التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

٣ ـ الطيبات هي الحلالات ، وإن لأكل الحلال أثرا ملموسا في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية ، ففي الدنيا يبارك الله تعالى لمن أكل الحلال في جسده وصحته ورزقه وأولاده وأمواله. وفي الآخرة يمتعه الله بالجنان. أما آكل الحرام أو السحت فإنما يأكل ما يؤدي به إلى نار جهنم.

٤ ـ اتفقت الرسل جميعا على الدعوة لعبادة الله الواحد الأحد ، وكان أصل الدين واحدا بالدعوة إلى التوحيد وفضائل الأعمال ، وما نشاهد من اختلاف وخصام بين أتباع الأديان ، فإنما هو من اختلاف الأمم والجماعات فيما بينهم بحسب أهوائهم وعقولهم ، وهو خروج عن أصل وحدة الدين الحق.

فمن تمسك بالحق المتمثل بالقرآن ، ولم يصر على ما توارثه من عقائد محرفة ومشوهة ، وسار على نهج خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان من الفائزين الناجين.

٥ ـ إن الافتراق المحذر منه في الآية إنما هو في أصول الدين وقواعده ، لا في الفروع والجزئيات العملية ، فذلك لا يوجب النار ؛ لقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة ٥ / ٤٨] ، ويؤيد الآية حديث خرّجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة».

٦ ـ إن الكرامة والمكانة للعبد عند الله ليست بالمال والولد ، ولكن بالتقوى والعمل الصالح.

٧ ـ لقد أخطأ أصحاب الأموال والثروات في الجاهلية وغيرها حينما ظنوا أن الإمداد بالمال والولد دليل على رضا الله تعالى ، وإنما هو على العكس استدراج (أخذ قليلا قليلا) إلى مهاوي النار ، أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن عامر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد

٦١

من الدنيا ما يحب ، وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك منه استدراج».

لهذا شبّه الله تعالى حالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء ، فقال : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) أي فذر هؤلاء الجاهلين يتيهون في جهالتهم ، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم ، فلكل شيء وقت معلوم.

والخلاصة : أن هذا الإمداد للكفار ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي ، واستجرارا إلى زيادة الإثم ، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات إكراما لهم ، وتعجيلا للثواب قبل وقته.

صفات المسارعين في الخيرات

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))

الإعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ ..) خبر (إِنَ) في قوله تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ، و (أُولئِكَ) : مبتدأ ، و (يُسارِعُونَ) : جملة فعلية : خبر المبتدأ ، والمبتدأ وخبره : في موضع رفع ؛ لأنه خبر (إِنَ).

البلاغة :

(يُؤْمِنُونَ يُشْرِكُونَ) بينهما طباق.

٦٢

(وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) استعارة ، شبه الكتاب بمن له لسان ينطق ، مبالغة في وصفه بإظهار البيان وإعلان الأحكام.

(يُؤْتُونَ ما آتَوْا) جناس اشتقاق.

(مُشْفِقُونَ يُؤْمِنُونَ يُشْرِكُونَ سابِقُونَ) سجع محكم.

المفردات اللغوية :

(خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) خوف من عقابه أو عذابه. (مُشْفِقُونَ) حذرون ، والإشفاق : نهاية الخوف ، وليس هذا هو المراد ، وإنما المراد لازمه وأثره وهو دوام الطاعة.

(بِآياتِ رَبِّهِمْ) المنصوبة والمنزلة ، أي الآيات الكونية في الأنفس والسموات والأرض ، والآيات المنزلة وهي القرآن. (يُؤْمِنُونَ) يصدقون. (لا يُشْرِكُونَ) شركا جليا ولا خفيا. (يُؤْتُونَ) يعطون. (ما آتَوْا) ما أعطوا من الصدقات والأعمال الصالحة. (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي خائفة ألا تقبل منهم. (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي بأنهم راجعون إلى الله ؛ لأن مرجعهم إليه.

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يرغبون في الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرونها. (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) فاعلون السبق لأجلها ، أو سابقون الناس لأجلها. (وُسْعَها) ما يسع الإنسان فعله دون مشقة ولا حرج. (كِتابٌ) هو صحيفة الأعمال. (بِالْحَقِ) بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع.

المناسبة :

بعد أن ذم الله تعالى الذين فرقوا دينهم بقوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أردف بعده صفات من يسارع حقيقة في الخيرات ، وهي أربع صفات : خشية الله ، والإيمان بآيات ربهم ، ونفي الشريك لله تعالى ، ويؤدون حقوق الله تعالى كالزكاة والكفارة ، وحقوق الآدميين كالودائع والديون ، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم.

٦٣

التفسير والبيان :

هذه صفات المسارعين في الخيرات :

١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائمون في طاعته ، فالمراد من الإشفاق أثره وهو الدوام في الطاعة. أو أن المراد خائفون من الله ، ويكون الجمع بين الخشية والإشفاق للتأكيد.

٢ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي والذين هم بآيات الله الكونية والقرآنية المنزلة يصدقون تصديقا تاما لا شك فيه. والآيات الكونية : هي آيات الله المخلوقة الدالة على وجوده بالنظر والفكر ، كإبداع السموات والأرض وخلق النفس الإنسانية. والآيات المنزلة في القرآن ، مثل الإخبار عن مريم : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) [التحريم ٦٦ / ١٢] ، أي أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه ، ومثل ما شرعه الله ، فهو إن كان أمرا فهو مما يحبه ويرضاه ، وإن كان نهيا فهو مما يكرهه ويأباه ، وإن كان خيرا فهو حق.

٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي لا يعبدون معه غيره ، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله ، الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنه لا نظير له ولا كفؤ له.

ويلاحظ أن الصفة الثانية : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) هي الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى ، وهو توحيد الربوبية ، والصفة الثالثة هي توحيد الألوهية والعبادة ونفي الشرك الخفي ، وهو أن يكون مخلصا في العبادة ، بأن تكون لوجه الله تعالى وطلب رضوانه.

ولم يقتصر على الصفة الثانية ؛ لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد

٦٤

الربوبية ، كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥] ، ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة ، فعبدوا الأصنام والأوثان ومعبودات أخرى.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي والذين يعطون العطاء ، وهم وجلون خائفون ألا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط ؛ روى الإمام أحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنها قالت : يا رسول الله ، (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عزوجل؟ قال : «لا يا بنت أبي بكر ، يا بنت الصدّيق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو يخاف الله عزوجل».

وقوله تعالى : (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي لأنهم أو من أجل أنهم.

والإيتاء لا يقتصر على العطاء المادي من زكاة أو صدقة ، وإنما يشمل كل حق يلزم إيتاؤه ، سواء كان ذلك من حقوق الله تعالى ، كالزكاة والكفارة وغيرهما ، أو من حقوق الآدميين ، كالودائع والديون والعدل بين الناس ؛ لأن من يؤدي الواجب من عبادة أو غيرها ، وهو وجل من التقصير والإخلال بنقصان أو غيره ، فإنه يكون مجتهدا في أن يوفّيها حقها في الأداء.

وترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن ؛ لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي ، والصفة الثانية دلت على أصل الإيمان والتعمق فيه ، والصفة الثالثة دلت على ترك الرياء في الطاعات ، والصفة الرابعة دلت على الإتيان بالطاعات مع الخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين.

٦٥

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي أولئك الذين يبادرون في الطاعات لئلا تفوتهم ، ويتعجلون في الدنيا وجوه النفع والإكرام ؛ كما قال تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران ٣ / ١٤٨] ، وقال : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٧] ، وهم لأجل الطاعات سابقون الناس إلى الثواب ، وينالون الثمرة في الدنيا قبل الآخرة ، لا أولئك الكفار الذين أمددناهم بالمال والبنين ، فظنوا خطأ أن ذلك إكرام لهم.

والخلاصة : أن السعادة ليست هي سعادة الدنيا ، وإنما سعادة الآخرة بالعمل الطيب ، وإيتاء الصدقات ، مع الخوف والخشية.

وبعد بيان كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ، ذكر الله تعالى حكمين من أحكام أعمال العباد :

الأول ـ (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إن منهاج شرعنا ألا نكلف نفسا إلا قدر طاقتها ، وهذا إخبار عن عدله في شرعه ، ورحمته بالعباد ، وهو أيضا يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على النفوس.

والثاني ـ (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) أي ولدينا كتاب الأعمال أو صحائف الأعمال ، وقيل : اللوح المحفوظ ، يبين بدقة وصدق لا يخالف الواقع أعمال الناس في الدنيا ، كما قال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢٩] ، وقال سبحانه : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف ١٨ / ٤٩] ، فالأظهر أن المراد بالكتاب كتاب إحصاء الأعمال.

ثم بيّن الله تعالى فضله على عباده في الحساب بعد بيان يسر التكليف فقال : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وهم لا يبخسون في الجزاء من الخير شيئا ، بل يثابون على

٦٦

ما قدموا من الأعمال القليلة والكثيرة ، ولا يزاد في عقابهم ، فهم لا يظلمون بزيادة عقاب أو نقصان ثواب ، بل يعفو الله عن كثير من السيئات.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن ميزان قبول الأعمال يعتمد على الصفات الأربع ، وهي : الخوف من عذاب الله ، والإيمان بآيات الله ، وإخلاص العبادة لله ونفي الشرك الخفي ، وأداء الواجبات مع الاجتهاد في إيفائها حقها.

٢ ـ نبهت الآيات على خاتمة الإنسان وهي الرجوع إلى لقاء الله تعالى ، جاء في صحيح البخاري : «وإنما الأعمال بالخواتيم».

٣ ـ إن المؤمنين المتصفين بالصفات المتقدمة هم الذين يبادرون في الطاعات ، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات. وأما قوله تعالى : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) فقال القرطبي : أحسن ما قيل فيه : إنهم يسبقون إلى أوقاتها. ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل. وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه ، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وقته. فاللام في (لَها) على هذا القول بمعنى إلى ، كما قال تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة ٩٩ / ٥] ، أي أوحى إليها (١). وقال الزمخشري والرازي : المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون. وهذا ما جرينا عليه في التفسير. ويجوز أن يكون معنى (وَهُمْ لَها) بمعنى : أنت لها وهي لك.

٤ ـ إن الذي وصف الله به الصالحين غير خارج عن حد الوسع والطاقة. وهذا ناسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف لا يطاق. والآية تقرر مبدءا عاما في التكليف وهو التيسير ودفع الحرج ، كما في آية البقرة : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [٢٨٦].

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ١٣٣

٦٧

٥ ـ أظهر ما قيل في قوله تعالى : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) : إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة. وأضافه إلى نفسه ؛ لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره ، فهو ينطق بالحق.

وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم.

٦ ـ إن الجزاء على الأعمال لا ظلم فيه بزيادة عقاب أو نقصان ثواب ، فلا يظلم ربك أحدا من حقه ، ولا يحطه عن درجته ، بل إن فضل الله واسع ، ورحمته وسعت كل شيء ، فإنه يعفو ويصفح عن كثير من السيئات لعباده المؤمنين.

إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))

٦٨

الإعراب :

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ مُسْتَكْبِرِينَ) و (سامِراً) منصوبان على الحال. و (بِهِ) من صلة (سامر). وقال (سامِراً) بصيغة الإفراد بعد قوله (مُسْتَكْبِرِينَ) لأن (سامِراً) في معنى (سمّار) فهو اسم جمع ، كالجامل والباقر : اسم لجماعة الجمال والبقر. و (تَهْجُرُونَ) من هجر يهجر هجرا وهجرانا ، والمراد : تهجرون آياتي وما يتلى عليكم من كتابي. وقرئ بضم التاء (تَهْجُرُونَ) : من (أهجر) : إذا هذى ، والهجر : الهذيان فيما لا خير فيه من الكلام.

(اسْتَكانُوا) أصله : استكونوا بوزن استفعلوا ، من الكون ، فنقلت فتحة الواو إلى الكاف ، فتحركت في الأصل ، وانفتح ما قبلها الآن ، فقلبت ألفا.

البلاغة :

(أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) جناس اشتقاق.

(فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) استعارة تمثيلية ، شبه إعراضهم عن الحق بالراجع القهقرى إلى الخلف.

المفردات اللغوية :

(بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي الكفار (فِي غَمْرَةٍ) في غفلة غامرة لها وجهالة (مِنْ هذا) من كتاب الحفظة ، أو مما وصف به هؤلاء ، أو من القرآن (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي أعمال خبيثة متجاوزة لما وصفوا به أو أدنى مما هم عليه من الشرك أو غير ذلك (هُمْ لَها عامِلُونَ) معتادون فعلها ، فيعذبون عليها.

(حَتَّى) ابتدائية يبتدأ بعدها الكلام ، وهو الجملة الشرطية هنا (مُتْرَفِيهِمْ) متنعميهم وهم أغنياؤهم ورؤساؤهم (بِالْعَذابِ) يعني القتل يوم بدر ، أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحترقة (يَجْأَرُونَ) يصيحون ويضجون ، وقد فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة ، وهو جواب الشرط.

(لا تُنْصَرُونَ) لا تمنعون منا ، أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا ولا ينصركم أحد ،

٦٩

وقوله : (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) تعليل للنهي ، أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم (آياتِي) القرآن (تَنْكِصُونَ) ترجعون وراءكم ، والمراد : تعرضون مدبرين عن سماع الآيات وتصديقها والعمل بها (مُسْتَكْبِرِينَ) عن الإيمان (بِهِ) أي بالتكذيب أو بالبيت الحرام بأنهم أهله وقوامه ، وأنهم في أمن بخلاف سائر الناس في مواطنهم ، والباء على هذا المعنى متعلقة بمستكبرين ؛ لأنه بمعنى مكذبين (سامِراً) أي جماعة سمّارا ، وهم الذين يتحدثون بالليل حول البيت ، يسمرون بذكر القرآن والطعن فيه (تَهْجُرُونَ) إذا كان من الثلاثي (هجر) أي بفتح التاء : أي تتركون القرآن من الهجر وهو القطيعة ، وإذا كان من الرباعي (أهجر) أي بضم التاء : أي تقولون غير الحق في النبي والقرآن ، من الهجر : وهو الهذيان والفحش.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي يتدبروا القرآن الدال على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليعلموا أنه الحق من ربهم ، بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) من الرسول والكتاب ، أو من الأمن من عذاب الله ، فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقومون كإسماعيل وأعقابه ، فآمنوا به وكتبه ورسله وأطاعوه (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) بالأمانة والصدق ، وحسن الخلق ، وكمال العلم ، مع عدم التعلم ، إلى غير ذلك من صفات الأنبياء (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) دعواه.

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون ، فلا يبالون بقوله ، وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا ، وأتقنهم نظرا. والاستفهام للتقرير بالحق ، من صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومجيء الرسل للأمم الماضية ، ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة ، وأن لا جنون به (بَلْ) للانتقال (جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام. (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم ، فلذلك أنكروه ، وإنما قيد الحكم بالأكثر ؛ لوجود أناس منهم تركوا الإيمان خشية توبيخ قومه ، لا لكراهته للحق.

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) أي لو اتبع القرآن ما يستهوون ، بأن كان في الواقع آلهة شتى ، أو ما يهوونه من الشريك والولد لله (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) أي خرجت عن نظامها المشاهد (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) القرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم وفخرهم ووعظهم.

(خَرْجاً) أجرا أو جعلا على أداء الرسالة (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أجره وثوابه ورزقه خير وأبقى (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أفضل من أعطى وآجر.

(صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) طريق قويم لا عوج فيه وهو دين الإسلام (لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بالبعث والثواب والعقاب (عَنِ الصِّراطِ) الطريق (لَناكِبُونَ) عادلون عن طريق الرشاد ، فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه.

(ضُرٍّ) جوع أصابهم بمكة سبع سنين (لَلَجُّوا) تمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ) ضلالتهم

٧٠

(يَعْمَهُونَ) يترددون (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) يعني القتل يوم بدر أو الجوع (فَمَا اسْتَكانُوا) تواضعوا وخضعوا وذلوا (وَما يَتَضَرَّعُونَ) لا يرغبون إلى الله بالدعاء ، بل أقاموا على عتوهم واستكبارهم (حَتَّى) ابتدائية (ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) صاحب عذاب ، هو يوم بدر بالقتل (مُبْلِسُونَ) متحيرون آيسون من كل خير.

سبب النزول :

نزول الآية (٦٧):

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش تسمر حول البيت ، ولا تطوف به ، ويفتخرون به ، فأنزل الله : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ).

نزول الآية (٧٦):

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ..) : أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد ، أنشدك بالله والرحم ، قد أكلنا العلهز ، يعني الوبر والدم ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ).

وأخرج البيهقي في الدلائل بلفظ أن ثمامة بن أثال الحنفي ، لما أتي به للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أسير ، خلّى سبيله ، وأسلم ، فلحق بمكة ، ثم رجع ، فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة ، حتى أكلت قريش العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال : بلى ، قال : فقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع ، فنزلت.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن الدين يسر لا عسر ، فلا تكليف إلا بقدر الطاقة ،

٧١

أردف ذلك بالإنكار على الكفار والمشركين من قريش ، ووصفهم بأنهم في غمرة من هذا الذي بيّن في القرآن ، أو من وصف المشفقين ، وأن لهم أعمالا أخرى أسوأ في الكفر والعصيان ، كالشرك والطعن في القرآن ، والاستهزاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيذاء المؤمنين.

وبعد أن بين أنه لا ينصر أولئك الكفار ، أتبعه بعلة ذلك ، وهي أنه متى تليت عليهم آيات القرآن ، أتوا بأمور ثلاثة : هي النفور والإعراض عن تلك الآيات وعن تاليها ، والاستكبار بالبيت العتيق أو الحرم قائلين : «لا يظهر علينا أحد ؛ لأنا أهل الحرم» والسمر بذكر القرآن والطعن فيه.

ولما زيّف طريقة القوم ، أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ولكن الكفار تنكبوا عن هذا الطريق وعدلوا عنه ، وقد أنذرهم ربهم بإحلال العذاب عليهم بالقتل يوم بدر ، والجوع وغير ذلك ، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم ، وتمادوا في ضلالهم ، وهم متحيرون.

التفسير والبيان :

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أي بل قلوب الكفار والمشركين في غفلة وضلالة من هذا البيان الشافي في القرآن ، ومن هدايته لأقوم الطرق ، وإسعاده للناس في دنياهم وآخرتهم.

(وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ ، هُمْ لَها عامِلُونَ) أي ولهم أعمال سيئة منكرة غير ذلك أي غير الغفلة والجهل وهو الشرك والطعن في القرآن وإيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، هم لها عاملون قطعا في المستقبل. وإنما قال ذلك ؛ لأن تلك الأعمال مثبتة في علم الله وفي اللوح المحفوظ ومكتوبة مسجلة عليهم سلفا ، لإحاطة علم الله بها ، وعلم الله لا يتغير.

٧٢

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي حتى إذا أوقعنا مترفيهم (وهم المتنعمون البطرون في الدنيا) في العذاب الشديد والبأس والنقمة بهم ، صرخوا واستغاثوا ، كما قال تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً) [المزمل ٧٣ / ١١ ـ ١٢] وقال سبحانه : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ، فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص ٣٨ / ٣].

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ، إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي لا فائدة ولا جدوى من الصراخ ، فلا يدفع عنكم ما يراد إنزاله بكم ، وقد لزم الأمر ووجب العذاب ، ولن تجدوا ناصرا ينصركم ، ويحول بينكم وبين العقاب الأليم.

وأسباب حجب نصر الله لهم وإيقاع هذا الجزاء ثلاثة هي :

١ ـ (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي إنه متى تليت عليكم آيات القرآن نفرتم منها وأعرضتم عن سماعها وعمن يتلوها ، كما يذهب الناكص (الراجع) على عقبيه ، بالرجوع إلى ورائه. والمراد : أنهم يعرضون عن الحق ، فإذا دعوا أبوا ، وإن طلبوا امتنعوا.

٢ ـ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي إنهم حال نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه يكونون مستكبرين استكبارا عليه (أي على الحق) واحتقارا له ولأهله.

وضمير (بِهِ) عائد إلى البيت العتيق أو الحرم ، فإنهم كانوا يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه ، وليسوا به ، أو أنه عائد إلى القرآن أو إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم كانوا يصفون القرآن بأنه سحر أو شعر أو كهانة ، ويقولون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو كذاب أو مجنون ، وكل ذلك باطل ، فالقرآن حق ، ومحمد نبي الحق ، وليس الاستكبار من الحق.

٣ ـ (سامِراً تَهْجُرُونَ) أي سمّارا حول البيت ، تتركون القرآن ، أو تأتون

٧٣

بالهذيان ، فتسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه. وعلى هذا تتعلق كلمة (بِهِ) ب : (سامِراً).

وبعد أن وصف حالهم ، أبان أن إقدامهم على هذه الأمور ، لا بد من أن يكون لأحد أسباب أربعة هي :

١ ـ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي أفلا يتفهم المشركون هذا القرآن العظيم؟ مع أنهم خصوا به ، وهو معروف لهم بيانا وفصاحة وبلاغة ومضمونا ساميا ، ولم ينزل على رسول أكمل ولا أشرف منه ، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا نعمة الله عليهم بقبولها ، والقيام بشكرها وتفهمها ، والعمل بمقتضاها.

٢ ـ (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي أم اعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة ، مع أنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل تتالت على الأمم ، مؤيدة بالمعجزات ، أفلا يدعوهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول؟

٣ ـ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ، فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي ربما لم يكونوا عارفين رسولهم بخصاله العالية قبل النبوة؟ مع أنهم عرفوا أنه الصادق الأمين ، وأنه يفر من الكذب والأخلاق الذميمة ، فكيف كذبوه بعد أن اتفقوا على تسميته بالأمين؟

لهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك ، إن الله بعث فينا رسولا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته. وقال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم مثل ذلك. وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل ، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ، وكانوا بعد كفارا لم يسلموا ، فاعترفوا باتصافه بالصدق.

٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي بل إنهم يقولون عن الرسول : إن به جنونا لا يدري ما يقول ، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا ورأيا.

٧٤

ثم بيّن الله تعالى السبب الحقيقي في عدم إيمانهم فقال :

(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي بل جاءهم الرسول الصادق الأمين بالحق الثابت الذي لا محيد عنه ، وهو توحيد الله والتشريع المحقق للسعادة ، لكن أكثرهم كارهون لهذا الحق ، لتأصل الشرك في قلوبهم ، وتمسكهم بتقليد الآباء والأجداد ، وحفاظهم على المناصب ومراكز الزعامة والرياسة.

وإنما قال (أَكْثَرُهُمْ) لأن بعضا منهم تركوا الإيمان أنفة واستعلاء ، وتخوفا من توبيخ القوم وتعييرهم ، لا كراهة للحق ، كما حكي عن أبي طالب.

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) والحق : كل ما قابل الباطل ، فهو الشيء الثابت والصواب والطريق المستقيم ، فلو اتبع أهواء الناس لانقلب باطلا ، ولذهب ما يقوم به العالم ، وقيل الحق : الإسلام لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم ، وعن قتادة : أن الحق هو الله ومعناه : ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي ، لما كان إلها ، ولكان شيطانا.

والمعنى العام : أن الحق لا يتبع الهوى ، بل الواجب على الإنسان ترك الهوى واتباع الحق ، فإن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم ، فلو جاء القرآن مؤيدا الشرك بالله والوثنية ، شارعا ما فيه الفوضى والانحراف كإباحة الظلم وترك العدل ، وإقرار النهب والسلب والسرقة ، وإباحة الزنى والقتل ، وإهمال القيم الخلقية ، لاختل نظام العالم ووقع التناقض ، وتأخرت المدنية ، وفسدت السموات والأرض ومن فيهن ، لفساد أهوائهم واختلافها ، ولو أبيح العدوان لافتقد الأمن ، ولو أبيح الظلم لدمرت المدنية ، ولو أبيح الزنى لاختلطت الأنساب وتهدمت الأسر ، وهكذا.

ومن أفكارهم وأقوالهم ما حكاه القرآن : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ

٧٥

مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)؟ [الزخرف ٤٣ / ٣٢] (قُلْ : لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [الإسراء ١٧ / ١٠٠] (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء ٤ / ٥٣].

وضمير (وَمَنْ فِيهِنَ) إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض وجنّها. وأما ما لا يعقل فهو تابع لما يعقل.

ثم شنع الله تعالى عليهم لإعراضهم عن معالم الحق والهدى والخير فقال : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ ، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي بل جئناهم بالقرآن الذي هو وعظهم أو فيه شرفهم وفخرهم وإعلاء سمعتهم ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٤] ولكنهم معرضون عن هذا الذكر الذي سطر لهم الخلود والمجد.

ثم أوضح إخلاص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، وأنه لا يطمع فيهم ، حتى يكون ذلك سببا للنفرة فقال :

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ، فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي أتسألهم أجرا على تبليغ الرسالة والدعوة إلى الهداية ورفع الشأن حتى لا يؤمنوا بك ، ويملّوك ويبغضوك؟ والمراد أن هذه التهمة بعيدة عنه ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يطلب عوضا عن القيام بمهمته ، فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله. وإن ما عند الله من ثواب خير من ثواب الدنيا ، والله أفضل من أعطى وآجر.

ونظير الآية كثير في القرآن مثل : (قُلْ : ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ ٣٤ / ٤٧] (قُلْ : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص ٣٨ / ٨٦] (قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى ٤٢ / ٢٣].

٧٦

والخلاصة : أنهم غير معذورين في عدم الاستجابة لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أيده الله بدستور رفيع للحياة البشرية ، وليس له مطمع مادي في ملك ولا مال ولا جاه.

ثم أبان الله تعالى صحة ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك يا محمد لتدعو الناس قاطبة ومنهم هؤلاء المشركون من قريش إلى الطريق المستقيم ، والدين القيم الصحيح ، وسبيل العزة والكرامة ، والخير والسداد والوسط ، وهو الإسلام العلاج الشافي لأدواء البشرية ، وحل المشكلات الدينية والدنيوية ، كما شهدت بذلك العقول السليمة ، والدراسات الحيادية المجردة من أعداء الإسلام وعباقرة العلم والمعرفة.

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي وإن المكذبين بالآخرة الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت لعادلون جائرون منحرفون عن هذا الطريق ؛ لأن طريق الاستقامة واحدة ، وما يخالفه فكثير.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ، لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي إن هؤلاء الكفار لو أسبغنا عليهم واسع رحمتنا ، وأزحنا عنهم الضر ، وأفهمناهم القرآن ، لما آمنوا به ولما انقادوا له ، ولتمادوا في ضلالهم ، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ، وظلوا متحيرين مترددين ، كما قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال ٨ / ٢٣].

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ ، وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ولقد ابتليناهم بالمصائب والشدائد ، فما ردّهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة ، بل استمروا على غيهم وضلالهم ، وما خشعوا وما خضعوا لربّهم ، وما دعوا ولا تذللوا ، كما قال تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام ٦ / ٤٣].

٧٧

ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة أمرهم فقال :

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ، إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر الله ، وجاءتهم الساعة بغتة ، فنالهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون ، أيسوا من كل خير ومن كل راحة ، وانقطعت آمالهم ، وخاب رجاؤهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن للكفار أعمالا قبيحة جدا في ميزان شرع الله ودينه ، أسوأها الشرك ، وهم في غفلة وعماية عن القرآن وهديه ، وهم عاملون تلك الأعمال لا محالة ؛ لأنها مثبّتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ ، ولكن دون إجبار ولا إكراه ، وإنما باختيار منهم.

٢ ـ يعتاد الكافر إذا أصابه العذاب والبلاء في الدنيا أن يجأر بالشكوى ويضج ويستغيث ، ولكن إذا داهمه العذاب في الآخرة لم ينفعه التضرع والجزع ، ولا يجد ناصرا ينصره من بأس الله تعالى.

ومثال ذلك أن مترفي مكة تعرضوا للقتل يوم بدر ، وللجوع الشديد ، حين قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف» فابتلاهم الله بالقحط والجوع ، حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف ، وهلكت الأموال والأولاد ، كما تقدم بيانه.

٣ ـ كانت أسباب تعذيب الكفار والمشركين ثلاثة : هي النفور عن القرآن والإعراض عن سماعه ، والاستكبار بهذا التباعد عن الحق والافتخار بالبيت الحرام وأنهم أولياؤه ، فكانوا يقولون : نحن أهل حرم الله تعالى ، وما هم كذلك ، والسمر

٧٨

بذكر القرآن وبالطعن فيه. وضمير (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) كما قال الجمهور : هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة ، وإن لم يذكر سابقا ؛ لشهرته في الأمر.

٤ ـ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنما كره السّمر حين نزلت هذه الآية : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ، سامِراً تَهْجُرُونَ) يعني أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير طاعة الله تعالى ، إما في هذيان ، وإما في إذاية.

وروى مسلم عن أبي برزة قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ، ويكره النوم قبلها ، والحديث بعدها». أما كراهية النوم قبلها فلئلا يعرّضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها ، وهذا مذهب مالك والشافعي. وأما كراهية الحديث بعدها ، فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه ، فينام على سلامة ، وقد ختم الكتّاب صحيفته بالعبادة ، فإن سمر وتحدث ، فيجعل خاتمتها اللغو والباطل ، وليس هذا من فعل المؤمنين. وأيضا السمر في الحديث والسهر يفوت عليه غالبا قيام آخر الليل ، وربما ينام عن صلاة الصبح. روى أحمد حديثا : «لا سمر بعد الصلاة» أي العشاء الآخرة.

روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والسّمر بعد هدأة الرجل ، فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله تعالى من خلقه ، أغلقوا الأبواب ، وأوكوا السّقاء ، وخمّروا الإناء ، وأطفئوا المصابيح».

وهذه الكراهية إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والأذكار وتعليم العلم ، ومسامرة الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك ، فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك ، بل على ندبه.

٥ ـ إن إقدام الكفار على الأمور الثلاثة المتقدمة لأسباب أربعة : هي عدم تدبرهم القرآن أي عدم تفهمهم له ، واعتقادهم أن مجيء الرسل على خلاف العادة ، وتجاهلهم وإنكارهم خصال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النبوة ، فإنهم عرفوه وعرفوا أنه من

٧٩

أهل الصدق والأمانة ، فكان في اتباعه النجاة والخير لو لا العنت ، ووصفهم له بأنه مجنون للاحتجاج في ترك الإيمان به.

مع أنه عليه الصلاة والسلام جاءهم بالحق ، أي القرآن والتوحيد الحق والدّين الحق ، وأكثرهم كارهون للحق حسدا وبغيا وتقليدا.

٦ ـ الحق فوق الأهواء والشهوات ، ولو وافق الحق أهواء الكفار ، لاختل نظام العالم ؛ لأن شهوات الناس متخالفة متعارضة متضادة ، لذا وجب اتباع سبيل الحق ، والانقياد للحق ، والتخلي عن الأهواء.

٧ ـ القرآن الكريم شرف وفخر ومجد وعز للعرب ، ومع ذلك فهم معرضون عنه وعن تعاليمه ، وتلك هي الحماقة بعينها ، والمكابرة.

٨ ـ ليس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطمع في أجر أو جعل على تبليغ ما جاء به قومه من الرسالة ، بل هو أسمى من طلب ذلك ، لأنه يطلب رضا الله وفضله ، وما يؤتيه الله له من الأجر على الطاعة والدعاء إلى دين الله خير من عرض الدنيا ، وقد عرضوا عليه فعلا أموالهم حتى يصبح أغناهم ، فأبى ذلك أيما إباء ولم يجبهم إلى ذلك.

٩ ـ إن دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوة إلى الاستقامة ، وإلى الدين القويم ، والمنهج الأعدل والأفضل ، لكن الذين لا يصدقون بالبعث لعادلون عن الحق ، جائرون منحرفون ، حتى يصيروا إلى النار.

١٠ ـ لو ردّ الله الكفار إلى الدنيا رحمة بهم ، ولم يدخلهم النار وامتحنهم مرة أخرى ، لتمادوا في طغيانهم ، أي في معصيتهم ، وظلوا يترددون في ضلالتهم.

ولو كشف الله ما بالكفار من ضرّ ، أي من قحط وجوع ، لتمادوا في ضلالتهم أيضا وتجاوزهم الحد ، واستمروا يخبطون في طغيانهم.

٨٠