التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

والمكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو : «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم». وهو متفق عليه بين المذاهب.

وإذا عجز المكاتب عن قسط ، ولم يطالبه السيد ، لا تنفسخ الكتابة ما داما على ذلك ثابتين.

وإذا أدى المكاتب ما التزم به عتق ، ولا يحتاج إلى إعتاق السيد ، ويعتق معه أولاده الذين ولدوا أثناء الكتابة ، ولا يعتق الولد قبل الكتابة إلا بشرط.

وقد أمر الله السادة بإعانة المكاتبين في مال الكتابة ؛ إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم ، أو يحطّوا عنهم شيئا من مال الكتابة.

٣ ـ وأما الإكراه على الزنى أو الإجارة على الزنى : فهو حرام قطعا ، سواء أرادت الفتاة ذلك أو امتنعت عنه ، فلا فرق في حرمة هذا الإكراه بين حال إرادة التحصن (التعفف) أو حال عدم إرادته ، كما لا فرق بين قصد الكسب الدنيوي والأولاد أو عدم قصده. وبالرغم من حرمة فعل المستكرهة فإن الله غفور للمكرهات رحيم بهن ؛ فإن الإكراه أزال العقوبة الدنيوية ، وهو عذر للمكرهة ، أما المكره فلا عذر له فيما فعل. وما أشبه الأمس باليوم فإن المرأة أصبحت في عصرنا أداة للسياحة واستقطاب الزبائن والدعاية.

٤ ـ عدد الله تعالى في قوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ ..) على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات الواضحات ، وفيها من أمثال الماضين للتحفظ عما وقعوا فيه ، وهي أيضا موعظة وعبرة لمن اتقى الله وخاف عقابه.

٢٤١

الله منوّر السموات والأرض بدلائل الإيمان وغيرها

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥))

الإعراب :

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ مَثَلُ) مبتدأ ، و (كَمِشْكاةٍ) خبره ، وهاء (نُورِهِ) إما عائدة على الله تعالى ، أو على المؤمن ، أو الإيمان في قلب المؤمن.

(دُرِّيٌ) صفة : (كَوْكَبٌ) ، وهو منسوب إلى الدّر ، أو أصله (درّيء) بالهمز من الدرء ، فقلبت الهمزة ياء ، وأدغمت في الياء قبلها ، والدرء : الدفع ، ومعناه أنه يدفع الظلمة لتلألئه.

(زَيْتُونَةٍ) بدل أو عطف بيان.

البلاغة :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ نُورُ) من إطلاق المصدر على اسم الفاعل للمبالغة ، أي منوّر كل شيء ، كأنه عين نوره. ومن فسر ذلك بأنه هادي أهل السموات والأرض ببراهينه وبيانه ، فهو استعارة.

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) تشبيه تمثيلي ، شبه نور الله الذي جعله في قلب المؤمن بالمصباح في كوة (طاقة) داخل زجاجة ، تشبه الكوكب الدري في الصفاء والحسن ،

سمي تمثيليا لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.

المفردات اللغوية :

(اللهُ نُورُ) أي ذو نور يهدي به أهل السموات والأرض ، أو منور السموات والأرض ، من

٢٤٢

طريق المجاز. وأصل النور : ما به الإضاءة الحسية التي بها تبصر العين ، ويطلق شرعا على ما به الاهتداء والإدراك ، فأهل السموات والأرض أي العالم كله يهتدون بنوره. (مَثَلُ نُورِهِ) أي صفة نوره العجيبة الشأن في قلب المؤمن (كَمِشْكاةٍ) أي كوّة أو طاقة مسدودة غير نافذة من الخلف. (مِصْباحٌ) سراج. (زُجاجَةٍ) قنديل. (كَأَنَّها) أي الزجاجة والنور فيها (كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) نجم مضيء. والدري : منسوب إلى الدر اللؤلؤ ، أو من الدرء : أي الدفع لدفعه الظلام بسبب تلألئه. (مِنْ شَجَرَةٍ) أي من زيت. (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لا شرقية فقط تقع عليها الشمس أحيانا ، ولا غربية فقط تتعرض للشمس أحيانا أخرى ، وإنما هي موقع وسط تقع عليها الشمس طول النهار ، وتتعرض للهواء المعتدل دون حرّ أو برد ، فتكون ثمرتها أنضج وأطيب ، وزينها أجود الزيوت وأصفاها.

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه وتلألئه وفرط وبيصه. (نُورٌ عَلى نُورٍ) نور متضاعف ، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت ، فهو نور فوق نور ، اجتمع فيه نور السراج (المصباح) وبهاء الزجاجة ، وصفاء الزيت ، فاكتمل الإشعاع. ومعنى تشبيه نور الله بنور هذا المصباح لتقريب الأمر إلى الأذهان : هو تمثيل الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها ، وظهور مضمونها بالمشكاة المنعوتة بالأوصاف المذكورة. أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث من مصباحها. (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يهدي الله لهذا النور الثاقب وهو دلالة الآيات أو دين الإسلام أو إيمان المؤمن من يشاء من عباده. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) يبين الله الأمثلة للناس ، تقريبا لأفهامهم ، وتصويرا للمعقول بالمحسوس توضيحا وبيانا ، ليعتبروا فيؤمنوا. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معقولا كان أو محسوسا ، ظاهرا كان أو خفيا ، وفيه وعد ووعيد ، لمن تدبرها ، ولمن لم يكترث بها.

المناسبة.

بعد بيان الشرائع والأحكام الجزئية العملية (أحكام الفقه) والأخلاق والآداب (علم الأخلاق) انتقل البيان الرباني إلى دائرة العقيدة والإيمان وهي الإلهيات ، فذكر الله تعالى مثلين:

أحدهما :

بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور ، فتنوير العالم كله بالآيات الكونية والآيات المنزلة على رسوله دليل واضح قاطع على وجود الله تعالى ووحدانيته

٢٤٣

وقدرته وعلمه وسائر صفاته العليا ، وهو أيضا هاد إلى صلاح الدنيا والآخرة.

الثاني :

بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء ، وهو موضوع الآيات التالية بعدئذ.

التفسير والبيان :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الله منور العالم كله وهاديه بما أقام فيه من أدلة في الكون على وجوده وتوحيده ، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات الواضحات ، فمن اهتدى بذلك النور واستنار قلبه بهداية الله فاز بسعادة الدنيا والآخرة. وهذا هو النور المعنوي. أما النور الحسي فواضح أيضا أن الله هو مصدر النور ، وخالق النور ، وما حي الظلام ، ومدبر الكون بنظام دقيق ثابت ، وله عليه الهيمنة التامة والشاملة والمستمرة في كل لحظة وزمان.

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي شبيه هذا النور وهو نور الله القائم في صفحة الكون وبيان القرآن وما أودعه في قلب المؤمن من الإيمان كنور مصباح في قنديل زجاجي صاف مزهر ، موضوع في مشكاة (كوّة أو طاقة) لينبعث النور في اتجاه معين تقتضيه الحاجة ، وكأن زجاج هذا المصباح (السراج أو القنديل) في إضاءته كوكب عظيم ونجم ضخم من الكواكب السيارة مثل الزّهرة وعطارد والمشتري.

والظاهر أن الضمير في (نُورِهِ) عائد إلى الله عزوجل ، في تنويره الكون ، وهدايته قلب المؤمن.

(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي أن زيت المصباح يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة كثيرة المنافع ، زرعت في جبل

٢٤٤

عال أو في صحراء ، ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها فقط ، أو غروبها فقط ، بسبب ظل حاجت للشمس فيما عدا ذلك ، بل هي في مكان وسط تتعرض للشمس حالتي الطلوع والغروب ومن أول النهار إلى آخره ، فهي شرقية غربية تصيبها الشمس بالغداة والعشي ، فيجيء زيتها صافيا معتدلا مشرقا.

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي أن زيتها لصفائه وبريقه وإشراقه كأنه يضيء بنفسه ، قبل إضاءته ومسّ النار له ؛ لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا ، ثم رئي من بعيد ، يرى كأن له شعاعا ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء ، كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ، ازداد نورا على نور ، وهدى على هدى. قال يحيى بن سلام : قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له ، لموافقته له ، وهو المراد من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي سعيد الخدري : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» (١).

(نُورٌ عَلى نُورٍ) أي هو نور مترادف متضاعف ، قد اجتمعت فيه المشكاة (الطاقة) والزجاجة والمصباح والزيت ، لجعل النور قويا مشعا لا مجال لأي تقوية أخرى فيه ، فالمشكاة تحصر النور في اتجاه واحد غير مشتت ولا موزع ، وبهاء الزجاجة يزيد الإنارة والتلألؤ وانعكاس الضوء ، والقنديل مصدر الطاقة الإشعاعية الكافية التي لا تتوافر فيما سواه ، وصفاء الزيت ونقاؤه من أهم عوامل الاحتراق الكامل وتوافر الإضاءة الكاملة.

(يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يرشد الله إلى هدايته ويوفق من يختاره من عباده ، بالنظر وإعمال الفكر وتدبر آي الكون.

(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أي يبين الله تعالى للمكلفين من الناس دلائل الإيمان ووسائل الهداية ، ويبصرهم بما خفي عليهم من أمور الحق في صور

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٣ / ٢٣٧

٢٤٥

مختلفة ، بضرب الأمثال ، وعقد التشبيهات ، وتصوير المعاني بصور المحسوسات المألوفة ، لترسيخها في الأذهان ، وتثبيتها في أعماق الفؤاد والنفس ، فيصير الإيمان راسخا في القلب كالجبال الراسيات. وهذا من مزايا القرآن البلاغية الرائعة أنه يصور المعقولات والمعاني بصور الماديات والمحسوسات.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي والله عالم علما تاما شاملا بجميع الأشياء المعقولة والحسية ، الباطنة والظاهرة ، يمنح الهداية لمن كان أهلا لها ، مستعدا لتلقيها. وهذا وعد لمن أعمل فكره ووعى وسائل الهداية ، ووعيد لمن أعرض ، فلم يتدبر ولم يتفكر فيها ، ولم يكترث بها.

والخلاصة : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن ، فكما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسّته ازداد ضوءا على ضوء ، يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاء ازداد هدى على هدى ، ونورا على نور.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية لا يراد بها ظاهرها وإنما هي مؤولة ، وتأويلها مختلف فيه ، وأصح التأويلات ما ذكره جمهور المتكلمين وابن عباس وأنس (١) : وهو أن الله هادي أهل السموات والأرض ، وهداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات ، وتلك الهداية هي الآيات البينات القائمة في الكون والمنزلة على الرسل بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بالغ النهاية في الصفاء.

ومثل نور الله أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن ، مثل المصباح الذي تكاملت فيه وسائل الإنارة وهي المشكاة (الكوّة في الحائط غير النافذة)

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٣ / ٢٣١ وما بعدها.

٢٤٦

وهي أجمع للضوء ، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها ، والزجاجة لأنها جسم شفّاف ، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج ، فصارت الزجاجة في الإنارة والضوء كالكوكب الدرّي المتلألئ ، والزيت الصافي النقي النابع من زيتون شجرة كثيرة المنافع ، تتعرض للشمس والهواء طوال النهار ، فهي ليست شرقية فحسب وهي التي تصيبها الشمس إذا شرقت ، ولا تصيبها لوجود الساتر الحاجب إذا غربت ، وليست غربية فحسب عكس الشرقية : وهي التي تصيبها الشمس إذا غربت ولا تصيبها وقت الشروق ، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية ، بل هي شرقية غربية ، في صحراء واسعة من الأرض ، لا يواريها عن الشمس شيء ، وهو أجود لزيتها.

والأنوار مترادفة متضاعفة مجتمعة مع بعضها ، كذلك قلب المؤمن يزداد إيمانا وهداية بأضواء القرآن وهداية الله تعالى.

والله تعالى يبين الأشياء بالأمثال الحسية وغيرها تقريبا إلى الأفهام ، وهو عليم بكل شيء يحقق المراد ، وبمن هو أهل للهداية والضلال.

فهذا مثل للقرآن في قلب المؤمن ، فكما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص ، فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص ، فالمصباح القرآن ، والزجاجة قلب المؤمن ، والمشكاة لسانه وفهمه ، والشجرة المباركة شجرة الوحي. ويكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار : معناه تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ. و (نُورٌ عَلى نُورٍ) : معناه أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه ، مع ما أقام لهم من الدلائل والاعلام قبل نزول القرآن ، فازدادوا بذلك نورا على نور ، وهذا النور عزيز لا يناله إلا من أراد الله هداه ، والله أعلم بالمهديّ والضالّ.

وأما ما لا تعلق له بالآية : فيجوز أن يقال : لله تعالى نور ، من جهة المدح ؛ لأنه أوجد الأشياء ، ونور جميع الأشياء : منه ابتداؤها ، وعنه صدورها.

٢٤٧

وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة ، جلّ وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا (١)

وهو تعالى خالق النور الحسي في السموات والأرض ، ومدبّرهما على أحسن نظام وأتمه وأدقه ، ونوّر السماء بالملائكة وبالكواكب ، والأرض بالأنبياء وبالشرائع وبالفطرة السليمة والعقل النيّر المرشد إلى الخير ، فلو تفكر إنسان بعقل حرّ بريء متجرد من التأثر باتجاه معين أو عقيدة سابقة ، لآمن بالله تعالى ربا وإلها واحدا إيمانا كاملا. يتزايد وينمو ويتبلور بهداية القرآن وآياته البينات ، والله أعلم.

المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

الإعراب :

(فِي بُيُوتٍ) إما صفة (كَمِشْكاةٍ) في قوله تعالى : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) وتقديره : كمشكاة كائنة في بيوت ، أو متعلق بقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها). (يُسَبِّحُ) فعل مضارع ، وفاعله (رِجالٌ) ومن قرأ بضم الياء وفتح الباء (يُسَبِّحُ) كان (رِجالٌ) مرفوعا بفعل مقدر دلّ عليه (يُسَبِّحُ) كأنه قيل : من يسبحه؟ فقال : رجال ، أي يسبحه رجال. و (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) مصدر مضاف إلى المفعول ، أي عن ذكرهم الله. (وَإِقامِ الصَّلاةِ) : الأصل أن تقول :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ٢٥٦ ـ ٢٦٤

٢٤٨

وإقامة الصلاة ، إلا أنه حذفت التاء تخفيفا ؛ لأن المضاف إليه صار عوضا عنها ، كما صار عوضا عن التنوين ، كما صارت (ها) في يا أيها عوضا عن المضاف إليه.

البلاغة :

(عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) إطناب بذكر الخاص بعد العام ؛ لأن الصلاة من ذكر الله. (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(فِي بُيُوتٍ) متعلق بما قبله ، أي كمشكاة في بعض بيوت أو توقد في بعض بيوت. أو متعلق ب (يُسَبِّحُ) الآتي. والبيوت هنا : المساجد المخصصة لذكر الله ؛ لأن الصفة تلائمها. (أَذِنَ) أمر وقضى. (أَنْ تُرْفَعَ) بالتعظيم أي تعظم وتطهر عن الأدناس والأنجاس وعن لغو الأقوال ، أو ترفع بالبناء. (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بتوحيده. (يُسَبِّحُ) يصلي أو ينزه ويقدس. (بِالْغُدُوِّ) مصدر بمعنى الغداة أو الغدوات ، أي أول النهار. (وَالْآصالِ) جمع أصيل ، وهو العشي أو العشايا ، أي آخر النهار من بعد الزوال.

(رِجالٌ) أي ينزهونه ويسبحونه رجال ، أي يصلون له فيها بالغدوات والعشايا. (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) أي لا تشغلهم معاملة رابحة ، سواء بالتجارة أو الصناعة أو غيرهما. (وَلا بَيْعٌ) مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعاوضة ، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة ، فإن الربح يتحقق بالبيع ، ويتوقع بالشراء ، والثاني هو الأولى. (إِقامِ الصَّلاةِ) إقامتها لوقتها. (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. (تَتَقَلَّبُ) تضطرب وتتغير من الهول والخوف في يوم القيامة ، فهو اليوم المراد.

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلق ب (يُسَبِّحُ) أو (لا تُلْهِيهِمْ) أو (يَخافُونَ). (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي أحسن جزاء أو ثواب عملهم ، و (أَحْسَنَ) بمعنى حسن.

المناسبة :

بعد أن بين الله تعالى كون نوره سبيلا لهداية عباده ، بما أقام لهم من الآيات البينات ، ذكر هنا حال المنتفعين بذلك النور.

٢٤٩

التفسير والبيان :

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ، وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) هذا متعلق بما قبله أي كمشكاة كائنة في مساجد أمر الله أن ترفع بالبناء أو التعظيم بتطهيرها من الأنجاس الحسية ، والمعنوية مثل الشرك والوثنية ولغو الحديث ، ويخصص الدعاء والعبادة فيها لله ، ويذكر فيها اسم الله بتوحيده ، أو بتلاوة كتابه.

قال قتادة : هي هذه المساجد ، أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها. وقال ابن عباس : «المساجد : بيوت الله في الأرض ، تضيء لأهل السماء ، كما تضيء النجوم لأهل الأرض». وقال عمرو بن ميمون : «أدركت أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يقولون : المساجد بيوت الله ، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها». وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من بنى مسجدا لله يبتغي به وجه الله ، بنى الله له مثله في الجنة».

والسبب في جعل المشكاة في مساجد : أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم ، فكان أضوأ ، فكان التمثيل به أتم وأكمل ، كما قال الرازي.

(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي ينزه الله ويقدسه ويصلي في تلك المساجد في أوائل النهار بكرة وغدوة ، وأواخره في الآصال والعشايا رجال لا تشغلهم الدنيا والمعاملات الرابحة عن ذكر الله وحده ، وإقامة الصلاة لوقتها ، وأداء الزكاة المفروضة عليهم للمستحقين.

وقوله : (رِجالٌ) فيه إشعار بهمتهم العالية ، وعزيمتهم الصادقة ، التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ، وشكره وتوحيده وتنزيهه ،

٢٥٠

كما قال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب ٣٣ / ٢٣]. والمراد بقوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) غير الصلاة ، منعا من التكرار. وخص التجارة بالذكر ؛ لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة.

وشبيه الآية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [المنافقون ٦٣ / ٩].

ويستدل بكلمة (رِجالٌ) على أن صلاة الجماعة مطلوبة من الرجال ، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن ؛ لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها». وروى الإمام أحمد عن أم سلمة رضي‌الله‌عنها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير مساجد النساء قعر بيوتهن».

وتخصيص المساجد بالذكر ؛ لأنها مصدر إشعاع عقدي وفكري وتنظيمي وسلوكي وعلمي وسياسي في حياة المسلمين.

وسبب انصراف الرجال إلى العبادة الخوف من عذاب الله كما قال : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي إن الرجال الذين يؤدون الصلاة جماعة في المساجد يخافون عقاب يوم القيامة الذي تضطرب فيه القلوب والأبصار من شدة الفزع والهول ، كقوله تعالى : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم ١٤ / ٤٢] وقوله عزوجل : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) [الدهر ٧٦ / ١٠].

وعاقبة أمرهم ما قال الله تعالى :

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يذكرون الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ليثيبهم الله ثوابا يكافئ حسن عملهم ، فهم الذين

٢٥١

يتقبل حسناتهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم ، ويضاعف لهم الجزاء الحسن ، كقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام ٦ / ١٦٠] وقوله سبحانه : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦] وقوله عزوجل : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة ٢ / ٢٦١]. وقال الله تعالى في الحديث القدسي فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إن الله تعالى واسع الفضل والإحسان يرزق من يريد ويعطي من يشاء ، بغير عدّ ولا إحصاء ، والله على كل شيء قدير.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن أول موضع تظهر فيه هداية الله ونوره هو في المساجد التي يشيد بناءها المؤمنون ، ويعمرونها بالصلاة والأذكار في أوائل النهار وأواخره ، والمساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض ، كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن.

روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحبّ الله عزوجل فليحبني ، ومن أحبّني فليحبّ أصحابي ، ومن أحب أصحابي ، فليحبّ القرآن ، ومن أحبّ القرآن فليحبّ المساجد ، فإنها أفنية الله أبنيته ، أذن الله في رفعها ، وبارك فيها ، ميمونة ميمون أهلها ، محفوظة محفوظ أهلها ، هم في صلاتهم ، والله عزوجل في حوائجهم ، هم في مساجدهم والله من ورائهم».

٢ ـ يأمر الله بعمارة المساجد عمارة حسية بالبناء ، وعمارة معنوية بالصلاة

٢٥٢

وتلاوة القرآن والأذكار وحلقات التعليم ، كما قال تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة ٩ / ١٨] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه ابن ماجه عن عليّ : «من بنى لله مسجدا ، بنى الله له بيتا في الجنة» وروى ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أخرج أذى من المسجد ، بنى الله له بيتا في الجنة» وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد ، فاشهدوا له بالإيمان ، إن الله تعالى يقول : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

أما زخرفة المساجد فبعضهم أباحها ؛ لأن فيها تعظيم المساجد ، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي تعظّم. وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسّاج (١) وحسّنه. قال أبو حنيفة : لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب ، ونقش عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه ، زمن ولايته على المدينة قبل خلافته ، ولم ينكر عليه أحد ذلك.

وكرهه قوم لما أخرجه أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد».

وتصان المساجد وتنزه عن الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغيرها ، وذلك من تعظيمها ، جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن جابر : «من أكل ثوما أو بصلا فلا يغشانا في مساجدنا» أو «فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا ، وليقعد في بيته».

والمساجد فيما ذكر كلها سواء ، للحديث المتقدم ولحديث ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في غزوة تبوك فيما رواه أحمد ومسلم عن أبي سعيد : «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة ـ يعني الثّوم ـ شيئا فلا يقربنا في المسجد».

__________________

(١) أحسن أنواع الخشب المأخوذ من شجر معروف في الهند.

٢٥٣

وتصان المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الأشغال الدنيوية ؛ لما أخرجه مسلم عن بريدة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرجل الذي نادى على الجمل الأحمر : «لا وجدت ، إنما بنيت المساجد لما بنيت له». وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد ، وعن البيع والشراء فيه ، وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة. ولكن روي في حديث آخر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخص في إنشاد الشعر في المسجد.

ويكره رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره في رأي مالك وجماعة ، لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه : «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد ، فليقل : لا ردّها الله عليك ، فإن المساجد لم تبن لهذا». وأجاز أبو حنيفة وأصحابه رفع الصوت في الخصومة (التقاضي) والعلم ؛ لأنه لا بد لهم من ذلك.

ويجوز عند المالكية النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء ، ومن لا بيت له ، فقد أنزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صفّة المسجد رهطا من عكل. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب ، لا أهل له ، في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ويكره عند الشافعية النوم في المساجد.

ويسن الدعاء عند دخول المسجد ؛ روى مسلم عن أبي أسيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك». وبعد الدخول يسن صلاة ركعتين تحية المسجد ؛ لما روى مسلم أيضا عن أبي قتادة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس».

٣ ـ وصف الله تعالى المسبّحين في المساجد بأنهم المراقبون أمر الله ، الطالبون

٢٥٤

رضاءه ، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا. قال كثير من الصحابة : نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة ، تركوا كل شغل وبادروا. وهم أيضا في مبادرتهم إلى صلاة الجماعة في المساجد يخافون عذاب يوم القيامة.

٤ ـ يكافئ الله ويجازي على الحسنات ويضاعف الثواب إلى عشر أمثاله. والله يرزق من يشاء من عباده من غير أن يحاسبه على ما أعطاه ؛ إذ لا نهاية لعطائه.

حال الكافرين في الدنيا وخسرانهم في الآخرة

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

الإعراب :

(كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) : (كَسَرابٍ) : جار ومجرور في موضع رفع خبر المبتدأ وهو أعمالهم. و (بِقِيعَةٍ) في موضع جر صفة سراب أي كسراب كائن بقيعة ، وقيعة : جمع قاع كجيرة جمع جار ، و (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) جملة فعلية في موضع جرّ صفة ل (كَسَرابٍ) أيضا. و (شَيْئاً) منصوب على المصدر ، أي لا شيء هناك.

(يَغْشاهُ مَوْجٌ) جملة فعلية في موضع جر صفة ل (بَحْرٍ). و (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) وكذا (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) يرتفع موج وسحاب بالظرف عند سيبويه ، وعند الأخفش لجريه صفة على المذكور المرفوع بأنه فاعل. و (كَظُلُماتٍ) إما مرفوع بدلا من (سَحابٌ) أو على تقدير مبتدأ محذوف ، أي هي ظلمات ، وإما مجرور بدلا من (كَظُلُماتٍ) الأولى.

٢٥٥

البلاغة :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) وكذلك (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) كل منهما تشبيه تمثيلي رائع وبديع.

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي حالهم على ضدّ حال المؤمنين ، فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها في الآخرة لاغية مخيبة للآمال. (كَسَرابٍ) هو ما يرى في عين الإنسان أثناء سيره في الفلاة من لمعان الشمس وقت الظهيرة في شدة الحر ، فيظن أنه ماء جار أو راكد على وجه الأرض. (بِقِيعَةٍ) جمع قاع ، أي فلاة ، وهو ما انبسط من الأرض. (يَحْسَبُهُ) يظنه. (الظَّمْآنُ) العطشان ، وخص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند ما تمسّ الحاجة إلى الظفر بثمرة عمله. (حَتَّى إِذا جاءَهُ) جاء ما تو همه ماء أو جاء موضعه. (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) مما ظنه أو حسبه ، وكذلك الكافر يحسب أن عمله كالصدقة ينفعه ، حتى إذا مات وقدم على ربه ، يجد عمله لم ينفعه. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي عند عمله. (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) جازاه عليه في الدنيا. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي المجازاة ، لا يشغله حساب عن حساب.

(أَوْ كَظُلُماتٍ) أي والذين كفروا أعمالهم السيئة في الدنيا كالظلمات المتراكمة و (أَوْ) إما للتخيير فإن أعمال الكفار لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب ، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة في لج البحر والأمواج والسحاب ، وإما للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب ، وإن كانت قبيحة فكالظلمات ، وإما للتقسيم باعتبار وقتين وهو الظاهر ، فإنها كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة.

(فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) عميق ، أو ذي لجّ وهو معظم الماء ، والمقصود : بحر عميق الماء كثيره ذو طبقات. (يَغْشاهُ) يغطيه. (مِنْ فَوْقِهِ) الظلمة الأولى أي الموج. (مِنْ فَوْقِهِ) والظلمة الثانية أي الموج الثاني ، والمراد بظلمات البحر : أمواج متراكمة مترادفة ، والمراد بالسحاب : سحاب غطى النجوم وحجب أنوارها. والسحاب : غيم. (كَظُلُماتٍ) أي هذه ظلمات : ظلمة البحر ، وظلمة الموج الأول وظلمة الثاني ، وظلمة السحاب. (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) أخرج الناظر يده في هذه الظلمات وهي أقرب شيء إليه. (لَمْ يَكَدْ يَراها) لم يقرب من رؤيتها فضلا عن أن يراها. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أي من لم يهده الله لم يهتد ، والمراد من لم يوفقه لأسباب الهداية لم يكن مهتديا.

٢٥٦

سبب النزول :

نزول الآية (٣٩):

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) : روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية ، قد كان تعبّد في الجاهلية ، ولبس المسوح ، والتمس الدّين ، فلما جاء الإسلام كفر. وقيل : في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافرا.

المناسبة :

بعد بيان حال المؤمنين ، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله ، وبسببه يتمسكون بالعمل الصالح ، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، أتبع ذلك ببيان حال الكافرين ، فإنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران ، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات ، وضرب لكل من الحالين مثلا ، أما المثل الأول الدال على الخيبة في الآخرة فهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) وأما المثل الثاني لأعمالهم في الدنيا فهو (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) أي أن أعمالهم في الدنيا كظلمات في بحر.

التفسير والبيان :

هذان مثلان ضربهما الله تعالى لحالي الكفار في الآخرة والدنيا ، أو لنوعي الكفار : الداعي لكفره ، والمقلد لأئمة الكفر ، كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين : ناريا ومائيا ، وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين : مائيا وناريا أيضا.

أما المثل الأول هنا فهو قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أي إن الأعمال الصالحة التي يعملها الكفار الذين جحدوا توحيد

٢٥٧

الله وكذبوا بالقرآن وبالرسول المنزل عليه ، أو الدعاة إلى كفرهم ، الذين يظنون أنها تنفعهم عند الله ، وتنجيهم من عذابه ، ثم تخيب آمالهم في الآخرة ويلقون خلاف ما قدّروا ، شبيهة بسراب يراه الإنسان العطشان في فلاة أو منبسط من الأرض ، فيحسبه ماء ، فيأتيه ، فلا يجد ما رجاه. وأعمالهم الصالحة : مثل صلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء وإقامة المشاريع الخيرية.

وهكذا حال الكافرين في الآخرة يحسبون أعمالهم نافعة لهم ، منجّية من عذاب الله ، فإذا جاء يوم القيامة وقوبلوا بالعذاب ، فوجئوا أن أعمالهم لم تنفعهم ، وإنما يجدون زبانية الله تأخذهم إلى جهنم ، التي يسقون فيها الحميم والغساق ، وهم الذين قال الله فيهم : (قُلْ : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ..) الآيات [الكهف ١٨ / ١٠٢ ـ ١٠٦]. وقال تعالى هنا : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ، وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي ووجد عقاب الله وعذابه الذي توعد به الكافرين ، فجازاه الله الجزاء الأوفى على عمله في الدنيا ، والله سريع المجازاة ، لا يشغله حساب عن حساب ، كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣]. هذا حالهم في الآخرة ، أو حال الكفار الدعاة إلى الكفر.

والخلاصة : أن الكفار سيصطدمون بالخيبة والخسارة في الآخرة ، فلا يجدون ما ينفعهم ولا ما ينجيهم.

أما المثل الثاني لحالهم في الدنيا أو حال الكفار الجهلة المقلدين لأئمة الكفر فهو كما قال تعالى :

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي إن مثل أعمال الكفار التي يعملونها في الدنيا على غير هدى ،

٢٥٨

أو مثل الذين يقلدون غيرهم ، مثل ظلمات متراكمة في بحر عميق كثير الماء ، تغمره الأمواج المتلاطمة ، ويحجب نور الكواكب السماوية غيم كثيف ، فهي ظلمات ثلاث : ظلمة البحر ، وظلمة الموج ، وظلمة السحاب ، وكذا الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل ، وهذه الظلمات حجبت عنه رؤية الحق وإدراك ما في الكون من عظات وآيات ترشد إلى الطريق الأقوم. قال الحسن : الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل. وقال ابن عباس : شبهوا قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث.

والمقصود من هذا المثل بيان أن الكافر تراكمت عليه أنواع الضلالات في الدنيا ، فصار قلبه وبصره وسمعه في ظلمة شديدة كثيفة ، لم يعد بعدها قادرا على تمييز طرق الصواب ومعرفة نور الحق. لذا قال تعالى : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي إن تلك الظلمات الثلاث ظلمات متراكمة مترادفة ، بعضها يعلو البعض الآخر ، حتى إنه إذا مدّ الإنسان يده ، وهي أقرب شيء إليه ، لم يقرب أن يراها ، فضلا عن أن يراها ، ومعنى «لم يكد» : لم يقارب الوقوع ، والذي لم يقارب الوقوع لم يقع.

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أي من لم يهده الله ولم يوفقه إلى الهداية ، فهو هالك جاهل خاسر ، في ظلمة الباطل لا نور له ، ولا هادي له ، كقوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف ٧ / ١٨٦]. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد ١٣ / ٣٣] ، (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ، وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم ١٤ / ٢٧]. وهذا مقابل لما قال في مثل المؤمنين (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

٢٥٩

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات مثلين لأعمال الكفار فهي إما كسراب خادع في فلاة أو صحراء ، وإما كظلمات ، والمثل الأول كما اختار الرازي دال على خيبة الكافر في الآخرة ، والثاني دال على كون أعمالهم في متاهات وضلالات وظلمات يصعب اختراقها وتجاوزها ، لكون قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم في ظلمة حالكة ، يتخبط فيها ، فلا يدري ما هو الصواب ، وهو أيضا جاهل لا يدري أنه لا يدري.

ويستفاد من الآيات أن شرع الله ونظامه هو النور الصحيح المرشد لخيري الدنيا والآخرة ، وأما التشريع المخالف لشرع الله فهو كالسراب الخادع ، والظلمات المتراكمة. وهذا كله في مجال العقيدة. أما في مجال التحضر الدنيوي فقد يكون الكافر مبدعا فيها ، متفوقا في إدراك غوامض الحياة ، مبتكرا وسائل التقدم والمدينة ، ولكنه عن الآخرة والنجاة فيها غافل جاهل.

قال ابن عباس في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أي من لم يجعل الله له دينا فماله من دين ، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة ، لم يهتد إلى الجنة ؛ كقوله تعالى : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) [الحديد ٥٧ / ٢٨].

والسبب في إحباط أعمال الكافر وإهدارها : أنها لا تعتمد على أصل صحيح وهو الإيمان بالله تعالى ، والله لا يقبل عملا إلا من مؤمن معترف بالله وبصفاته ، موحد له توحيدا تاما كاملا لتصح نية عمله.

والخلاصة : أن المثلين المذكورين في الآيتين هما تحذير وتنبيه للكفار ، فمن عقل كلام الله وتدبر فيه ، صحح اعتقاده ، فيصلح له عمله ويستقيم في الدنيا ، ومن ظل مصرا على كفره ، معرضا عن التأمل في آيات ربه ، لقي جزاء عسيرا ، وعقابا أليما ، ولم ينفعه أي عمل صالح ، ينجّيه من عذاب الله يوم القيامة.

٢٦٠