التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

وهذا يدل على أمور ثلاثة : هي أن القذف من الكبائر ، لقوله تعالى : (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) وأن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها ، وإنما بالواقع ، فربما كان جاهلا لعظمها ، لقوله تعالى : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) وأن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه ، فربما كان من الكبائر.

٥ ـ (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا ، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) هذا من الآداب ، فهو تأديب آخر بعد الأمر الأول بظن الخير ، والمعنى : هلا حين سمعتم ما لا يليق من خبيث الكلام قلتم : ما ينبغي لنا وما يصح ، ولا يحل لنا أن نتفوه بهذا الكلام ، ونخوض في عرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نذكره لأحد ؛ إذ لا دليل عليه ، سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي إنا نعجب من عظم الأمر ، وننزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاجرة ، فهذا بهتان عظيم واختلاق أثيم ، وإيذاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٧].

وإذا جاز أن تكون امرأة نبي كافرة ، كامرأة نوح ولوط ؛ لأن الكفر لم يكن مما ينفر عندهم ، فلا يجوز أن تكون امرأة أي نبي فاجرة ؛ لأن ذلك من أعظم المنفّرات.

والخلاصة : أن العقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا ، لما فيه من إيذاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما يمنعان ألا يعاقب هؤلاء القاذفين الأفاكين على عظيم ما اقترفوه وخاضوا فيه من الافتراء ، وهو مدعاة للتعجب منه.

٦ ـ (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) هذا من الزواجر يحذر الله تعالى فيه المؤمنين من العود لمثله ، أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا ، أي في المستقبل ما دمتم أحياء مكلفين ، ويعظكم بهذه المواعظ

١٨١

والإنذارات ، كيلا تعودوا لمثل هذا الفعل ، إن كنتم من أهل الإيمان بالله وشرعه وتعظيم رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه.

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ويوضح لكم الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية ، والله عليم بما يصلح عباده ، مطّلع على أحوالهم ، فيجازي كل امرئ بما كسب ، حكيم في شرعه وقدره ، وتدبير شؤون خلقه ، وتكليفه بما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة.

٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) هذا أدب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيء ، معناه : إن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة ومحبة لها ، وإن الذين يرغبون في إشاعة الفواحش وانتشار أخبار الزنى في أوساط المؤمنين ، لهم عذاب مؤلم في الدنيا وهو حد القذف ، وفي الآخرة بعذاب النار ، والله يعلم بحقائق الأمور ، ولا يخفى عليه شيء ، ويعلم ما في القلوب من الأسرار ، فردوا الأمر إليه ترشدوا ، وأنتم بسبب نقص العلم والإحاطة بالأشياء والاعتماد على القرائن والأمارات لا تعملون تلك الحقائق. أخرج الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ، ولا تطلبوا عوراتهم ، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم ، طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته». ولقد ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا ، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره.

وهذا التأديب التربوي له مغزاه العميق ، فإن شيوع الفاحشة في مجتمع يجرئ الناس على الإقدام عليها ، ويجعلهم يستسهلون الوقوع فيها. والآية تدل على أن مجرد حب إشاعة الفاحشة كاف في إلحاق العذاب ، فالذين يشيعونها فعلا أشد جرما وإثما وتعرضا للعقاب. ومنشأ حب إشاعة الفاحشة هو الحقد والكراهية ،

١٨٢

والاستعلاء على الناس وحسدهم على ما يتمتعون به من تماسك واستقرار ومحبة ووئام ، فيعمل الحاقد الكاره الحاسد كابن أبي على تقويض أركان هذا المجتمع ، والغض من كرامته ، والنيل من عرضه وسمعته ، ظنا منه أن هذا شرف له.

٨ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ، وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي لو لا الفضل الإلهي والرحمة لكان أمر آخر ، والجواب المحذوف هو : لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم ، ولكنه تعالى رؤف بعباده ، رحيم بهم ، فتاب على التائبين من هذه القضية ، وأرشد إلى ما فيه الخير ، وهدى إلى الطريق الأقوم ، وحذّر من مغبّة الاستمرار في وجهة الانحراف ، وبيّن خطر هذا الفعل الشنيع وهو الطعن بعرض بيت النبوة ، فله الحمد والمنة ، لذا حذر في الآية التالية من اتباع وساوس الشيطان فقال :

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي يا أيها المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله لا تسيروا في طرائق الشيطان ومسالكه ، ولا تسمعوا لوساوسه وتأثيراته وما يأمر به ، في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له ، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ، فإن من يتبع وساوس الشيطان ويقتفي آثاره خاب وخسر ؛ لأنه ـ أي الشيطان ـ لا يأمر إلا بالفحشاء (ما أفرط قبحه) والمنكر (ما أنكره الشرع وحرمه وقبّحه العقل ونفّر منه) فلا يصح لمؤمن طاعته ، وهذا تنفير وتحذير صريح.

والله تعالى ، وإن خص المؤمنين في هذه الآية بالنهي عن اتباع وساوس الشيطان ، فهو نهي لكل المكلفين ، بدليل قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فكل المكلفين ممنوعون من ذلك. وحكمة تخصيص المؤمنين بالذكر هي أن يتشددوا في ترك المعصية ، لئلا يتشبهوا بحال أهل الإفك.

١٨٣

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) هذا التكرار لتأكيد المنة والنعمة على العباد ، والمعنى : ولو لا تفضل الله عليكم بالنعم ، ورحمته السابغة ، بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب ، ما طهر أحدا من ذنبه ، ولا خلصه من أمراض الشرك والفجور والأخلاق الرديئة ، وإنما عاجله بالعقوبة ، كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ، ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) [النحل ١٦ / ٦١] ، قال الرازي : إذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى ، سمّي زكيا.

(وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله تعالى القدير الحكيم يطهر من يشاء من خلقه ، بقبول توبتهم ، وتوفيقهم إلى ما يرضيه ، مثل قبول توبة حسان ومسطح وغيرهما من قصة الإفك ، والله سميع لأقوال عباده ، ولا سيما في حالتي الوقوع في المعصية والإخلاص في التخلص منها ، والبراءة من آثامها ، عليم بمن يستحق الهدى والضلال ، وبالأقوال والأفعال ، وبمن أصر على إشاعة الفاحشة ومن تاب منها ، ومجاز كل إنسان بما قدّم.

وهذا حث واضح على التطهر من الذنوب ، والإقبال على التوبة بإخلاص.

وبعد تأديب أهل الإفك ومن سمع كلامهم ، أدب الله تعالى أبا بكر لما حلف ألا ينفق على مسطح أبدا ، قال المفسرون : نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف ألا ينفق على مسطح ، وهو ابن خالة أبي بكر ، وقد كان يتيما في حجره ، وكان ينفق عليه وعلى قرابته ، فقال تعالى :

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي لا يحلف أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان ، والسعة في المال والثروة ألا يعطوا أقاربهم المساكين المهاجرين ، كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة ، وشهد بدرا. وفيه دليل على

١٨٤

فضل أبي بكر رضي‌الله‌عنه وشرفه ، وحث على صلة الرحم ، فهذا في غاية الترفق والعطف في صلة الأرحام.

(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أي ليعفوا عن المسيء ، ويصفحوا عن خطأ المذنب ، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم ، وليعودوا إلى صلتهم الأولى ، فإن من أخطأ مرة يجب ألا يتشدد في العقاب عليه ، وقد عوقب مسطح بالحد والضرب ، وكفى ذلك ، وزلق زلقة تاب الله عليه منها.

(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ألا تريدون أن يستر الله عليكم ذنوبكم ، فإن الجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك ، يغفر الله لك ، وكما تصفح يصفح عنك : «من لا يرحم لا يرحم» (١) والله غفور لذنوب عباده الطائعين التائبين ، رحيم بهم فلا يعذبهم بزلّة حدثت ثم تابوا عنها ، فتخلقوا بأخلاق الله تعالى.

وهذا ترغيب في العفو والصفح ، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين ، لذا بادر أبو بكر الصدّيق إلى القول : «بلى ، والله ، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربّنا» ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة ، وقال : «والله لا أنزعها منه أبدا».

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه جملة من الآداب والزواجر ، أرشدت إليها قصة الإفك ، وهي تربية عالية للمجتمع ، وصون لأخلاقه من التردي والانحدار ، ونبذ للعادات السيئة في إشاعة الأخبار دون علم ولا تثبت ، وقد دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ إن داء الأمة ينبع من داخلها ، وأخطر داء فيها زعزعة الثقة بقادتها ومصلحيها ، وتوجيه النقد الهدام لهم ، ومحاولة النيل من عرضهم وسمعتهم

__________________

(١) هذا حديث صحيح أخرجه الطبراني عن جرير بلفظ : «من لا يرحم لا يرحم ، ومن لا يغفر لا يغفر له ، ومن لا يتب لا يتب عليه».

١٨٥

وكرامتهم ، فأهل الإفك ليسوا من الأعداء الخارجين ، وإنما هم ـ في الظاهر ـ عصبة من المؤمنين.

٢ ـ ليس في الأشياء خير محض ولا شر محض ، وإنما ما غلب نفعه على ضرره فهو خير ، وما غلب ضرره على نفعه فهو شر ، فحقيقة الخير : ما زاد نفعه على ضره ، والشرّ : ما زاد ضره على نفعه ، وإن خيرا لا شرّ فيه هو الجنة ، وشرّا لا خير فيه هو جهنم. أما البلاء النازل على الأولياء فهو خير ؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا ، وخيره هو الثواب الكثير في الآخرة. لذا كان حديث الإفك خيرا على عائشة وأهلها آل أبي بكر ، وعلى صفوان بن المعطّل المتهم البريء ، فقال تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لرجحان النفع والخير على جانب الشر.

وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزواته لشجاعته ، وكان من خيار الصحابة رضوان الله عليهم. وقيل كما ذكر ابن إسحاق : كان حصورا لا يأتي النساء. وقال : والله ما كشفت كنف أنثى قط ، يريد بزنى. وقتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع وعشرين في زمان عمر. وقيل : ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.

٣ ـ للذين خاضوا في إثم الإفك جزاء وعقاب في الدنيا والآخرة ، وهم الذين أصروا على التهمة ، أما الذين تابوا وهم حسان ومسطح وحمنة ، فقد غفر الله لهم.

٤ ـ إن زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ هو الذي تولى كبر حديث الإفك ، واختلاق معظم القصة ، والترويج لها وإشاعتها بين المسلمين. وهل جلد هو وغيره؟ روى الترمذي ومحمد بن إسحاق وغيرهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة : مسطحا وحسانا وحمنة. وذكر القشيري عن ابن عباس قال : جلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبيّ ثمانين جلدة ، وله في الآخرة عذاب النار.

١٨٦

وقال الماوردي وغيره : اختلفوا هل حدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحاب الإفك على قولين :

أحدهما ـ أنه لم يحدّ أحدا من أصحاب الإفك ؛ لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة ، ولم يتعبّده الله أن يقيمها بإخباره عنها ، كما لم يتعبده بقتل المنافقين ، وقد أخبره بكفرهم. وعقب القرطبي على ذلك قائلا : وهذا فاسد مخالف لنص القرآن ؛ فإن الله عزوجل يقول : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) أي لم يأتوا بشهود أربعة على صدق قولهم.

والقول الثاني ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّ أهل الإفك عبد الله بن أبي ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش. قال القرطبي : المشهور من الأخبار ، والمعروف عند العلماء أن الذي حدّ : حسان ومسطح وحمنة ، ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبي. وهذا ـ أي تعيين الذين حدّوا ـ رواه أبو داود عن عائشة رضي‌الله‌عنها. وإنما لم يحد عبد الله بن أبي ؛ لأن الله تعالى قد أعدّ له في الآخرة عذابا عظيما ، فلو حدّ في الدنيا ، لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه ، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي‌الله‌عنها ، وبكذب كل من رماها ، فقد حصلت فائدة الحد ، إذ مقصوده إظهار القاذف وبراءة المقذوف ، كما قال الله تعالى : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).

وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف ، حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحدود من حديث عبادة بن الصامت الذي أخرجه مسلم بلفظ : «ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به ، فهو كفارة له» أي أن الحدود كفارات لمن أقيمت عليه.

٥ ـ على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا ببعضهم خيرا ، لذا عاتبهم الله تعالى بقوله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) أي ببعضهم أو

١٨٧

بإخوانهم ، فالواجب على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. ولأجل هذا قال العلماء : إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ، ومنزلة الصلاح التي حلّها المؤمن ، وحلّة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع ، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.

٦ ـ إن إثبات تهمة الزنى إما بالإقرار أو بأربعة شهود ، فقوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) توبيخ لأهل الإفك على تقصيرهم في الإثبات ، أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا إحالة على المذكور في آية القذف السابقة. وإذ لم يأتوا بالشهداء فهم في حكم الله كاذبون.

٧ ـ إن أحكام الدنيا في الإثبات ونحوه تجري على الظاهر ، والسرائر إلى الله عزوجل ، أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه قال : أيها الناس ، إن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمّناه وقرّبناه ، وليس لنا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدّقه ، وإن قال : إن سريرته حسنة.

٨ ـ تكرّر الامتنان من الله تعالى على عباده في قصة القذف مرتين في قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي لو لا فضله ورحمته لمسّكم بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ، ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا.

٩ ـ وصف الله الخائضين في قصة الإفك بارتكاب آثام ثلاثة : تلقي الإفك بألسنتهم وإشاعته بينهم ، والتكلم بما لا علم لهم به ، واستصغارهم ذلك وهو عظيم الوزر ، ومن العظائم والكبائر. وهذا يدل أن القذف من الكبائر ، وأن عظم

١٨٨

المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه ، وأنه يجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرّم.

١٠ ـ عاتب الله جميع المؤمنين بأنه كان ينبغي عليهم إنكار خبر الإفك ، وألا يحكيه أو ينقله بعضهم عن بعض ، وأن ينزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان ، وحقيقة البهتان : أن يقال في الإنسان ما ليس فيه. والغيبة : أن يقال في الإنسان ما فيه.

وإن وصف الإيمان يجب أن يكون باعثا لهم على هذا التخلق والأدب.

١١ ـ دلّ قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي في عائشة ، قال الإمام مالك : من سبّ أبا بكر وعمر أدّب ، ومن سبّ عائشة قتل ؛ لأن الله تعالى يقول : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قتل. وقال ابن كثير : وقد أجمع العلماء رحمهم‌الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر ؛ لأنه معاند للقرآن ، وهذا ردّ على ما قال ابن العربي : «قال أصحاب الشافعي : من سبّ عائشة رضي‌الله‌عنها أدّب كما في سائر المؤمنين ، وليس قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) في عائشة ؛ لأن ذلك كفر ، وإنما هو كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة : «والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» أي لا يكمل إيمانه ، لا أنه سلب الإيمان. وبوائقه : شروره وآثامه ودواهيه.

١٢ ـ إن الذين يحبون إشاعة الفاحشة (الفعل القبيح المفرط القبح) في المؤمنين المحصنين والمحصنات كعائشة وصفوان رضي‌الله‌عنهما لهم عذاب أليم في الدنيا بالحدّ ، وفي الآخرة بعذاب النار أي للمنافقين ، أما الحدّ للمؤمنين فهو كفارة. والله يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ، ويعلم كل شيء ، والناس لا يعلمون بذلك.

١٨٩

١٣ ـ نهى الله المؤمنين وغيرهم عن اتباع مسالك الشيطان ومذاهبه ؛ لأنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.

١٤ ـ لله تعالى وحده الفضل في تزكية المؤمنين وتطهيرهم وهدايتهم ، لا بأعمالهم.

١٥ ـ على المؤمن التخلق بأخلاق الله ، فيعفو عن الهفوات والزلات والمزالق ، فإن فعل ، فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه ، وكما تدين تدان ، والله سبحانه قال : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الطبراني عن جرير : «من لا يرحم لا يرحم».

١٦ ـ في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان معصية كبيرة لا يحبط الأعمال ؛ لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ؛ وكذلك سائر الكبائر ؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال الله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر ٣٩ / ٦٥].

١٧ ـ من حلف على شيء ألا يفعله ، فرأى أن فعله أولى من تركه ، أتاه وكفّر عن يمينه.

١٨ ـ قال بعض العلماء : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى ، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.

١٩ ـ دلت هذه الآية على أن أبا بكر أفضل الناس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الآية ، دالة على علو شأنه في الدين ، أورد الرازي أربع عشرة صفة مستنبطة من هذه الآية : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) منها أنه وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص ، والفضل يدخل فيه الإفضال ، وذلك يدل على أنه

١٩٠

رضي‌الله‌عنه ، كما كان فاضلا على الإطلاق كان مفضلا على الإطلاق. ومنها أنه لما وصفه تعالى بأنه أولوا الفضل والسعة بالجمع لا بالواحد وبالعموم لا الخصوص ، على سبيل المدح ، وجب أن يقال : إنه كان خاليا عن المعصية (١).

٢٠ ـ قال بعض أهل التحقيق : إن يوسف عليه‌السلام لما رمي بالفاحشة برّأه الله على لسان صبي في المهد ، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه ، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برّأها الله تعالى بالقرآن ؛ فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برّأها الله بكلامه من القذف والبهتان (٢).

جزاء القذفة الأخروي في قصة الإفك

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦))

الإعراب :

(يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ الْحَقَ) بالنصب : صفة ل (دِينَهُمُ) ومن قرأ بالرفع جعله صفة (اللهُ) وفصل بين الصفة والموصوف بالمفعول الذي هو (دِينَهُمُ).

__________________

(١) انظر تفسير الرازي : ٢٣ / ١٨٧ ـ ١٩٠

(٢) تفسير القرطبي : ١٢ / ٢١٢

١٩١

(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أُولئِكَ) مبتدأ ، و (مُبَرَّؤُنَ) خبر المبتدأ. و (مِمَّا يَقُولُونَ) جار ومجرور في موضع نصب ؛ لأنه يتعلق ب (مُبَرَّؤُنَ). و (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) جملة في موضع خبر آخر ل (أُولئِكَ).

البلاغة :

(يَعْمَلُونَ) و (يَعْلَمُونَ) جناس ناقص.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) مقابلة.

المفردات اللغوية :

(الْمُحْصَناتِ) العفيفات. (الْغافِلاتِ) البعيدات عن المعاصي والفواحش ، السليمات الصدور ، والنقيات القلوب. (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله. (لُعِنُوا) طردوا من رحمة الله في الآخرة ، وعذبوا في الدنيا بحد القذف. (دِينَهُمُ) جزاءهم. (الْحَقَ) الثابت الذي يستحقونه.(هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) الثابت بذاته ، الظاهر الألوهية ، لا يشاركه في ذلك غيره ، ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه ، أو ذو الحق البيّن ، أي العادل الظاهر عدله ، وقد حقق لهم جزاءه الذي كانوا يشكّون فيه. أو أن وعد الله ووعيده هو العدل الذي لا جور فيه.

(الْخَبِيثاتُ) من النساء. (لِلْخَبِيثِينَ) من الرجال. (وَالطَّيِّباتُ) من النساء. (لِلطَّيِّبِينَ) من الناس ، أي اللائق بالخبيث مثله ، وبالطيب مثله. (أُولئِكَ) الطيبون من الرجال والطيبات من النساء ومنهم عائشة أم المؤمنين وصفوان الصحابي التقي الورع المجاهد المتهم زورا وبهتانا. (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي يقول الخبيثون والخبيثات من الرجال والنساء فيهم (لَهُمْ) للطيبين والطيبات. (مَغْفِرَةٌ) ستر. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يعني الجنة ، وقد افتخرت عائشة بأشياء منها : أنها خلقت طيبة ، ووعدت مغفرة ورزقا كريما. قال البيضاوي : ولقد برّأ الله أربعة بأربعة : برّأ يوسف عليه‌السلام بشاهد من أهلها ، وموسى عليه‌السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، ومريم بإنطاق ولدها ، وعائشة رضي‌الله‌عنها بهذه الآيات ، مع هذه المبالغات ، وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلاء منزلته.

سبب النزول :

أخرج الطبراني عن الضحّاك بن مزاحم قال : نزلت هذه الآية في نساء النبي

١٩٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.

وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت : رميت بما رميت به ، وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندي إذ أوحي إليه ، ثم استوى جالسا ، فمسح وجهه وقال : يا عائشة ، أبشري ، فقلت : بحمد الله ، لا بحمدك ، فقرأ : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) حتى بلغ (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ).

وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال : لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عائشة ، فقال : يا عائشة ، ما يقول الناس ، فقالت : لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء ، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور ، ثم قرأ حتى بلغ (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) الآية ، وهو مرسل صحيح الإسناد.

المناسبة :

بعد بيان خبر الإفك وعقاب الأفاكين ، وتأديب الخائضين ، ذكر الله تعالى براءة عائشة صراحة ، وذكر مع ذلك حكما عاما وهو أن كل من قذف مؤمنة عفيفة بالزنى ، فهو مطرود من رحمة الله ، وله عذاب عظيم.

وهذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات ، خرج مخرج الغالب ، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصدّيق رضي‌الله‌عنهما.

١٩٣

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) إلى قوله : (عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين يتهمون بالفاحشة والفجور النساء المؤمنات بالله ورسوله العفائف البعيدات عن تلك التهمة ، ومثلهم الرجال ، هم مطردون من رحمة الله في الدنيا والآخرة ، وعليهم غضب الله وسخطه ، ولهم في الآخرة عذاب شديد كبير ، جزاء جرمهم وافترائهم. وهذا دليل على أن القذف من الكبائر ، أخرج الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل : وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». وأخرج أبو القاسم الطبراني عن حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة».

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن عذابهم يوم القيامة يوم تشهد عليهم أعضاؤهم الألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل ؛ إذ إن الله ينطقها بقدرته ، كما ذكر في آية أخرى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا : أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت ٤١ / ٢١].

روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله ، فيجحد ويخاصم ، فيقال له : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك ، فيقول : كذبوا ، فيقال : أهلك وعشيرتك ، فيقول : كذبوا ، فيقال : احلفوا فيحلفون ، ثم يصمّهم الله ، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم ، ثم يدخلهم النار».

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي في

١٩٤

ذلك اليوم يوفيهم الله حسابهم أو جزاءهم على أعمالهم ، ويعلمون أن وعد الله ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.

قال الزمخشري رحمه‌الله وجزاه عن تفسيره الدقيق جدا للقرآن الكريم خير الجزاء : ولو فلّيت (١) القرآن كله ، وفتّشت عما أوعد به العصاة ، لم تر الله تعالى قد غلّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعقاب البليغ ، والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك ، واستفظاع ما أقدم عليه ، على طرق مختلفة ، وأساليب مفتنّة ، كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث ، لكفى بها ، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا ، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا ، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين (٢).

يفهم من هذا الكلام ومن كلام الفخر الرازي أن الله تعالى عاقب هؤلاء القذفة بثلاثة أشياء : كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة ، وهو وعيد شديد ، وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على أعمالهم ، وإيفاؤهم جزاء عملهم. والدين بمعنى الجزاء مثل قولهم : «كما تدين تدان» وقيل : بمعنى الحساب كقوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الحساب الصحيح ، والحق : هو أن الجزاء الموفى هو القدر المستحق ؛ لأنه الحق ، وما زاد عليه هو الباطل.

ثم أورد الله تعالى دليلا ماديا حسيا على براءة عائشة فقال :

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ، وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ،

__________________

(١) جعلها بعضهم : قلبت.

(٢) تفسير الكشاف : ٢ / ٣٨٠ وما بعدها.

١٩٥

وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ..) أي النساء الزواني الخبيثات للخبيثين من الرجال ، والخبيثون الزناة من الرجال للخبيثات من النساء ؛ لأن اللائق بكل واحد ما يشابهه في الأقوال والأفعال ، ولأن التشابه في الأخلاق والتجانس في الطبائع من مقومات الألفة ودوام العشرة. وذلك كقوله تعالى: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [النور ٢٤ / ٣].

وعلى هذا يكون المراد بالخبيثات والطيبات النساء ، أي شأن الخبائث يتزوجن الخباث ، أي الخبائث ، وشأن أهل الطيب يتزوجن الطيبات.

ويجوز أن يكون المراد من الخبيثات الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك ، والمعنى : الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال ، وبالعكس : والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس.

وبما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم درة الطيبين وخيرة الأولين والآخرين ، فالصدّيقة رضي‌الله‌عنها من أطيب الطيبات ، فيبطل ما أشاعه أهل الإفك. ويكون الكلام جاريا مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. والرأي الأول هو الظاهر.

(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي أولئك الطيبون والطيبات كصفوان وعائشة بعداء مبرؤون مما يقوله أهل الإفك والبهتان الخبيثون والخبيثات.

وأولئك المبرؤون لهم مغفرة عن ذنوبهم بسبب ما قيل فيهم من الكذب ورزق كريم عند الله في جنات النعيم ، كما في قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) [الأحزاب ٣٣ / ٣١].

عن عائشة رضي‌الله‌عنها : «لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة : لقد نزل جبريل عليه‌السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتزوجني ؛

١٩٦

ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ؛ ولقد توفّي وإن رأسه لفي حجري ؛ ولقد قبر في بيتي ، ولقد حفّته الملائكة في بيتي ؛ وإن الوحي لينزل عليه في أهله ، فيتفرقون عنه ، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ؛ وإني لابنة خليفته وصدّيقه ؛ ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خلقت طيّبة عند طيب ؛ ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما» تعني قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو الجنة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام :

١ ـ إن الذين يرمون بالزنى أو الفاحشة النساء المحصنات العفائف ، أو الرجال المحصنين قياسا واستدلالا أو يقذفون غيرهم ، ومن هؤلاء عائشة وسائر زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعنوا في الدنيا والآخرة ، واللعنة في الدنيا : الإبعاد وضرب الحد وهجر المؤمنين لهم ، وإساءة سمعتهم ، وإسقاط عدالتهم ، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله بالعذاب في جهنم.

والأصح كما رجح المفسرون أن بقية أمهات المؤمنين في هذا الحكم وغيره كعائشة رضوان الله عليهن ، فقاذفهن ملعون في الدنيا والآخرة ، ومن سبّهن فهو كافر ، كما ذكر ابن كثير.

وقال أبو جعفر النحاس : من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية : إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى. ويكون التقدير : إن الذين يرمون الأنفس المحصنات ، فدخل في هذا المذكر والمؤنث ، وكذا في الذين يرمون ؛ إلا أنه غلّب المذكر على المؤنث ، أي أن الرمي أو القذف بالزنى كبيرة وحرام من أي مكلف ، وعلى أي مكلف : ذكر أو أنثى.

١٩٧

٢ ـ ولهم حكم آخر غير اللعنة وهو شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وتكلمهم يوم القيامة عند الحساب بما تكلموا به وبما عملوا في الدنيا.

٣ ـ وحكم ثالث أيضا هو أن حسابهم وجزاءهم ثابت مستحق لهم بالقدر المستحق المناسب لعملهم أو قولهم ؛ لأن مجازاة الله عزوجل للكافر والمسيء بالحق والعدل ، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل.

٤ ـ النساء الخبيثات للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون للخبيثات ، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وهذا ما اختاره النحاس ، وهو الظاهر. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين : الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول.

٥ ـ دل قوله تعالى صراحة : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) على براءة عائشة وصفوانرضي‌الله‌عنهما مما يقول الخبيثون والخبيثات.

الحكم السادس

الاستئذان لدخول البيوت وآدابه

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩))

١٩٨

الإعراب :

(فِيها مَتاعٌ) مرفوع بالظرف على مذهب سيبويه ، كما يرتفع على مذهب الأخفش والكوفيين ؛ لأن الظرف جرى وصفا للنكرة.

المفردات اللغوية :

(بُيُوتاً) جمع بيت وهو المسكن. (تَسْتَأْنِسُوا) تستأذنوا ؛ إذ بالاستئذان يحصل الأنس للزائر وأهل البيت. (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) فيقول الواحد : السلام عليكم أأدخل ، كما ورد في الحديث. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من الدخول بغير استئذان. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تتعظون ، أو تتذكرون خيريته ، فتعملوا به. (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) يأذن لكم. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ) بعد الاستئذان. (هُوَ) الرجوع. (أَزْكى) خير وأطهر. (لَكُمْ) من القعود على الباب. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الدخول بإذن وغير إذن. (عَلِيمٌ) مطلع على كل شيء ، لا تخفى عليه خافية ، فيجازي كل إنسان بعمله.

(جُناحٌ) حرج وإثم (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) كالخانات والحوانيت والفنادق. (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي حق تمتع وانتفاع ، كالاستظلال من الحر والإيواء من البرد وتحزين الأمتعة والجلوس للمعاملة من شراء أو بيع. (تُبْدُونَ) تظهرون. (تَكْتُمُونَ) تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره. وهذا وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٧):

أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال : جاءت امرأة من الأنصار ، فقالت : يا رسول الله ، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي ، وأنا على تلك الحال ، فكيف أصنع؟ فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) الآية.

١٩٩

نزول الآية (٢٩):

أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : لما نزلت آية الاستئذان في البيوت ، قال أبو بكر : يا رسول الله ، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام ، ولهم بيوت معلومة على الطريق ، فكيف يستأذنون ويسلمون ، وليس فيها سكان؟ فنزل : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) الآية.

المناسبة :

بعد بيان حكم قذف المحصنات وقصة أهل الإفك ، ذكر الله تعالى ما يليق بذلك ، وهو آداب الدخول إلى البيوت من الاستئذان والسلام ، منعا من الوقوع في التهمة ، باقتحام البيوت دون إذن والتسلل إليها ، أو حدوث الخلوة التي هي مظنة التهمة أو طريق التهمة التي تذرع بها أهل الإفك للوصول إلى بهتانهم وافترائهم ، ومراعاة لأحوال الناس رجالا ونساء الذين لا يريدون لأحد الاطلاع عليها ؛ ولأن النظر والاطلاع على العورات طريق الزنى.

التفسير والبيان :

هذه آداب اجتماعية شرعية ذات مدلول حضاري ، وتمدن رفيع ؛ لما فيها من تنظيم لحياة المجتمع وأحوال الأسر في البيوتات ، حفظا لروابط الود والمحبة ، وإبقاء على حسن العشرة وتبادل الزيارات بين المؤمنين ، فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت غيركم حتى يؤذن لكم ، وحتى تسلموا على أهل البيت ، حتى لا تنظروا إلى عورات غيركم ، ولا

٢٠٠