التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

(يَعْبُدُونَنِي) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (الَّذِينَ) أو استئناف كلام جديد.

(لا يُشْرِكُونَ) حال من واو (يَعْبُدُونَنِي).

البلاغة :

(مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) طباق بين الخوف والأمن.

المفردات اللغوية :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في ممالكهم (كَمَا اسْتَخْلَفَ) مبني للمعلوم ، وقرئ مبنيا للمجهول (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من بني إسرائيل في مصر وفلسطين بدلا عن الجبابرة : فرعون وأمثاله (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت وإظهاره على جميع الأديان ، فالتمكين : هو جعل هذا الدين ممكّنا في الأرض بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) أي وليجعلنهم بعد الخوف من الكفار في حالة أمن وسلام ، وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في مكة عشر سنين خائفين ، ثم هاجروا إلى المدينة ، وبقوا مستنفرين في السلاح صباح مساء ، حتى أنجز الله وعده ، فغلّبهم على العرب كلهم ، وفتح لهم بلاد الشرق والغرب. وفيه دليل على صحة النبوة بالإخبار عن الغيب على ما هو به ، وعلى صحة خلافة الراشدين.

(يَعْبُدُونَنِي) حال من (الَّذِينَ) لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من واو (يَعْبُدُونَنِي) أي يعبدونني غير مشركين (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي ومن ارتد ، أو كفر هذه النعمة بعد الوعد أو حصول الخلافة (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات ، أو كفروا تلك النعمة العظيمة. وأول من كفر به قتلة عثمان رضي‌الله‌عنه ، فصاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ..) معطوف على قوله : (أَطِيعُوا اللهَ) والفاصل وإن طال وعد على المأمور به ، فيكون تكرارا للأمر بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتأكيد وجوبها ، وتعليق الرحمة بها ، أي بالطاعة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي راجين الرحمة.

(لا تَحْسَبَنَ) الخطاب للرسول (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لا تلحقهم قدرة الله على

٢٨١

الإهلاك ، بأن يفوتوا منها ، أي لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين الله عن إدراكهم وإهلاكهم في الأرض (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) ومرجعهم النار ، وذلك معطوف من حيث المعنى على قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ) كأنه قيل : الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار ، والمراد بهم : المقسمون جهد أيمانهم. (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المرجع هي ، أو المأوى الذي يصيرون إليه.

سبب النزول :

أخرج الحاكم وصححه ، والطبراني عن أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة ، وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ، ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين ، لا نخاف إلا الله ، فنزلت : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال : فينا نزلت هذه الآية ، ونحن في خوف شديد.

المناسبة :

بعد الكلام عن الطاعة وثمرتها : وهي أن من أطاع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد اهتدى إلى الحق وفاز بالجنة ، وعد الله سبحانه بتمكين المؤمنين الطائعين في خلافة الأرض ، وتأييدهم بالنصر والإعزاز ، وإظهار دينهم على الدين كله ، وتبديلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا ، فيعبدون الله آمنين لا يشركون به شيئا ولا يخافون. ثم أمرهم بالصلاة والزكاة شكرا لتلك النعم ، وطمأنهم بتحقق الوعد السابق بإهلاك الكافرين وزجّهم في نار جهنم.

التفسير والبيان :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وعد الله الذين تحقق فيهم وصفان معا هما الإيمان

٢٨٢

بالله ورسوله والعمل الصالح الطيب الذي يقرب من الله تعالى ويرضيه بأن يجعل أمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفاء الأرض ، أي أئمة الناس ، والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، كما استخلف داود وسليمان عليهما‌السلام على الأرض ، وكما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وقوله (مِنْكُمْ) من للبيان كالتي في آخر سورة الفتح : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [٢٩].

وبما أن وعد الله صادق ومنجز ، كما قال تعالى : (وَعْدَ اللهِ ، لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) [الزمر ٣٩ / ٢٠] فقد أنجز الله وعده ، وأظهر المسلمين على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعدئذ بلاد المشرق والمغرب ، ومزّقوا ملك الأكاسرة (حكام فارس) وملكوا خزائنهم ، وفتحوا بلاد القياصرة (بلاد الروم) واستولوا على الدنيا ، وظلت دولة الإسلام قوية منيعة في ظل خلافات متعاقبة : الخلافة الراشدية ، ثم الخلافة الأموية في الشام والأندلس ، ثم الخلافة العباسية ، ثم الخلافة العثمانية إلى انتهاء الربع الأول من القرن العشرين (١٩٢٤) حيث ألغى أتاتورك الخلافة.

ففي عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتحت مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن كلها. وأخذت الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم ، والمقوقس عظيم القبط في مصر ، والنجاشي ملك الحبشة ، وملك عمان.

وفي عهد الخلفاء الراشدين افتتحت بلاد كثيرة في الشرق والغرب وهي أكثر بلاد فارس والروم في العراق والشام ومصر وبعض بلاد شمال إفريقيا ، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل كثير من الترك.

وفي العهد الأموي استمرت الفتوح الواسعة حتى شملت بلاد الأندلس والهند.

واستقر الحكم الإسلامي في العهد العباسي في مختلف أجزاء بلاد الإسلام.

٢٨٣

وفي عهد الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الأندلس ، وقبرص والقسطنطينية ، وبلاد القيروان وسبتة مما يلي المحيط الأطلسي ، وامتد الفتح إلى أقصى بلاد الصين.

وصدق

قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد : «إن الله زوي لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».

ونظير الآية قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال ٨ / ٢٦] ، وقوله سبحانه : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص ٢٨ / ٥ ـ ٦].

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي وليجعلن دين الإسلام مكينا ثابتا في الأرض ، عزيزا قويا منيعا ، مرهوب الجانب في نظر أعدائه ، منصورا على ملة الكفر.

(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) أي وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه : «أتعرف الحيرة؟» قال : لم أعرفها ، ولكن قد سمعت بها ، قال : «فو الذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة ـ المرأة في الهودج ـ من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز» قلت : كسرى بن هرمز؟ قال : «نعم ، كسرى بن هرمز ، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».

قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت في

٢٨٤

غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قالها.

وتحققت الثالثة في عهد الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله تعالى.

وأخرج الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بشّر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب».

ثم بيّن حال هذه الأمة أثناء تمكنها في الأرض أو علة تمكينها في الأرض فقال :

(يَعْبُدُونَنِي)(١)(لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) أي إن هذه الأمة تعبد الله وحده لا شريك له ، ولا يتغيرون من عبادة الله تعالى إلى الشرك ، ووعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم. روى الإمام أحمد والشيخان عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «حق الله على العباد : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله ألا يعذبهم».

(وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي ومن ارتد أو كفر النعمة ، كقوله تعالى : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) [النحل ١٦ / ١١٢] ، أو خرج عن طاعة ربه وأمره ، فأولئك هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة ، وتناسوا فضل الله عليهم ، وهذا ربما يصدر من بعض الأمة بدليل حديث الصحيحين وغيرهما من الأئمة : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة».

__________________

(١) يعبدونني كما تقدم : هو في موضع الحال ، أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص ، ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم.

٢٨٥

وبعد الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شكرا للنعمة ، وإحسانا إلى عباد الله الفقراء ، مكررا للتأكيد الأمر بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال:

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأدوا الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط ، واعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأعطوا الزكاة المفروضة عليكم ؛ لما فيها من الإحسان إلى الضعفاء والفقراء ، وأطيعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أمركم به أو نهاكم عنه أو زجركم عنه ، لعل الله يرحمكم بذلك ، وينجيكم من عذاب أليم. ولا شك أن من فعل هذا سيرحمه‌الله ، كما قال : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) [التوبة ٩ / ٧١].

وأما المتنكرون لطاعة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم كما قال تعالى :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لا تظنن أيها الرسول أن الذين خالفوك وكذبوك وكفروا برسالتك يعجزون الله ويفرون من سلطانه إذا أراد إهلاكهم ، بل الله قادر عليهم ، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب في الدنيا بألوان مختلفة فردية كالمرض والهم والقلق والانتحار ، أو جماعية كالقتل في الحروب والزلازل والبراكين والحرق والغرق ، ومأواهم في الآخرة نار جهنم ، وبئس المآل مآل الكافرين ، وبئس المرجع والقرار والمهاد. ومعجزين : معناه فائتين ، والمصير : المرجع ، كما بيّنا.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه هي أصول دولة الإيمان ، تنبئ عن قواعد ومبادئ أهمها الجمع بين الإيمان والعمل الصالح ، وثمرتها أولا ـ إنجاز وعد الله بالعزة والسيادة في الأرض في الدنيا ، ونصرة الإسلام على الكفر ، وتمكين هذا الدين المرتضى وهو دين

٢٨٦

الإسلام في الأرض ، أي تثبيته وتوطيده وتأمينه وتأمين أهله وإزالة الخوف الذي كانوا عليه ، وثانيا ـ الظفر برحمة الله في الآخرة.

ودلت الآيات على ما يلي (١) :

١ ـ إثبات صفة الكلام لله عزوجل وأنه متكلم ؛ لأن الوعد نوع من أنواع الكلام ، ومن وصف بالنوع وصف بالجنس.

٢ ـ الله تعالى حيّ قادر على جميع الممكنات ؛ لأنه قال : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وقد فعل ذلك كما بيّنا في التفسير السابق ، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل المقدورات.

٣ ـ الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده ؛ لقوله : (يَعْبُدُونَنِي).

٤ ـ إنه سبحانه منزه عن الشريك ؛ لقوله : (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) وذلك يدل على نفي الإله الآخر ، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله تعالى ، سواء كان كوكبا كما يقول الصابئة ، أو صنما كما يقول عبدة الأوثان.

٥ ـ صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر عن الغيب في قوله تعالى : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ..) الآية ، وقد تحقق الخبر المعجز ، فدل على صدق المخبر وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان.

٧ ـ إثبات خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، فالآية (وَعَدَ اللهُ ..) أوضح دليل وأبينه ؛ لأنهم المستخلفون الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والذين

__________________

(١) انظر تفسير الرازي : ٢٤ / ٢٤

٢٨٧

وعدهم الله بالاستخلاف بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاستخلاف : الإمامة فقط ، وأما الذين من قبلهم فهم الخلفاء إما بالنبوة وإما بالإمامة والخلافة.

ولكن لا تختص الخلافة بهم ، بل تشمل غيرهم ممن استخلفوا على المسلمين.

٨ ـ إن من أتم النعم على الصحابة وتابعيهم بعد نصرة الإسلام هو تبديل خوفهم أمنا ، كما وعد تعالى ، وأكده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال أصحابه : أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ، ليس عليه حديدة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم في صحيحة : «والله ليتمنّ الله هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون» فالآية معجزة النبوة ؛ لأنها إخبار عما سيكون ، فكان ، كما بيّنا.

٩ ـ إن أساس العمل الإسلامي عبادة الله بالإخلاص ، دون أن يشوبها شرك ظاهر أو خفي وهو الرياء.

١٠ ـ المراد بالكفران في قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) في رأي أكثر المفسرين كفران النعمة ؛ لأنه قال تعالى : (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أما الكافر الحقيقي فهو فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.

١١ ـ إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجتناب نواهيه سبب للرحمة الشاملة من الله تعالى.

١٢ ـ لن يعجز الله هربا في الأرض أحد من الكفار ، وإنما قدرة الله تطولهم في أي مكان ، وهم المقهورون ، ومأواهم النار. قال صاحب الكشاف : النظم في قوله تعالى : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) لا يحتمل أن يكون متصلا بقوله : (لا تَحْسَبَنَ) لأن ذلك نفي ، وهذا إيجاب ، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره : لا تحسبنّ الذين كفروا معجزين في الأرض ، بل هم مقهورون ، ومأواهم النار.

٢٨٨

الحكم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر

حالات الاستئذان في داخل الأسرة وتخفيف الثياب الظاهرة

عن العجائز

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

الإعراب :

(ثَلاثُ عَوْراتٍ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه ثلاث عورات ، أي هذه ثلاثة أوقات عورات ، وحذف المضاف اتساعا. ويقرأ بالنصب على أنه بدل من قوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) وهذا ظرف زمان أي ثلاثة أوقات ، وأخبر عن هذه الأوقات بالعورات لظهورها فيها ، مثل ليلك نائم ، ونهارك صائم. وتسكين واو (عَوْراتٍ) لأنه حرف العلة ، والحركة تستثقل على حرف العلة. وقرئ بفتح الواو على قياس جمع التصحيح ، نحو ضربة ضربات.

(طَوَّافُونَ) خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون ، أي أنتم طوافون ، و (بَعْضُكُمْ) بدل من ضمير (طَوَّافُونَ) أي يطوف بعضكم على بعض.

(وَالْقَواعِدُ) جمع قاعد : وهي التي قعدت عن الزواج للكبر ، ولم يدخلها الهاء ؛ لأن المراد

٢٨٩

به النسب ، أي ذات قعود ، كقولهم : حامل وحائض وطاهر وطالق ، أي ذات حمل وطمث وطهر وطلاق.

(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) دخول الفاء في (فَلَيْسَ) يدل على أن (اللَّاتِي) في موضع رفع ؛ لأنه صفة للقواعد لا للنساء ؛ لأنك لو جعلته صفة للنساء ، لم يكن لدخول الفاء وجه ؛ لأن الموصول هي التي يدخل الفاء في خبرها ، فإذا جعلت (اللَّاتِي) صفة للقواعد ، فالصفة والموصوف بمنزلة شيء واحد.

(غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ) حال من ضمير (هن) في ثيابهن ، أو من ضمير (يَضَعْنَ).

البلاغة :

(عَلِيمٌ حَكِيمٌ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) صيغة مبالغة.

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) العبيد والإماء. (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) الصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار ، والحلم من حلم : وقت البلوغ : إما بالاحتلام وإما ببلوغ خمس عشرة سنة. (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي في ثلاثة أوقات. (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي تخلعون ثيابكم وقت الظهر ، وقوله : من الظهيرة : بيان للحين. (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. (ثَلاثُ عَوْراتٍ) أي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم وتبدو فيها العورات لإلقاء الثياب ، والعورة : الخلل ، والأعور : المختل العين ، وسميت كل حالة عورة ؛ لأن الناس يختل تحفظهم وتسترهم فيها. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ) أي لا على المماليك والصبيان. (جُناحٌ) إثم وذنب في الدخول عليكم بغير استئذان. (بَعْدَهُنَ) بعد الأوقات الثلاثة. (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي هم طوافون عليكم للخدمة والمخالطة وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام. (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) بعضكم طائف على بعض ، أو يطوف بعضكم على بعض ، والجملة مؤكدة لما قبلها.

(كَذلِكَ) مثل ذلك التبيين لما ذكر. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الأحكام. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأمور خلقه وأحوالهم. (حَكِيمٌ) بما دبره لهم وشرع. ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ) أيها الأحرار ، ولا يدخل فيهم المماليك. (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) في جميع الأوقات. (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الأحرار الكبار الذين بلغوا من قبلهم.

٢٩٠

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل والولد لكبرهن. (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يطمعن في النكاح لكبرهن. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أن يتخففن بإلقاء الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء ، والقناع فوق الخمار. (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال. وأصل التبرج : التكلف في إظهار ما يخفى من الزينة ، مأخوذ من قولهم : سفينة بارجة أي لا غطاء عليها ، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي يرتدين أكمل الثياب خير لهن من الوضع ؛ لأنه أبعد من التهمة. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالهن للرجال وقولكم. (عَلِيمٌ) بمقصودهن وبما في قلوبكم.

سبب النزول :

قال ابن عباس : وجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلاما من الأنصار يقال له : مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فقال : يا رسول الله وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ..).

وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت أبي مرثد كان لها غلام كبير ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.

وفي رواية : ثم انطلق ـ أي عمر ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد هذه الآية قد أنزلت ، فخرّ ساجدا ، شكرا لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي أنه قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات ، فيغتسلوا ، ثم يخرجوا إلى الصلاة ، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا

٢٩١

عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية.

فإذا صح أن سبب النزول قصة أسماء المتقدمة ، كان قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطابا للرجال والنساء بطريق التغليب ؛ لأن دخول سبب النزول في الحكم قطعي ، كما هو الراجح في الأصول.

التفسير والبيان :

هذه الآيات عود إلى تتمة الأحكام السالفة في هذه السورة ، بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها ، والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها. وموضوع هذه الآيات استئذان الأقارب بعضهم على بعض ، والتخفيف عن العجائز بإلقاء الثياب الظاهرة. أما ما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. وتفسير الآيات ما يأتي :

الحكم الحادي عشر :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) أي أيها المؤمنون والمؤمنات بالله ورسوله يطلب من خدمكم مما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء ، وأطفالكم الصغار أن يستأذنوكم في ثلاثة أحوال أو أوقات :

الأول ـ من قبل صلاة الفجر ؛ لأنه وقت النوم في الفراش واليقظة من المضاجع وتغيير ثياب النوم وارتداء ثياب اليقظة ، ويحتمل انكشاف العورة.

الثاني ـ حين تخلعون ثياب العمل وتستعدون للنوم وقت الظهيرة أو وقت القيلولة ؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.

٢٩٢

الثالث ـ من بعد صلاة العشاء ؛ لأنه وقت خلع ثياب اليقظة ، ولبس ثياب النوم.

فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال ؛ لما يخشى من انكشاف العورات ونحو ذلك من مقدمات النوم والراحة ، فهي ساعات الخلوة والانفراد ووضع الملابس.

والأمر في قوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) ظاهر في الوجوب ، لكن قال الجمهور : إنه مصروف إلى الندب والاستحباب ، والتعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب ، مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين». فلو حدث دخول بغير استئذان لم يكن ذلك معصية ، وإنما خلاف الأولى ، وإخلال بالأدب. فإن علم الخادم أن في دخوله على سيده إيذاء له ، حرم الدخول بسبب الأذى لغيره.

وزعم البعض أن حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة منسوخ ؛ لجريان عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول على خلافه ، أو أنه كان يعمل بها عند عدم وجود ستور للبيوت. والأصح أن حكم الاستئذان في هذه الأوقات محكم غير منسوخ ، وهو قول أكثر أهل العلم. قال أبو حنيفة رحمه‌الله : لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ.

والجمهور على أن الخطاب في الآية عام في الذكور والإناث من الأرقاء ، الكبار منهم والصغار. وروي عن ابن عباس أنه خاص بالصغار ، كما روي عن السّلمي أنه خاص بالإناث ، وكلا الرأيين غير معقول.

والمراد بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) هم الصبيان من الذكور والإناث ، سواء أكانوا أجانب أم محارم. وهم المراهقون لقوله تعالى :

٢٩٣

(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور ٢٤ / ٣١].

وعلة طلب الاستئذان ما قال الله تعالى :

(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي إن هذه الأوقات المذكورة هي ثلاثة أوقات عورات يختل فيها التستر عادة ، والعورة لا يجوز النظر إليها. وما عدا ذلك فهو مباح كما قال سبحانه :

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي لا إثم ولا حرج في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة ، وإنما الأمر مباح على أصل الإباحة في الأشياء.

وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر ، فيدخل في وقت المنع قبل صلاة الفجر ، من باب أولى ، وإنما سكت عنه النص لندرة الدخول فيه بسبب النوم ، ولأن المعمول به عادة حصول الاستئذان فيه ، منعا من التهمة وسوء الظن.

وعلة الإباحة كما ذكر تعالى :

(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ، بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي إن هؤلاء الخدم والأطفال الصغار يطوفون عليكم في الخدمة وغير ذلك ، ويترددون على مجالسكم أنسا بكم ومعاشرة ومداخلة ، وقضاء حاجات ، وبعضكم طائف عادة على بعض ، وكرر الله تعالى ذلك للتأكيد ، فالتعبير الأول تسلية للمماليك والخدم ، والتعبير الثاني مراعاة لجانب السادة المخدومين وإشعار بحاجتهم إلى خدمات الخدم.

وفيه دلالة على تعليل الأحكام ؛ لأن الله تعالى نبّه على علة طلب الاستئذان بقوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) كما نبّه على أن التطواف علة الإباحة في غير الأوقات الثلاثة ، ويغتفر في الطوافين دفعا للحرج والمشقة ما لا يغتفر في غيرهم. لهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الهزة : «إنها ليست بنجسة ، إنها من الطوافين عليكم ، والطوافات».

٢٩٤

وفي الآية دلالة أيضا على أن المميز غير البالغ يعوّد على الأدب والنظام والانضباط والإعداد لتحمل المسؤولية والتكاليف الشرعية ، قال تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم ٦٦ / ٦] أي أدبوهم وعلموهم.

وهذا التأديب والتعليم والبيان والتشريع بفضل الله تعالى ، لذا قال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي مثل ذلك التبيين لما ذكر من الأحكام يبين الله لكم الشرائع والأنظمة في آياته البينة الواضحة الدلالة على معانيها ومقاصدها ، والله عليم بأحوال عباده وبما يصلحهم وما لا يصلحهم ، حكيم في تدبير أمورهم وتشريع الأصلح الأنسب لهم في الدنيا والآخرة.

الحكم الثاني عشر :

انتقل البيان لمعرفة حكم استئذان البالغين الأحرار ، فقال تعالى :

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إذا بلغ الحلم الأطفال الذين كانوا يستأذنون في العورات الثلاث ، فيجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال ، مع الأجانب والأقارب ، كما استأذن الكبار الذين سبقوهم من ولد الرجل وأقاربه. فهذه الآية مبينة لآية : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور ٢٤ / ٣١] أي أن الطفل الذي لم يظهر على العورات مستثنى ، فإذا ظهر على العورات ، وذلك بالبلوغ ، فيستأذن. وأفرد «الطفل» في الآية ؛ لأنه يراد به الجنس.

ولم يذكر المماليك هنا ، وإنما بقي الحكم السابق مقررا عليهم وهو الاستئذان في أوقات ثلاثة ؛ لأن حكم كبارهم وصغارهم واحد.

وبلوغ الحلم إما بالاحتلام أو ببلوغ خمس عشرة سنة في رأي أكثر العلماء ؛ لما روي عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنه عرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وله أربع عشرة سنة ، فلم يجزه ، وعرض عليه يوم الخندق ، وله خمس عشرة سنة فأجازه.

٢٩٥

وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها ، والفتاة حتى تبلغ سبع عشرة سنة ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) [الأنعام ٦ / ١٥٢] وأقل حد لبلوغ الأشد ثماني عشرة سنة ، فيبنى الحكم عليها للتيقن ، أما الإناث فيكون إدراكهن ونشوؤهن أسرع ، فنقص في حقهن سنة (١).

ويرى جماعة من العلماء منهم الشافعي أن الإنبات (إنبات الشعر) من أمارات البلوغ ؛ لما روى عطية القرظي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة ، واستحياء من لم ينبت ، قال : فنظروا إلي فلم أكن أنبتّ ، فاستبقاني صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا يعتبر الإنبات عند الحنفية بلوغا لظاهر قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) فإنه ينفي كون الإنبات بلوغا إذا لم يحتلم ، كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغا.

ثم عاد البيان القرآني لتأكيد نعمة الله بتشريع هذه الأحكام فقال تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي كما بين لكم ما ذكر بيانا كافيا شافيا ، يبيّن لكم أحكاما أخرى تحقق الاستقرار والاطمئنان وسعادة الدنيا والآخرة ، والله عليم بأحوال عباده ، حكيم في معالجة أمورهم.

الحكم الثالث عشر :

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) هذا بيان حكم النساء العجائز ، والمعنى : إن النساء اللواتي كبرن ، وانقطع الحيض عنهن ، ويئسن من الولد ، ولم يبق لهن رغبة في التزوج ، فلا إثم عليهن ولا حرج أن يخففن في ملابسهن ويخلعن ثيابهن الظاهرة

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٣١ وما بعدها.

٢٩٦

كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار (غطاء الرأس) إذا لم يقصدن إظهار ما عليهن من الزينة الخفية كشعر ونحر وساق ، ولم يكن فيهن جمال ظاهر ، فإن وجد حرم خلع الثياب الظاهرة ، ولم يؤد إلى كشف شيء من العورة.

(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ، وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي أن التعفف والاحتياط بالستر ، وإبقاء ثيابهن المعتادة ، وإن كان جائزا ، خير وأفضل لهن ، والله سميع لأحاديثهن وكلامهن مع الرجال وكلام الرجال معهن ، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن وغير ذلك ، فإياكم ووساوس الشيطان.

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت الآيات على أحكام ثلاثة هي :

١ ـ يندب ندبا مؤكدا للمماليك العبيد والإماء والأطفال غير البالغين الاستئذان عند الدخول على الأبوين (عماد الأسرة) في أوقات ثلاثة : هي ما قبل صلاة الفجر ، وعند القيلولة ظهرا ، وما بعد صلاة العشاء. قال ابن عباس : إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحبّ السّتر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال (١) ، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل ، والرجل على أهله ، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله بالستور والخير ، فلم أر أحدا يعمل بذلك.

وسبب تخصيص هذه الأوقات أنها أوقات تقتضي عادة الناس كشف شيء من عوراتهم فيها ، فطلب فيها الاستئذان منعا من الاطلاع على العورات. وهذه الآية خاصة ، وأما التي سبق ذكرها فهي عامة ، وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها).

__________________

(١) الحجال جمع حجلة : بيت كالقبة يستر بالثياب ، ويكون له أزرار كبار كبيت الشّعر اليوم.

٢٩٧

٢ ـ يجب على البالغين الأحرار الاستئذان في كل وقت عند الدخول على الآخرين أجانب أو أقارب.

٣ ـ يباح للعجائز القاعدات في البيوت اللواتي لا يشتهين عادة من الرجال خلع الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار ، دون أن يؤدي ذلك إلى كشف شيء من العورة ، ودون قصد التبرج أو إظهار الزينة لينظر إليهن ، وإن كن لسن بمحل لذلك عادة ، والاستعفاف خير وأفضل من فعل المباح.

وإنما خص الله تعالى القواعد من النساء بهذا الحكم دون غيرهن لانصراف النفوس عنهن عادة.

ومن التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصف جسدها ، وهو المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة : «ربّ نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها» جعلن كاسيات ؛ لأن الثياب عليهن ، ووصفن بعاريات لأن الثوب إذا رقّ يكشفهن ، وذلك حرام (١).

٤ ـ قال أبو بكر الرازي الجصاص : دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ ، وقد عقل ، يؤمر بفعل الشرائع ، وينهى عن ارتكاب القبائح ، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو : «مروهم بالصلاة ، وهم أبناء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين». وعن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : نعلّم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وكان زين العابدين علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا ، فقيل له : يصلون الصلاة لغير وقتها ، فقال : هذا خير من أن يتناهوا عنها. وعن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ، ولا تكتب عليه السيئات ، حتى يحتلم.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٣ / ١٣٨٩

٢٩٨

وإنما يؤمر بذلك على وجه التعليم ، وليعتاده ويتمرن عليه ، فيكون أسهل عليه بعد البلوغ ، وأقل نفورا منه ، وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير ، وينهى عن سائر المحظورات ؛ لأنه لو لم يمنع منه في الصغر ، لصعب عليه الامتناع بعد الكبر ، وقال الله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) قيل في التفسير : أدبوهم وعلّموهم (١).

٥ ـ الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن ؛ لأنه تعالى نبّه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين :

أحدهما ـ بقوله تعالى : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) وهي علة طلب الاستئذان.

والثاني ـ بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة ، وبين ما عداها ، وهو علة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة ، وما عداها يختلف عنها ، كما تقدم بيانه.

إباحة الأكل من بيوت معينة دون إذن

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٣٣

٢٩٩

جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

الإعراب :

(جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) حال من واو (تَأْكُلُوا).

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) منصوب على المصدر ؛ لأن قوله : (فَسَلِّمُوا) معناه : فحيّوا.

البلاغة :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) : إطناب بتكرار لفظ الحرج ، تأكيدا للحكم شرعا.

المفردات اللغوية :

(حَرَجٌ) الحرج لغة : الضيق ، ويراد به شرعا الإثم أو الذنب. (ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أي ما كنتم فيه وكلاء عن غيركم أو حفظة له. (أَوْ صَدِيقِكُمْ) الصديق : يطلق على الواحد والجمع ، كالخليط والعدو ، وهو من صدقكم في مودته. ومعنى الآية : يجوز الأكل من بيوت المذكورين ، وإن لم يحضروا ، إذا علم رضاهم به. (جَمِيعاً) أي مجتمعين. (أَشْتاتاً) متفرقين ، جمع شتّ ، أي متفرق ، وشتى : جمع شتيت.

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) لكم لا أهل بها أو من هذه البيوت (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي على أهل البيوت ، أو قولوا : «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فإن الملائكة تردّ عليكم ، وإن كان بها أهل فسلموا عليهم. (تَحِيَّةً) مصدر حيّا. (مُبارَكَةً) كثيرة الخير. (طَيِّبَةً) تطيب بها نفس المستمع. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي مثل ذلك البيان يبين لكم معالم دينكم ، كرره مرة ثالثة لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام السابقة المختتمة به. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي تفهموا ذلك ، وتعقلوا الحق والخير في الأمور.

سبب النزول :

اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية ، أذكر ثلاث روايات منها.

٣٠٠