الحد تكريما للمسلم ورفعا للعار عنه ، وغير المسلم لا حاجة له لذلك ، لتساهله عادة.

٣ ـ صاحب الولاية في إقامة الحد : إن المطالب بتطبيق الحد هو الإمام الحاكم أو نائبه باتفاق العلماء ؛ لأن الخطاب في قوله تعالى : (فَاجْلِدُوا) لأولياء الأمر من الحكام ؛ لأن هذا حكم يتعلق بإصلاح الناس جميعا ، وذلك منوط بالإمام ، وإقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين ، والإمام ينوب عنهم فيها ؛ إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود ، ومنعا للفوضى ، والعودة إلى عادة الجاهلية في الأخذ بالثأر.

وأضاف الإمامان مالك والشافعي : السادة في شأن العبيد ، لكن عند مالك

١٣٥

في الجلد دون القطع ، وعند الشافعي في قول : في كل جلد وقطع. ودليلهما ما أخرجه الستة غير السنائي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأمة : «إن زنت فاجلدوها». وما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ، من أحصن ومن لم يحصن». وما روي عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه.

وقال الحنفية : لا يملك السيد أن يقيم حدا ما ، للآية : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ...) والخطاب بلا شك للأئمة دون سائر الناس ، ولم يفرق في المحدودين بين الأحرار والعبيد. وأما الأحاديث فيراد بها رفع الموالي أمر عبيدهم إلى الحكام ليقيموا الحد عليهم ، وفعل ابن عمر رأي له لا يعارض الآية. والجلاد يكون من خيار الناس وفضلائهم ، حسبما يختار الإمام.

٤ ـ أداة الجلد : أجمع العلماء على أن الجلد يجب بالسوط الذي لا ثمرة له ، وهو الوسط بين السوطين ، لا شديد ولا ليّن ، كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال مالك والشافعي : الضرب في الحدود كلها سواء ، ضرب غير مبرّح (غير شديد). ضرب بين ضربين ؛ لأنه لم يرد شيء في تخفيف الضرب ولا تثقيله.

وقال الحنفية : التعزير أشد الضرب ، وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر ، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف ، احتجاجا بفعل عمر الذي خفف في ضرب الشارب.

٥ ـ صفة الجلد وطريقة الضرب ومكانه عند الجمهور : أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يقطع (يبضع) ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه ، عملا بقول عمر الذي أتى بسوط بين سوطين وقال للضارب : اضرب ولا يرى إبطك ، وأعط كل عضو حقه ، ولأن قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) معناه النهي عن التخفيف في الجلد.

١٣٦

ومواضع الضرب في الحدود والتعزير : ظهر الإنسان في رأي مالك ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس : «البينة وإلا حدّ في ظهرك» وسائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج والرأس في رأي الجمهور.

وكيفية ضرب الرجال والنساء مختلف فيها ، فقال مالك : الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء ، لا يجزي عنده إلا في الظهر ، وقال الحنفية والشافعية : يجلد الرجل وهو واقف ، والمرأة وهي قاعدة ، عملا بقول علي رضي‌الله‌عنه.

وتجريد المجلود في الزنى مختلف فيه أيضا ، فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : يجرّد ما عدا ما بين السرة والركبة ؛ لأن الأمر بالجلد يقتضي مباشرة جسمه ، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي : الإمام مخير ، إن شاء جرّد وإن شاء ترك.

وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه لا يجرد المحدود في الحدود كلها فيما عدا الفرو والحشو ، فإنه ينزع عنه ، فإنه لو ترك عليه ذلك ، لم يبال بالضرب ، عملا بقول ابن مسعود : «ليس في هذه الأمة مدّ ولا تجريد».

٦ ـ الشفاعة في الحدود : يراد بآية (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) النهي عن تخفيف الحد وإسقاطه ، وهو دليل على تحريم الشفاعة في إسقاط حد الزنى ؛ لأنها تعطيل لإقامة حد الله تعالى ، وكذلك تحرم الشفاعة في سائر الحدود ، لما أخرجه الخمسة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأسامة بن زيد حين تشفع في فاطمة بنت الأسود المخزومية التي سرقت قطيفة وحليا : «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب فقال : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

١٣٧

وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى ، فقد ضادّ الله عزوجل».

كذلك يحرم على الإمام الحاكم قبول الشفاعة في الحدود ، لما أخرجه مالك عن الزبير بن العوام رضي‌الله‌عنه : «أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان ، فشفع له الزبير ليرسله ، فقال : لا ، حتى أبلغ به إلى السلطان ، فقال الزبير : إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان ، فإذا بلغ السلطان ، لعن الشافع والمشفع».

٧ ـ الترغيب في إقامة الحدود : دل قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) على الحث على إقامة الحد ، وامتثال أمر الله تعالى وتنفيذ أحكامه على النحو الذي شرعها.

٨ ـ حضور إقامة الحد : دل ظاهر قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) على وجوب الحضور على طائفة من المؤمنين ، للتنكيل والعبرة والعظة ، لكن الفقهاء اختلفوا في ذلك :

فقال الحنفية والحنابلة : ينبغي أن تقام الحدود كلها في ملأ من الناس ؛ لأن المقصود من الحد هو زجر الناس. والطائفة في قول أحمد والنخعي : واحد.

وقال المالكية والشافعية : يستحب حضور جماعة ، وهما اثنان في القول المشهور لمالك ، وأربعة على الأقل في رأي الشافعية وفي قول مالك والليث.

٩ ـ حكمة الحد : إن الحد عقوبة تجمع بين الإيلام الخفيف والاستصلاح ، أما الإيلام فلقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) فسميت العقوبة عذابا ، ويراد من هذه العقوبة أيضا الزجر والإصلاح ؛ لأنه يمكن أن يراد من العذاب : ما يمنع المعاودة كالنكال ، فيكون الغرض منه الاستصلاح.

١٣٨

١٠ ـ هل الآية منسوخة؟ إن آية (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ...) منسوخة في رأي أكثر العلماء بقوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور ٢٤ / ٣٢] لذا قال الحنفية : إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وقال غير الحنفية أيضا : إن التزوج بالزانية صحيح ، وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح ، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته.

وروي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، فجلدهما مائة جلدة ، ثم زوّج أحدهما من الآخر مكانه ، ونفاهما سنة ، وهذا ما يحدث الآن في المحاكم الشرعية. وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي‌الله‌عنهم. وقال ابن عباس : أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط (بستان) ثمرة ، ثم أتى صاحب البستان ، فاشترى منه ثمره ، فما سرق حرام ، وما اشترى حلال.

وقال بعض العلماء المتقدمين : الآية محكمة غير منسوخة ، وبناء عليه قالوا من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته ، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها. وقال بعض هؤلاء : لا ينفسخ النكاح بذلك ، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت ، ولو أمسكها أثم ، ولا يجوز التزوج بالزانية ، ولا من الزاني ، بل إذا ظهرت التوبة يجوز النكاح حينئذ. وأدلتهم تقدم ذكرها.

١١ ـ عموم التحريم : حرم الله تعالى الزنى في كتابه ، سواء في أي مكان في العالم ، فحيثما زنى الرجل فعليه الحد ، وهذا قول الجمهور (مالك والشافعي وأبي ثور وأحمد) قال ابن المنذر : دار الحرب ودار الإسلام سواء ، ومن زنى فعليه الحدّ ، على ظاهر قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

وقال الحنفية في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ، ثم

١٣٩

خرج إلى دار الإسلام ، لم يحدّ ؛ لأن الزنى وقع في مكان لا سلطان للإمام المسلم عليه ، لكن يكون زناه حراما وإن لم يجب عليه الحد ، وعليه التوبة من الحرام.

الحكم الثالث

حد القذف

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

الإعراب :

(فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ثَمانِينَ) منصوب على المصدر ، و (جَلْدَةٍ) تمييز منصوب. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا الَّذِينَ) إما منصوب على الاستثناء ، كأنه قال : إلا التائبين ، وإما مرفوع على الابتداء ، وخبره (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وإما مجرور على البدل من الهاء والميم في (لَهُمْ).

البلاغة :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) استعارة ، أستعير لفظ الرمي (وهو الإلقاء بالحجارة ونحوها) لشيء معنوي وهو القذف باللسان ، بجامع الأذى في كل منهما.

(غَفُورٌ رَحِيمٌ) صيغة مبالغة على وزن فعول وفعيل.

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) يقذفون العفائف الحرائر البالغات العاقلات المسلمات ، ولا فرق بين الذكر والأنثى ، وتخصيص المحصنات مراعاة للواقعة ، أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع ، والرمي : الإلقاء بشيء يضر أو يؤذي ، أستعير للسب بالزنى لما فيه من الأذى والضرر ، أما القذف بغير الزنى مثل يا فاسق ، يا شارب الخمر فيوجب التعزير (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) لإثبات زناهن برؤيتهم ، وهو جمع شهيد ، وهو الشاهد ، وسمي بذلك لأنه يخبر عن شهادة وعلم وأمانة.

١٤٠