التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

١١ ـ لقد مرّ الكفار في تجربة واضحة ، فحينما جاءهم العذاب بالجوع والأمراض والحاجة ، ما خضعوا لربهم وما خشعوا له ، وما تضرعوا بالدعاء لله عزوجل في الشدائد التي تصيبهم.

١٢ ـ إن عاقبة أمر الكفار واضحة ، فهم إذا تعرضوا لعذاب الله الشديد في الآخرة ، أيسوا من كل خير ، وتحيروا لا يدرون ما يصنعون ، كالآيس من الفرج ومن كل خير ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَقالُوا : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٧ ـ ٢٩].

والخلاصة : يصرّ المشركون على إشراكهم بالرغم من الإنذارات المتكررة وتوافر الأدلة على عظمة الله وقدرته وتحذيره من بأسه الشديد.

نعم الله العظمى على عباده

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠))

البلاغة :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) امتنان ، وأفرد السمع وجمع الأبصار تفننا.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) التنكير للتقليل ، و (ما) لتأكيد القلة ، والمعنى : شكرا قليلا ، وهو كناية عن عدم الشكر.

٨١

(أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟ استفهام بقصد التوبيخ والإنكار.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) طباق.

المفردات اللغوية :

(أَنْشَأَ) خلق (السَّمْعَ) الأسماع (الْأَفْئِدَةَ) لتتفكروا فيها وتستدلوا بها ، وتحققوا منافع أخرى دينية ودنيوية (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تشكرونها شكرا قليلا ؛ لأن الشكر الحقيقي استعمال الحواس فيما خلقت لأجله ، والإذعان لمانحها من غير إشراك ، و (ما) لتأكيد القلة (ذَرَأَكُمْ) خلقكم وبثكم (تُحْشَرُونَ) تبعثون وتجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم (يُحْيِي) ينفخ الروح (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تعاقبهما بالسواد والبياض ، والزيادة والنقصان ، وذلك مختص بالله تعالى لا يقدر عليه غيره ، كما يقال : يختلف إلى فلان ، أي يتردد عليه ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) صنعه تعالى بالنظر والتأمل أن كل شيء منا ، وأن قدرتنا تعم كل الممكنات وأن البعث من جملتها ، فتعتبروا. وقرئ بالياء (يعقلون) على أن الخطاب السابق لتغليب المؤمنين.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى إعراض المشركين عن تدبر القرآن وفهم أدلة وجود الله ووحدانيته وقدرته ، أعقبه ببيان أوجه النعم العظمى على عباده ، ليسترشدوا بها على وجود الله وقدرته. وتلك النعم هي الأسماع والأبصار والأفئدة وهي العقول والأفهام التي يذكرون بها الأشياء ، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله ، وأنه الفاعل المختار لما يشاء.

التفسير والبيان :

امتن الله تعالى على عباده بنعم عظيمة دالة على قدرته وحكمته وعلمه وهي أربعة :

١ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله الذي خلق

٨٢

لكم الأسماع لسماع الأصوات ، والأبصار لرؤية الأشياء ، والعقول لفهم الأمور ، وإدراك الحقائق المؤدية إلى تحقيق منافع الدنيا والآخرة. وخص هذه الثلاثة بالذكر ؛ لأن الاستدلال على وجود الله وقدرته متوقف عليها.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي أن الشاكرين منهم قليل ، فما أقل شكرهم لله على ما أنعم به عليهم ، والمعنى أنهم لم يشكروا الله على نعمه العظيمة ، كما يقال لجحود النعمة : ما أقل شكر فلان! وذلك كقوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف ١٢ / ١٠٣].

٢ ـ (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي والله الذي خلقكم وبثّكم بالتناسل في الأرض ، لعمارتها وتحضرها ، ووزعكم في أقطارها مع اختلاف الأجناس والألوان واللغات والصفات ، ثم يوم القيامة تجمعون جميعا لميقات يوم معلوم ، فلا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا أعاده كما بدأه ، وله الحكم وحده.

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي وهو الذي وهبكم نعمة الحياة ، لكن تلك النعمة غير خالدة ، وإنما المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب ، وذلك بالإماتة بعد الإحياء ، ثم بالإعادة أحياء مرة أخرى للجزاء.

٤ ـ (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي ولله وحده تسخير الليل والنهار ، وجعل كل منهما يطلب الآخر ، يتعاقبان ، لا يفتران ولا يفترقان بنظام دقيق وزمان محدد ؛ كما قال تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ) (يَسْبَحُونَ) [يس ٣٦ / ٤٠].

ثم حذر الله تعالى من ترك النظر في كل هذا فقال :

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتفكرون في هذه الأشياء ، أفلا تعقلون كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته ، وأ لا تدلكم عقولكم على العزيز العليم الذي قهر كل

٨٣

شيء ، وخضع له كل شيء ، لتعلموا أن الله حي موجود قادر؟! وفيه دلالة على الزجر والتهديد.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات تعريف عام بكثرة نعم الله عزوجل على عباده ، فهو الذي وهبهم مفاتيح العلم والمعرفة ، وأمدهم بالحواس التي تمكنهم من الاستدلال بها على كمال قدرته ، وهو الذي أنشأهم وبثهم وخلقهم في الأرض لمهمة سامية هي الإعمار والتنمية ، ثم يجمعون يوم القيامة للجزاء العادل ، وهو الذي منحهم حق الحياة التي يعقبها الموت ، حتى لا يطغى الإنسان ويستبد ، فالموت يكون نعمة وراحة كالحياة نفسها ، وهو الذي أوجد بيئة الحياة السلمية بخلق الليل والنهار وجعلهما متعاقبين بنظام دقيق متلائم مع مرور الفصول الأربعة.

وشأن البصير العاقل أن يتعظ ويعتبر ويفهم ويفكر في بدائع الخلق ، وعظم القدرة والربوبية والوحدانية ، دون أن يكون له شريك من خلقه ، وأنه قادر على البعث.

إنكار المشركين البعث وإثباته بالأدلة القاطعة

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ

٨٤

تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠))

الإعراب :

(قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ ...) جوابه : قراءة من قرأ : سيقولون الله وأما قراءة (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فليس بجواب قوله تعالى : (قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ ..) وإنما هو جوابه من جهة المعنى ؛ لأن معنى قوله : (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ) : لمن السموات؟ فقيل في جوابه : (لِلَّهِ). ونظيره ما بعده وهو قوله تعالى : (قُلْ : مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) فقال : لله ، حملا على المعنى. وهذا كثير في كلام العرب.

البلاغة :

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه ، حذف جواب الشرط لدلالة اللفظ عليه.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ) استفهام بغرض الإنكار والتوبيخ.

(وَهُوَ يُجِيرُ ، وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) طباق السلب.

المفردات اللغوية :

(بَلْ قالُوا) أي كفار مكة (الْأَوَّلُونَ) آباؤهم ومن تبعهم (قالُوا) أي الأولون (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) استبعادا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا ، فخلقوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أكاذيبهم التي كتبوها ، جمع أسطورة ، كأحدوثة وأعجوبة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) خالقها ومالكها ، أي إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك. وهذا استهانة بهم ، وتقرير لفرط جهالتهم ، وإلزام بما لا يمكن إنكاره ممن له شيء من العلم.

(سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ) أي أن العقل الصريح المجرد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها (قُلْ) بعد ما قالوه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتعظون ، فتعلموا أن القادر على الخلق ابتداء قادر على الإحياء بعد الموت؟!

٨٥

(قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الكرسي ، فإنها أعظم من ذلك (أَفَلا تَتَّقُونَ) تحذرون عقابه ، فلا تشركوا به بعض مخلوقاته ، ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) ملك كل شيء (يُجِيرُ) يغيث من يشاء ويحرسه ويمنعه من الغير (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) لا يغاث أحد ولا يمنع منه ، ومعنى الجملتين : (يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) يحمي ولا يحمى عليه ، يقال : أجرت فلانا على فلان : أي أغثته ومنعته منه (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) جواب السؤال من جهة المعنى ، وهو : من له ما ذكر؟ (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) تخدعون ، فتصرفون عن الرشد وطاعة الله وتوحيده ، مع ظهور الأمر ، وتظاهر الأدلة ، أي كيف تخيل لكم أنه باطل؟! (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) بالصدق (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في نفيه.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أدلة التوحيد في الكون والأنفس ، أعقبها ببيان إنكار المشركين (عبدة الأوثان) البعث والحشر مع وضوح الأدلة ، وتقليدهم الأولين في الاستبعاد والتكذيب. ثم رد عليهم بأدلة ثلاثة تثبت البعث من غير شك.

التفسير والبيان :

بالرغم من زجر المشركين وتهديدهم في الآيات السابقة على تعطيل عقولهم التي ترشدهم إلى الإقرار بتوحيد الله وقدرته على البعث ، فإنهم رددوا مقالة السابقين البدائيين وهي :

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي مع كل ما سبق ، فإن هؤلاء المشركين أنكروا البعث واستبعدوه ، وأعادوا مقالة أسلافهم الذين كذبوا رسلهم ، تقليدا أعمى لهم دون برهان ، وهذا تعيير بقولهم. وتفصيل تلك المقالة من وجهين :

الأول :

(قالُوا : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي هل إذا متنا ، وصرنا ترابا وعظاما بالية ، نعود إلى البعث والحياة؟ فهم يستبعدون وقوع ذلك

٨٦

بعد البلى ، كما قال تعالى : (يَقُولُونَ : أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ، قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات ٧٩ / ١٠ ـ ١٤] وقال سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً ، وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ ، وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٧ ـ ٧٨].

والثاني :

(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي إن هذا الوعد بالبعث الذي يخبر به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وعد به قديما الأنبياء السابقون ، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد ، وكأنهم لغباوتهم يظنون أن الإعادة تكون في دار الدنيا.

(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الوعد بالبعث إلا أكاذيب المتقدمين وأباطيلهم وترهاتهم ، قد توارثناها دون وعي ، ودون دليل مثبت لصحتها ، كما يزعمون.

ثم رد الله تعالى عليهم لإثبات البعث ببراهين ثلاثة هي :

١ ـ (قُلْ : لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قل أيها النبي لمنكري الآخرة : من مالك الأرض الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وغير ذلك من المخلوقات إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك؟ وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) استهانة بهم وتأكيد لجهلهم.

(سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ) أي سيعترفون بما دل عليه العقل بداهة بأن ذلك كله لله وحده ملكا وخلقا وتدبيرا ، فإذا كان ذلك :

(قُلْ : أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي قل لهم أفلا تتعظون وتتدبرون أن من خلق

٨٧

هذا ابتداء قادر على إعادته ، وأنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره؟! وقوله هذا معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه.

وهذا البرهان القاطع يصلح للرد على منكري الإعادة وعلى عبدة الأوثان المشركين العابدين مع الله غيره ، المعترفين له بالربوبية ، ولكنهم أشركوا معه في الألوهية ، فعبدوا غيره ، مع اعترافهم أن معبوداتهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا ، وإنما اعتقدوا أنهم يقربونهم إلى الله زلفى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣].

٢ ـ (قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي قل لهم أيضا : من خالق السموات وما فيها من الكواكب والملائكة ، ومن خالق العرش العظيم الكبير الذي هو سقف المخلوقات ، كما قال : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة ٢ / ٢٥٥] وكما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «شأن الله أعظم من ذلك ، إن عرشه على سمواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة ، وفي الحديث الآخر : «ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة».

فالعرش يجمع بين الصفتين : العظمة والكبر في الاتساع والعلو : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) والحسن والبهاء في الجمال ، كما قال في آخر السورة : (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي الحسن البهي.

(سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ) أي إنهم سيعترفون فورا بأنه لله وحده ، ولا جواب سواه.

(قُلْ : أَفَلا تَتَّقُونَ)؟ أي إذا كنتم تعترفون بذلك ، أفلا تخافون عقاب الله وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟!

٨٨

وكما أن العالمين السفلي والعلوي ملك لله تعالى ، فله أيضا تدبير شؤونهما ، كما قال :

٣ ـ (قُلْ : مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي بيده الملك والتصريف والتدبير ، كما قال : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) [هود ١١ / ٥٦] أي متصرف فيها.

(وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وهو السيد الأعظم الذي يغيث من يشاء ويحمي من يشاء ، ولا يغيث ولا يحمي أحد منه أحدا ، فلا يمانع ولا يخالف ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، إن كنتم من أهل العلم بذلك.

(سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ) أي سيعترفون أن المالك المدبر هو الله لا غيره ، فلا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه. وقرئ الله في هذا وما قبله ، ولا فرق في المعنى ؛ لأن قولك : من ربه ، ولمن هو؟ في معنى واحد.

(قُلْ : فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)؟ أي قل لهم مستغربا وموبخا : فأنى تخدعون عن توحيده وطاعته ، والخادع : هو الشيطان والهوى ، أو فكيف تتقبل عقولكم عبادتكم مع الله غيره ، مع اعترافكم وعلمكم بذلك وتصريحكم بأنه الخالق المالك المدبر؟.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي بل جئناهم بالقول الحق ، والدليل الصدق ، والاعلام الثابت بأنه لا إله إلا الله ، وأقمنا الأدلة الصحيحة القاطعة على ذلك ، وإنهم مع ذلك لكاذبون في إنكار الحق ، وفي عبادتهم مع الله غيره ، ولا دليل لهم عليها ، كما قال في آخر السورة : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فهؤلاء المشركون لا يفعلون ذلك عن دليل ، وإنما اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال.

٨٩

وفي هذا توعد وتهديد على ادعائهم أن لله ولدا وأن معه شريكا ، فنسبة الولد إليه محال ، والشرك باطل.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ ليس للمشركين ومنكري الآخرة دليل عقلي مقبول ، وكل ما لديهم من بضاعة هو ترداد أقوال المتقدمين ، وتقليد الآباء والأسلاف.

٢ ـ إنهم اعترفوا صراحة بأن الله تعالى هو مالك الأرض (العالم السفلي) ومالك السماء (العالم العلوي) ومدبر كل شيء ، وبيده مقاليد كل شيء ، وهو المتصرف في كل شيء ، والقادر على كل شيء.

ومن كان هذا شأنه ، ألا يكون هو المستحق وحده للعبادة ، والقادر على الإحياء والبعث والإعادة؟!

ويكون ما أتى به القرآن من الأدلة المثبتة للوحدانية والقدرة والبعث هو الحق الثابت الذي لا مرية ولا شك فيه ، وهو القول الصدق ، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ، ونفي البعث.

٣ ـ دلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار ، وإقامة الحجة عليهم ، ونبّهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع ، والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة.

٤ ـ إن تذييل الآيات بقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) يعد حملة شديدة على المشركين للإقلاع عما هم عليه من الشرك ، فقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) معناه

٩٠

الترغيب في التدبر ، ليعلموا بطلان ما هم عليه ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) معناه الاستهانة بهم وتأكيد لفرط جهلهم ، وقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) معناه التنبيه على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان والاعتراف بجواز الإعادة ، وقوله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) إثبات تناقضهم ، إذ كيف تتقبل عقولهم عبادة أحد مع الله ، مع اعترافهم الصريح بأن الله هو المالك الخالق المدبر.

نفي الولد والشريك لله تعالى

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢))

الإعراب :

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بالجر بدل من (اللهُ) في قوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ ...) ويقرأ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو عالم الغيب والشهادة.

البلاغة :

(مِنْ وَلَدٍ مِنْ إِلهٍ) ذكر حرف الجر الزائد تأكيد لنفي الولد والإله في الجملتين.

المفردات اللغوية :

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) لتقدسه عن مماثلة أحد (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يساهم أو يشاركه في الألوهية (إِذاً لَذَهَبَ) جواب شرط حذف لدلالة ما قبله عليه ، أي لو كان معه آلهة ، كما يقولون ، لذهب كل واحد منهم بما خلقه ، واستبدّ واستقل به ، وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ، ووقع بينهم التحارب والتنازع ، كما هو حال ملوك الدنيا ، فدل الإجماع والاستقراء وبرهان العقل على إسناد جميع الممكنات إلى واحد واجب الوجود. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) لغالب بعضهم

٩١

بعضا ، كفعل ملوك الدنيا (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له (عَمَّا يَصِفُونَ) أي يصفونه به من الولد والشريك لما سبق من دليل فساده.

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم بما غاب وبما شوهد ، وهو دليل آخر على نفي الشريك ؛ لإجماع العقلاء على أنه تعالى هو المتفرد بذلك (فَتَعالى) تعاظم (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يشركونه معه.

المناسبة :

بعد إثبات البعث والجزاء بالأدلة القاطعة ، والرد على منكري البعث وعبدة الأوثان أبان الله تعالى أن المشركين كاذبون مفترون في نسبة الولد لله ، واتخاذ شريك له.

التفسير والبيان :

ينفي الله تعالى وينزه نفسه عن أمرين : هما اتخاذ الولد واتخاذ الشريك فقال : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) أي ما جعل لنفسه ولدا ، كما يزعم بعض المشركين حين قالوا : الملائكة بنات الله.

(وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) أي وما وجد معه إله آخر يشاركه في الألوهية ، لا قبل خلق العالم ولا بعد خلقه ، كما يتصور الوثنيون باتخاذ الأصنام آلهة.

(إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي لو قدّر تعدد الآلهة ، لانفرد كل منهم بما خلق ، واستقل بما أوجد ، وتميز ملك كل واحد منهم عن ملك الآخر ؛ لأن استمرار الشركة مستحيل ، ولكان همّ كل واحد منهم أن يغلب الآخر ، ويطلب قهره والتسلط عليه ، لتظهر قوة القوي على الضعيف ، كما هو حال ملوك الدنيا ، ولو حدث هذا التغالب والانقسام لاختل نظام الوجود ، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن.

إلا أن المشاهد أن الوجود منتظم متسق ، وفي غاية النظام والكمال وارتباط

٩٢

كل من العالم السفلي بالعالم العلوي دون تصادم ولا اضطراب ، كما قال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك ٦٧ / ٣] (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ). [آل عمران ٣ / ١٩٠].

ولما ثبت كون التعدد في الآلهة مستحيلا ، وبطل قول الكفار في الأمرين معا ، قال تعالى: (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه الله الحق الواحد الأحد عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك.

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة ، أي بعلم ما غاب عن إدراك الخلق من الأشياء ، ويعلم ما يشاهدونه وما يرونه ويبصرونه ، فهو يعلم الأمرين معا على حد سواء ، وهذا دليل آخر على نفي الشريك ؛ لأن غير الله وإن علم الشهادة أي الموجودات المرئيات أمامه ، فلن يعلم معها الغيبيات غير المرئيات ، وهذا دليل النقص ، والله تعالى متصف بالكمال ، فلا يكتمل النفع بعلم الشهادة وحدها ، دون العلم بالغيب.

(فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس وتنزه عما يقول الجاحدون الظالمون الذين يشركون معه إلها آخر.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا دليل عقلي لا يقبل الإنكار والطعن من أحد ، فالله لم يتخذ ولدا كما زعم بعض الكفار ، ولا كان معه إله فيما خلق ، فلو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه ، كما هو مقتضى العادة ، ولغالب بعضهم بعضا ، وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك ، وحينئذ لا يستحق الضعيف المغلوب الألوهية.

وهذا كما يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا ؛ لأن الولد ينازع عادة الأب في الملك منازعة الشريك.

٩٣

فتنزه الله عن أوصاف المشركين من الولد والشريك ، وتقدس عما يقوله هؤلاء الظالمون والجاحدون.

وقد ذكر علماء الكلام هذا الدليل وسموه دليل التمانع : وهو أنه لو فرض صانعان خالقان فصاعدا ، فأراد واحد تحريك جسم ، والآخر أراد سكونه ، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما ، كانا عاجزين ، والإله الواجب الوجود لا يكون عاجزا ، ويمتنع اجتماع مراديهما وتحقيق رغبتهما في آن واحد للتضاد ، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد ، فيكون محالا.

فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر ، كان الغالب هو الواجب الوجود المستحق الألوهية ، والآخر المغلوب يكون ممكنا ؛ لأنه لا يليق بصفة الواجب الوجود أن يكون مقهورا.

إرشادات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

الإعراب :

(قُلْ : رَبِ) أي يا ربّ ، وهو اعتراض بين الشرط وجوابه بالنداء.

البلاغة :

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) تأكيد بإن واللام ؛ لإنكار المخاطبين وقوع العذاب الأخروي والدنيوي.

٩٤

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) طباق معنوي ؛ لأن المعنى : ادفع بالحسنة السيئة.

المفردات اللغوية :

(رَبِّ إِمَّا) أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما الزائدة ، أي إذا كان لا بد من أن تريني ؛ لأن ما والنون للتأكيد (ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الدنيا والآخرة (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي معهم ، فأهلك بهلاكهم ؛ لأن شؤم الظلمة قد يحيق بما وراءهم ، كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال ٨ / ٢٥]. وإن تكرار كلمة (رَبِ) في بدء الجملتين لزيادة التضرع (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي بقدرتنا تعجيل العذاب ، لكنا نؤخره ؛ لأن بعضهم أو بعض ذرياتهم سيؤمنون ، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم.

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وهو الصفح والإحسان والإعراض عنهم (السَّيِّئَةَ) أذاهم إياك (بِما يَصِفُونَ) يصفونك به أو يقولون ويكذبون ، فإنا سنجازيهم عليه (أَعُوذُ) أعتصم (هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) نزغاتهم ووساوسهم بالشر (أَنْ يَحْضُرُونِ) في أموري ؛ لأنهم إنما يحضرون بسوء ، أو يحومون حولي في بعض الأحوال.

المناسبة :

بعد أن ردّ الله تعالى على المشركين مزاعمهم من اتخاذ الولد والشريك وأبطل سوء اعتقادهم كإنكار البعث والجزاء ، وجّه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الدعاء والتضرع بالنجاة من عذابهم ، ثم أرشده إلى مقابلة السيئة بالحسنة ؛ لأن الإحسان يفيد أحيانا ، ثم أمره أن يستعيذ من وساوس الشياطين في مختلف الأعمال.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى نبيه ببعض الأدعية عند حلول النقم ، فيقول :

(قُلْ : رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي إن كان ولا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة ، فلا

٩٥

تجعلني فيهم ، ونجني منهم ولا تعذبني بعذابهم ؛ لأن العذاب قد يصيب غير أهله ، كما قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال ٨ / ٢٥] روى الإمام أحمد والترمذي وصححه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «وإذا أردت بقوم فتنة ، فتوفني إليك غير مفتون».

وعن الحسن : أنه تعالى أخبر نبيه أن له في أمته نقمة ، ولم يطلعه على وقتها ، فأمره بهذا الدعاء.

والإرشاد إلى هذا الدعاء ليعظم أجره ، وليكون دائما ذاكرا ربّه ، ولتعليمنا ذلك.

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي لو شئنا لأريناك ما نوقعه بهم من النقم والبلاء والمحن ، ولكنا نؤخره لوقت معلوم ؛ لأن بعضهم أو بعض ذرياتهم سيؤمن.

ثم علمه أسلوب الدعوة حتى يتحقق لها النجاح فقال :

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي قابل السيئة بالحسنة ، وتحمل ما تتعرض له من أنواع أذى الكفار وتكذيبهم ، وادفع بالخصلة التي هي أحسن ، بالصفح والعفو ، والصبر على الأذى ، والكلام الجميل كالسلام ، نحن على علم بحالهم وبما يصفوننا به من الشرك والتكذيب.

ونظير الآية قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ ، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت ٤١ / ٣٤ ـ ٣٥] أي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة إلا الذين صبروا على أذى الناس ، فعاملوهم بالجميل في مقابلة القبيح ، وما يلهمها إلا صاحب الحظ العظيم في الدنيا والآخرة. وقيل : هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وقيل : محكمة ؛ لأن المداراة مرغوب فيها ، ما لم تتعارض مع الدين والمروءة.

٩٦

ثم علمه الثبات على هذا الخط فقال :

(وَقُلْ : رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي وقل : إني أعتصم بك وألتجئ إليك من وساوس الشياطين المغرية بالسوء والمعصية ومخالفة أوامرنا ، وألتجئ إليك من حضورهم في شيء من أموري ، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور ، فإنهم إذا حضروا الإنسان حدث الهمز ، وإذا لم يكن حضور ، فلا همز.

روى أبو داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم إني أعوذ بك من الهرم ، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت».

وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع : بسم الله ، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون».

فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها ، كتبها له ، فعلّقها في عنقه.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه باقة من الأدعية أمر الله بها نبيه ليدعو بها ، ولتعليمنا إياها ، وهي :

أولا ـ دعاء النجاة من العذاب الذي يقع بالكفار ، ومعناه : يا ربّ ، إن أريتني ما يوعدون من العذاب ، فلا تجعلني معهم في نزول العذاب بهم ، بل أخرجني منهم.

٩٧

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب ، ومع هذا أمره بهذا الدعاء ، ليعظم أجره ، وليكون في كل الأوقات ذاكرا ربّه تعالى.

والله قادر على إنزال العذاب بهم ، وأراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف في يوم بدر وفتح مكة ، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.

وثانيا ـ دعاء الاعتصام من الشيطان ، والمعنى : يا ربّ إني ألتجئ إليك من نزعات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى ، وفي حالات الغضب.

وبين الدعاءين تعليم لأسلوب الدعوة إلى الله تعالى ، وهو مقابلة السيئة بالحسنة ، أي بالصفح ومكارم الأخلاق ، لتنقلب العداوة صداقة ، والبغض محبة ، قال الشاعر :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسانه

تمني الإنسان عند الموت الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحا

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠))

الإعراب :

(قالَ : رَبِّ ارْجِعُونِ) : إنما جاءت المخاطبة بلفظ الجمع ، ولم يقل : ارجعني تعظيما لله تعالى ، أو على معنى التكرار ، كأنه قال : ارجعني ارجعني ، فجمع ، كما ثنّى في قوله تعالى: (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) أي ألق ألق.

٩٨

البلاغة :

(إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) مجاز مرسل ، من إطلاق الجزء على الكل ، إذ أنه أطلق الكلمة على الجملة.

المفردات اللغوية :

(حَتَّى) ابتدائية. (جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي الكافر ، وهو متعلق بقوله : (يَصِفُونَ) في الآيات المتقدمة ، وما بينهما اعتراض ، وقد يسأل المؤمن الرجعة أيضا ، فإذا رأى الكافر مقعده من النار ومقعده من الجنة لو آمن ، طلب العودة إلى الدنيا ، وكذلك المؤمن يسأل الرجعة ، كما جاء في آخر سورة المنافقين : (فَيَقُولَ : رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [١٠].

(ارْجِعُونِ) الواو لتعظيم المخاطب ، أي ردوني إلى الدنيا. (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) بأن أشهد أن لا إله إلا الله. (فِيما تَرَكْتُ) ضيعت من عمري. (كَلَّا) كلمة ردع وزجر عن حصول ما يطلب ، أي لا رجوع. (إِنَّها) أي قوله : رب ارجعون (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي لا فائدة له فيها. (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي من أمامهم. (بَرْزَخٌ) حائل أو حاجز بينهم وبين الرجعة. (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي إلى يوم القيامة ، ولا رجوع بعده ، فهو تيئيس وإقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا ، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة.

المناسبة :

بعد أن كشف الله حال المشركين وما يصفون من الشرك والتكذيب ، ذكر الله حال الكافرين عند مجيء الموت ، فإنهم يتمنون أن يعودوا إلى دار الدنيا ليعملوا صالحا ، لكن لا يسمع لقولهم ودعائهم. والمراد أن الكفار ما يزالون على سوء الحال والاعتقاد إلى الموت ، فهذه الآية متعلقة بقوله : (يَصِفُونَ) وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم وإهمالهم ، بالاستعانة بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ، ويزحزحه عن الأناة.

٩٩

التفسير والبيان :

هذا حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو العصاة المفرطين في أمر الله تعالى وما ذا يقولون حينئذ ، فقال تعالى :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ : رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي إذا دنا الإنسان الكافر أو العاصي المفرط في حقوق الله من الموت ، ورأى ما ينتظره من العذاب ، طلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ، وقال : ربّ ارجعني لكي أتدارك ما قصرت فيه ، وأعمل العمل الصالح الذي ترضى عنه من الطاعات والخيرات وأداء حقوق الناس. وقوله : (لَعَلِّي) ليس المراد بها الشك ، وإنما يعني كونه جازما بأنه سيتدارك.

وذلك كما قال تعالى : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا : رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ، نُجِبْ دَعْوَتَكَ ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم ١٤ / ٤٤] وقال سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ : قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ ، فَيَشْفَعُوا لَنا ، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف ٧ / ٥٣].

وقال عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ : رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ، إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٢] وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) [الأنعام ٦ / ٢٧] ، (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ : هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى ٤٢ / ٤٤] ، (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها : رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ، ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر ٣٥ / ٧].

١٠٠