التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

وهذا كله يدل على أن تمني العودة إلى الدنيا يحدث حال المعاينة للعذاب عند الاحتضار ، وحين النشور ، وحين الحساب ، وحين العرض على النار ، وبعد دخولهم النار.

وليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر ، وإنما يشمل ذلك المؤمن المقصر في الطاعات وأداء حقوق الله تعالى ، كما جاء في قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، فَيَقُولَ : رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون ٦٣ / ١٠].

(كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يجيبهم الله تعالى بقوله : كلا وهي كلمة ردع وزجر ، أي لا نجيبه إلى طلبه ، وتلك كلمة لا بدّ من أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم ، ولا فائدة من الرجعة ، فلو ردّ لما عمل صالحا ، وكذب في مقالته هذه كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٨]. ثم إنه بين الظلمة حال الاحتضار وبين الرجوع إلى الدنيا وأمامهم حاجز ومانع من الرجوع. فالبرزخ : الحاجز ما بين الدنيا والآخرة ، فمن مات دخل في البرزخ ، أو حياة المقابر. وهذا تهديد بعذاب البرزخ ، وتيئيس إلى يوم القيامة لهؤلاء المحتضرين من الظلمة من الرجوع أبدا ؛ لأنهم إذا لم يرجعوا حال وجود بقية من الحياة فلا يرجعون بعدئذ مطلقا ، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة ، وتلقي عذابها كما قال تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية ٤٥ / ١٠] وقال سبحانه : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم ١٤ / ١٧].

والخلاصة : أن المراد من قوله : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أن العذاب يستمر بهؤلاء إلى يوم البعث ، كما جاء في الحديث : «فلا يزال معذبا فيها» أي في الأرض وهم في القبور.

١٠١

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على ما يلي :

١ ـ يتمنى الإنسان الكافر والمؤمن المقصر الرجعة إلى دار الدنيا ليتدارك ما فاته فيها إما من الإيمان أو العمل الصالح ، ولا يطلب الرجعة إلا بعد أن يستيقن العذاب.

٢ ـ لا رجعة بعد البعث أو دنو الموت إلا إلى الآخرة.

٣ ـ يستمر الكافرون والعصاة في عذاب القبور أو البرزخ إلى يوم القيامة ، قالت عائشةرضي‌الله‌عنها : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور ، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم ، حية عند رأسه ، وحية عند رجليه ، يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

موازين النجاة في حساب الآخرة

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ

١٠٢

خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

الإعراب :

(فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ خالِدُونَ) بدل من صلة (الَّذِينَ) أو خبر ثان لأولئك

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) بكسر السين وقرئ بضمها ، وهما لغتان بمعنى واحد ، وهما من سخر يسخر : من الهزء واللعب.

(بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) ما : مصدرية ، و (أَنَّهُمْ) في موضع نصب ب (جَزَيْتُهُمُ) لأنه مفعول ثان ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : جزيتهم بصبرهم ؛ لأنهم الفائزون. و (جَزَيْتُهُمُ) ضمير فصل عند البصريين ، وعماد عند الكوفيين.

البلاغة :

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ .. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ..) بين الآيتين مقابلة.

(أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) فيها قصر.

(يَتَساءَلُونَ) ، (الْمُفْلِحُونَ) ، (خالِدُونَ) ، (كالِحُونَ) ، (تُكَذِّبُونَ) ، (ظالِمُونَ) ، (تُكَلِّمُونِ) ، (تَضْحَكُونَ) ، (الْفائِزُونَ) سجع غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ الصُّورِ) بوق ينفخ فيه نفختين ، النفخة الأولى لتموت المخلوقات ، والثانية لتحيا المخلوقات من القبور ؛ لقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر ٣٩ / ٦٨] والمراد هنا النفخة الثانية لقيام الساعة. وقيل : الصور جمع صورة كبسر وبسرة ، والمراد : نفخ الروح في الأجساد. (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبينه ، وقيل : لا أنساب يفتخرون بها

١٠٣

(وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغاله بنفسه ، وهو لا يناقص قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الطور ٥٢ / ٢٥] لأن الآية هنا عند النفخة ، وذلك بعد المحاسبة ودخول أهل الجنة وأهل النار النار. أو لا يتساءلون عن الأنساب.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي موزوناته بالحسنات من عقائد وأعمال ، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله وقدر. (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة والدرجات. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) موزوناته بالسيئات ، أي ومن لم يكن له وزن وهم الكفار ، لقوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف ١٨ / ١٠٥]. (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها. (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تحرقها ، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا. (كالِحُونَ) عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان ، وهذا هو الكلوح.

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي) أي من القرآن ، وهذا على إضمار القول أي يقال لهم : (أَلَمْ تَكُنْ). (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله. (شِقْوَتُنا) وشقاوتنا بمعنى واحد : ضد السعادة ، أي صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة ، والمراد : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا ، وسميت شقوة لأنهما يؤديان إليها. (ضالِّينَ) تائهين عن الحق والهداية. (فَإِنْ عُدْنا) إلى التكذيب. (فَإِنَّا ظالِمُونَ) لأنفسنا.

(قالَ) مالك خازن النار (اخْسَؤُا فِيها) اسكتوا سكوت ذلة وهوان ، أو اقعدوا في النار أذلاء (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع العذاب عنكم. (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) أي المؤمنون. (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) هزءا ، مثل بلال وصهيب وعمار وسلمان. (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي خوف عقابي ، من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم. (تَضْحَكُونَ) استهزاء بهم. (جَزَيْتُهُمُ) النعيم المقيم. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على استهزائكم بهم وأذاكم إياهم. (الْفائِزُونَ) الظافرون بمطلوبهم.

المناسبة :

بعد أن قال الله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي إن هناك حاجزا إلى يوم القيامة ، ذكر أحوال ذلك اليوم ، من عدم الاعتداد بالأنساب ، وجعل الحسنات أساس الفوز في الآخرة ، والسيئات سبب دخول جهنم.

١٠٤

التفسير والبيان :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) أي إذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة النشور ، وقام الناس من القبور ، فلا تنفعهم الأنساب والقرابات بالرغم من وجود التعاطف والتراحم ؛ لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم ، وانشغال كل إنسان بنفسه ، ولا يسأل القريب قريبه ، لاشتغاله بنفسه ، كما جاء في قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٤ ـ ٣٧] وقوله سبحانه : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج ٧٠ / ١٠ ـ ١١] أي لا يسأل القريب قريبه ، وهو يبصره.

هذا عند النفخة ، أما بعد القرار في الجنة أو النار ، فيسأل أهل الجنة بعضهم عن بعض ، كما في قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٢٧].

وجاء في السنة ما أخرجه الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاطمة بضعة مني ، يغيظني ما يغيظها ، وينشطني ما ينشطها ، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري». وأصل هذا الحديث في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فاطمة بضعة مني ، يريبني ما يريبها ، ويؤذيني ما آذاها». وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على هذا المنبر : «ما بال رجال يقولون : إن رحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنفع قومه؟ بلى ، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإني أيها الناس فرط (١) لكم إذا جئتم».

__________________

(١) أنا فرطكم : أي متقدمكم ، يقال : فارط وفرط : إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء.

١٠٥

وروى الطبراني والبزار والبيهقي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهما قال : أما والله ، ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي».

ثم شرح أحوال السعداء والأشقياء فقال :

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من رجحت حسناته على سيئاته ، ولو بواحدة ، فأولئك الذين فازوا بالمطلوب ، فنجوا من النار ، وأدخلوا الجنة.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي ثقلت سيئاته على حسناته ، فأولئك الذين خابوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة ، بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وهذه هي الصفة الأولى لأهل النار ، ثم أتبعها بصفات ثلاث أخرى ، فصارت أربعا :

١ ـ (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي ماكثون في جهنم على الدوام ، مقيمون فيها إلى الأبد ، وفيه دلالة بيّنة على خلود الكفار في النار.

٢ ـ (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي تحرق النار وجوههم ، وتأكل لحومهم وجلودهم كما قال تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم ١٤ / ٥٠] وقال سبحانه : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ ، وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) [الأنبياء ٢١ / ٣٩]. وإنما خص الوجوه بالذكر ؛ لأنها أشرف الأعضاء.

أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) : تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.

١٠٦

٣ ـ (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان. فالكلوح : أن تتقلص الشفتان وتتباعدا عن الأسنان ، كما ترى الرؤوس المشوية.

ثم ذكر الله تعالى ما يقال لأهل النار تقريعا وتوبيخا على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم فقال :

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ، فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي ألم تكن آياتي من القرآن تتلى عليكم للتذكير والموعظة وإزالة الشّبه ، فتكذبون بها ، وتعرضون عنها. وهذا كما قال تعالى: (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، قالُوا : بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الملك ٦٧ / ٨ ـ ٩] وقال سبحانه : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ، قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧١].

وهذا من المخطط العام لرسالات الأنبياء وإنزال الكتب ، كما جاء في قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥] وقوله عزوجل : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء ٤ / ١٦٥].

فأجابوا عن السؤال هنا :

(قالُوا : رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي غلبت علينا شهوات نفوسنا وملذاتنا ، بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة ، وأخطأنا طريق الحق والهدى ، كما قال تعالى : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا ، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) [غافر ٤٠ / ١١].

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها ، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي يا ربنا أخرجنا من

١٠٧

النار ، وارددنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا ، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة.

فأجابهم الله تعالى بقوله :

(قالَ : اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي قال الله للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى الدنيا : امكثوا فيها ـ أي في النار ـ أذلاء صاغرين مهانين ، واسكتوا ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا ، فإنه لا جواب لكم عندي ، ولا رجعة إلى الدنيا.

ثم ذكر سبب عذابهم فقال :

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ : رَبَّنا آمَنَّا ، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي إنه كان جماعة من عبادي المؤمنين يقولون : يا ربنا صدقنا بك وبرسلك ، وبما جاؤوا به من عندك ، فاستر ذنوبنا ، وارحم ضعفنا ، فأنت خير من يرحم.

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي فما كان منكم إلا أن سخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي ، حتى حملكم بغضهم على نسيان ذكري ، وعدم الاهتمام بشأني ، ولم تخافوا عقابي ، وكنتم تضحكون استهزاء من صنيعهم وعبادتهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) [المطففين ٨٣ / ٢٩ ـ ٣٠] أي يلمزونهم استهزاء.

ثم أخبر الله تعالى عما جازى به عباده الصالحين فقال :

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي إني جازيتهم في يوم القيامة بصبرهم على أذاكم لهم واستهزائكم بهم بالفوز بالسعادة والسلامة ، والنعيم

١٠٨

المقيم في الجنة ، والنجاة من النار ، كما قال تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين ٨٣ / ٣٤ ـ ٣٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إذا حدثت النفخة الثانية ليوم القيامة شغل كل امرئ بنفسه ، ولم يلتفت إلى أحد من أقربائه ، ولو كانوا من الوالدين والأولاد والزوجات ، ولا تنفع أحدا روابط الدم والنسب التي كانت تربط الأسر فيما بينهم في الدنيا. لكن جاء في الحديث الثابت كما تقدم استثناء صلة النسب والقرابة بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ إن ميزان النجاة من النار والفوز بالجنة هو رجحان الحسنات على السيئات ، ولو بواحدة. وإن سبب اقتحام النار هو العكس أي رجحان السيئات على الحسنات.

٣ ـ لأهل النار أثناء العذاب صفات أربع : هي خسارة أنفسهم أي غبنها بأن صارت منازلهم للمؤمنين ، وخلودهم في نار جهنم ، وإضرام النار في أجسادهم حتى تأكل لحومهم وجلودهم ، وظهور أمارات العذاب على الأوجه بالكلوح : وهو تقلص الشفاه عن الأسنان ، كالرءوس المشوية.

٤ ـ اعترف أهل النار حين اقتحام العذاب بالأسباب التي أدت بهم إلى العقاب : وهي غلبة أهوائهم وشهواتهم على نفوسهم ، حتى ساءت أحوالهم ، وصاروا إلى سوء العاقبة ، وضلالهم عن الحق والهداية ، وظلمهم أنفسهم ، وتكذيبهم بآيات ربهم ، واستهزاؤهم من المؤمنين ، ونسيانهم ذكر الله والخوف من عقابه.

١٠٩

٥ ـ لقد طلب الكفار الرجعة إلى الدنيا وهم في النار ، كما طلبوها عند الموت لتدارك ما فاتهم من الأعمال الصالحة والإيمان الصحيح ، ولكن لا رجعة لأحد إلى دار الدنيا بعد البعث والحساب.

٦ ـ اقتضى العدل مجازاة المؤمنين الذين صبروا على الأذى والسخرية جزاء عادلا وهو الفوز بالجنة يوم القيامة ، والنجاة من النار.

٧ ـ على المؤمن إكثار الدعاء بقوله تعالى : (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

التنبيه على قصر مدة اللبث في الدنيا وعقاب المشركين

ورحمة المؤمنين

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

الإعراب :

(كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ كَمْ) : منصوبة ب (لَبِثْتُمْ). و (عَدَدَ سِنِينَ): تمييز ، و (سِنِينَ) : جمع سنة ، وأصل سنة : سنهة أو سنوه ، فلما حذفت اللام ، جمع جمع التصحيح ، أي جمع المذكر السالم ، عوضا عما دخلها من الحذف.

١١٠

(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) جمع العادّ من العدّ. ومن قرأه بالتخفيف جعله جمع (عادي) من قولهم : بئر عاديّة ، أي قديمة ، فلما جمع جمع المذكر السالم (أي بالواو والنون) حذف منه ياء النسب ، وصارت ياء الجمع عوضا عن ذلك ، كالأعجمين والأشعرين ، جمع أعجمي وأشعري ، وقيل في قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) أنه جمع إلياسيّ ، منسوب إلى إلياس. (عَبَثاً) حال بمعنى عابثين ، أو مفعول لأجله.

البلاغة :

(وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(قالَ) أي قال الله أو الملك المأمور بسؤالهم (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أحياء في الدنيا وأمواتا في قبوركم ، واللبث : الإقامة. (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقصروا مدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار وما هم فيه من العذاب. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) الذين يتمكنون من عدّ أيامها ، أو الملائكة الذين يعدّون أعمار الناس ويحصون أعمالهم. (قالَ) تعالى بلسان مالك خازن النار. (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي ما لبثتم. (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مدة لبثكم بالنسبة إلى لبثكم في النار.

(عَبَثاً) ما خلا من الفائدة ، أو لا لحكمة ، توبيخ على تغافلهم. والمراد : إنا لم نخلقكم تلهيا بكم ، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم ، وهو كالدليل على وجود البعث. (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) أو (عَبَثاً) ، وقرئ بفتح التاء. والمراد أننا خلقناكم لنتعبدكم بالأمر والنهي وترجعون إلينا ، ونجازي على ذلك.

(فَتَعالَى اللهُ) تنزه الله عن العبث وغيره مما لا يليق به. (الْمَلِكُ الْحَقُ) أي الثابت الذي لا يزول. (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) الكرسي الحسن ، وهو مركز تدبير العالم ، ووصف بالكريم لشرفه.

(يَدْعُ) أي يعبد. (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) لا دليل له عليه ، وهو صفة كاشفة لا مفهوم لها. (حِسابُهُ) جزاؤه. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لا يسعدون ، والضمير في (إِنَّهُ) للشأن والأمر. ويلاحظ أنه تعالى بدأ السورة بتقرير الفلاح للمؤمنين ، وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين. (اغْفِرْ وَارْحَمْ) المؤمنين ، وطلب الرحمة زيادة عن المغفرة.

١١١

المناسبة :

بعد بيان إنكار الكفار للبعث ، وأنه لا رجعة إلى الدنيا بعده ، ذكر تعالى أنهم يسألون في النار سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم في الأرض ، دون أن يكون القصد مجرد السؤال. ثم ذكر تعالى ما هو كالدليل على وجود البعث ، ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه ، تعليما وإرشادا للأمة ، حتى لا يكونوا مثل أولئك الكفار.

التفسير والبيان :

ينبه الله تعالى الكفار على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ، ولو صبروا لفازوا كالمؤمنين ، فيقول :

(قالَ : كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) أي قال الله أو الملك المأمور بسؤالهم : كم كانت مدة إقامتكم في الدنيا؟

والغرض من السؤال التبكيت والتقريع والتوبيخ ، تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا ، فهو يسير بالنسبة إلى ما أنكروه من البعث ، فتحصل لهم الحسرة على سوء اعتقادهم في الدنيا.

(قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) نسوا مدة لبثهم في الدنيا ، لعظم ما هم فيه من الأهوال والعذاب ، حتى ظنوا أن المدة يوم أو بعض يوم ، أو المراد تحقير مدة لبثهم بالنسبة إلى ما وقعوا فيه من أليم العذاب.

(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي فاسأل الحاسبين ، أو الملائكة الحفظة الذين يحصون أعمال العباد وأعمارهم.

(قالَ : إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال لهم الملك : ما لبثتم إلا

١١٢

زمنا يسيرا ، على كل تقدير ، ولو كنتم تعملون شيئا من العلم لآثرتم الباقي على الفاني ، ولعملتم بما يرضي ربكم ، ولو صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا.

روى ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي الذي خطب الناس فقال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، قال : يا أهل الجنة ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، رحمتي ورضواني وجنتي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين!!

ثم قال : يا أهل النار ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، ناري وسخطي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين».

ثم شدد الله تعالى في توبيخهم على غفلتهم فقال :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا ، أي لعبا وباطلا بلا قصد ولا حكمة لنا ، بل خلقناكم للعبادة والتهذيب والتعليم وإقامة أوامر الله تعالى. وهل ظننتم أنكم لا تعودون إلينا في الدار الآخرة للحساب والجزاء ، كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي هملا [القيامة ٧٥ / ٣٦].

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي تنزه وتقدس الله صاحب الملك الواسع ، الثابت الذي لا يزول ، أن يخلق شيئا عبثا ، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك ، وهو ذو العرش العظيم الحسن البهي الذي يدبر فيه نظام الكون بحكمة ومقصد سام.

١١٣

ثم ردّ الله تعالى على من نسب إليه ولدا أو شريكا فقال :

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ومن يعبد إلها آخر مع الله الذي لا يستحق العبادة سواه ، دون أن يكون له دليل على صحة معتقده وعبادته ، فجزاؤه محقق شديد عند ربه وخالقه ، وذلك توبيخ وتقريع وتهديد بما لا يوصف ، فمن ادعى إلها آخر فقد ادعى باطلا من حيث لا برهان له فيه ، وما لا برهان فيه لا يجوز إثباته.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي إنه لا يفوز الكفار بشيء من النعيم ، وإنما مصيرهم إلى الجحيم ، وهذا يقابل افتتاح السورة ، فإنه بشر بفلاح المؤمنين ، وختم هنا بخيبة الكافرين.

(وَقُلْ : رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي قل أيها النبي : يا رب اغفر لي ذنوبي ، واستر عيوبي ، وارحمني بقبول توبتي ، ونجاتي من العذاب ، فأنت خير من رحم عباده.

أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبّان عن أبي بكر أنه قال : «يا رسول الله ، علّمني دعاء أدعو به في صلاتي ، قال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم».

والآيتان الأخيرتان من آيات الشفاء ، أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أنه مرّ برجل مصاب ، فقرأ في أذنه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ..) حتى ختم السورة ، فبرأ ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : «بماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره ، فقال : «والذي نفسي بيده ، لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال». وواضح من ذلك أن المعول عليه هو إيمان القارئ ويقينه وصفاؤه ، واستعداد المريض وقابليته للتداوي بالقرآن.

١١٤

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ التنبيه على قصر مدة المكث في الدنيا ، والاستفادة من تلك المدة بأقصى قدر ممكن للقيام بالطاعات والتقرب بالقربات ، واجتناب المحظورات والمنهيات.

٢ ـ إن شدة العذاب التي يرتع بها الكفار في نار جهنم أنستهم مدة مكثهم في الدنيا أحياء ، وفي القبور أمواتا. لذا أحالوا الجواب على الحاسبين العارفين بذلك ، أو على الملائكة الذين كانوا معهم في الدنيا.

٣ ـ قرر الله تعالى أن مدة المكث أو اللبث في الدنيا قليلة لتناهيها بالنسبة إلى المكث في النار ، لأنه لا نهاية له ، لو علم الناس بذلك ، فيكون المراد من قوله تعالى : (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن زمن الدنيا قليل لو علمتم البعث والحشر ، لكنكم لما أنكرتم ذلك صرتم تعدونه طويلا.

٤ ـ إن للمخلوقات رسالة سامية في الحياة ، وهي إطاعة الله تعالى فيما أمر ، وعبادته بحق ، واجتناب ما نهى عنه ، فإنه تعالى لم يخلق الناس عبثا أي لعبا باطلا ، دون قصد ولا حكمة ، وإنما خلقهم لأداء مهمة خطيرة معينة ، هي إظهار العبودية لله ، قال الحكيم الترمذي أبو عبد الله محمد بن علي : إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه ، فيثيبهم على العبادة ، ويعاقبهم على تركها ، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رقّ الدنيا ، ملوك في دار السلام ، وإن رفضوا العبودية ، فهم اليوم عبيد أبّاق سقّاط لئام ، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النار.

وروى ابن أبي حاتم عن رجل من آل سعيد بن العاص قال : كان آخر خطبة

١١٥

خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أما بعد ، أيها الناس : إنكم لم تخلقوا عبثا ، ولن تتركوا سدى ، وإن لكم معادا ينزل الله فيكم للحكم بينكم ، والفصل بينكم ، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته ، وحرم جنة عرضها السموات والأرض ، ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غدا إلا من حذر هذا اليوم ، وخافه ، وباع نافدا بباق ، وقليلا بكثير ، وخوفا بأمان.

ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين ، وسيكون من بعدكم الباقين ، حتى تردوا إلى خير الوارثين؟

ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عزوجل ، قد قضى نحبه ، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير ممهد ولا موسد ، قد فارق الأحباب ، وباشر التراب ، وواجه الحساب ، مرتهن بعلمه ، غني عما ترك ، فقير إلى ما قدم.

فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم.

ثم جعل طرف ردائه على وجهه ، فبكى وأبكى من حوله.

٥ ـ من قصر النظر وجهالة الإنسان وغبائه أن يظن كما يظن الماديون أن الدنيا هي كل شيء ، وألا رجعة إلى الله والدار الآخرة ، ليجازى الناس على أعمالهم.

٦ ـ تقدس الله وتنزه عن الأولاد والشركاء والأنداد ، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها ؛ لأنه الحكيم ، والملك الحق الثابت المبين الذي لا يزول ولا يبيد ملكه وقدرته ، ويحق له الملك ؛ لأن كل شيء منه وإليه ، وهو الثابت الذي لا يزول ، وذو العرش العظيم الكريم ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، فما عداه

١١٦

مصيره إلى الفناء ، وما يفنى لا يكون إلها. والمراد بالعرش : العرش حقيقة ، ووصفه بالكريم لتنزل الرحمة والخير والبركة منه ، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين.

٧ ـ إن من يعبد مع الله إلها آخر لا بينة ولا حجة ولا دليل له عليه ، فإن الله هو الذي يعاقبه ويحاسبه ، وإنه لا يفلح الكافرون ، ولا يفوزون بالنعيم والسعادة الأبدية ، فمن ادعى إلها آخر ، فقد ادعى باطلا إذ لا برهان له فيه ، وما لا برهان فيه لا يجوز إثباته ، وهذا دليل على وجوب التأمل والنظر في إثبات العقيدة ، وبطلان التقليد.

٨ ـ إن المؤمن الحق هو الذي يديم النظر والتأمل في بديع خلق الله وقدرته ، ليتوصل بذلك إلى إثبات البعث وإمكانه ، ويستمر في عبادته ربه حتى الموت ، ويكثر من دعاء الله تعالى قائلا : رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ؛ لأن الانقطاع إلى الله تعالى والالتجاء إلى دلائل غفرانه ورحمته عاصمان عن كل الآفات والمخاوف.

٩ ـ من براهين البعث أنه : لو لا القيامة لما تميز المطيع من العاصي ، والصديق من الزنديق ، والرجوع إلى الله تعالى معناه الرجوع إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه ، لا أنه رجوع من مكان إلى مكان ، لاستحالة ذلك على الله تعالى.

١٠ ـ شتان بين فاتحة السورة وخاتمتها ، فقال في الفاتحة : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وفي الخاتمة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ).

١١٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النور

مدنية ، وهي أربع وستون آية.

تسميتها :

سميت سورة النور لتنويرها طريق الحياة الاجتماعية للناس ، ببيان الآداب والفضائل ، وتشريع الأحكام والقواعد ، ولتضمنها الآية المشرقة وهي قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٣٥] أي منورهما ، فبنوره أضاءت السموات والأرض ، وبنوره اهتدى الحيارى والضالون إلى طريقهم.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لسورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) من وجهين :

الأول ـ أنه تعالى لما قال في مطلع سورة المؤمنين : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) ذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزناة ، وما اتصل بذلك من شأن القذف ، وقصة الإفك ، والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنى ، والاستئذان الذي جعل من أجل النظر ، وأمر بالتزويج حفظا للفروج ، وأمر من عجز عن مؤن الزواج بالاستعفاف وحفظ فرجه ، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنى.

١١٨

الثاني ـ بعد أن ذكر الله تعالى في سورة المؤمنين المبدأ العام في مسألة الخلق ، وهو أنه لم يخلق الخلق عبثا ، بل للتكليف بالأمر والنهي ، ذكر هنا طائفة من الأوامر والنواهي في أشياء تعد مزلقة للعصيان والانحراف والضلال.

فضلها :

في هذه السورة أنس وشعور بالطمأنينة ؛ لأن المؤمن يرتاح للعفة والطهر ، ويشمئز من الفحش وسوء الظن والاتهام ، ذكر مجاهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «علّموا رجالكم سورة المائدة ، وعلموا نساءكم سورة النور» وقال حارث بن مضرّب رضي‌الله‌عنه : كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أن تعلّموا سورة النساء والأحزاب والنور. وتعليم هذه السورة للنساء مروي أيضا عن عائشة رضي‌الله‌عنها.

مشتملاتها :

اشتملت هذه السورة على أحكام مهمة تتعلق بالأسرة ، من أجل بنائها على أرسخ الدعائم ، وصونها من المخاطر والعواصف ، والتركيز على تماسكها وتنظيمها ، وحمايتها من الانهيار والدمار.

فكان مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والسّتر.

لقد بدأت ببيان حد الزنى ، وحد قذف المحصنات ، وحكم اللعان عند الاتهام بالفاحشة أو لنفي نسب الولد ، من أجل تطهير المجتمع من الانحلال والفساد واختلاط الأنساب ، وبعدا عن هدم حرمة الأعراض ، وصون الأمة من التردي في حمأة الإباحية والفوضى.

ثم ذكرت قصة الإفك المبنية على سوء الظن والتسرع بالاتهام لتبرئة أم المؤمنين عائشةرضي‌الله‌عنها ، ومحاربة شيوع الفاحشة ، وترديد الإشاعات

١١٩

المغرضة التي تهدم صرح الأمة ، وتقوّض بنيتها التي ينبغي أن تقوم على الثقة والمحبة ، والابتعاد عن وساوس الشيطان.

ثم تحدثت السورة عن باقة من الآداب الاجتماعية في الحياة الخاصة والعامة ، وهي الاستئذان عند دخول البيوت ، وغض الأبصار ، وحفظ الفروج ، وإبداء النساء زينتهن لغير المحارم مما يدل على تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم ، وتزويج الأيامى (غير المتزوجين) من الرجال والنساء ، والاستعفاف لمن لم يجد مؤن الزواج ، من أجل تحقيق الاستقامة على شريعة الله ، وصون الأسرة المسلمة ، ورعاية حال الشباب والفتيات ، والبعد عن الفتنة.

ثم أبانت مزية تشريع الأحكام وأنه نور وهدى ، وفضل آيات القرآن ، ومزية بيوت الله وهي المساجد ، وعدم جدوى أعمال الكفار وتشبيهها بالسراب الخادع أو ظلمات البحار.

وأعقب ذلك تنبيه الناس إلى أدلة وجود الله ووحدانيته في صفحة الكون الأعلى والأسفل من تقليب الليل والنهار وإنزال المطر وخلق السموات والأرض ، وخضوع جميع الكائنات الحية لله عزوجل ، وطيران الطيور ، وخلق الدواب ذات الأنواع العجيبة.

ثم انتقل إلى وصف مواقف المنافقين والمؤمنين الصادقين من حكم الله والرسول بإعراض الأولين وإطاعة الآخرين ، ووعده تعالى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالاستخلاف في الأرض.

ثم عادت الآيات لبيان حكم استئذان الموالي والأطفال في البيوت في أوقات ثلاثة ، وحكم رفع الحرج عن ذوي الأعذار في الجهاد ، وعن الأقارب والأصدقاء في الأكل من بيوت أقاربهم بلا إذن ، واستئذان المؤمنين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند

١٢٠