التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

يمنع وجوب الحد وصحة اللعان. وقال الثوري والمزني : لا يسقط الحدّ عن القاذف ؛ لأن المقذوف كان محصنا في حال القذف ، ويعتبر الإحصان والعفة حال القذف لا بعده.

ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا ، فالزوج يلاعن لدفع الحد عنه ، والزوجة لدرء العقاب وهو حد الزنى. فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدرء الحد ، ولم تلاعن هي ؛ لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء.

٨ ـ إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى ، أحدهم زوجها ، فإن الزوج في رأي المالكية يلاعن وتحدّ الشهود الثلاثة إذ لا يصح أن يكون أحد الشهود. وقال أبو حنيفة : إذا شهد الزوج والثلاثة ، قبلت شهادتهم ، وحدّت المرأة.

٩ ـ إذا أبى الزوج اللعان ، فلا حدّ عليه عند أبي حنيفة ، ويسجن أبدا حتى يلاعن ؛ لأن الحدود لا تؤخر. وقال الجمهور : إن لم يلاعن الزوج حدّ ؛ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي ، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهود حدّ ، فكذلك الزوج إن لم يلاعن.

وإذا امتنعت الزوجة من اللعان ترجم في رأي الجمهور. ولا ترجم عند الحنفية.

١٠ ـ كيفية اللعان :بعد نزول آيات اللعان أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوة عويمر العجلاني وزوجته وشريك بن سحماء ، وقال لعويمر : اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها ، فقال : يا رسول الله ، أقسم بالله ، إني رأيت شريكا على بطنها ، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غيري.

فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت ، فقالت : يا رسول الله ، إن عويمرا رجل غيور ، وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ، ويتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال.

١٦١

فنودي «الصلاة جامعة» فصلى العصر ، ثم قال لعويمر : قم وقل : أشهد بالله ، إن خولة لزانية ، وإني لمن الصادقين ، ثم قال : قل : أشهد بالله ، إني رأيت شريكا على بطنها ، وإني لمن الصادقين ، ثم قال : قل : أشهد بالله ، إنها حبلى من غيري ، وإني من الصادقين ، ثم قال : قل : أشهد بالله ، إنها زانية ، وإني ما قربتها منذ أربعة شهور ، وإني لمن الصادقين ، ثم قال : قل : لعنة الله على عويمر (أي نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال ، ثم قال : اقعد.

وقال لخولة : قومي ، فقامت ، وقالت : أشهد بالله ، ما أنا بزانية ، وإن عويمرا زوجي لمن الكاذبين ، وقالت في الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني ، وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الثالثة : إني حبلى منه ، وقالت في الرابعة : أشهد بالله ، إنه ما رآني على فاحشة قط ، وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله ، ففرّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما.

وفي رواية أخرى لابن عباس عند الإمام أحمد : «فلما كانت الخامسة ، قيل له : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها ، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.

ثم قيل للمرأة : اشهدي أربع شهادات بالله ، إنه لمن الكاذبين ، وقيل لها عند الخامسة : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة ، وهمت بالاعتراف ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

ففرّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ، ولا يرمى

١٦٢

ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها ، فعليه الحد ، وقضى ألا بيت لها عليه ، ولا قوت لها ، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.

وقال : «إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين ، فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا ، خدلج الساقين ، سابغ الأليتين ، فهو الذي رميت به» فجاءت به على النعت المكروه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن».

يفهم من الآية وهذه الحادثة كيفية اللعان ، وهو أن يقول الحاكم للملاعن : قل أربع مرات : أشهد بالله ، إني لمن الصادقين ، وفي المرة الخامسة ، قل : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.

وتشهد المرأة أربع مرات : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ، وفي المرة الخامسة تقول : غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

ويكتفى بدلالة الحال والقرائن عن ذكر متعلق الصدق والكذب ، أي فيما رماها به من الزنى ونفي الولد ، وفيما اتهمها به.

ولا بد من الحلف خمس مرات من كل منهما ، ولا يقبل من الزوج إبدال اللعنة بالغضب ، ولا يقبل من الزوجة إبدال الغضب باللعنة.

وظاهر الآية وهو مذهب الجمهور البداءة في اللعان بما بدأ الله به ، وهو الزوج ، وفائدته درء الحد عنه ، ونفي النسب منه ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البينة وإلا حدّ في ظهرك» ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز ؛ لأنه عكس ما رتبه الله تعالى. وقال أبو حنيفة : يجزئ إن بدأت هي بلعانها. وسبب الخلاف : أن الجمهور يرون أن لعان الزوج موجب للحد على الزوجة ، ولعانها يسقط ذلك الحد ، فكان من المعقول أن يكون لعانها متأخرا عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجبا لشيء قبلها ، فلا حاجة لأن يتأخر لعانها عن لعانه.

١٦٣

وإذا كانت المرأة حاملا ، وأراد الزوج نفي الحمل عنه قال : وأن هذا الحمل ليس مني ، وهذا رأي الجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا لعان لنفي الحمل ، وينتظر حتى تضع ، فيلاعن لنفيه.

وإذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه ، تعرض له في اللعان.

ويقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد. ويعظهما القاضي أو نائبه عند ابتداء اللعان وقبل الخامسة من الشهادات ، بأن يذكرهما ويخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا. ويحضر اللعان جمع من عدول المسلمين.

١١ ـ آثار اللعان وما يترتب عليه : يترتب على اللعان :

أولا ـ إسقاط حد القذف عن الزوج ، وإيجاب حد الزنى على الزوجة ؛ لأن الله تعالى قال : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) والشهادة من الأجنبي تسقط حد القذف عن القاذف ، وتوجب حد الزنى على المقذوف ، والله تعالى أقام شهادة الزوج مقام شهادة الأجنبي. ثم قال تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) والمراد منه عذاب الدنيا ؛ لأن (أل) للعهد المذكور في قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي عذاب حد الزنى ، ولا يصح أن يراد منه عذاب الآخرة ؛ لأن لعان الزوجة إن كانت كاذبة لا يزيدها إلا عذابا في الآخرة ، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان ، فتعين أن يراد به عذاب الدنيا. ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخولة بنت قيس : «الرجم أهون عليك من غضب الله» فقد فسر صلى‌الله‌عليه‌وسلم العذاب المدروء عنها بالرجم.

وأصرح من ذلك قوله لخولة قبل الشهادة الخامسة : «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» أي الحد ، لا الحبس. وهذا قول الجمهور.

وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته ،

١٦٤

ولكن لعانه لا يوجب حد الزنى على الزوجة ؛ لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود ، أو بالإقرار أربع مرات.

ويترتب على هذا الخلاف : حكم الممتنع عن اللعان من الزوجين ، فعلى رأي الجمهور كما تقدم : إن امتنع الزوج من اللعان يحد ؛ لأن اللعان رخصة له ، فلما أبى أن يلاعن ، فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة ، فصار حكمه وحكم غير الزوج سواء. وإن امتنعت الزوجة يقام عليها حد الزنى وهو الرجم إن كانت محصنة.

وعلى رأي الحنفية : إذا امتنع الزوج من اللعان ، حبس حتى يلاعن ، كما بينا ؛ لأن اللعان حق توجه عليه ، يستوفيه الحاكم منه بالقهر والتعزير ، فيكون له حبسه حتى يلاعن أو يكذب نفسه في القذف ، فيقام عليه حده. ورأي الجمهور هو الصواب عملا بظاهر الآية.

ثانيا ـ يترتب على اللعان أيضا نفي الولد ، كما ثبت في حادثة هلال بن أمية.

ثالثا ـ الفرقة بين المتلاعنين : قال مالك وأحمد : بتمام اللعان تقع الفرقة بين الزوجين المتلاعنين ، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان ، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل الزواج من زوج آخر ولا بعده ، كما ثبت في السنة الصحيحة ، روى الدارقطني عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا».

ورأى الشافعي أن الفرقة تحصل بمجرد لعان الزوج ؛ لأنها فرقة بالقول ، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق ، ولا تأثير للعان الزوج إلا في دفع العذاب (حد الزنى) عن نفسها. واتفق الشافعي ومالك وأحمد على وقوع التحريم المؤبد بين المتلاعنين. وهذا هو الظاهر من الآيات.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تقع الفرقة باللعان حتى يفرق الحاكم بينهما

١٦٥

لقول ابن عمر وابن عباس : «فرّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المتلاعنين» فأضاف الفرقة إليه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا سبيل لك عليها». وإن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب ؛ لقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء ٤ / ٣] وقوله سبحانه : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء ٤ / ٢٤].

١٢ ـ ما يحتاج إليه اللعان : يحتاج اللعان إلى أربعة أشياء :

الأول ـ عدد الألفاظ وهو أربع شهادات ، كما تقدم.

الثاني ـ المكان : وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان : إن كان بمكة فعند الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها.

الثالث ـ الوقت : وذلك بعد صلاة العصر.

الرابع ـ جمع الناس : بأن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا. فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والزمان والمكان مستحبان.

١٣ ـ إذا قذف الرجل مع زوجته أجنبيا : فقال أبو حنيفة ومالك : لكل منهما حكمه ، فيلاعن للزوجة ويحد للأجنبي.

وقال أحمد : عليه حد واحد لهما ، ويسقط هذا الحد بلعانه ، سواء ذكر المقذوف في لعانه أم لا.

وقال الشافعي : إن ذكر المقذوف في لعانه ، سقط الحدّ له ، كما يسقط للزوجة ، وإن لم يذكره في لعانه حدّ له.

ودليل أحمد والشافعي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء ، وقد سماه صريحا ، وأن الزوج مضطر إلى قذف الزاني.

١٦٦

١٤ ـ استدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين ، لقول الزوج : «لعنة الله عليه» مما يدل على جواز لعن الشخص المقطوع بكذبه.

واستدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج : إن الزنى والكذب في القذف كفر ؛ لأن الزوج إن كان صادقا فزوجته زانية ، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه ، فأحدهما لا محالة كافر مرتد ، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.

١٥ ـ قال العلماء : لا يحل للرجل قذف زوجته إلا إذا علم زناها أو ظنه ظنا مؤكدا ، والأولى به تطليقها ، سترا عليها ، ما لم يترتب على فراقها مفسدة. فإن أتت بولد علم أنه ليس منه ، وجب عليه نفيه ، وإلا كان بسكوته مستلحقا ما ليس منه ، وهو حرام ، كما يحرم عليه نفي من هو منه. وإنما يعلم أن الولد ليس منه إذا لم يطأها أصلا ، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء ، فإن أتت به لستة أشهر فأكثر ، فإن لم يستبرئها بحيضة حرم النفي ، وإن استبرأها بحيضة ، حلّ النفي ، على رأي القائلين بأن الحامل لا تحيض (١).

الحكم الخامس

قصة الإفك

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ

__________________

(١) انظر مذكرات تفسيرات الأحكام الأستاذ المرحوم محمد على السايس : ٢ / ١٣٢ ـ ١٤٤

١٦٧

خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))

الإعراب :

(عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عُصْبَةٌ) : خبر (إِنَ) ويجوز أن ينصب ، ويكون خبر (إِنَ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ).

١٦٨

البلاغة :

(لَوْ لا) في المواضع المختلفة ، أي هلا للحض بقصد التوبيخ على التقصير والتسرع في الاتهام.

(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) طباق بين الشر والخير.

(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) طباق بين الهيّن والعظيم.

(ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) الأصل أن يقال : ظننتم ، لكن استعمل بطريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، مبالغة في التوبيخ ، ولفت نظر إلى أن الإيمان يقتضي حسن الظن.

(سُبْحانَكَ) معناه تنزيه الله تعالى عند رؤية عجائب صنعه ، للإشارة إلى أن مثل ذلك لا يخرج عن قدرته ، ثم استعمل في كل متعجب منه.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فيه تهييج وتقريع. (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) استعارة ، شبه سلوك طريق الشيطان بمن يتبع خطوات غيره خطوة خطوة.

(أَنْ يُؤْتُوا) فيه إيجاز بالحذف ، أي ألا يؤتوا ، حذفت منه (لا) لدلالة المعنى.

(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) المراد أبو بكر الصدّيق ، وخاطبه بصيغة الجمع للتعظيم.

المفردات اللغوية :

(بِالْإِفْكِ) أبلغ الكذب وأسوأ الافتراء على عائشة رضي‌الله‌عنها أم المؤمنين بقذفها. (عُصْبَةٌ) جماعة ، وكثر إطلاقها على العشرة إلى الأربعين ، وهم عبد الله بن أبيّ ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين وزوجة طلحة بن عبيد الله ، ومن ساعدهم. (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) لا تظنوه شرا أيها المؤمنون غير العصبة ، وهو خطاب مستأنف ، والشر : ما غلب ضرره على نفعه. (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) يأجركم الله به ، ويظهر براءة عائشة وكرامتكم على الله ، بإنزال ثماني عشرة آية (١) في براءتكم ، وتعظيم شأنكم ، وتهويل الوعيد لمن أساء الظن بكم ، كما ذكر البيضاوي.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي لكلّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه من السوء ، مختصا به. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) أي تولى معظمه من الخائضين ، وهو عبد الله بن

__________________

(١) الظاهر أن هذه الآيات هي (١١ ـ ٢٨) المختتمة بقوله تعالى : وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. والأصح ما رواه الطبراني عن الحكم بن عتبة أن الله أنزل فيها خمس عشرة آية ، أي إلى الآية (٢٦).

١٦٩

أبيّ ، فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة ، أو في الدنيا ، بأن جلدوا ، وصار ابن أبيّ مطرودا مشهورا بالنفاق ، وحسان أعمى وأشل اليدين ، ومسطح مكفوف البصر. (لَوْ لا) هلا. (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) ظن بعضهم ببعض. (إِفْكٌ مُبِينٌ) كذب بيّن واضح ، وفيه التفات أي ظننتم أيها العصبة وقلتم (لَوْ لا) هلا ، للحث على فعل ما بعدها. (جاؤُ) العصبة. (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) شاهدوه. (عِنْدَ اللهِ) في حكمه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) لو لا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره ، أي لو لا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة ، المقرران لكم. (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) لمسّكم عاجلا أيها العصبة فيما خضتم فيه (عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة ، يستحقر دونه اللوم والجلد.

(إِذْ) ظرف (لَمَسَّكُمْ) أو (أَفَضْتُمْ). (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي يرويه بعضكم عن بعض ، وأصله : تتلقونه ، وهو بمعنى تتلقفونه ، فحذف منه إحدى التاءين. (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) تظنونه امرأ يسيرا لا إثم فيه ، أو لا تبعة فيه. (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) أي وهو في حكم الله عظيم في الوزر والإثم ، والمعنى : هذه ثلاثة آثام مترتبة ، علّق بها استحقاق العذاب العظيم وهي تلقي الإفك بألسنتهم ، والتحدث به من غير تحقق ، واستصغارهم شأنه ، وهو عظيم عند الله وفي حكمه.

(ما يَكُونُ لَنا) ما ينبغي لنا وما يصح. (سُبْحانَكَ) تعجب ممن يقول ذلك ، وأصله أن يذكر عند كل متعجب ، تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ، ثم كثر استعماله في كل متعجب. (بُهْتانٌ) كذب مختلق يبهت السامع ، لعدم علمه به. (يَعِظُكُمُ) ينصحكم وينهاكم. (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) كراهة أن تعودوا لمثله ، أو في أن تعودوا لمثله. (أَبَداً) ما دمتم أحياء مكلفين. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فتتعظون بذلك ، فإن الإيمان يمنع عنه.

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي يوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالأحوال كلها ، وبما يأمر به وينهى عنه. (حَكِيمٌ) في تدبيره.

(يُحِبُّونَ) يريدون أي العصبة. (أَنْ تَشِيعَ) أن تنتشر وتظهر. (الْفاحِشَةُ) الفعل القبيح المفرط القبح ، وهو الزنى. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) مؤلم وهو حد القذف. (وَالْآخِرَةِ) بدخول النار أو السعير ، رعاية لحق الله تعالى. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في الضمائر ، ويعلم انتفاء الفاحشة عن المؤمنين. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي أنتم أيها العصبة بما قلتم من الإفك لا تعلمون وجودها فيهم.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) تكرار لبيان المنة بترك تعجيل العقاب ، للدلالة على

١٧٠

عظم الجريمة. (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) بكم ، وجواب لو لا محذوف تقديره : لعاجلكم بالعقوبة. (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي طرق تزيينه ونزغاته ووساوسه ، بإشاعة الفاحشة. (فَإِنَّهُ) أي المتّبع. (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي القبيح المفرط في القبح. (وَالْمُنْكَرِ) ما تنكره النفوس وتنفر منه وينكره الشرع. وهو بيان لعلة النهي عن اتباعه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالتوفيق إلى التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها. (ما زَكى) ما طهر من دنس الذنوب. (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أيها العصبة بما قلتم من الإفك. (أَبَداً) آخر الدهر ، أي ما طهر من هذا الذنب بالتوبة أحدا مطلقا. (يُزَكِّي) يطهر من الذنب. (مَنْ يَشاءُ) بقبول توبته منه. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالتهم. (عَلِيمٌ) بنياتهم.

(وَلا يَأْتَلِ) لا يحلف ، من الألية وهي الحلف. (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) في الدين. (وَالسَّعَةِ) في المال أي أصحاب الغنى والثراء ، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي‌الله‌عنه وشرفه. (أَنْ يُؤْتُوا) على ألا يؤتوا. (وَلْيَعْفُوا) لما فرط منهم أي يمحوا الذنوب. (وَلْيَصْفَحُوا) بالإغضاء عنه. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مع كمال قدرته ، فتخلقوا بأخلاقه.

سبب النزول أو قصة الإفك في السنة النبوية الصحيحة :

روى الأئمة منهم أحمد ، والبخاري تعليقا ، ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي‌الله‌عنها قالت(١):

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر ، أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها ، خرج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه ، فأقرع بيننا في غزوة غزاها (٢) ، فخرج فيها سهمي (نصيبي) وخرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بعد ما نزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه ، فسرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته تلك ، وقفل ، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذن بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٦٨ وما بعدها.

(٢) هي غزوة بني المصطلق ، وهي غزوة المريسيع.

١٧١

أقبلت إلى رحلي ، فلمست صدري ، فإذا عقد لي من جزع ظفار (١) قد انقطع.

فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلونني ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على البعير الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه.

وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ، ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل ، وساروا ، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم ، وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدونني ، فيرجعون إلي.

فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيناي فنمت ، وكان صفوان بن المعطّل السّلمي ثم الذّكواني قد عرّس (٢) من وراء الجيش ، فأدلج (٣) ، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني ، فعرفني حين رآني ، وقد كان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه (٤) حين عرفني ، فخمّرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا في نحر الظّهيرة (٥).

__________________

(١) الجزع : خرز معروف في سواده بياض كالعروق ، وظفار : مدينة باليمن.

(٢) التعريس : نزول القوم في السفر من آخر الليل للاستراحة في بقعة ، ثم يرتحلون.

(٣) أدلج : سار من أول الليل.

(٤) الاسترجاع : أن يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون.

(٥) وسط النهار عند الظهر أي وقت الظهيرة.

١٧٢

فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول.

فقدمنا المدينة ، فاشتكيت (١) حين قدمناها شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني (٢) في وجعي أني لا أرى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلّم ثم يقول : «كيف تيكم؟» ـ تي : إشارة إلى المؤنث ـ فذلك الذي يريبني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعد ما نقهت (٣) ، وخرجت معي أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا ، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف (٤) قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرّية ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا.

فانطلقت أنا وأم مسطح ـ وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدّيق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب ـ فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي ، حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها (٥) ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئسما قلت ، تسبّين رجلا شهد بدرا؟

فقالت : أي هنتاه (٦) ، ألم تسمعي ما قال؟ قلت : وما ذا قال؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي ،

__________________

(١) اشتكى عضوا من أعضائه : مرض وأحس بألم فيه.

(٢) يريبني : يوقعني في الريبة والشك.

(٣) نقه من المرض : صحّ.

(٤) المتبرّز : موضع التبرز ، والكنف : جمع كنيف : المكان المخصص لقضاء الحاجة.

(٥) المرط : واحد المروط : وهي أكسية من صوف أو خزّ كان يؤتزر بها.

(٦) هنتاه : الهنة : هي الشيء الذي يستقبح ، والمراد هنا الندبة المشوبة بالتعجب من الفعلة القبيحة لمسطح.

١٧٣

دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلّم ، ثم قال : «كيف تيكم؟» فقلت له :

أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال : نعم ، قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ، لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت : أي بنية ، هوّني عليك ، فو الله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.

قالت : فقلت : سبحان الله! وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي.

قالت : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد ، فأشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود ، فقال أسامة : يا رسول الله ، أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب ، فقال : يا رسول الله ، لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر.

قالت : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة فقال : «هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟» فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ، إن ـ أي ما ـ رأيت منها أمرا قطّ أغمصه (١) عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الدواجن فتأكله.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يومه ، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال وهو على المنبر : «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ـ يعني عبد الله بن أبي ـ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا

__________________

(١) غمصه : استصغره ولم يره شيئا.

١٧٤

رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي».

فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي‌الله‌عنه ، فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا ، ففعلنا أمرك.

فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله ، لا تقتله ، ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة ، كذبت ، لعمر الله لنقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافق ، فتثاور الحيان : الأوس والخزرج ، حتى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر ، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ، وسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي ، فبينما هما جالسان عندي ، وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلّم ثم جلس ، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء.

فتشهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جلس ، ثم قال : «أما بعد ، يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب ، فاستغفري الله ، وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ، وتاب ، تاب الله عليه».

فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته ، قلص دمعي ، حتى ما أحسّ منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ، فقال : والله ما أدري ما أقول

١٧٥

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : والله ، ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت ـ وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيرا من القرآن ـ : والله لقد علمت ، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم ، وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني ، ولئن اعترفت بأمر ، والله يعلم أني بريئة ، لتصدّقنّي ، إني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف ١٢ / ١٨].

ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا ـ والله أعلم حينئذ أني بريئة ـ وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ، ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.

فو الله ما رام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (١) عند الوحي ، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق ، وهو في يوم شات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه.

فسرّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : «أبشري يا عائشة ، أمّا الله عزوجل فقد برّأك» فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله عزوجل ، هو الذي أنزل براءتي ، وأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآيات العشر كلها.

فلما أنزل الله هذا في براءتي ، قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، وكان ينفق على

__________________

(١) البرحاء : الشدة والانتفاضة من الجهد أو الألم.

١٧٦

مسطح بن أثاثة ، لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) ـ إلى قوله ـ (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقال أبو بكر : بلى والله ، إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا.

قالت عائشة : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمري ، فقال : «يا زينب ما ذا علمت أو رأيت؟» فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا. قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعصمها الله تعالى بالورع ، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك.

وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول : حدثتني الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المبرّأة من السماء.

المناسبة :

بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير المحارم ، وحكم قذف الزوجات ، أبان الله تعالى في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك من المنافقين ، وذكر فيها جملة من الآداب التي كان يلزمهم الإتيان بها ، والزواجر التي كان ينبغي عدم التعرض لها ، وهي تسعة كما سيأتي بيانه.

التفسير والبيان :

هذه الآيات العشر التي برأ الله فيها عائشة رضي‌الله‌عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، غيرة من الله تعالى لها ، وصونا لعرض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال سبحانه :

١٧٧

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي إن الذين أتوا بالإفك وهو أبلغ الكذب والافتراء جماعة منكم ، لا واحد ولا اثنان ، أي ما أفك به على عائشة ، بزعامة زعيم المنافقين عبد الله بن أبي ، فإنه هو الذي اختلق هذا الكذب ، وتواطأ مع جماعة صغيرة ، فأصبحوا يروجونه ويذيعونه بين الناس ، حتى دخل في أذهان بعض المسلمين ، فتكلموا به ، وبقي شيوع الخبر قريبا من شهر ، حتى نزل القرآن. وفي التعبير بعصبة إشارة إلى أنهم فئة قليلة. وقوله تعالى : (مِنْكُمْ) أي منكم أيها المؤمنون ؛ لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا.

(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لا تظنوا ـ يا آل أبي بكر وكل من تأذى بذلك الكذب واغتم ، بدليل قوله تعالى (مِنْكُمْ) ـ أن ذلك هو شر لكم وإساءة إليكم ، بل هو خير لكم في الدنيا والآخرة ، لاكتسابكم به الثواب العظيم ، وإظهار عناية الله بعائشة أم المؤمنين رضي‌الله‌عنها حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم. يتلى إلى يوم القيامة ، وتهويل الوعيد لمن تكلم في حقكم.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) لكل واحد تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة بالفاحشة نصيب من عذاب عظيم بقدر ما خاض فيه ، أو عقاب ما اكتسب.

(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي والذي تحمل معظم ذلك الإثم منهم ، وهو في رأي الأكثرين عبد الله بن أبي ، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة ، فإنه أول من اختلق هذا الخبر ، أو أنه كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه ، فمعظم الشر كان منه ، أما عذابه في الدنيا فبإظهار نفاقه ونبذه من المجتمع ، وأما في الآخرة فهو في الدرك الأسفل من النار.

١٧٨

وقيل : بل المراد به حسان بن ثابت ، قال ابن كثير : وهو قول غريب ، ولو لا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك ، لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر ، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشعره ، وهو الذي قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هاجهم وجبريل معك» (١).

ثم أدب الله تعالى المؤمنين الذين خاض بعضهم في ذلك الكلام السوء في قصة عائشةرضي‌الله‌عنها ، وزجرهم بتسعة أمور :

١ ـ (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ، وَقالُوا : هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي هلا حين سمعتم كلام الأفاكين في عائشة ظننتم بها خيرا ، عملا بمقتضى الإيمان الذي يحمل على حسن الظن ، وقلتم صراحة معلنين البراءة : هذا إفك مبين ، أي كذب مختلق واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي‌الله‌عنها ؛ فإن الذي وقع لم يكن ريبة ، لمجيئها راكبة على راحلة صفوان بن المعطّل في وقت الظهيرة ، والجيش بكماله يشاهدون ذلك ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم يكشف كل سوء وينفي كل شك ، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ، بل كان يحدث ـ لو قدّر ـ خفية مستورا.

وهذا أدب جم ، وفي التصريح بلفظ الإيمان دلالة على أن المؤمن لا يظن بالمسلمين إلا خيرا.

٢ ـ (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي هلا جاؤوا على ما قالوه بشهود أربعة يشهدون على ثبوت ما جاؤوا به ، وصحة ما قالوا ، ومعاينتهم ما رموها به ، فحين لم يأتوا بالشهود لإثبات التهمة ، فأولئك في حكم الله كاذبون فاجرون. وهذا من الزواجر.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٧٢

١٧٩

٣ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولو لا تفضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي منها الإمهال للتوبة ، ورحمته بكم في الآخرة بالعفو والمغفرة ، لعجلت بكم العقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وهذا من الزواجر أيضا. و (لَوْ لا) هنا لامتناع الشيء لوجود غيره.

٤ ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً ، وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) أي لو لا تفضل الله عليكم ورحمته لمسّكم العذاب حين تلقيكم أي تلقفكم بألسنتكم حديث الإفك وسؤال بعضكم عنه ، وإكثار الكلام فيه ، وقولكم ما لا تعلمون ، وظنكم ذلك يسيرا سهلا ، وهو في شرع الله وحكمه أمر خطير عظيم ، من عظائم الأمور وكبائرها ، لما فيه من تدنيس بيت النبوة بأقبح الفواحش ، ورد في الصحيحين : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يدري ما تبلغ ، يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض» وفي رواية : «لا يلقي لها بالا».

وهذا أيضا من الزواجر ، فقد وصفهم الله بارتكاب ثلاثة آثام ، وعلّق مسّ العذاب العظيم بها ، وهي :

الأول ـ تلقي الإفك بألسنتهم ، أي الاهتمام بالسؤال عنه وبإشاعته ، لا مجرد السماع عفوا ، وإنما يأخذه بعضهم من بعض ، ويذيعه.

الثاني ـ التكلم بما لا علم لهم به ولا دليل عليه ، وهذا منهي عنه في قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء ١٧ / ٣٦] ، وهو شبيه بقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران ٣ / ١٦٧].

الثالث ـ استصغار ذلك ، وهو عند الله تعالى عظيم الإثم ، موجب لشديد العقاب.

١٨٠