التفسير المنير - ج ١٨

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة المؤمنون

مكية ، وهي مائة وثمان عشرة آية.

تسميتها وفضلها :

سميت سورة المؤمنون لافتتاحها بقول الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ثم ذكر أوصاف المؤمنين السبعة وجزاءهم العظيم في الآخرة وهو ميراث الفردوس.

روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : كان إذا نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي ، يسمع عند وجهه كدويّ النحل ، فلبثنا ساعة ، فاستقبل القبلة ، ورفع يديه وقال : «اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا ، ثم قال : لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن (١) دخل الجنة ثم قرأ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم العشر».

وروى النسائي في تفسيره عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة أم المؤمنين : كيف كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، فقرأت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ـ حتى انتهت إلى ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) قالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) من أقامهن : أي من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن ؛ كما تقول : فلان يقوم بعمله.

٥

مناسبة السورة لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بسورة الحج من نواح هي :

١ ـ ختمت سورة الحج بجملة من الأوامر الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ، منها قوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهو مجمل فصّل في فاتحة هذه السورة ، فذكر تعالى خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح ، فقال : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) الآيات العشر.

٢ ـ ذكر في أول سورة الحج قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) الآية لإثبات البعث والنشور ، ثم زاد هنا بيانا ضافيا في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) الآيات. فما أجمل أو أوجز هناك ، فصل وأطنب هنا.

٣ ـ في كل من السورتين أدلة على وجود الخالق ووحدانيته.

٤ ـ في السورتين أيضا ذكرت قصص بعض الأنبياء المتقدمين للعبرة والعظة ، في كل زمن وعصر ولكل فرد وجيل.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت السورة الكلام عن أصول الدين من وجود الخالق وتوحيده وإثبات الرسالة والبعث.

وابتدأت بالإشادة بخصال المؤمنين المصدقين بالله ورسوله التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في الجنان.

ثم أبانت الأدلة على وجود الله تعالى والقدرة الإلهية والوحدانية من خلق الإنسان مرورا بأطواره المتعددة ، وخلق السموات البديعة ، وإنزال الماء منها

٦

لإنبات الجنات أو البساتين التي تزهو بالنخيل والأعناب ، والزيتون والرمان ، والفواكه الكثيرة ، وإيجاد الأنعام ذات المنافع العديدة للإنسان ، وتسخير السفن لحمل الركاب والبضائع.

ثم أوردت قصص بعض الأنبياء والمرسلين كنوح وهود وموسى وهارون وعيسى وأمه مريم ، لتكون نماذج للعبرة والعظة عبر الأجيال ، وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من أذى المشركين من قريش ، مع توبيخهم ووعيدهم على استكبارهم عن الحق ، ووصفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون وغيره ، وعدم إيمانهم برسالته ، وإخبارهم بما يلقونه من العذاب والنكال يوم القيامة ، وإقناعهم بالأدلة والبراهين على حدوث البعث والنشور.

وفي خلال ذلك أوضحت بعض الآيات يسر التكليف وسماحته وعدم المطالبة إلا بما فيه الوسع والقدرة ، والتذكير بما أنعم الله به على الإنسان من نعم الحواس والمشاعر ،والإنكار الشديد على نسبة الولد والشريك لله تعالى.

ثم طمأنت الآيات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نجاته من القوم الظالمين ، ووضعت له أسلوب الدعوة إلى الله تعالى ، وعرفته طريق الاعتصام بالله من همزات الشياطين.

وعرضت السورة في خاتمتها لموقف الحساب الرهيب وأهواله وشدائده ، وما فيه من معايير النجاة والخسران ، من ثقل الموازين وخفتها ، وقسمة الناس إلى فريقين : سعداء وأشقياء ، وعدم إفادة الأنساب في شيء ، وتمني الكفار العودة لدار الدنيا ليعملوا صالحا ، وتذكيرهم بسخريتهم وضحكهم من المؤمنين ، وسؤالهم عن مدة لبثهم في الدنيا ، وتوبيخهم على إنكار البعث ، وإعلان تفرد الإله الملك القاهر بالحساب ومحاورته أهل النار ، وبيان خسارة من عبد مع الله إلها آخر ، ونجاة أهل الإيمان والعمل الصالح ، وإفاضة رحمة الله عليهم ومغفرته لهم.

٧

خصال المؤمنين

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

الإعراب :

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) انتظمت الجملة أقسام الكلم الثلاثة التي هي الاسم والفعل والحرف ، فإن (قَدْ) حرف ، و (أَفْلَحَ) فعل ، و (الْمُؤْمِنُونَ) اسم.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) جملة معطوفة على ما قبلها ، أي يؤدون الزكاة. وقيل: أي الذين لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير ، كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) وتفسير القرآن بعضه ببعض أولى ، لكن الظاهر الأول لأن الغالب في القرآن اقتران الزكاة بالصلاة.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ ..) إنما جمع (أمانات) جمع (أمانة) مع أنها مصدر ، والمصادر لا تجمع ؛ لأنها تدل على الجنس ؛ لأنها مختلفة الأنواع ، وحينئذ يجوز تثنيتها وجمعها ، والأمانة هنا مختلفة ، لاشتمالها على سائر العبادات وغيرها من المأمورات.

البلاغة :

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ) : لإفادة التحقيق ، والإخبار بصيغة الماضي لإفادة الثبوت والتحقق.

٨

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ..) الآيات ، تفصيل بعد إجمال.

(الْمُؤْمِنُونَ خاشِعُونَ مُعْرِضُونَ فاعِلُونَ حافِظُونَ العادُونَ) سجع لطيف غير متكلف.

(الْوارِثُونَ) استعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم.

المفردات اللغوية :

(قَدْ) للتحقيق وهي تثبت المتوقع ، كما أن (لما) تنفيه ، وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي ، فتقرّبه من الحال (أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فازوا بأمانيهم ، و (أَفْلَحَ) : فاز وظفر بالمراد ، و (الْمُؤْمِنُونَ) : جمع مؤمن : وهو المصدّق بالله وبما أنزل على رسوله من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء. (خاشِعُونَ) متواضعون خاضعون متذللون لله خائفون منه (اللَّغْوِ) ما لا خير فيه من الكلام ، وما لا يعني من قول أو فعل (مُعْرِضُونَ) أقام الإعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا ، مباشرة وتسببا وميلا وحضورا (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة ، ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام بالطاعات البدنية والمالية وتجنب المحرّمات وما يخل بالمروءة. والمراد بالزكاة هنا المعنى وهو التزكية ، فجعل المزكين فاعلين له ، لأن التزكية مصدر ، ويقال لمحدثه فاعل ، فهو فاعل الحدث ، كالضارب فاعل الضرب ، والقاتل فاعل القتل. ويجوز أن يراد بالزكاة العين ، أي القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير ، بتقدير مضاف محذوف وهو الأداء

(لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) أي يحفظون فروجهم عن الحرام ، والفرج : سوأة الرجل والمرأة وحفظه : التعفف عن الحرام (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي من زوجاتهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي السراري حينما كان الرق شائعا ، أما اليوم فقد انتهى من العالم (غَيْرُ مَلُومِينَ) في إتيانهن ، والضمير يعود لحافظون أو لمن دل عليه الاستثناء.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي طلب غير ذلك من الزوجات والسراري كالاستمناء باليد (العادة السرية) في إتيانهن (العادُونَ) المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم ، أو المتناهون في العدوان وتجاوز الحدود الشرعية.

(لِأَماناتِهِمْ) جمع أمانة : وهي كل ما يؤتمن الإنسان عليه من الله كالتكاليف الشرعية ، أو من الناس كودائع الأموال (وَعَهْدِهِمْ) العهد : كل ما التزمه الإنسان نحو ربه وأمره به كالصلاة والنذر وغيرهما ، ونحو الناس من قول وفعل كالعقود والوعود والعطاء. وكلمة (عَهْدِهِمْ) مفرد

٩

مضاف فيعم (راعُونَ) قائمون بحفظها وإصلاحها ، والرعي : الحفظ ، والراعي : الذي يحفظ الشيء ويصلحه.

(صَلَواتِهِمْ) جمع صلاة ، وهي مثل (لِأَماناتِهِمْ) تشمل المفرد والجمع (يُحافِظُونَ) يواظبون عليها ، ويؤدونها في أوقاتها (أُولئِكَ) الجامعون لهذه الصفات (الْوارِثُونَ) لا غيرهم ، أي هم الأحقّاء بأن يسموا ورّاثا دون غيرهم (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) بيان لما يرثونه ، وتقييد الوراثة بعد إطلاقها تفخيم لها وتأكيد ، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم. و (الْفِرْدَوْسَ) : أعلى الجنة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ماكثون أبدا. وأنث الضمير لأنه اسم للجنة ، أو لطبقتها العليا. وفيه إشارة إلى المعاد ، ويناسبه ذكر المبدأ بعده.

سبب النزول :

نزول الآية (٢):

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) : روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده ، وأنه رأى رجلا يعبث بلحيته ، فقال : «لو خشع قلب هذا ، لخشعت جوارحه» (١). أخرج الحاكم عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) فطأطأ رأسه. وأخرج ابن مردويه بلفظ : كان يلتفت في الصلاة. وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن سيرين مرسلا بلفظ : كان يقلب بصره ، فنزلت.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين مرسلا : كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ، فنزلت.

التفسير والبيان :

يبشر الله تعالى بالفلاح والفوز المؤمنين المتصفين بسبع صفات ، ويحكم لهم بذلك ، فيقول :

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ص ٤٥١

١٠

١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي قد فازوا وسعدوا ، لاتصافهم بصفة الإيمان أي التصديق بالله ورسله واليوم الآخر.

٢ ـ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي خائفون ساكنون ، والخشوع : خشوع القلب ، وهو الخضوع والتذلل مع الخوف وسكون الجوارح. قال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم ، وخفضوا الجناح.

والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون له راحة وقرة عين ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس : «حبّب إليّ الطيب ، والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة». وروى الإمام أحمد أيضا عن رجل من أسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا بلال ، أرحنا بالصلاة».

والخشوع واجب ضروري لتعقل معاني الصلاة ، ومناجاة الرب تعالى ، وتذكر الله والخوف من وعيده ، وتدبر آيات القرآن وتفهم معانيها ، كما قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد ٤٧ / ٢٤] وحينئذ يتخلص غالبا من وساوس الشيطان ومحاولة شغل الفكر وصرف المصلي عن صلاته ، كما قال تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) [الأعراف ٧ / ٢٠٥]. لكن جمهور العلماء لم يشترطوا الخشوع في الصلاة للخروج من عهدة التكليف ، وإنما هو شرط لتحصيل الثواب عند الله تعالى.

٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) أي الذين يتركون رأسا كل ما كان حراما أو مكروها ، أو مباحا لا خير فيه ، ولا يعني الإنسان ولا حاجة له فيه. وذلك يشمل الكذب والهزل والسب وجميع المعاصي وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ، كما قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان ٢٥ / ٧٢].

ومع الأسف الشديد استبد اللهو في عصرنا في أفعال وأقوال كثير من الناس

١١

برؤية التلفاز ، وقراءة المجلات غير النافعة واللعب بالأوراق ، واللهو ، والبعث ، وضياع الوقت فيما لا يجدي ، مع أن الوقت من ذهب ، لذا وصفت أمتنا بالتخلف لإهدار قيمة الوقت بين أفراد شعبها.

٤ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) قال ابن كثير : الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال ، مع أن هذه الآية مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة ، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة ، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة ، قال تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [١٤١]. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا زكاة النفس من الشرك والدنس ، كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٩١ / ٩ ـ ١٠] وكقوله : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت ٤١ / ٦ ـ ٧] على أحد القولين في تفسيرهما. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا ، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ، فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل : هو الذي يفعل هذا ، والله أعلم.

وقال الرازي : وقول الأكثرين إنه الحق الواجب في الأموال خاصة ، وهذا هو الأقرب ؛ لأن هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى (١).

٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ... مَلُومِينَ) أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام ، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنى ولواط ، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم بالعقد ، أو بملك اليمين ، أي ما ملكت أيمانهم من السراري ـ في الماضي حيث كان الرق قائما ـ فمن اقتصر على الحلال ، فلا لوم عليه ولا حرج.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي فمن طلب غير ذلك من

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٣٨ ، وما بعدها ، تفسير الرازي : ٢٣ / ٨٠

١٢

الزوجات والإماء ، فأولئك هم المتناهون في العدوان ، المتجاوزون حدود الله. وهذا يدل على تحريم المتعة والاستمناء باليد.

٦ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي والذين يحفظون حرمة الأمانة وقدسية العهد ، فإذا ائتمنوا لم يخونوا ، بل يؤدون الأمانة إلى أهلها ، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك ، فأداء الأمانة والوفاء بالعهد صفة أهل الإيمان ، أما الخيانة والغدر وخلف الوعد وعدم الوفاء بمقتضى العقد بيعا أو إجارة أو شركة أو غيرها ، فهي صفة أهل النفاق الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) [الأنفال ٨ / ٢٧].

والأمانة والعهد يشملان جميع ما ائتمن الإنسان عليه من ربه أو من الناس ، كالتكاليف الشرعية ، والودائع ، وتنفيذ العقود.

٧ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يواظبون على الصلاة ويؤدونها في أوقاتها ، مع استكمال أركانها وشروطها. جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، أي العمل أحب إلى الله؟ قال : الصلاة على وقتها ، قلت : ثم أي؟ قال : برّ الوالدين ، قلت : ثم أي؟ قال : الجهاد في سبيل الله».

وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة ، واختتمها بالصلاة ، فدل على أفضليتها ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن ثوبان : «استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن. أي الزموا الاستقامة بالمحافظة على إيفاء الحقوق ورعاية الحدود ، والرضى بالقضاء ، ولن تحصوا ثواب الاستقامة.

ثم رتب الله تعالى الجزاء الحسن على هذه الأفعال ، فقال :

١٣

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك البعيدون في درجات الكمال المتصفون بهذه الصفات الحميدة هم المستحقون النزول في جنات الفردوس ، الماكثون فيها أبدا على الدوام ، ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سألتم الله الجنة ، فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن». وقيل : الفردوس هي الجنة ، وهي رومية أو فارسية عرّبت.

ونظير الآية قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) [مريم ١٩ / ٦٣] وقوله : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧٢]. وهذا قانون الله من حيث العدل أن الجنة جزاء العمل الحسن في الدنيا ، ومجموع الأخذ بهذه الصفات السبع محقق لهذا الفوز في عالم الآخرة. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والصوم والحج ، فدخل معهن. والآية عامة في الرجال والنساء.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدتنا الآيات إلى وجوب الاتصاف بالصفات السبع التالية ، والقيام بالأفعال الآتية المستوجبة الخلود في الفردوس الأعلى من الجنان وهي :

١ ـ الإيمان : وهو التصديق بالله ورسله واليوم الآخر.

٢ ـ الخشوع في الصلاة : وهو الخضوع والتذلل لله والخوف من الله تعالى ، ومحله القلب ، فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه ، إذ هو ملكها. روى الترمذي عن أبي ذرّ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قام أحدكم إلى الصلاة ، فإن الرحمة تواجهه ، فلا يحركن الحصى». فالسكون دليل الاطمئنان ، واستيقاظ الذهن ، والاتجاه نحو الله تعالى ، وبه يحصل جوهر الصلاة ، وتتحقق غايتها المنشودة الصحيحة.

١٤

وهو من فرائض الصلاة على الصحيح ، وأساس قبولها ، والظفر بثواب الله تعالى.

٣ ـ الإعراض عن اللغو : أي الباطل ، وهو الشرك والمعاصي كلها ، وكل ما لا حاجة فيه وما لا يعني الإنسان ، وإن كان مباحا.

٤ ـ أداء الزكاة المالية المفروضة ، وتزكية النفس من الدنس والمعصية ، وتطهيرها من أمراض القلب كالحقد والحسد والكراهية والبغضاء ونحوها.

٥ ـ حفظ الفرج ، والتعفف من الحرام كالزنى واللواط ، والإعراض عن الشهوات. وذلك يدل على تحريم المتعة (الزواج المؤقت بمدة زمنية محدودة ، قصيرة أو طويلة) لأن المرأة المستمتع بها ليست زوجة بالفعل ، بدليل أنهما لا يتوارثان بالإجماع ، فلا تحل للرجل ، لكن يدرأ الحد للشبهة.

ويدل أيضا على تحريم الاستمناء ، ويستأنس له بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا يجمعهم مع العاملين ، ويدخلهم النار أول الداخلين ، إلا أن يتوبوا ، ومن تاب تاب الله عليه : الناكح يده ، والفاعل والمفعول به ، ومدمن الخمر ، والضارب والديه حتى يستغيثا ، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه ، والناكح حليلة جاره» (١).

وتحريم الاستمناء هو مذهب جماهير العلماء ، لظاهر الآية التي حصرت إباحة الاستمتاع بالنساء بالزواج وملك اليمين. ونقل عن الإمام أحمد جوازه للضرورة أو الحاجة الملحة ، أي لمرة واحدة مثلا دون تكرار ، إذا استبدت به الشهوة ، وطغت عليه ، بشروط ثلاثة : أن يخاف الزنى ، وألا يملك مهر امرأة حرة ، وأن يكون بيده ، لا بيد امرأة أجنبية ، ولا بيد ذكر مثله.

__________________

(١) حديث غريب ، وفي إسناده من لا يعرف لجهالته.

١٥

ومن تجاوز الحلال ووقع في الحرام كالزنى واللواط فهو معتد متجاوز حدود الله ، ويجب عليه الحد لعدوانه ، إلا أن يكون جاهلا التحريم كمن أسلم حديثا ، أو متأولا ، كما قال القرطبي.

٦ ـ أداء الأمانة ورعاية العهد والعقد : ومعنى الأمانة أو العهد يجمع كل ما يحمّله الإنسان من أمر دينه ودنياه ، قولا وفعلا ، وهذا يشمل معاشرة الناس والوعود وغير ذلك. والأمانة أعم من العهد ، وكل عهد فهو أمانة فيما فيه قول أو فعل أو معتقد.

٧ ـ المحافظة على الصلاة : بإقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها ، وإتمام ركوعها وسجودها.

فمن عمل بما ذكر في هذه الآيات ، فهم الوارثون الذين يرثون فراديس الجنان ، وينزلون فيها منزلا كريما ، ويخلدون فيها على الدوام والبقاء. ويدخل في الأمانات جميع الواجبات من الأفعال والتروك ، فصارت الآيات شاملة العبادات الواجبة كالصوم والحج والطهارة.

من أدلة وجود الله وقدرته

ـ ١ ـ

خلق الإنسان

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)

١٦

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))

الإعراب :

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) النطفة وعلقة : مفعولا (خَلَقْنَا) المتعدي هنا إلى مفعولين ؛ لأنه بمعنى : صيرنا ، ولو كان بمعنى : أحدث لتعدى إلى مفعول واحد.

(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أحسن إما بدل من (اللهُ) ولا يجوز أن يكون وصفا ؛ لأن إضافته إلى ما بعده في نية الانفصال لا الاتصال ؛ لأنه في تقدير : أحسن من الخالقين ، كما تقول : زيد أفضل القوم ، أي منهم ، فلا يستفيد المضاف من المضاف إليه تعريفا ، فوجب أن يكون بدلا ، لا وصفا. وإما خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أحسن الخالقين ، وقوّى هذا التقدير أنه موضع مدح وثناء.

البلاغة :

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) نزلوا منزلة المنكرين ، فهم لا ينكرون الموت ، ولكن غفلتهم عنه ، وفقدهم العمل الصالح من علامات الإنكار ، وأكد الخبر بمؤكدين (إن واللام).

(طِينٍ مَكِينٍ الْخالِقِينَ) سجع سائغ مقبول لا تكلف فيه.

المفردات اللغوية :

(الْإِنْسانَ) أصل الإنسان وهو آدم أو الجنس فإنهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا (مِنْ سُلالَةٍ) خلاصة سلت من بين التراب ، من سللت الشيء من الشيء ، أي استخرجته منه (مِنْ طِينٍ) من : بيانية ، أو متعلق بمحذوف لأنه صفة لسلالة (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي جعلنا نسله ـ نسل آدم ، فحذف المضاف (نُطْفَةً) منيا ، أي بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) مستقر حصين أو متمكن ، يعني الرحم. (عَلَقَةً) هي الدم الجامد (مُضْغَةً) أي صيرناها مضغة وهي قطعة لحم ، قدر ما يمضغ. وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى : صيرنا (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) بنفخ الروح فيه (فَتَبارَكَ اللهُ) تعالى شأنه في قدرته وحكمته وتقدس (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المقدرين تقديرا ، فحذف مميز (أَحْسَنُ) وهو خلقا ، لدلالة (الْخالِقِينَ) عليه.

(لَمَيِّتُونَ) لصائرون إلى الموت لا محالة (تُبْعَثُونَ) للحساب والجزاء.

١٧

سبب النزول :

نزول الآية (١٢):

أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال : وافقت ربي في أربع ، نزلت : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الآية ، فقلت أنا : «فتبارك الله أحسن الخالقين».

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى بالعبادات ، أورد ما يدل على معرفة الإله الخالق المعبود ، وذكر أربعة أنواع من دلائل وجوده وقدرته تعالى ، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية. وتلك الأدلة : هي خلق الإنسان ، وخلق السموات السبع ، وإنزال الماء من السماء ، وخلق الحيوانات لمنافع.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين ، وهو آدم عليه‌السلام ، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون ، ويبين تقلبه في أدوار تسعة للخلقة وهي :

١ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي لقد خلقنا أي أوجدنا الإنسان ، وقلبناه في أدوار الخلقة وأطوار الفطرة ، والمراد به جنس الإنسان وأصله من خلاصة سلت من طين لا كدر فيه ، أو أول أفراده وهو آدم عليه‌السلام. وهذا دليل كاف على قدرة الله تعالى ووحدانيته واتصافه بكل صفات الكمال.

والراجح أن المراد بالإنسان هنا آدم عليه‌السلام ؛ لأنه استل من الطين ، وخلق منه ، كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم ٣٠ / ٢٠].

١٨

٢ ـ (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي ثم جعلنا نسله أو جنس الإنسان نطفة من مني في أصلاب الذكور ، ثم قذفت إلى أرحام الإناث ، فصار في حرز مستقر متمكن حصين ، ابتداء من الحمل إلى الولادة. وذلك كقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة ٣٢ / ٧ ـ ٨] أي من ماء ضعيف ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات ٧٧ / ٢٠ ـ ٢٤].

٣ ـ (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفة العلقة : وهي الدم الجامد. أو صيرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل (وهو ظهره) وترائب المرأة (وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السّرّة) صيرناها علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة.

٤ ـ (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي ثم صيرنا الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم ، بمقدار ما يمضغ ، وهي قطعة كبضعة لحم ، لا شكل فيها ولا تخطيط. وسمي التحويل خلقا ؛ لأنه سبحانه يفني بعض الصفات ، ويخلق صفات أخرى ، وكأنه تعالى يخلق فيها أجزاء زائدة.

٥ ـ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي صيرناها عظاما يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.

٦ ـ (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي غطينا العظام بما يستره ويشده ويقويه وهو اللحم ؛ لأن اللحم يستر العظم ، فجعل كالكسوة لها.

٧ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي خلقا مباينا للخلق الأول ، بأن نفخنا فيه الروح ، فتحرك ، وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب.

١٩

(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي تعالى شأنه في قدرته وحكمته ، وتنزه وتقدس الله أحسن المقدّرين المصورين.

روى ابن أبي حاتم والطيالسي عن أنس قال : قال عمر : «وافقت ربي في أربع : قلت : يا رسول الله ، لو صلينا خلف المقام ، فأنزل الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة ٢ / ١٢٥].

وقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت على نسائك حجابا ، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فأنزل الله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً ، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٣].

وقلت لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لتنتهنّ أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن ، فنزلت : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) الآية [التحريم ٦٦ / ٥].

ونزلت : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ..) الآية فقلت أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فنزلت : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

٨ ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ)(١) أي ثم إنكم بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت.

٩ ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) أي ثم تبعثون من قبوركم للنشأة الآخرة للحساب والجزاء ثوابا وعقابا ، كما قال تعالى : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٠] يعني يوم المعاد.

وفي هاتين الآيتين جعل الله سبحانه الإماتة التي هي إعدام الحياة ، والبعث الذي هو إعادة الحياة بعد الإفناء والإعدام دليلين على قدرته بعد الإنشاء والاختراع.

__________________

(١) وقرئ «لمائتون» والفرق بين الميت والمائت : أن الميت كالحي صفة ثابتة ، وأما المائت فيدل على الحدوث ، تقول : زيد ميت الآن ، ومائت غدا.

٢٠