التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة عند الشافعية ، وتعتبر عند أبي حنيفة (فَاجْلِدُوهُمْ) اجلدوا كل واحد منهم (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي تسقط عدالتهم ، فلا تقبل لهم أي شهادة كانت بعدئذ ؛ لأنه مفتر. ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد عند الشافعية ؛ لترتب الجزاءين على القذف على السواء جوابا للشرط ، دون ترتيب بينهما ، فيحصلان دفعة واحدة ، ويتوقف عدم قبول شهادته عند أبي حنيفة على استيفاء الحد. وقوله : (أَبَداً) أي ما لم يتب ، وعند أبي حنيفة : إلى آخر عمره (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المحكوم بفسقهم ؛ لإتيانهم كبيرة.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عن القذف (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بالتدارك ، ومنه الاستسلام للحد ، أو طلب العفو (الاستحلال) من المقذوف. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم قذفهم (رَحِيمٌ) بهم بإلهامهم التوبة. وبالتوبة ينتهي فسقهم وتقبل شهادتهم عند الشافعية ، ولا تقبل عند الحنفية ؛ لأن الاستثناء يكون راجعا إلى الجملة الثالثة وهي : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) في رأيهم ، وإلى أصل الحكم وجميع الجمل في رأي الشافعية ، لكن تستثنى الجملة الأولى ، فلا يسقط الحد بالتوبة بالاتفاق ، حفاظا على حق العبد ، ويبقى الاستثناء في ظاهره عائدا إلى رد الشهادة والتفسيق.

المناسبة :

بعد التنفير من نكاح الزانيات وإنكاح الزناة ، نهى الله تعالى عن القذف وهو الرمي بالزنى ، وذكر حده في الدنيا وهو الجلد ثمانين ، وعقوبته في الآخرة وهو العذاب المؤلم ما لم يتب القاذف.

ودلت القرائن على أن المراد الرمي بالزنى بإجماع العلماء لتقدم الكلام عن الزنى ، ووصف النساء بالمحصنات وهن العفائف عن الزنى ، ولاشتراط إثبات التهمة بأربعة شهود ، ولا يطلب هذا العدد إلا في الزنى ، ولانعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنى ، كالرمي بالسرقة وشرب الخمر والكفر ، فمجموع هذه القرائن الأربع يجعل المراد هو الرمي بالزنى.

التفسير والبيان :

هذه الآية تبين حكم قذف المحصنة وهي الحرة البالغة العاقلة العفيفة ، يجلد قاذفها ثمانين جلدة ، وكذلك يجلد قاذف الرجل العفيف اتفاقا ، وقذف الرجل

١٤١

داخل في حكم الآية بالمعنى ، كدخول تحريم شحم الخنزير في تحريم لحمه. وذكر النساء ، لأن رميهن بالفاحشة أشنع ، والزنى منهن أقبح ، أما السرقة فالرجل عليها أجرأ وأقدر ، فبدأ به في آية حد السرقة.

وفي التعبير بالإحصان إشارة إلى أن قذف العفيف رجلا أو امرأة موجب لحد القذف ، أما المعروف بفجوره فلا حد على قاذفه ، إذ لا كرامة للفاسق.

والمعنى : إن الذين يسبّون النساء العفيفات الحرائر المسلمات برميهن بالزنى ، ولم يتمكنوا من إثبات التهمة بأربعة شهود رأوهن متلبّسات بالزنى ، أي لم يقيموا البينة على صحة القذف الذي قالوه ، لهم ثلاثة أحكام :

الأول ـ أن يجلد القاذف ثمانين جلدة. والجلد : الضرب.

الثاني ـ أن ترد شهادته أبدا ، فلا تقبل في أي أمر مدة العمر.

الثالث ـ أن يصير فاسقا ليس بعدل ، لا عند الله ولا عند الناس ، سواء كان كاذبا في قذفه أو صادقا. والفسق : الخروج عن طاعة الله تعالى ، وهذا دليل على أن القذف كبيرة من الكبائر ، لما يترتب عليه من التشنيع وهتك حرمة المؤمنات. لكن شرط القاذف الذي نصت عليه الآية : عجزه عن الإتيان بأربعة شهود ، وتقضي قواعد الشرع أن يكون من أهل التكليف : وهو البالغ العاقل المختار ، العالم بالتحريم حقيقة ، أو حكما كمن أسلم حديثا ومضت عليه مدة يتمكن فيها من معرفة أحكام الشرع.

وشرط المقذوف المرمي بنص الآية : أن يكون محصنا : وهو المكلف (البالغ العاقل) الحر ، المسلم ، العفيف عن الزنى. فشرائط إحصان القذف خمسة : هي البلوغ والعقل باعتبارهما من لوازم العفة عن الزنى ، والحرية ؛ لأنها من معاني الإحصان ، والإسلام ، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم : «من

١٤٢

أشرك بالله فليس بمحصن» والعفة عن الزنى ، فلا يعتبر كل من المجنون والصبي والعبد والكافر والزاني محصنا ، فلا يحد قاذفهم ، لكن يعزر للإيذاء. ويلاحظ أن ظاهر الآية يتناول جميع العفائف ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، وسواء كانت حرة أو رقيقة ، إلا أن الفقهاء قالوا شرائط الإحصان في القذف خمسة : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة عن الزنى. وإنما اعتبرنا الإسلام للحديث المتقدم ، واعتبرنا العقل والبلوغ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة : «رفع القلم عن ثلاثة» ومنهم الصبي والمجنون ، واعتبرنا الحرية ؛ لأن العبد ناقص الدرجة ، فلا يعظم عليه التعيير بالزنى ، واعتبرنا العفة عن الزنى ؛ لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف ، فإذا كان المقذوف زانيا ، فالقاذف صادق في القذف ، فلا يحد ، وكذلك إذا كان المقذوف وطئ امرأة بشبهة أو نكاح فاسد ؛ لأن فيه شبهة الزنى.

وإذا كان العبد أو الكافر عفيفا عن الزنى ، فيصبح محصنا من وجه ، وغير محصن من وجه آخر ، فيكون ذلك شبهة في إحصانه ، فيجب درء الحد عن قاذفه.

وكان ينبغي جعل التزوج من صفات الإحصان ، إلا أن العلماء أجمعوا على عدم اعتباره هنا ، وهو كون المرمي زوجة أو زوجا ، بدليل الآيات التالية في اللعان ، فتكون آية اللعان مخصصة لعموم الموصول : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ).

وظاهر الآية : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يدل على أنه يشترط لتحقق القذف الموجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني ، وتاء (بِأَرْبَعَةِ) تفيد في ظاهرها اعتبار كونهم من الرجال ، ويؤكد ذلك أنه لا تعتبر شهادة النساء في الحدود اتفاقا.

ولم تشترط الآية أكثر من كون الرجال الأربعة أهلا للشهادة ، لكن العلماء

١٤٣

اختلفوا في اشتراط كون الشاهد عدلا ، فقال الشافعية : تشترط عدالة الشاهد ، وقال الحنفية : لا تشترط عدالة الشاهد. فإذا شهد أربعة فساق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كالقاذف ، ولا يحدون عند الحنفية ، ويدرأ الحد عن القاذف ؛ لأنه تثبت بشهادتهم شبهة الزنى ، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف ، وكذا عن المقذوف.

وظاهر عموم الآية أنه يكفي أن يكون زوج المقذوفة أحد الشهود الأربعة ، وقد أخذ الحنفية بهذا الظاهر ، وقال مالك والشافعي : لا يعتبر الزوج أحد الشهود ، ويلاعن الزوج ويحد الشهود الثلاثة الآخرون ؛ لأن الشهادة بالزنى قذف ، ولم يكتمل نصاب الشهادة المطلوب.

وظاهر إطلاق الآية أنه يصح مجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين ، وبه أخذ المالكية والشافعية ، وذلك كالشهادة في سائر الأحكام. وقال أبو حنفية : لا تقبل شهادتهم إلا إذا كانوا مجتمعين غير متفرقين ، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم ؛ لأن الشاهد الواحد لما شهد صار قاذفا ، ولم يأت بأربعة شهداء ، فوجب عليه الحد ، ولم يعد صالحا للشهادة. ونقل ذلك أيضا عن مالك.

وظاهر الآية أيضا أن القاذف يجلد إذا أتى بشاهدين أو ثلاثة فقط ، وكذلك يجلد هؤلاء الشهود إذا لم يكملوا النصاب ، بدليل فعل عمر الذي أمر بجلد ثلاثة شهود وهم شبل بن معبد وأبو بكرة (نفيع بن الحارث) وأخوه نافع شهدوا بالزنى على المغيرة بن شعبة ، وأما رابعهم زياد فلم يجزم بحدوث حقيقة الزنى.

والخطاب في قوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) هم أولياء الأمر الحكام ، وظاهر هذا العموم يشمل الحر والرقيق ، فحدهما ثمانون جلدة ، وبه أخذ ابن مسعود والأوزاعي والشيعة ، وأجمع بقية الفقهاء على أن حد الرقيق في القذف النصف وهو أربعون جلدة. ودل هذا الظاهر أيضا أن الحاكم يقيم الحد ولو من غير طلب المقذوف ، وبه أخذ ابن أبي ليلى ، وقال الجمهور : لا يحد إلا بمطالبة

١٤٤

المقذوف ، وقال مالك : إذا سمعه الإمام يقذف ، حدّه ولو لم يطلب المقذوف ، إذا كان مع الإمام شهود عدول. والخلاصة : أن الإمام لا يقيم حد القذف إلا بمطالبة المقذوف في المذاهب الأربعة.

وفي إقامة حد القذف : مراعاة لحق الله تعالى في حماية الأعراض ، ولحق العبد الذي انتهكت حرمته ، لكن اختلف الفقهاء في المغلّب في هذا الحد :

فقال الشافعية : يغلّب حق العبد باعتبار حاجته ، وغنى الله عزوجل. وذهب الحنفية إلى تغليب حق الله تعالى ؛ لأن استيفاءه يحقق مصلحة العبد أيضا. وتظهر ثمرة الخلاف في أمثلة منها :

أ ـ إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد ، فيسقط عند الحنفية تغليبا لحق الله تعالى ، وقال الشافعية : لا يسقط الحد بموت المقذوف ، بل يتولى ورثته المطالبة به تغليبا لحق العبد.

ب ـ وإذا قذف شخص جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة ، فالحنفية يقولون بتداخل الحد ، ويكفي للجميع حد واحد ، تغليبا لحق الله تعالى كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر ، ولا يتداخل الحد عند الشافعية ، وعليه لكل واحد حد تغليبا لحق العباد.

ج ـ وإذا عفا المقذوف عن الحد ، يسقط عند الشافعية تغليبا لحق العبد ، ولا يسقط عند الحنفية بعد طلب إقامته.

وبما أن مجموع العقوبات الثلاث مرتب على القذف بالعطف بالواو ، فترد شهادة القاذف ولو قبل جلده في رأي الشافعي ، ولا ترد شهادته إلا بعد جلده في رأي أبي حنيفة ومالك ؛ لأن الواو وإن لم تقتض الترتيب ، لكن المراد الترتيب ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو مرفوعا : «المسلمون عدول ، بعضهم على بعض ، إلا محدودا في فرية» أي قذف ، ورواه الدارقطني عن عمر في كتابه إلى أبي موسى.

١٤٥

ورد شهادة القاذف عام يشمل ما إذا كانت الشهادة واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف ، ويشمل شهادة من قذف وهو كافر ثم أسلم ، إلا أن الحنفية استثنوا الكافر إذا حد في القذف ثم أسلم ، فإن شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة ، لاستفادته بالإسلام عدالة جديدة.

ورد شهادة القاذف هي من تمام الحد في رأي الحنفية ، عملا بظاهر الآية التي رتب الله فيها على القذف عقوبتين ، فكان الظاهر أن مجموعهما حد القذف. وقال مالك والشافعي : الحد هو جلد ثمانين فقط ، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد ؛ لأن الحد عقوبة بدنية ، ورد الشهادة عقوبة معنوية ، ولأن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهلال بن أمية فيما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس : «البينة أو حد في ظهرك» يدل على أن الجلد هو تمام الحد.

ويلزم على قول الحنفية أن الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف ، أما الآخرون فلا يرون توقف رد الشهادة على طلب المقذوف.

ثم استثنى الله تعالى حال التوبة فقال :

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إلا الذين رجعوا عن قولهم وندموا على فعلهم ، وأصلحوا حالهم وأعمالهم ، فلم يعودوا إلى قذف المحصنات ، قال ابن عباس : أي أظهروا التوبة ، فإن الله غفور ستار لذنوبهم ، رحيم بهم ، فيقبل توبتهم ، ويرفع عنهم صفة الفسق التي وسموا بها.

قال الشافعي : توبة القاذف : إكذابه نفسه ، والمعنى كما فسره الاصطخري من أصحاب الشافعي : أن يقول : كذبت فيما قلت ، فلا أعود لمثله ، وفسره أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي : لا يقول : كذبت ؛ لأنه ربما يكون صادقا ، فيكون قوله : (كذبت) كذبا ، والكذب معصية ، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، وندمت على

١٤٦

ما قلت ، ورجعت عنه ، ولا أعود إليه. ورجح أبو الحسن اللخمي أن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف.

وقال بعض العلماء : توبة القاذف كتوبة غيره ، تكون بينه وبين ربه ، ومضمونها الندم على ما قال ، والعزم على ألا يعود.

وقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء ، هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط ، فترفع التوبة الفسق فقط ، ويبقى مردود الشهادة دائما ، وإن تاب وأصلح ، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة أو إلى الكل؟

يلاحظ كما ذكرنا أن الآية ذكرت ثلاثة أحكام بثلاث جمل متعاطفة بالواو ، معقبة بالاستثناء ، فاتفق العلماء على أن الاستثناء لا يرجع هنا إلى الجملة الأولى ، فلا يسقط الحد بتوبة القاذف ، للمحافظة على حق العبد وهو المقذوف.

وانحصر الخلاف في عود الاستثناء إلى الجملتين الثانية والثالثة ، أي رد الشهادة والفسق ، فقال الحنفية : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط ، فيرتفع الفسق بالتوبة ، ويبقى مردود الشهادة أبدا ؛ لأن قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) جملة مستأنفة بصيغة الإخبار ، منقطعة عما قبلها ، لدفع توهم أن القذف لا يكون سببا لثبوت صفة الفسق بهتك عرض المؤمن بلا فائدة ، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة ، توجه الاستثناء إليها وحدها.

وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : يعود الاستثناء إلى كلتا الجملتين الثانية والثالثة ؛ لأن جملة (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) مستأنفة منقطعة عما قبلها ؛ لأنها ليست من تتمة الحد ، وجملة (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تبين علة رد الشهادة ، فإذا ارتفع الفسق الذي هو علة بالتوبة ، ارتفع المعلول الذي هو رد الشهادة ، فهذه الجملة تعليل ، لا جملة مستقلة بنفسها ، أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم ، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟.

١٤٧

ولا يثور هذا الخلاف بين الفريقين إذا قامت قرينة أو دليل على أن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل كلها ، كما في المثالين الآتين :

الأول ـ قوله تعالى في دية القتل الخطأ : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ، إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) [النساء ٤ / ٩٢] فيه قرينة تدل على أن الاستثناء عائد إلى الدية لا إلى تحرير الرقبة ؛ لأن التحرير حق الله تعالى ، وتصدق الولي لا يسقط حق الله تعالى.

الثاني ـ قوله تعالى في المحاربين : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [المائدة ٥ / ٣٤] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها ، فإن التقييد في قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) يمنع عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ، وهي قوله سبحانه : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لأن التوبة تسقط العذاب الأخروي ، سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها ، فلم يكن لهذا التقييد فائدة إلا سقوط الحد ، فهذا الاستثناء راجع إلى الجميع بالاتفاق.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ أرشدت الآية إلى وجوب حد القاذف ثمانين جلدة إذا عجز عن إثبات تهمته بأربعة شهود ، وإلى الحكم برد شهادته ، وصيرورته فاسقا ، إلا إذا تاب فتقبل شهادته وترتفع صفة الفسق عنه في رأي الجمهور ، وتزول عنه صفة الفسق فقط بالتوبة في مذهب الحنفية ، ويظل مردود الشهادة أبدا وإن تاب.

٢ ـ وللقذف شروط تسعة عند العلماء : شرطان في القاذف : وهما العقل والبلوغ ؛ لأنهما أصلا التكليف.

وشرطان في المقذوف به : وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد : وهو عند الجمهور غير الحنفية : الزنى واللواط ، أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي.

١٤٨

وخمسة شروط في المقذوف : وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها.

٣ ـ واتفق العلماء على أن القذف بصريح الزنى يوجب الحد ، أما القذف بالتعريض والكناية ، مثل ما أنا بزان ولا أمي بزانية ، فقال مالك : هو قذف. وقال الشافعي : هو قذف إن نوى وفسره به فقال : أردت به القذف. وقال أبو حنيفة : ليس ذلك قذفا ، لما فيه من شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات.

٤ ـ وذهب الجمهور إلى أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم ، ولكنه يعزر ، وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم.

٥ ـ وإذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك وقال الآخرون من الأئمة : ليس بقذف ؛ لأنه ليس بزنى ؛ إذ لا حد عليها ، ويعزّر.

٦ ـ وأما شرط أداء الشهادة وهو كون ذلك في مجلس واحد ففيه رأيان للعلماء كما تقدم : رأي يشترط اجتماع الشهود في مجلس واحد ، ورأي لا يشترط ذلك ، ويصح أداؤهم الشهادة متفرقين.

٧ ـ إن رجع أحد الشهود ، وقد رجم المشهود عليه في الزنى ، فقال الجمهور : يغرم ربع الدية ، ولا شيء على الآخرين. وقال الشافعي : إن قال : تعمدت ليقتل ، فالأولياء بالخيار : إن شاؤوا قتلوا ، وإن شاؤوا عفوا ، وأخذوا ربع الدية ، وعليه الحدّ.

٨ ـ صفة حد القذف فيها رأيان أيضا : قال أبو حنيفة : هو من حقوق الله تعالى والمغلب فيه حق الله ، وقال الجمهور : هو من حقوق الآدميين. وفائدة الخلاف : أنه على الرأي الأول تنفع القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ،

١٤٩

ولا يورث الحد ولا يسقط بالعفو ، وعلى الرأي الثاني : لا تنفع القاذف التوبة حتى يسامحه المقذوف ، ويورث الحد ، ويسقط بالعفو. وقد ذكر سابقا آثار أخرى للخلاف.

قال ابن العربي : والصحيح أنه حق الآدميين ، والدليل أنه يتوقف على مطالبة المقذوف ، وأنه يصح له الرجوع عنه.

٩ ـ الشهادة تكون على معاينة الزنى ، يرون ذلك كالمرود في المكحلة ، وفي موضع واحد في رأي مالك ، فإن لم يتحقق ذلك جلد الشهود ، كما بينا.

١٠ ـ إذا تاب القاذف قبلت شهادته في رأي الجمهور ؛ لأن ردها كان لعلة الفسق ، فإذا زال بالتوبة ، قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده. ولا تقبل شهادته مدة العمر وإن تاب في رأي الحنفية. ويترجح الرأي الأول بأن التوبة تمحو الكفر ، فما دونه أولى ، وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن ماجه عن ابن مسعود : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وإذا قبل الله التوبة من العبد ، كان قبول العباد أولى.

١١ ـ تسقط شهادة القاذف في رأي الشافعي وابن الماجشون بنفس قذفه ، ولا تسقط في رأي مالك وأبي حنيفة حتى يجلد ، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم تردّ شهادته.

١٢ ـ تجوز شهادة المحدود بحد القذف بعد التوبة في كل شيء مطلقا في رأي الأكثرين. وقال ابن الماجشون : من حد في قذف أو زنى ، فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى ، ولا في قذف ولا لعان ، وإن كان عدلا.

١٣ ـ إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد ، أو لم يرفع إلى السلطان ، أو عفا المقذوف ، فالشهادة مقبولة ؛ لأن النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد.

١٥٠

وقد بينا أن الشافعي ومثله الليث والأوزاعي قالوا : ترد شهادة القاذف بالقذف نفسه ، وإن لم يحد ؛ لأنه بالقذف يفسق ؛ لأنه من الكبائر ، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.

ويرى أبو حنيفة ومالك أنه لا ترد شهادة القاذف إلا بعد جلده وصيرورته محدودا في القذف ، للحديث المتقدم الذي رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو : «المسلمون عدول ، بعضهم على بعض ، إلا محدودا في قذف».

١٤ ـ لا تكفي التوبة الشخصية أو القلبية لإعادة اعتبار القاذف وقبول شهادته ؛ لأن الأمر متعلق بحق الغير وهو المقذوف ، بل لا بد من إعلانها ، لذا قال تعالى : (وَأَصْلَحُوا) أي بإظهار التوبة. وقيل : وأصلحوا العمل ، لكن هذا لا يناسب هنا.

الحكم الرابع

حكم اللعان

أو قذف الرجل زوجته

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

١٥١

الإعراب :

(إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) بدل مرفوع من (شُهَداءُ) وهم : اسم كان ، و (لَهُمْ) خبرها.

(فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) شهادة : إما مبتدأ وخبره إما أربع أو محذوف تقديره : فعليهم شهادة أحدهم ، وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالحكم شهادة أحدهم أربع شهادات. و (أَرْبَعُ) خبر المبتدأ : (فَشَهادَةُ) ويكون (بِاللهِ) متعلقا ب (شَهاداتٍ). وعلى قراءة النصب يكون منصوبا على المصدر ، والعامل فيه شهادة ؛ لأنها في تقدير (أن) والفعل ، أي أن يشهد أربع شهادات بالله.

(وَالْخامِسَةُ) إما مبتدأ وما بعده خبر ، وإما معطوف بالرفع على (أَرْبَعُ). وعلى قراءة النصب إما صفة مصدر مقدر أي أن تشهد الشهادة الخامسة ، أو معطوف على (أَرْبَعُ شَهاداتٍ). و (أَنَّ لَعْنَتَ) : منصوب بتقدير حذف حرف جر ، أي وتشهد الخامسة بأن لعنة الله عليه.

(أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ) أن وصلتها في موضع رفع ، أي ويدرأ عنها العذاب شهادتها.

و (إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) في موضع نصب ب (تَشْهَدَ).

(وَالْخامِسَةُ) معطوف على (أَرْبَعُ) وبالرفع : مبتدأ وما بعده خبر.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) : لم يذكر جواب (لَوْ لا) إيجازا واختصارا لدلالة الكلام عليه ، أي لعاجلكم بالعقوبة ، أو لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة.

البلاغة :

(تَوَّابٌ حَكِيمٌ) صيغة مبالغة على وزن : فعّال ، وفعيل.

(الصَّادِقِينَ) و (الْكاذِبِينَ) بينهما طباق.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ ..) حذف الجواب للتهويل والزجر ، ليكون أبلغ في البيان.

المفردات اللغوية :

(يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) يقذفونهن بتهمة الزنى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) وقع ذلك لجماعة من الصحابة ، وهو هلال بن أمية رأى رجلا على فراشه (مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رمى به زوجته من الزنى (لَعْنَتَ اللهِ) اللعنة : الطرد من رحمة الله ، وهذا لعان الرجل ، وحكمه : سقوط حد القذف عنه ، وحصول الفرقة بينه وبين زوجته بنفس اللعان فرقة فسخ عند الشافعية ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الدارقطني عن ابن عمر : «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» وبتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ،

١٥٢

ومن أحكامه أيضا : نفي الولد إن تعرّض له فيه ، وثبوت حد الزنى على المرأة ؛ لقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي ويدفع عنها الحد : حد الزنى الذي ثبت بشهادته.

(لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزنى (غَضَبَ اللهِ) سخطه وتعذيبه (فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالستر في ذلك (تَوَّابٌ) يقبل التوبة في ذلك وغيره (حَكِيمٌ) فيما حكم به في ذلك وغيره. وجواب (لَوْ لا) تقديره : لبين الحق في ذلك وعاجل بالعقوبة من يستحقها.

سبب النزول :

أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سحماء (١) ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيّنة أو حد في ظهرك» فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق ، يلتمس البينة! فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «البينة أو حدّ في ظهرك».

فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزل الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل ، فأنزل الله عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) فقرأ حتى بلغ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

وأخرجه أحمد بلفظ : لما نزلت : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار : أهكذا نزلت يا رسول الله؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معشر الأنصار ، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا : يا رسول الله ، لا تلمه ، فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قط ، فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته.

فقال سعد : والله يا رسول الله ، إني لأعلم أنها حق ، وأنها من الله ، ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا (٢) مع رجل لم يكن لي أن أنحيّه ولا أحركه ، حتى

__________________

(١) نسبة إلى أمه السحماء.

(٢) امرأة لكاع : لئيمة وقيل : ذليلة النفس.

١٥٣

آتي بأربعة شهداء ، فو الله لا آتي بهم ، حتى يقضي حاجته.

قال : فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم ، فجاء من أرضه ، فوجد عند اهله رجلا ، فرأى بعينه ، وسمع بأذنه ، فلم يهجه حتى أصبح ، فغدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال له : إني جئت أهلي عشاء ، فوجدت عندها رجلا ، فرأيت بعيني ، وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء به واشتد عليه.

واجتمعت الأنصار ، فقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة إلا أن يضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هلال بن أمية ، ويبطل شهادته في الناس.

فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا ، فو الله إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن يضربه ، فأنزل الله عليه الوحي ، فأمسكوا عنه ، حتى فرغ من الوحي ، فنزلت: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) الآية. وأخرج أبو يعلى مثل هذه الرواية من حديث أنس.

وفي رواية : لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات ، وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد : يا رسول الله ، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة! والله لأضربنّه بالسيف غير مصفح عنه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه ، والله أغير مني»؟!

وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدي ، فقال : اسأل لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ، فقتله ، أيقتل به ، أم كيف يصنع به؟

فسأله عاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السائل ، فلقيه عويمر (١) ، فقال : ما صنعت؟ قال : ما صنعت؟ إنك لم تأتني بخبر ، سألت

__________________

(١) هو عويمر بن زيد بن الجدّ بن العجلاني.

١٥٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعاب السائل ، فقال عويمر : فو الله لآتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلأسألنه ، فسأله ، فقال : إنه أنزل فيك وفي صاحبك .. الحديث. أي فيمن وقع له مثل ما وقع لك.

قال الحافظ ابن حجر : اختلف الأئمة في هذه المواضيع ، فمنهم من رجّح أنها نزلت في شأن عويمر ، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال ، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال ، وصادف مجيء عويمر أيضا ، فنزلت في شأنهما. وإلى هذا جنح النووي ، وتبعه الخطيب ، فقال : لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد.

قال ابن حجر : لا مانع من تعدد الأسباب.

وقال القرطبي : والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل ، وأنها سبب الآية. وقيل : نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل ؛ وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة. قال السهيلي : وهو الصحيح. وقال الكلبي : والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني ؛ لكثرة ما روي ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته.

والمهم أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور :

أولها : أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ عنها وأنها منفصلة عنها.

وثانيها : أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أنها تشمل الأجنبية والزوجة على السواء.

وثالثها : أن هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج.

١٥٥

المناسبة :

بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير الزوجات بالزنى ، بيّن الله تعالى حكم قذف الزوجات الذي هو في حكم الاستثناء من الآية المتقدمة ، تخفيفا عن الزوج ؛ لأن العار يلحقه ، ومن الصعب أن يجد بيّنة ، وفي تكليفه إحضار الشهود إحراج له ، ويعذر بالغيرة على أهله ، وأيضا فإن الغالب أن الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا صادقا ، بل ذلك أبغض إليه ، وأكره شيء لديه.

التفسير والبيان :

فرّج الله تعالى بهذه الآية عن الأزواج وأوجد لهم المخرج إذا قذف أحدهم زوجته ، وتعسّر عليه إقامة البينة ، وهو أن يحضرها إلى الحاكم ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيلاعنها كما أمر الله عزوجل ، بأن يحلفه الحاكم أربع شهادات بالله ، في مقابلة أربعة شهداء ، إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى ، فقال تعالى :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ..) ـ إلى قوله ـ : (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي إن الأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنى ، ولم يتمكنوا من إحضار أربعة شهود يشهدون بصحة قذفهم ، وإنما كانوا هم الشهود فقط ، فالواجب عليهم أن يشهد الواحد منهم أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رمى به زوجته من الزنى ، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به. واللعن : الطرد من رحمة الله.

فإذا قال ذلك بانت منه بهذا اللعان نفسه عند جمهور العلماء غير الحنفية ، وحرمت عليه أبدا ، ويعطيها مهرها ، ويسقط عنه حد القذف ، وينفي الولد عنه إن وجد ، ويتوجه عليها حد الزنى.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ..) ـ إلى قوله ـ : (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ويدفع عنها حد الزنى أن تحلف بالله أربعة أيمان : إن زوجها كاذب فيما رماها به

١٥٦

من الفاحشة ، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما يقول.

وسبب التفرقة بينهما بتخصيصه باللعنة ، وتخصيصها بالغضب هو التغليظ عليها ؛ لأنها سبب الفجور ومنبعه ، بإطماعها الرجل في نفسها.

ثم بيّن الله تعالى ما تفضل به على عباده من الفضل والنعمة والرحمة بهذا التشريع ؛ إذ جعل اللعان للزوج طريقا لتحقيق مراده. وللزوجة سبيلا إلى درء العقوبة عن نفسها ، فقال :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ، وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي ولو لا ما خصكم الله به من مزيد فضله ونعمته وإحسانه ورحمته ولطفه ورأفته من تشريع ما به فرج ومخرج من الشدة والضيق ، وتمكين من قبول التوبة ، لوقعتم في الحرج والمشقة في كثير من أموركم ، ولفضحكم وعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ، وأنقذكم من الورطة باللعان ، فمن صفاته الذاتية أنه كتب الرحمة على نفسه ، وأنه التواب الذي يقبل التوبة عن عباده ، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة ، وأنه حكيم فيما يشرعه ، ويأمر به ، وينهى عنه ، فإنه بالرغم من أن أحد الزوجين كاذب في يمينه ، يدرأ عنه العقاب الدنيوي وهو الحد ، ويستحق ما هو أشد منه وهو العقاب الأخروي. وعبر بقوله : (حَكِيمٌ) لا رحيم مع أن الرحمة تناسب التوبة ؛ لأن الله أراد الستر على عباده بتشريع اللعان بين الزوجين.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على مشروعية حكم اللعان بين الزوجين ، وكيفية اللعان ، ولا بدّ من توضيح الأحكام التالية التي أصّلها الفقهاء بنحو جلي :

١٥٧

١ ـ آيات اللعان وآية القذف : جاء ذكر آيات اللعان بعد آية قذف المحصنات غير الزوجات ، فرأى علماء الأصول من الحنفية أن آيات اللعان ناسخة لعموم آية القذف : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) لتراخي نزولها عنها ، فيكون قذف الزوجة منسوخا إلى بدل وهو اللعان.

وذهب الأئمة الآخرون إلى أن آيات اللعان مخصصة لعموم آية القذف ، فتكون هذه الآية مختصة بالمحصنات غير الزوجات ، وآيات اللعان خاصة بالزوجات ، ويكون موجب قذف المحصنة الحدّ فقط ، ثم استثني من ذلك الزوجة ، فيكون موجب قذفها الحد أو اللعان.

٢ ـ وحكمة اللعان : كما بينا التخفيف على الأزواج الذين لا يتيسر لهم إثبات زنى زوجاتهم بأربعة شهود.

٣ ـ هل ألفاظ اللعان شهادات أم أيمان؟ : يرى الحنفية أن ألفاظ اللعان شهادات ؛ لظاهر الآيات التي ذكر فيها لفظ الشهادة خمس مرات وهي : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أي ليس لهم بينة ، ثم قال : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) أي بينته المشروعة في حقه ، ثم قال : (أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) ثم قال : (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) وهذه المواضع الثلاثة هي أخبار مؤكدة بالشهادة ، ورتبوا على ذلك أنه يشترط في المتلاعنين أهلية الشهادة.

وذهب الجمهور إلى أن ألفاظ اللعان أيمان ، لا شهادات ؛ لأن قوله تعالى : (أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) قسم أو أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة ، كما قال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون ٦٣ / ١] ثم قال تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) [٢]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن» (١). ورتبوا على ذلك أنه لا يشترط في المتلاعنين إلا أهلية اليمين.

__________________

(١) رواه ابو داود بإسناد لا بأس به.

١٥٨

قال ابن العربي : والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب ، وكيف يجوز لأحد أن يدّعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره ، هذا بعيد في الأصل ، معدوم في النظر (١).

والحكمة في تكرار الشهادات التغليظ والتشدد في أمر خطير يترتب عليه الحد والتشنيع وفسخ الزواج ونفي الولد إن وجد والتحريم المؤبد.

٤ ـ شروط المتلاعنين :ترتب عند العلماء على الخلاف في ألفاظ اللعان : شهادات أو أيمان اختلافهم في أوصاف المتلاعنين أو شروطهم ، فاشترط الحنفية والأوزاعي والثوري في الزوج الملاعن أن يكون أهلا للشهادة على المسلم ، وفي الزوجة أيضا أن تكون أهلا للشهادة على المسلم ، وأن تكون ممن يحد قاذفها ، فلا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين ؛ لأن اللعان عندهم شهادة ، فلا لعان بين رقيقين ، ولا بين كافرين ، ولا بين المختلفين دينا أو حرية ورقا.

وأدلتهم قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) وأن كلمات اللعان من الزوج شهادات مؤكدات بأيمان ، وهي بدل من الشهود ، ولأن لعان الزوجة معارضة للعان الزوج. وأما كونها ممن يحد قاذفها ؛ فلأن اللعان بدل عن الحد في قذف الأجنبية. وروى ابن عبد البر عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين». وروى الدارقطني عن ابن عمرو أيضا مرفوعا : «أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحرة والعبد لعان ، وليس بين المسلم واليهودية لعان ، وليس بين المسلم والنصرانية لعان».

وذهب الجمهور إلى أن اللعان يصح من كل زوجين : مسلمين أو كافرين ، عدلين أو فاسقين ، محدودين في قذف أو غير محدودين ، حرين أو عبدين ؛

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١٣٣٢

١٥٩

لعموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى اللعان يمينا ، فقال لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولد شبيه بشريك بن سحماء : «لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن».

٥ ـ وترتب على الخلاف السابق أيضا الاختلاف في ملاعنة الأخرس ، فقال الجمهور : يلاعن ؛ لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه ، إذا فهم ذلك عنه. وقال أبو حنيفة : لا يلاعن ؛ لأنه ليس من أهل الشهادة.

٦ ـ إذا قذف الرجل زوجته بعد الطلاق ، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه ، لاعن ، وإلا لم يلاعن.

ولا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في حالة واحدة ، وهي أن يكون الرجل غائبا ، فتأتي امرأته بولد في مغيبه ، وهو لا يعلم ، فيطلّقها فتنقضي عدتها ، ثم يقدم فينفيه ، فله أن يلاعنها بعد العدة ، ولو بعد وفاتها ، ويرثها ؛ لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما. ولو مات الزوج قبل اللعان ترث عند الحنفية.

وإذا كانت المرأة حاملا لاعن عند الجمهور قبل الوضع ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا عن قبل الوضع ، وقال : «إن جاءت به كذا فهو لأبيه ، وإن جاءت به كذا فهو لفلان». وقال أبو حنيفة : لا يلاعن إلا بعد أن تضع ، لاحتمال كون الانتفاخ بسبب ريح أو داء.

وإذا قذف بالوطء في الدبر لزوجه لاعن عند الجمهور ؛ لأنه دخل تحت عموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) وقال أبو حنيفة : لا يلاعن ؛ لأن اللواط عنده لا يوجب الحد.

٧ ـ إذا قذف زوجته ثم زنت وثبت الزنى قبل التعانه ، فلا حدّ على القاذف ولا لعان في رأي أكثر أهل العلم ، لظهور أمر قبل استيفاء الحد واللعان

١٦٠