التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

الأولى ـ في نفي الحرج عن الأكل من بيوت معينة :

قال سعيد بن المسيّب : أنزلت هذه الآية في أناس كانوا إذا خرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك ، وكانوا يتقون أن يأكلوا منها ويقولون : نخشى ألا تكون أنفسهم بذلك طيبة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ..) وهذا ما اختاره ابن جرير.

والآية وإن نزلت في تحرج أصحاب الأعذار هؤلاء من الأكل في بيوت من خلفوهم على بيوتهم ، إلا أنها ذكرت حكما عاما لكل الناس. ومعنى نفي الحرج من أكل الناس في بيوتهم إظهار التسوية بين أكلهم من بيوتهم وأكلهم من بيوت أقاربهم وموكليهم وأصدقائهم.

الثانية ـ رفع الإثم عن المعذورين في التخلف عن الجهاد :

قال الحسن البصري : نزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد ، وكان أعمى.

وقال أبو حيان : إن الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد ، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله. والجمع بينهما في مقام الإفتاء والبيان مقبول غير مستغرب. ووجه اتصال الآية حينئذ بما قبلها أنه تعالى بعد أن ذكر حكم الاستئذان ، بيّن أن تخلف أصحاب الأعذار عن الجهاد لا يحتاج إلى إذن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثالثة ـ نفي الحرج عن الناس في مؤاكلة المرضى ؛

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لما أنزل الله تبارك وتعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعرج ،

٣٠١

وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والمريض لا يستوفي الطعام ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال سعيد بن جبير والضحاك : كان العرجان والعميان يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ؛ لأن الناس يتقذرونهم ، ويكرهون مؤاكلتهم ، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقذرا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأيا ما كان سبب نزول الآية فإنها تبيح الأكل من هذه البيوت ، بشرط أن يعلم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة ، وخصصت هذه البيوت بالذكر لتبسط الناس فيما بينهم عادة في الأكل من بيوت أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم.

سبب نزول آية : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) :

قال قتادة والضحاك : نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم : بنو ليث بن عمرو ، وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، فربما قعد الرجل ، والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح ، تحرّجا من أن يأكل وحده ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال عكرمة : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعا متحلقين أو أشتاتا متفرقين.

والكلام متصل بما قبله ، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل نفسه ، أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل ، فلا جناح في الأكل من هذه البيوت ، سواء

٣٠٢

مع أصحابها أو بدونهم. وقيل : الكلام مستقل عما قبله لبيان حكم آخر ، مماثل له ، وهو أن الأكل كما يجوز منفردا ، يجوز مع الضيف.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى حكم دخول المماليك والصبيان إلى البيوت في غير العورات الثلاث دون استئذان ، ذكر هنا حكم تخلف أصحاب الأعذار عن الجهاد من غير استئذان ، وحكم الأكل من البيوت المذكورة في الآية من غير إذن صريح إذا علم رضا أصحابها.

التفسير والبيان :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم ولا ذنب في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم ، كما نقل عن عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وكما قال تعالى في سورة براءة : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ : لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) [٩١ ـ ٩٢].

وذكر الفخر الرازي أن الأكثرين قالوا : المراد منه أن القوم كانوا يحظرون الأكل مع هؤلاء الثلاثة وفي هذه المنازل ، فالله تعالى رفع ذلك الحظر وأزاله.

والظاهر لي أن الآية في أمر يتعلق بنظام الحياة في الأسرة ، كالآيات السابقة في الاستئذان وتخفيف العجائز من الألبسة الظاهرة ، وأنها تريد أن تجمع بين أفراد الأسرة الأصحاء وأصحاب الأعذار في تناول الطعام على مائدة واحدة ، وترفع الكلفة والمشقة في الأكل من البيوت الخاصة أو بيوت الأقارب والأصدقاء ،

٣٠٣

دون إذن صريح ، وأن الحكم في البيت الخاص كبيت القريب والصديق على حدّ سواء ، وذكر الأكل من البيوت ليساوي ما بعده في الحكم ويعطفه عليه ، فهو أدب اجتماعي من أدب الإسلام الرفيع.

(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم الخاصة ، ويشمل ذلك بيوت الأولاد ؛ لأنه وإن لم ينص عليهم ، فهم كبيت الإنسان ؛ لأن بيت الولد كبيت الوالد ، ومال الولد بمنزلة مال أبيه. روى الإمام أحمد في المسند وأصحاب السنن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنت ومالك لأبيك» وقال أيضا فيما أخرجه البخاري في التاريخ والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة : «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم».

وقوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) للإشارة إلى أن الأكل مع أصحاب الأعذار لا يخل بقدر الأصحاء أهل الشأن ، وأن التواضع مطلوب ، والترفع عن مؤاكلتهم منبوذ ممجوج شرعا ودينا ، وفي ذلك توسعة على الناس ، وبيان ما تقتضيه أواصر المحبة والصلة والود بين الأفراد.

(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) أي أن الله تعالى أباح لنا الأكل من أحد عشر موضعا بلا إذن صريح ، حيث علمنا رضاه وسروره ، وأنه لا يبخل ولا يتألم ، فإن كان يتضجر أو يتألف أو يتألم فلا نأكل من طعامه في غيبته ، ويطلب التعفف حينئذ. وتلك المواضع هي :

الأكل من بيوتنا ومنها بيوت أولادنا كما بينا ، وبيوت آبائنا وأجدادنا ، وبيوت أمهاتنا وجداتنا ، وبيوت إخواننا ، وبيوت أخواتنا ، وبيوت أعمامنا ، وبيوت عماتنا ، وبيوت أخوالنا ، وبيوت خالاتنا ، وما ملكنا مفاتحه بالوكالة عن أصحاب البيوت ، وبيوت أصدقائنا إذا عرفنا أنه راض ومسرور بما نفعل ،

٣٠٤

وإلا فلا يجوز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» وحديث الشيخين عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه».

وهؤلاء المذكورون من الأقارب تطيب نفوسهم عادة وطبعا بأكل أحد من قراباتهم عندهم.

أما المقصود بقوله : (ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) فيراد به كما قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح : كونها في يده وحفظه. وهذا مأذون به ضمنا من الموكل ، ولكن يأكل ولا يحمل ولا يدّخر ، إذا لم يكن له أجر على عمله ، فإن كان مستأجرا بأجر فلا يأكل.

وأما بيوت الأصدقاء الذين ترتفع الكلفة بينهم ، ويصفو الودّ معهم ، فيؤكل منها إذا علم رضاهم صراحة أو بالقرائن. روي عن الحسن البصري أنه دخل داره ، وإذا حلقة من أصدقائه ، وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبّون عليها يأكلون ، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك ، وقال : هكذا وجدناهم ، أي أكابر الصحابة. وكذلك يقال في دخول بيوت الأصدقاء لا بدّ فيه من إذن صريح أو قرينة.

واحتج أبو حنيفة رحمه‌الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ؛ لإباحة الله تعالى لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم ، فلا يكون ماله محرزا منهم ، أي بسبب وجود شبهة الإذن. والحقيقة أنه لا بدّ من الإذن الصريح ، أو الضمني الذي يعرف بالقرائن.

ثم ذكر الله تعالى حكم الأكل الجماعي والانفرادي فقال :

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) أي يباح ولا إثم عليكم أن

٣٠٥

تأكلوا كيف شئتم مجتمعين أو متفرقين.

وهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة ، لكن الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل ؛ روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا نأكل ولا نشبع ، قال : «لعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه». وروى ابن ماجه أيضا عن عمر رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كلوا جميعا ، ولا تفرقوا ، فإن البركة مع الجماعة».

ثم ذكر الله تعالى حكم تحية الداخل على بيته فقال :

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي فليسلّم بعضكم على بعض ، أو فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا فابدءوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة. وعبر بقوله : (أَنْفُسِكُمْ) للدلالة على أنهم منكم بمنزلة أنفسكم ، فكأنكم حين تسلمون عليهم تسلمون على أنفسكم.

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) أي حيوا تحية ثابتة بأمر الله ، مشروعة من لدنه ، يرجى منها زيادة الخير والثواب ، ويطيب بها قلب المستمع ؛ لأن معنى التحية والتسليم طلب السلامة والحياة للمسلّم عليه ، ووصفها بالبركة والطيب ؛ لأنها دعوة مؤمن لمؤمن ترجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق ، وتستجلب فيها مودة المسلم.

قال قتادة : إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم ، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنه كان يؤمر بذلك. وكذلك قال مجاهد وابن عباسرضي‌الله‌عنهم.

وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال : «إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة».

٣٠٦

وهذا الحكم وهو التحية على الأهل ، وإن كان معلوما من الآية المتقدمة : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) إلا أنه أعيد هنا لطلبه بين الأقارب ، حتى لا يظن أن علاقة القرابة لا تحتاج إلى تبادل السلام والتحية ، فذلك من الآداب العامة والحقوق الإسلامية التي لا يصح إهمالها. قال الضحاك : في السلام عشر حسنات ، ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم ، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها ، وكما بيّن لكم ما في هذه السورة أيضا من أحكام وشرائع بيانا شافيا ، لكي تتدبروها وتتفهموا عن الله أمره ونهيه وآدابه ، فتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ لا إثم ولا حرج على أصحاب الأعذار في التخلف عن الجهاد ، وهم الأعمى والأعرج والمريض ، أي أن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي للتكليف به ، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج ، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه ؛ كالصوم وشروط الصلاة وأركانها ، والجهاد ونحو ذلك.

ولا مانع من مؤاكلة هؤلاء ذوي الأعذار ، وترك عادة تخصيصهم بطعام خاص حذرا من استقذارهم والترفع عن مجالستهم.

٢ ـ أباح الله للناس الأكل من مواضع أحد عشر دون استئذان صريح إذا علم رضا صاحب الطعام ؛ لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم في الأغلب بأكل من يدخل عليهم ، والعادة كالإذن في ذلك ، لذا خصهم الله تعالى بالذكر ،

٣٠٧

وافتتحها تعالى بالأكل من البيوت الخاصة بأصحابها للإشارة إلى التسوية بينها وبين تلك المواضع العشرة الباقية.

وأسباب رفع الحرج في الأكل من هذه المواضع إذن : إما الملك الخاص وإما القرابة وإما الوكالة والاستئجار ، وإما الصداقة. والقرابة ، وكذا الملك الخاص للبيوت : تشمل بيوت الأبناء والآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات. والوكالة مفهومة من قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) فإنه يشمل عند جمهور المفسرين الوكلاء والعبيد والأجراء. والصداقة تبيح الأكل والشرب من بيوت الأصدقاء بغير إذن إذا علم أن نفس صاحب الشيء تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته ، أو لما بينهما من المودة. والصديق : من يصدقك في مودّته وتصدقه في مودتك ، ولكن لا يجوز الادخار والحمل ، واتخاذ ذلك وقاية لماله ، ولو كان المتناول تافها يسيرا. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل حائط (بستان) أبي طلحة المسمى ب (بيرحا) ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه.

وبناء عليه ، لا تجوز في رأي المالكية شهادة الصديق لصديقه ، ولا شهادة القريب لقريبه.

٣ ـ يباح الأكل منفردا أو جماعة ، وإن اختلفت أحوال الجماعة في الأكل كمّا وكيفا ، فللإنسان أن يأكل وحده ، أو مع القريب أو الصديق أو الجار أو أي شخص مسلم أو كافر. وقد نزلت الآية كما عرفنا في بني ليث بن عمرو من كنانة ، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده ، ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله ، ومنه قول بعض الشعراء :

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلا ، فإني لست آكله وحدي

أو أنها نزلت في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه ، أو في قوم تحرّجوا عن الاجتماع على الطعام ؛ لاختلاف الطباع في القزازة.

٣٠٨

قال ابن عطية : وكانت هذه السيرة موروثة عند العرب عن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ؛ فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه ؛ فنزلت الآية مبينة سنّة الأكل ، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب ، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرّما ، نحت به نحو كرم الخلق ، فأفرطت في إلزامه ، وإن إحضار الأكيل لحسن ، ولكن بألا يحرم الانفراد.

٤ ـ يسن السلام عند الدخول على الأهل والأقارب في البيوت المسكونة ، وكذا غير المسكونة ، فيسلّم المرء فيها على نفسه بأن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وكذا المساجد ، فيسلّم على من كان فيها ، فإن لم يكن في المساجد أحد ، فالسلام أن يقول المرء : السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال إبراهيم النخعي والحسن البصري عن آية : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) أراد المساجد.

قال ابن العربي : «القول بالعموم في البيوت هو الصحيح ، ولا دليل على التخصيص» وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان لغيره أو لنفسه ، فإذا دخل الإنسان بيتا لغيره استأذن كما تقدم ، فإذا دخل بيتا لنفسه سلّم ، كما ورد في الخبر المتقدم عن ابن عمر ، يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل : السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وقال القشيري في قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) : والأوجه أن يقال : إن هذا عام في دخول كل بيت ، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإن لم يكن فيه ساكن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال : السلام على من اتّبع الهدى ، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

٣٠٩

٥ ـ كرر الله تعالى ثلاث مرات في آيات متعاقبة [٥٨ ، ٥٩ ، ٦١] قوله سبحانه : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) [٥٨ ، ٦١] لكن في الآية [٥٩] لفظ : «آياته» للتأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به ، والمعنى : كما بيّن لكم سنة دينكم في هذه الأشياء ، يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.

الاستئذان عند الخروج وأدب خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والتحذير من مخالفة أمره

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

الإعراب :

(كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) الكاف في موضع نصب ؛ لأنه مفعول لفعل (تَجْعَلُوا).

(لِواذاً) : منصوب على المصدر في موضع الحال من واو (يَتَسَلَّلُونَ) أي يتسللون ملاوذين ، وهو مصدر (لاوذ) كقاوم قواما ؛ لأن المصدر يتبع الفعل في الصحة والاعتلال ، ولو كان مصدر (لاذ) لكان (لياذا) معتلا لاعتلال الفعل ، كقام قياما.

٣١٠

البلاغة :

(غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلِيمٌ عَلِيمٌ) : صيغة مبالغة

(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) التفات عن الخطاب إلى الغيبة.

المفردات اللغوية :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون في الإيمان. (مَعَهُ) مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أمر عام مهم يحتاج إلى الاجتماع والتشاور ، كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور ، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة ، وقرئ «أمر جميع». (لَمْ يَذْهَبُوا) لطروء عذر لهم. (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) يستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأذن لهم ، والمطالبة بالإذن واعتباره في كمال الإيمان ؛ لأنه دليل مصدق لصحته ، ومميز للمخلص فيه من المنافق ، ومبين تعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذنه ، ولذلك أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة ، وإن الذاهب بغير إذن ليس مؤمنا.

(لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أمرهم أو ما يعرض لهم من المهام ، وفيه مبالغة وتضييق للأمر. (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) بالانصراف. (دُعاءَ الرَّسُولِ) طلب اجتماع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم. (كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) بأن تقولوا : يا محمد ، بل قولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله ، في لين وتواضع وخفض صوت ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض ، والمساهلة في الجواب ، والرجوع بغير إذن ، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة ، والخروج بغير إذنه محرّم.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي ينسلون أو يخرجون من المسجد خفية مستترين بشيء ، فالتسلل : الخروج خفية ، واللواذ : تستر بعضهم ببعض. وقد : للتحقيق. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي عن أمر الله تعالى أو أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الأمر لله في الحقيقة ، ويصح عود الضمير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه المقصود بالذكر. والمخالفة : اتخاذ طريق مخالف في القول أو الفعل. (فِتْنَةٌ) بلاء ومحنة وامتحان في الدنيا. (أَلِيمٌ) عذاب مؤلم موجع في الآخرة. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا. (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) قد يعلم ما أنتم عليه أيها المكلفون من الإيمان والنفاق والمخالفة والوفاق. وأكد علمه بقد : لتأكيد الوعيد. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) يخبرهم بما عملوا من خير أو شر ، فيجازي على سوء الأعمال بالتوبيخ وغيره. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي الله عالم بكل شيء من أعمالهم ، لا تخفى عليه خافية.

٣١١

سبب النزول :

أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا : لما أقبلت قريش عام الأحزاب ، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة ـ بئر بالمدينة ـ قائدها أبو سفيان ، وأقبلت غطفان ، حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أحد ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر ، فضرب الخندق على المدينة ، وعمل فيه ، وعمل المسلمون فيه ، وأبطأ رجال من المنافقين ، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل ، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إذن ، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بدّ منها ، يذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستأذنه في اللحوق لحاجته ، فيأذن له ، وإذا قضى حاجته رجع ، فأنزل الله في أولئك المؤمنين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) إلى قوله : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وقال الكلبي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم ، فينظر المنافقون يمينا وشمالا ، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفا ، فنزلت هذه الآية ، فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته ، حتى يستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.

نزول الآية (٦٣):

(لا تَجْعَلُوا) الآية : أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كانوا يقولون : يا محمد ، يا أبا القاسم ، فأنزل الله : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) فقالوا : يا نبي الله ، يا رسول الله.

٣١٢

المناسبة :

بعد الأمر بالاستئذان عند الدخول ، أمر الله تعالى بالاستئذان حين الخروج ، لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر مهم ، ثم أمر المؤمنين بتعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورعاية الأدب في مخاطبته ، وحذرهم من مخالفة أمره وسنته وشريعته.

التفسير والبيان :

هذه آداب اجتماعية دينية إلزامية ، وهي ثلاثة :

الأول ـ قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته وصحة رسالة رسوله من عنده ، وإذا كانوا معه في أمر اجتماعي مهم ، كصلاة جمعة أو جماعة أو عيد ، أو مشاركة في مقاتلة عدو ، أو تشاور في أمر خطير قد حدث ، لم ينصرفوا عن المجلس حتى يستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأذن لهم.

وهذا الأدب مكمل لما سبقه ، فلما أمر الله بالاستئذان حين الدخول ، أمر بالاستئذان حين الخروج ، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والأمر الجامع : هو الأمر الموجب للاجتماع عليه ، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز. روى أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس ، فليسلم ، فإن بدا له أن يجلس فليجلس ، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة».

ثم أعاد الله تعالى طلب الإذن على سبيل التأكيد بأسلوب أبلغ من طريق جعله دليلا على كمال الإيمان ، ومميزا المخلص من غيره ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ

٣١٣

يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي إن الذين يستأذنون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الانصراف ، ويشاورونه في الخروج ، هم من المؤمنين الكاملين المصدقين الله ورسوله ، الذين يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه.

وبعد الاستئذان تعظيما للنبي ورعاية للأدب ، تكون حرية الإذن له ، فقال تعالى :

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) أي إذا استأذنك أحد منهم في بعض ما يطرأ له من مهمة ، فأذن لمن تشاء منهم على وفق الحكمة والمصلحة ، فقد استأذن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله ، فأذن له ، وقال له : «انطلق فو الله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام ، فلما سمعوا ذلك قالوا : ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم ، وإذا استأذناه لم يأذن لنا ، فو الله ما نراه يعدل.

وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن عمر استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العمرة ، فأذن له ، ثم قال : يا أبا حفص ، لا تنسنا من صالح دعائك.

والآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض أمر الدين ، ليجتهد فيه برأيه.

(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي واطلب من الله أن يغفر لهم ما قد يصدر عنهم من زلات أو هفوات ، إن الله غفور لذنوب عباده التائبين ، رحيم بهم فلا يعاقبهم بعد التوبة.

وهذا مشعر بأن الاستئذان ، وإن كان لعذر مقبول ، فيه ترك للأولى ، لما فيه من تقديم مصالح الدنيا على مصالح الآخرة ، فالاستئذان مهما كانت أسبابه مما يقتضي الاستغفار ، لترك الأهم.

٣١٤

ثم أمر الله تعالى أن يهاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يبجّل وأن يعظم وأن يسود ، فقال :

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي لا تدعوا رسول الله باسمه بأن تقولوا : يا محمد أو يا ابن عبد الله ، ولكن عظموه ، فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض والتواضع ، فهذا نهي من الله عزوجل عن مناداة النبي باسمه أو نسبه ، وهو الظاهر من السياق ، فلا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضا ، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه.

وفي تفسير آخر : لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والتساهل في الإجابة والانصراف من مجلسه بغير إذن ، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة ، والرجوع عن مجلسه بغير إذن محرّم.

ثم حذر الله تعالى وأوعد المخالفين تلك الآداب فقال :

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) قد : للتحقيق ، أي إنه تعالى يعلم يقينا أولئك الذين ينسلون من المسجد في الخطبة أو من مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خفية ، واحدا بعد الآخر ، دون استئذان ، يتستر بعضهم ببعض أو بشيء آخر ، فالله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، يعلم البواعث والدواعي ، والخفايا والأسرار ، والظواهر والأفعال والأقوال. روى أبو داود أن بعض المنافقين كان يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس في المسجد ، فإذا استأذن أحد من المسلمين ، قام المنافق إلى جنبه ، يستتر به ، فأنزل الله الآية.

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فليخش من خالف شريعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطنا وظاهرا ، وصدّ وخرج عن أمره وطاعته ، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته ، وهم

٣١٥

المنافقون ، أن يتعرضوا لمحنة أو بلاء وامتحان في الدنيا من كفر أو نفاق ، أو يصيبهم عذاب مؤلم في الآخرة. وضمير (أَمْرِهِ) إما عائد إلى أمر الله تعالى أو أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والاية تدل على ان ظاهر الأمر للوجوب ؛ لان تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ، ومخالف الأمر مستحق للعقاب ، فتارك المأمور به مستحق للعقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.

والآية أيضا تعم كل من خالف أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس المنافقين فقط.

ثم ختم تعالى السورة ببيان نطاق المخلوقات ، وأنهم تحت سلطان الله وعلمه ، فقال : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَدْ) للتحقيق أيضا كما هو حال ما قبلها ، أي إن جميع ما في السموات والأرض مختص بالله عزوجل خلقا ، وملكا ، وعلما ، وتصرفا وإيجادا وإعداما ، يعلم كل ما لدى العباد من سر وجهر ، فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين ، وإن اجتهدوا في سترها عن العيون وإخفائها. فقوله : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) معناه أنه عالم به ، مشاهد إياه ، لا يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس ١٠ / ٦١].

(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إن الله تعالى سينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم ، وسيجازيهم حق الجزاء : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة ٧٥ / ١٣] ، (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ٤٩] والله ذو علم شامل محيط بكل شيء ، يوفره لهم ، ويفاجئهم به يوم الحساب والعرض عليه. وهذا دليل على فصل القضاء الذي يتفرد به الله تعالى.

٣١٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وجوب استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الانصراف من مجلسه ، وأما غير النبي فيطلب الاستئذان من صاحب البيت وجوبا أيضا حتى لا يطلع الضيف على العورات كوجوب الاستئذان عند الدخول ، كما تقدم ، ويطلب الاستئذان من الإمام أيضا.

وقد أوجبت الآية الاستئذان في الأمر الجامع وهو ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة ، من إقامة سنّة في الدين ، أو لترهيب عدو باجتماعهم ، وللحروب ، قال الله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران ٣ / ١٥٩]. فللإمام أن يجمع أهل الرأي والمشورة أو الناس لأمر فيه نفع أو ضرر.

٢ ـ وقوله تعالى : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) دليل على التفويض إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الإمام المجتهد بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه النابع من أصول الشريعة وروح التشريع ، والمنسجم مع المبادئ الشرعية.

٣ ـ الآية كما قدمنا دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب.

٤ ـ كان المنافقون يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر الله جميع المسلمين بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليتبين إيمانه ؛ ولأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة.

٥ ـ قيل : إن قوله تعالى : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) وقوله : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) دالان على أن ذلك مخصوص في الحرب. أما في أثناء الخطبة ، فليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه. والأصح القول بالعموم ، فهو أولى وأحسن ، ويشمل ذلك كل مجلس للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ إن تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجب ، فلا ينادى كما ينادي الناس بعضهم

٣١٧

بعضا ، فيقال : يا محمد أو يا أبا القاسم ، وإنما يقال : يا رسول الله ، في رفق ولين ، وبتشريف وتفخيم ، كما قال تعالى في سورة الحجرات : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [٣].

٧ ـ تكرر في الآيات التأكيد على إحاطة علم الله بكل شيء ، ومنه نوايا المنافقين وأفعالهم وأقوالهم : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وبيان علم الله في هذه الأحوال للتحذير والوعيد والزجر عن مخالفة أمره.

٨ ـ احتج الفقهاء بقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) على أن الأمر للوجوب وعلى وجوب طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره ، وتوعد بالعقاب عليها بقوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فتحرم مخالفته ، فيجب امتثال أمره. ومخالفة أمره توجب أحد أمرين : العقوبة في الدنيا كالقتل والزلازل والأهوال وتسلط السلطان الجائر ، والطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعذاب الشديد المؤلم في الآخرة.

وقوله : (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) معناه : يعرضون عن أمره ، أو يخالفون بعد أمره.

٩ ـ لله جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعلما ، ومنه العلم بأحوال المنافقين ، فهو يجازيهم به ، ويخبرهم بأعمالهم يوم القيامة ، ويجازيهم بها ، والله علام بكل شيء من أعمالهم وأحوالهم. وهذا دليل على القدرة الفائقة لله تعالى ، واقتداره على المكلف فيما يعامل به من مجازاة بثواب أو بعقاب ، وعلمه بما يخفيه ويعلنه ، وأن له تعالى فصل القضاء.

آمنت بالله

٣١٨

فهرس

الجزء الثامن عشر

 الموضوع

 الصفحة

سورة المؤمنون.................................................................... ٥

تسميتها وفضلها................................................................. ٥

ما اشتملت عليه السورة........................................................... ٦

خصال المؤمنين.................................................................. ٨

من أدلة وجود الله وقدرته........................................................ ١٦

١ ـ خلق الإنسان............................................................ ١٦

٢ ـ خلق السموات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام................................ ٢٢

القصة الأولى ـ قصة نوح عليه‌السلام.................................................... ٣٠

القصة الثانية ـ قصة هود عليه‌السلام................................................... ٣٩

القصة الثالثة ـ قصص صالخ ولوط وشعيب وغيرهم عليهم‌السلام........................... ٤٥

القصة الرابعة ـ قصة موسى وهارون عليهما السلام.................................. ٥٠

القصة الخامسة ـ قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام............................... ٥٤

مبادئ التشريع في الحياة......................................................... ٥٦

صفات المسارعين في الخيرات..................................................... ٦٢

إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها....................................... ٦٩

نعم الله العظمى على عباد....................................................... ٨٢

إنكار المشركين البعث وإثباته بالأدلة القاطعة....................................... ٨٥

نفي الولد والشريك لله تعالى..................................................... ٩٢

إرشادات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم........................................... ٩٥

تمني الإنسان عند الموت الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحا.............................. ٩٩

موازين النجاة في حساب الآخرة................................................. ١٠٣

التبيه على قصر مدة اللبث في الدنيا وعقاب المشركين ورحمة المؤمنين................. ١١١

٣١٩

سورة النور................................................................... ١١٩

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١١٩

فضلها ومشتملاتها............................................................ ١٢٠

ميزة سورة النور............................................................... ١٢٢

الحكم الأول والثاني ـ حد الزنى وحكم الزناة....................................... ١٢٤

الحكم الثالث ـ حد القذف..................................................... ١٤١

الحكم الرابع ـ حكم اللعان أو قذف الرجل زوجته.................................. ١٥٢

الحكم الخامس ـ قصة الإفك.................................................... ١٦٨

قصة الإفك في السنة النبوية الصحيحة.......................................... ١٧٢

جزاء القذفة الأخروي في قصة الإفك............................................ ١٩٢

الحكم السادس ـ الاستئذان لدخول البيوت وآدابه................................. ١٩٩

الحكم السابع ـ حكم النظر والحجاب............................................ ٢١٠

الحكم الثامن والتاسع والعاشر ـ زواج الأحرار ومكاتبة الأرقاء والإكراه................. ٢٢٨

على الزنى

الله نور السموات والأرض بدلائل الإيمان وغيرها.................................. ٢٤٣

المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى................................................. ٢٤٩

حال الكافرين في الدنيا وخسرانهم في الآخرة....................................... ٢٥٦

الأدلة الكونية على وجود الله وتوحيده........................................... ٢٦٢

البقاء على الضلال والنفاق بالرغم من البيان الشافي............................... ٢٧١

الطاعة والامتثال عند المؤمنين................................................... ٢٧٥

أصول دولة الإيمان............................................................ ٢٨١

الحكم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ـ حالات الاستئذات في.............. ٢٩٠

داخل الأسرة وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز

إباحة الأكل من بيوت معينة دون إذن........................................... ٣٠٠

الاستئذان عند الخروج وأدب خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتحذير من مخالفة أمره.............. ٣١١

٣٢٠